* بيت الجد والجدة : من 1 - 8
صفحة 1 من اصل 1
* بيت الجد والجدة : من 1 - 8
بيت الجد والجدة 1
طارق فتحي
(الموقع والوصف)
قصص من وحي الوقع وقعت احداثها في بغداد قبل اكثر من ستون عاماً مضت . تمتزج فيها الحقيقة مع الخرافة والواقع مع الخيال الخصب . تتداخل فيها عوالم كثيرة حقيقية وافتراضية . لازال صدى احداثها تتردد على مسامعنا لغاية يومنا . اكتبها لكم كما عشت احداثها وسمعتها روايةً مشافهةً من بيت الجدة . لم اجد لها تفسيراً لا من جهة العلم ولا من جهة الدين . والحق كل ما يقبله العقل ولا يرفضه المنطق . كتبت باجزاء عديدة . مختصرة غاية الاختصار . وما خفي كان اعظم . ارجوا ان تنال قبولكم واستحسانكم . تقبلوا تحيات مضيفكم : طارق فتحي...
كان لنا في قديم الزمان بيت عتيق في اعرق مناطق بغداد واقدمها بجانب الرصافة في منطقة الفضل . هذا البيت له باب خشبي كبير اكل عليه الدهر وشرب . تتدلى في اعلاه مطرقتان احدهما كبيرة والاخرى صغيرة . الحكمة من هذين المطرقتين ان يعلم من في الداخل ايهما طرق الباب فاذا كان رجلا سوف يستخدم المطرقة الكبيرة . وان كانت امرأة سوف تستخدم المطرقة الصغيرة . فيعلم من في الداخل من الطارق فالرجال يفتحون الباب للرجال والنساء يفتحن الباب للنساء . هكذا كانت اخلاق المجتمع البغدادي في حينها .
كنا نرى هذا الباب كبيرا جدا كعملاق ضخم ذو جناحين ينتصب في مقدمة بيتنا تعلوه المسامير الحديدية الضخمة ذات الروس المستديرة . وعتبة حديدية متهرئة بسلمة واحدة ما ان ترتقيه حتى بالكاد تلامس مطرقة الباب . كثيرا ما كنا نعاكس جدتي ونحن اطفالا بجلب عصا نرفع بها المطرقة الحديدية بعد ان نرتقي السلمة اليتيمة . ندق المطرقة الصغيرة لتخرج لنا جدتنا وحينها نضحك معها ونمرح بعد ان نولي هاربين . وهي تصرخ .. تزبد .. تبرق .. ترعد باعلى صوتها .
ما ان تدخل الدار حتى تسير في مجاز ضيق نوع ما يضم بين دفتيه غرفتين واحدة على شمال الداخل والاخرى عن يمينه . وبعد بضعة خطوات تستقبلك فسحة كبيرة ( حوش ) مربع الشكل بعيدة الاطراف نسبيا تصطف على جوانبه عدة غرف غالب ما تكون متساوية الاحجام . وينتصب امام الداخل في الطرف المقابل البعيد باب حديدي مزين باعمدة متشابكة من الحديد يفضي الى سلالم على ما اذكر من اربع الى خمس درجات توصلك الى تحت الارض انه ( السرداب ) نسجت حولة حكايات مخيفة حكتها لنا الجدة . وكان ممنوعا علينا بتاتا الدخول الى السرداب في النهار فما بالك في الليل.
ينتصب في وسط هذه الفسحة المفروشة بالطابوق المربع الاصفر او ما يطلق عليه البغداديون (الطابوق الفرشي ) حوض من الاسمنت مربع الشكل بارتفاع مناسب عمل حديثاً ينتصب على احد اركانه انبوب حديدي تعلوه حنفية مصنوعة من النحاس الاصفر . كان هذا الحوض هو المصدر الوحيد للمياه في بيتنا يستخدم لشتى الاغراض المنزلية من الطبخ وغسل الصحون والملابس وغسل الحوش والسطح وبالتالي لاستحمام اهل الدار...... الخ
في الجهة المقابلة للحوض يوجد سلم حجري عمل من الطابوق العادي يفضي الى سطح الدار . في اسفله يقبع ( بيت الخلاء ) بجانب ثنية الدرجة الثالثة لبئر السلم . وكالعادة نسجت حول بيت الخلاء الاساطير والخرافات في حكايات جدتي المستمرة معنا في كل غروب ونحن نتناول العشاء فوق سطح الدار كعادتنا مساء كل يوم .
كانت اغلب حكايات جدتي تدور حول مواضيع محددة شواهدها من نفس البيت.السرداب . بيت الخلاء . الغرفتان العلويتان المتهدمتان المشرفتان على الطريق العام . باب الدار الرئيسية . بثر السلم . سافرد لكل منهم قصة قصيرة من وحي حكايات جدتي ...
بيت الجد والجدة 2
طارق فتحي
( العادات والتقاليد )
عندما ننتهي من طعام العشاء من على سطح منزلنا القديم . نأبى النوم انا واخي الذي يكبرني بعامين فقط الا ان تقص علينا جدتي احدى قصصها الجميلة والمرعبة في آن واحد . كانت جدتي تغمرنا بمحبتها لنا حيث كل منا يعتقد ان الجدة تحبه اكثر من الآخر .
اخذت تقص علينا رواية لا زال صدى اسمها يدور في عقلي لغاية يومنا هذا ( مخرمش الوجهين ابو شين الطبايع ) مع اننا لا نفقه جل معناها لورود كلمات غريبة ومجهولة لنا مثل ( مخرمش – شين – الطبايع ) الا ان الرواية كانت تقدم صورة حقيقية لاعمال الانسان السيئة . يقابلها شرح جدتي للاجابة على تساؤلاتنا البريئة وتفكيك بعض من طلاسم الكلمات التي لا نفقه معانيها .
اسلوب السرد القصصي للجدة كان رائعا نبرات الصوت تختلف عند الانتقال من واقع الى آخر اثناء سردها لتفاصيل واحداث القصة . ايماءات يديها والتلويح والتطويح بهما يمينا وشمالا ونحن نتابع حركاتها بعيوننا الصغيرة يمنة ويسره فوق وتحت كأننا تحت تأثير مخدر قوي المفعول . اضف الى ذلك تعابير وجه جدتي وتقاسيمه التي تتغير كلما تورد مصطلحا جديدا بما يتناسب مع صفات ومعاني الكلمات من الخوف والحزن والفرح والاندهاش والترقب وما الى ذلك . ونحن بطبيعة الحال كنا نقلد حركات وتعابير قسمات وجهها تماما بدون قصد منا اي بصورة غير ارادية
كنت الاكثر سؤالا وفضولا من بين اخوتي واكثر الحاحا لتكملة ما بدأت به الجدة من حكاياتها الرائعة لدرجة تصل الى التوسل وتقبيل الايادي . اخي الذي يكبرني بسنتين فقط كان اكثر جبنا ورعبا وخوفا في المواقف المختلفة للرواية وغالب ما كان يهرب من مجلسنا ويذهب الى فراشه ويغطي راسه وجسده تماما ويغط في نوم عميق مباشرةً .
اعجوبة وبراعة الجدة في فن الايماء كان رائعا وهي تمثل ( المطر - العواصف الرعدية والترابية - الحرائق – السباحة – القفز من مكان شاهق ) مع حركات اليد وتغيير قسمات الوجه واختلاف نبرات الصوت صعودا وهبوطا مع الموسيقى التصويرية لاحداث القصة المتنوعة تجعلك ترى وتشاهد بأذنيك لا بعينيك .
ما اجملك يا جدتي وما اجمل قصصك ورواياتك المتنوعة دوما ( الاميرة فاطمة والشاطر حسن ) ( شجرة الجوز ) ( كرامات الاولياء الصالحين ) ( الملك الصالح والاخر الطالح ) ( قصص شخوص اثروا في مجتمعاتهم ) واتضح لي في ما بعد انها تتطابق تماما مع قصص الانبياء و( رجال حول الرسول ) عندما اقتنيت كتاب قصص الانبياء وانا في مرحلة الاعدادية اندهشت كثيرا لما علمت ان هذا الكتاب يروي قصص جدتي التي كنت التهمها في حينها بشغف ونهم عظيمين واحفظها عن ظهر قلب .
للتاريخ اقول ان جدتي هي في الحقيقة عمة والدتي المرحومة ( العمة كميلة عبد الرحمن ) كما كانت تناديها والدتي . هذه الجدة الرائعة حافظة للقران الكريم وللاحاديث النبوية الشريفة ولقصص الانبياء وغيرها من الموروثات الاسلامية التي توارثتها شفاها من والدها الشيخ ورجل الدين الصالح عبد الرحمن خلال سني حياتها المختلفة . واستذكارا وتوثيقاً لما بذلته هذه الجدة الرائعة في تربيتنا وتنشأتنا النشأة الصالحة مما جعلنا اليوم نترحم عليها في كل مناسبه نتذكرها فيها ونتذكر رواياتها واحداثها التي اتضح لنا انها تتطابق تماما مع القصص القرآني وقصص الموروث الاسلامي الذي يحث على مكارم الاخلاق .
ولنا لقاء آخر مع الجدة ( فضيلة عبد الرحمن ) وهي عمة والدتي ايضا وندعوها بالجدة بحسب ما تأمرنا والدتنا بذلك . والى لقاء آخر مع حكايات جدتي استودعكم الله تعالى .
بيت الجد والجدة 3
طارق فتحي
( السرداب)
في بيتنا سرداب او قبو كما يحلو للبعض تسميته . منذ نعومة اظفارنا ما انفكت جدتي الحديث عنه عندما نخلد للنوم مساء كل يوم فوق سطح البيت . مع مرور الايام تراكمت في اذهاننا قصص وحكايات عجيبة اقرب الى الخرافة منها الى الحقيقة . حيث كنا مازلنا اطفالا صغارا نتلقف حكايات جدتي وننتظرها كل مساء بلهفة وشوق غامرين .
في الصباح بعد ان اتتمنا فطورنا والتهيؤ للذهاب الى المدرسة التي كانت غير بعيدة عن دارنا كنت استرق السمع لاصوات تنبعث من السرداب فأتوجه نحوه وامسك بالمشبك الحديدي وسرعان ما تنهرني جدتي بالابتعاد عن باب السرداب.
عندما اجد خلسة من الوقت بعيدا عن عيون امي وجدتي اتبارى مع اخوتي اي منا يستطيع ان يدخل السرداب وقطع السلالم الخمسة منه هبوطا الى تحت الارض . كان فضولي يدفعني دائما لهذه المباراة . في يوم ما فزت بالدخول ونزلت ثلاث درجات فقط . حينها اصبحت البطل القومي بلا منازع وتبخترت في مشيتي بين اخوتي كالطاووس .
عندما حل الغروب صعد الجميع كعادة مساء كل يوم الى سطح البيت . واخذت امي تراجع لنا بعض واجباتنا المدرسية والجدة تهيء لنا العشاء في طقوس غاية في الروعة والجمال .
بعد الانتهاء من العشاء تحلقنا جميعا حول جدتي لتروي لنا قصة غربية وعجيبة اسمتها (مخرمش الوجهين ابو شين الطبايع) وكيف ان هذا الرجل وحش بطباعه السيئة يتحكم به قرينه بشكل تام . طرحت على جدتي سؤالا , ما هو القرين يا جدتي .؟ لم ترد علي في باديء الامر , عندما الححت عليها ثانية وثالثة اجابت لم ارد عليك حتى تنهي واجباتك المدرسية , استحلفتها بالله سافعل حالما اعرف ما هو القرين . نظرت نحو السماء قليلا متفكرة بماذا ترد واذا بها تقول :
عندما تبكي لوحدك وانت لحالك لم يكلمك احداً قد يدفع القرين لإحتضانك وهذا قد يسبب لك إرتفاع في درجة حرارة جسمك , القرين لا ينام لكنه يتجول في المكان الذي تنام فيه بعد نومك, وقد يوقع شيئا عن عمد لإيقاظك عندما يشعر بالملل, القرين يا ولدي لا يبكي إلا مرة واحدة في حياته وهي عندما يموت صاحبه مقتولاً,.
جدتي صفي لنا حالة من حالات التي يسببها القرين !!!
طيب يا ولدي اذا تشاجرت شجاراً قوياً و عنيفاً مع أحد وسقط هذا الشخص مريضاً بعدها بيوم , فهذا قد يكون بسبب قرينك الذي ذهب إليه و إنتقم لك منه , واوصيك يا ولدي بشيء هام جدا لك ولبيقة الاولاد الذين يسمعوني الآن ,
كن حذرا عندما تنادي على أحداً بعد منتصف الليل, لأنه إذا ناديت احداً ولم تأتيك إجابة من الإنس قد يجبر أحد من الجن بالرد عليك, فلا تنادي أحد إلا وأنت متأكد منه ومن اسمه . عندما يبدأ قلبك بالخفقان دون سبب واضح, فهذا يعني أن شيطان يقف أمامك مباشرة
و يحدق في عينيك و المسافة بين رأس أنفك و أنفه لا تتعدى حبة رمل .
جدتي هل القرين والجن والشياطين والملائكة مخيفين جداً.؟
لماذا لا نراهم بل نسمع بهم فقط .؟
انك تكثر من الاسئلة المحيرة يا ولدي ارجوا ان تكون بارعاً في دراستك مثلما آمل ذلك . هيا جدتي اخبرينا الشيء الكثير عن المخلوقات الخفية فانا احب ان اعرف عنهم الشيء الكثير.
حسناً يا ولدي: يوجد غشاء علي عين الانسان يمنعه من رؤية الملائكة والجن يزاح الغشاء عند الوفاة .
ملاحظة : سوف اسرد قصة السرداب العجيب باجزاء عديدة بعد الانتهاء من بيت الجد والجدة .
بيت الجد والجدة 4
طارق فتحي
( القرين )
هيا قم الى كتابة واجباتك المدرسية لا مزيد من الاسئلة . بحثت بين اغراضي فاذا بي فقدت قلمي وما احوجني اليه لاصحح بعض اجاباتي الخاطئة على دفتري المدرسي خشية من عقوبة المعلمة وغضبها . تذكرت حينها اني دخلت السرداب في تحدي مع اخوتي ربما سقط مني هناك . عبثا حاولوا اخوتي اعطائي اقلامهم الخاصة الا انني ابيت الا ان اجد قلمي وكنت متعلقا به كثيرا .
جريت مسرعا نحو سلم السطح بعد ان اختلط الظلام مع بصيص ضياء الغروب , نزلت السلالم مسرعا . امسيت وجها لوجه مع باب السرداب المخيف ففتحته على مهل وانا بالكاد ارى الاشياء حيث الظلام اخذ يلف المكان . تلمست بيدي الصغيرتين درجات السلم الواحدة تلوه الاخرى حتى اتيت الى السلمة الخامسة ومنها هبطت الى ارضية السرداب المفروشة بالطابوق الفرشي الاصفر .
كانت المرة الاولى في حياتي تلامس فيه اقدامي ارضية السرداب الصفراء . وبعد ان اخذ مني الخوف والرعب مأخذه تماسكت مع نفسي وانا اتلو بعض الايات القرآنية ليطمئن قلبي . والحق اقول لكم كنت اهذر بكلمات لم اسمعها جيدا ولم اعي معانيها البتة حتى بات الظلام سيد الموقف اخذت دقات قلبي تتسارع وتتسابق مع الظلام فكلما ساد الظلام اكثر كلما تسارعت نبضات قلبي اكثر حتى امسيت اسمع دقات قلبي بكل وضوح . كل هذا وانا اتلمس ارضية السرداب ابحث عن قلمي الضائع .
ما هي الا لحظات حتى تلمست اقدام رجل كان يقف خلف باب السرداب مباشرة وعدت اصابع قدميه الواحدة تلوه الاخرى , كان ينتعل نعال ذو شراك مصنوع من الجلد القاسي . تلمسته صعودا حتى اعتدلت قامتي فاذا بانامل كفي تتلمس لحية بيضاء كثة الهيئة بالكاد وصلت اليها وانتهت عندها قامتي . كان يبدوا لي كرجل عملاق مارد ينتصب بملابسة البيضاء ولحيته الكثة كاني به جاء من الزمن الموغل في القدم, من يكون هذا الذي لامسته .؟ ملاك ام شيطان من الانس او الجن او قد يكون قريني حسبما اعلمتني به جدتي , بقيت تساؤلاتي بدون اجابات واضحة ومقنعة . .
عندها صرخت باعلى صوتي .. امي .. امي .. امي .. تبعثرت هاربا من هول الموقف المخيف , صعدت سلالم السرداب زحفا , تارة على جنبي وتارة على بطني وبسرعة خاطفة وجدت نفسي التقط انفاسي المتسارعة وانا في احضان جدتي . اروي لها المشاهد كلها . ابتسمت بثقة عالية , قالت لي لا تخف يا ولدي انه (الملك الصالح) يحرس بيتنا من شياطين الانس والجن وهذا هو مكانه في السرداب في كل يوم بعد ان يحل المساء . ولا اعلم لماذا اطمئن قلبي لتفسير جدتي لما حدث لي . واحسست برهبة كبيرة وزهوا لم اشعر بهما لما تبقى من عمري . وكان يا مكان لي في هذا السرداب العجيب من امور غريبة يشيب لها الولدان.
بيت الجد والجدة 5
طارق فتحي
( بئر السلم )
في بغداد كانت مهنة السقا لم تعد تخضع للتقاليد المتوارثة، حيث إن سقاية الماء لم تكن مهنة لأغراض الربح بقدر ما كانت ترتبط بالأجر والثواب، فإن أشهر الصيف الطويلة التي تزحف على أجزاء من موسمي الربيع والخريف، جعلت مهنة السقاية تأخذ في الغالب شكل الموسم وتتباين بين الماء الصافي وعرق السوس والعصائر وبعض المرطبات .
كانت اغلب البيوتات البغدادية العتيقة توجد في داخلها آبار للمياه حفرت منذ زمن الدولة العثمانية لمواجهة متطلبات الحاجة للمياه في شؤن المنزل وعلى الاخص في المدن التي تبعد نسبيا عن الانهر والقنوات المائية . حيث كانت العادات والتقاليد في المدينة تمنع خروج النساء من بيوتهن لتلبية احتياجات البيت من الطعام والشراب وعلى الاخص النساء الشابات وكانت الجدات في الغالب الاعم هن من يقمن بالتسوق لسد حاجات البيت من الامور والمتطلبات الحياتية .
جريا على عادة البيوت المتاخمة لبيت الجد والجدة في منطقة الفضل . كان في بيتنا بئراً عتيقة ذو فوهة كبيرة تقع تماما اسفل الجدار الفاصل بين بيتنا و بيت جارنا الملاصق لنا . انا لم ارى البئر في بيتنا لانه بنيَ عليه مباشرة وفي الجزء الخاص بنا ( بيت الخلاء ) للاستفادة من البئر بعد ردمه في تصريف المياه الثقيلة .
كالعادة كانت جدتي دائماً تخيفنا من بيت الخلاء وما يوجد تحته من بئر غامض وعجيب له الف حكاية وحكاية . وكنت من اشد اخوتي هلعا وخوفا من الدخول الى بيت الخلاء بحسب مرويات جدتي . وكذلك كان اخوتي يفعلون الشيء ذاته ويتجنبون الذهاب او حتى التفكير بالذهاب الى بئر السلم كما تسميه جدتي .
ذات يوم قبل غروب الشمس بقليل طلبت مني جدتي من على سطح المنزل احضار بعض الحاجيات لها لممارسة طقوس تحضير العشاء في الهواء الطلق . جلبت لها ما ارادت وهممت بصعود السلم حيث كانت الشمس صفراء تميل الى الغروب وانا ارتقي السلالم سلمة بعد أخرى . وبعنفوان الطفولة ونشاطها ودأب الحركة السريعة اخذت .. ارتقي .. وارتقي .. وارتقي السلالم ولم اصل الى سطح المنزل ,غربت الشمس وبدأ الظلام يبتلع ما تبقى من ضوء النهار حتى اتي على آخره . وانا ما زلت .. ارتقي .. وارتقي .. وارتقي السلالم . حتى تقطعت انفاسي واخذت ضربات قلبي تتسارع بعد ان اخذ مني التعب والنصب مأخذه .
فاذا بجدتي تستصرخني ما بالك يا ولدي تصعد سلمة وتهبط اخرى . لقد حل المساء ويجب تحضير العشاء لكم وان اباكم لا محالة سيطرق الباب بين الفينة والاخرى . عندها انتبهت الى نفسي واذا بي لم اجتاز سوى سلمتين فقط من درجات السلم الثلاثة عشر درجة واعود الى بئر السلم وارتقي ثانية سلمتين واعود الى بئر السلم وهكذا دواليك . هذا ما اخبرتني به جدتي حين هبطت درجات السلم لنجدتي واخذت تسحبني من يدي وصعدت بي الى سطح الدار .
قلت لها هامسا جدتي هناك شخص ما في البئر السلم يمسك بقدمي فكلما ارتقي سلمة كان يسحبني للاسفل كانه يريد ان ياخذني معه الى البئر .. ضحكت جدتي ساخرة مني ليس الامر كما تتوهم . علمت حينها انها اوهام ومتاهات حكاياتها الغريبة التي لا تنقطع روائعها وجميل وصفها وتعلقنا بها بشكل جنوني ..
لم اجد تفسيرا مقنعا لما حصل معي لا من ناحية العلم ولا من ناحية الروحانيات .. وظل الامر غامضا لغاية يومنا هذا ولكنه امر حدث معي فعلاً ذات مرة ..
بيت الجد والجدة 6
طارق فتحي
( بيت الخلاء )
حكايات جدتي اثناء تسامرنا فوق سطح بيتنا العتيق مساء كل يوم قبيل الغروب بقليل كانت لها نكهتها الخاصة وكم كانت متعلقة باحفادها لحد الجنون حيث يظن كل منا انه هو المحب الوحيد من قبل الجدة وهي تحبه اكثر من اخوته الباقين هكذا كانت تزرع المحبة في قلوبنا التي باتت تعشق جدتي وحكاياتها الغريبة وكنا نصدقها رغم غرابتها واستحالة وقوعها الا ان عقولنا كانت على الفطرة السليمة نصدق كل ما يقوله لنا الكبار.
حكاية جدتي بما يخص بيت الخلاء خاصتنا من اعجب واندر الحكايات وهي دائما تجعلنا في رهبة وخوف من الدخول الىه بدون شخص كبير يرافقنا من الخارج. كان سبب تخوفها علينا . ان بيت الخلاء خاصتنا عبارة عن بناء متهالك يجثم فوق بئر عميقة وعتيقة جعل له شق طولي من الطابوق العادي قرابة المتر الواحد طولاً وبعرض يناهز نصف المتر او اقل بقليل . وكانت المياه الثقيلة تهبط منه مباشرة نحو جوف البئر بدون حائل . وبما اننا كنا اطفالا صغارا كانت جدتي كل ما تخشاه ان يقع احدنا في شق بيت الخلاء الواسع بالنسبة لنا كاطفال صغار .
لذا اخذت تنسج حوله الحكايات الغريبة والعجيبة لتمنعنا من اللهو والعبث بداخله الا لحاجة نقضيها ومما حدث معي في عصر متأخر من يوم جميل حيث كانت الايام حينها كلها جميلة من وجهة نظرنا على الاقل . طلبت من جدتي النزول من السطح والذهاب الى بيت الخلاء القابع في اسفل السلم . وبما انها كانت مشغولة في امور اعداد العشاء تركتني اذهب بمفردي وما ان نزلت درجات السلم حتى انتابتني الرهبة والخوف لانها المرة الاولى التي اذهب بها بمفردي بدون ان يرافقني احداً .
ازحت ستارة بيت الخلاء وانا انظر للشق الطولي العجيب. نظرت في اعماقة فلم اجد سوى الظلام ولا شيء غير ذلك , خرجت مسرعا ابحث عن حجر صغير لارميه في الشق فوجدت واحدة وهرعت مسرعا الى بيت الخلاء ورميت الحجر بداخله فلم اسمع له قرار فحسبته بئرا عميقا ليس له قرار او نهاية معلومة .
عندها اخذت موضعي وجلست القرفصاء فوق الشق فاذا بقدمي تنزلق وسقطت في الشق ومنه الى اعماق البئر المظلمة حينها شعرت برعب شديد . اذ كنت اصارع وانا وسط القذارة للتنفس والبقاء على قيد الحياة وكلما تحركت اكثر كلما هبطت اسفل البئر اكثر.. فأكثر .
ومما شاهدته وانا بالاسفل اثار لشباك قديم لازالت كتائبة الخشبية المتهرئة بادية عليه تطرزة اسلاك من الحديد يعلوه الصدأ .
حينها انطفاْ بصيص الضوء الذي كان يغمرني احسست اني اهبط للاسفل باستمرار فتوقفت عن الحركة ومدت يدي لاثبت نفسي بالشباك . فاذا به يقتلع بكامله ويفضي الى ارض رطبة بعض الشي ولكنها خالية من القاذورات . اخذت ازحف جهدي حتى انتهيت مستلقيا على ظهري اتنفس بكل حرية وهدأ روعي بعض الشيء .
العجيب ان هذه البقعة من الارض مضيئة كاننا في ضوء نهار جميل والرائحة فيه طيبة كرائحة الورود والازهار تعلوه الحشائش القصيرة كبساط سندسي غاية في الروعة والاتقان تعجبت من الامر.احترت حينها كيف اعلم اهلي بما حصل لي .؟
بينما كانت الافكار تتقاذفني بسرعة الضوء وجدت نفسي ازيح الحشرات من على وجهي وفمي فاذا به صرصار كبير الحجم احمر اللون يخدش شفتاي بقوائمه الشائكة فصرخت باعلى صوتي .. جدتي .. جدتي .. جدتي ..
فاذا بجدتي توقظني من نومتي وتهزني هزا عنيفا وهي تقرا على راسي بعض الايات القرآنية حيث قالت ما بالك يا ولدي تصرخ بهذه القوة والشدة وانت تهتز كسعفة نخلة في يوم شتائي عاصف . حكيت لها حكايتي .. وما زلت لغاية يومنا هذا اخشى ما اخشاه حشرة الصرصار الحمراء ذات القوائم الكبيرة الشائكة .
بيت الجد ة الجدة 7
طارق فتحي
( شبح في غرفة نومي )
بيت الجدة من البيوتات البغدادية العتيقة بمنطقة الفضل . قيل عنه انه بني منذ ما يزيد عن القرن من الزمان . وكعادة البناء في ذلك الوقت كان فيه قبواً كبيراً تسميه الجدة السرداب باللهجة البغدادية المحلية الدارجة آنذاك .
ما انفكت جدتي تحدثنا عنه بشيء من الرعب وتنسج حوله الاساطير مما توارثته من الحكايات والموروثات الشعبية القديمة قدم الدهر. نحن كاطفال كنا نصدق جدتنا في كل ما تقوله لنا بل ننتظر بشوق عجيب ان يحل الغروب لنرتقي سطح المنزل ونستمع الى حكايات جدتي حتى تغلب علينا سنة من النوم .
ذات يوم اختلفت مع احد اخوتي وقررت عدم تناول العشاء معهم من على سطح المنزل . مكثت في الغرفة السفلية الخاصة بوالدي وكانت مجاورة للسرداب تماماً . بقيت لوحدي وشعرت بالملل فغلبني النوم .
واذا بي اسمع صوت شيء ما يعبث في قفل الباب ومن ثم صوت صرير باب يفتح وما ان فتحت عيناي على طرقات خفيفة على باب غرفتي حتى نهضت من فوري واتجهت نحو الباب لارى من الطارق واذا به اخي الكبير جاء يسألني عن غرض له نسيه ولا يدري اين فتنحيت جانباً مفسحا له الدخول. فاذا به يعثر على غرضه فالتقطه وابتسم بوجهي على غير عادته وغمزني وخرج مسرعا حتى اني سمعت صوت اقدامه وهي ترتقي درجات السلم بسرعة في سرور وبهجة كمن فاز بجائزة كبرى .
عدت ثانيةً الى سرير ابي واستسلمت للنوم .
فجأةً نهضت من نومتي القصيرة وانا اصرخ يا الهي ..
ما هذا .؟
ما الذي يجري هنا .؟
اخي الكبير سافر مع ابي الى الموصل منذ يومين . فتحول لون وجهي الى الازرق جريت بسرعة البرق وانا اطوي الارض طياً واقفز السلالم الحجرية كل سلمتين بقفزة , واحدة حتى انتهى بي المطاف في احضان جدتي ,عندها نمت نوماً عميقا لازلت اشعر بلذته لغاية يومنا هذا بعد ان سكن كل شيء فيً وهدأ روعي وانا اتسائل في سري .
يا الهي .. من هذا الذي دخل غرفتي اذاً . وبقيت بلا اجابات مقنعة
بيت الجد والجدة 8
طارق فتحي
( خالي الشيخ )
آه من الانتظار، لقد مضت سحابة النهار ومالت شمسه إلى المغيب وخالي الشيخ ينتظر أن يسمع أعذب صوت وأحبه إلى قلبه.. صوت مدفع الافطار ..لقد انتظر طويلا، الساعات تتحرك ببطء شديد، الجوع يضرب جدران معدته الفارغة ، كأنما هي طرقات مطرقة ثقيلة تتوالى منتظمة على جسد رقيق فتحدث صوتا وألما في آن واحد، العطش يمسك بتلابيب جوفه، كشرطي يمسك بلص طال بحثه عنه فلا يستطيع منه فكاكا..
ماذا عساه أن يفعل في تلك السويعات الباقية؟! لقد فعل كل شيء، صلى الفجر في جماعة، وقرأ جزءا من القرآن، وصلى الظهر في جماعة، واستمع إلى درس الإمام بعد الصلاة وهو يبين فضائل الصيام، يحث على التحلي بمكارم الأخلاق، والتخلي عن رذائلها، نام ساعة القيلولة في السرداب ، استمع إلى آيات القرآن تخرج في سبحات جميلة من أعذب الأصوات وأنقاها .. ها هو الوقت يقترب شيئا فشيئا، قد اشتاق إلى محبوبته شوقا عارما، ها هي لحظة اللقاء تقترب؛ فقد أخذت الشمس تلملم أشعتها الصفراء، وتذهب إلى مبيتها الذي ترقد فيه حتى الصباح.. لقد غربت الشمس، وها هو صوت المدفع يأتي من بعيد، هرول مسرعا إلى محبوبته، يلفها بيديه ، ويرتشف بنهم قليلا من رحيقها . السيكارة التي تعشق فمه ويعشقها متيما بلثمها .
وكعادة خالي الشيخ ان يفترش اغراضه في السرداب وقت الظهيرة والقيلولة المباركة حتى قبل الافطار يقليل . اختارني من بين اخوتي بعد الافطار لاجلب له كيس التبغ خاصته وقداحتة التي تعمل بالنفط الابيض من بين اغراضه في السرداب . نهضت من فوري غير مصدق انه كلفني بهذه المهمة دون غيري .
هبطت السلالم مسرع الخطى وانا اقفز كالعصفور يتملكني الشعور بالفخر والاعتداد بالنفس والزهو حتى اني نسيت جميع قصص الرعب التي كانت تثيره الجدة عن السرداب وما ان اضأت مصباح الحوش الذي يرمي بظلاله على مقدمة السرداب لاتلمس خطواتي وانا اهبط السلالم الخمسة اليتيمة فيه .
فما اضاء المصباح , عبثا حاولت فلم افلح . عندها نسيت امره وتوجهت من فوري الى السرداب باندفاع فرسان القرون الوسطى وجدتني في وسط السرداب .
فاذا بخالي الشيخ معه شله من الرجال متشحين بالبياض يرحبون بي . فخجلت من تصرفاتي الصبيانية وحييتم بتحية الاسلام . تعجبت لوجود خالي الشيخ معهم اذ اني تركته للتو جالسا على سطح المنزل . قلت في سري جائز انه نزل خلفي لتباطئي بمحاوله انارة مصباح الحوش وأطمان قلبي الى هذا التفسير .
افسحوا لي فجلست معهم لتناول الافطار وقد عرف الشيخ بضيوفه احدهم يدعى ملا خليل والاخر اسمه حجي سعيد , أخذ الاخير يمسح على رأسي وانا في قمة الزهو والفخر والانشراح . اكملنا فطورنا معا واخذ خالي الشيخ ينادي على والدتي بصوت جهوري صاخب لرفع السفرة واتحافنا بصينية الشاي مع الشكردان والقوري الفرفوي المحاط باساور من النيكل الابيض اللماع .
تناولوا بعض المواضيع الدينية التي لم افقه جلها كنت مستمعا جيدا . طال بنا المقام فقمنا الى صلاة العشاء جماعة في ركن قصي في السرداب وما ان عدنا الى مجلسنا حتى رأيت صينية الشاي والابخرة تتصاعد من القوري ومكان جلوسنا خالي من كل شيء . فعجبت من اني لم اسمع باي حركة حدثت خلفنا اثناء الصلاة . قلت في سري ربما اندمجت كثيرا في الصلاة وانقطعت عن عالم ما حولي من الحقيقة .
بعد ساعتين او ما يزيد دب في النعاس فامرني خالي ان اذهب للنوم مع اخوتي على سطح الدار . ففعلت ما أمرت وارتقيت درجات السلم فاذا بوالدتي توبخني على تأخري في جلب حاجيات خالي الشيخ , تفاجئت من الجميع ومن كل شيء وانا اتفرس بوجوههم الواحد تلو الاخر كمن راى اشباحا في وسط عتمة الليل . حيث ما زال طعام الافطار ساخنا والابخرة تتصاعد من صحون الشوربة .
نهضت جدتي بسرعة واخذت تمسح على رأسي وتقرأ عليً المعوذات التي كنت اجيد حفظها تماماً . عقدت الدهشة لساني ولم احر جوابا لما رأيت من عجائب اهلي فوق سطح الدار . وتصورتهم اشباح بوهيمية لا اجساد بشرية . وعبثا حاولوا معي على الطعام الا انني امتنعت بشدة فاخبرتهم اني تناولت فطوري في السرداب مع خالي الشيخ وضيوفه . وسميت لهم اسمائهم . فتبسم الشيخ في وجهي وقال لي تمام الكلام الا اني سبقتك على السطح ومسح على رأسي كما فعل حجي سعيد تماماً .
تملكني والحق اقول لكم رعباً شديدأً لكم هائل من المتناقضات التي رأيتها في تلك الليلة ولم اعرف من اصدق اشباح سطح الدار ام شخوص السرداب ومن منهم الحقيقيون ومن منهم الوهميون . نمت ساعتها غير بعيد عن فراش خالي وانا اسمعه يقول لوالدتي هل تعرفون احداً في المنطقة اسمه ملا خليل او حجي سعيد فاجابته والدتي بالنفي . فاستغرب الامر وصمت .
مواضيع مماثلة
» * بيت الجد والجدة : من 9 - 17
» * سلسلة بيت الجد والجدة - الجزء 1
» * سلسلة بيت الجد والجدة - الجزء 2
» * سلسلة بيت الجد والجدة - الجزء 1
» * سلسلة بيت الجد والجدة - الجزء 2
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى