* الفطرة في الإسلام وعلاقتها بالأوليات العقلية
صفحة 1 من اصل 1
* الفطرة في الإسلام وعلاقتها بالأوليات العقلية
الفطرة في الإسلام وعلاقتها بالأوليات العقلية
لا شك أن الفطرة المركوزة في الإنسان، والتي إن استعملت استعمالا سليما، فإنها تهدي على الفور إلى الدين القويم، ترتبط بالأوليات العقلية البسيطة، وعن هذا الارتباط يتحدث د. عبد الرحمن الزنيدي فيقول: قال سبحانه وتعالى: )فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم( (الروم: 30).
وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء". ثم قرأ أبو هريرة: فطرت الله التي فطر الناس عليها.
ما هذه الفطرة؟ وما الشيء الذي يفطر عليه الإنسان على ضوء هذين النصين؟ وما علاقتها بالمبادئ القبلية الفطرية؟
أما الفطرة: فقد فسرت بتفسيرات كثيرة؛ فقيل: هي الإلهام للإيمان والكفر، وذلك مصداق قوله سبحانه وتعالى: )فألهمها فجورها وتقواها (Cool( (الشمس). وهذا عند الذين ينكرون فطرية معرفة الله، ويرون أنها نظرية لا تحصل إلا بالاستدلال والنظر، وقيل: هي المعرفة، أي معرفة الله والإقرار بربوبيته. وقيل: إنها الدين الذي أرسل الله به رسوله، وأعظمه معرفة الله وتوحيده، وهذا مذهب جمهور السلف؛ قالوا: الفطرة: الإسلام، ويؤيد هذا ما جاء في روايات أخرى: «كل مولود يولد على الملة». و «خلقـت عبـادي حنفـاء كلهــم، وإنهـم أتتهـم الشياطيـن فاجتالتهــم» قال ابن تيمية: "وأصل الدين الذي فطر الله عليه عباده يجمع أصلين:
أحدهما: عبادة الله وحده لا شريك له، وإنما يعبد بما أحبه، وأمر به.
والثاني: حل الطيبات التي يستعان بها على المقصود، وهو الوسيلة، وضدها تحريم الحلال.
أما علاقة الفطرة بالمبادئ القبلية: فإما أن يقال: إن هذه الفطرة الدينية تمثل جزءا من هذه المبادئ والأفكار الأولية، بل هي أوضح أجزائها؛ فإنها من العلوم اللازمة للخلق التي لم يخل منها بشر قط، بخلاف كثير من العلوم التي قد تكون ضرورية، ولكن قد يغفل عنها كثير من بني آدم، فإذا تصورت كانت علوما ضرورية.
وإما أن يقال إن هذه المبادئ هي قاعدتها التي تقوم عليها بحكم أنها حق، وما تؤدي إليه حق، فالمعرفة الدينية فطرية ضرورية على الحالين، سواء قيل إنها فطرية بنفسها، أو قيل إنها تحصل بأسباب كالأدلة التي تنتظم في النفس.. فإن النفس بفطرتها قد يقوم بها من النظر والاستدلال ما لا يحتاج معه إلى كلام أحد.
ولا يعني أن المولى قد فطر الناس على الإسلام أنه يتمثل في عقولهم بالفعل، كما يتمثل لمن قرأ نصوص الكتاب والسنة وفهمها، خصوصا أن لوثات الوثنية والجاهليات تغشيها حتى يخفت نورها، إن قليلا وإن كثيرا. ولكنها مع ذلك تبقى شعورا عاما في نفس الإنسان - البعيد عن هدى الله -
حتى يأذن الله له بسبب يجلو هذه اللوثات كالاطلاع على الدين الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - والاهتداء به، فيشعر عندئذ شعورا فعليا بأن هذا هو ما كان يبحث عنه، وتتطلع إليه نفسه، كما صرح بذلك كثير من الذين أسلموا.
وبهذا نعلم أن هذه النزعة الفطرية الدينية أبعد مدى من الغريزة الدينية، التي يتكلم عنها علماء الاجتماع، ويؤكدون اشتراك كل الأجناس البشرية فيها، وأصالتها في النفوس؛ لأن هذه الغريزة لا تتجاوز - حسب قولهم -
الاهتمام بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة، والتأمل في المسائل الميتافيزيقية الكبرى، كيف جاء هذا العالم، وما حكمة وجودنا فيه، وما وراءه؟ وغايتها هو الاتجاه إلى الله، ولهذا كان سبيل إرواء هذه الغريزة هو اعتناق الديانات التي تربط بين الإنسان وبين الله وهي الأديان التي تتطور بتطور البشرية، وتتجاوب دائما مع درجة الثقافة العقلية".
أما الفطرة التي فطر الله الخلق عليها - كما أخبر بذلك الوحي - فإنه لا يمكن الوفاء بحقها إلا بالدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بعقيدته التي يجد فيها العقل البشري الحل الصحيح المقنع لكل تساؤلاته عن مسائل الوجود والكون والحياة، وبشريعته التي يجد فيها الإنسان الحق واستهداف الخير في كل جزئية منها.
ولهذا اعتبر الإسلام اعتناق الأديان الأخرى حتى ذات الأصل السماوي المبدل؛ اليهودية، والنصرانية - انحرافا عن الفطرة "فأبواه يهودانه، أو ينصرانه"، وهذا ما يشهد به الواقع، فإن كثيرا ممن أسلموا وكانوا قبل إسلامهم على أديان أخرى يهودية أو نصرانية، أو غيرها يخبرون أنهم لم يكونوا يجدون في أديانهم السابقة انسجاما مع الفطرة ولا تحقيقا للسعادة، وإنما وجدوا ذلك - فقط - في الإسلام.
ومثال على ذلك: الفنان الإنجليزي الشهير كات ستيفينز أو يوسف إسلام كما سمى نفسه بعد إسلامه؛ فقد نشأ على المسيحية وعرف عقائدها، وسعى لبلوغ الكمال الذي ترسمه المسيحية كما يقول ولكن فطرته لم تجدها الدين المناسب لها فلم تنسجم معها، وكانت تتطلع إلى الدين المرضي وتدفع صاحبها للبحث عنه، يقول عن حاله في هذا الظرف: "وبدأت أفكر بطريقتي لحياة جديدة، أبحث فيها عن السلام والحقيقة، وانتابني شعور هو أن أتجه إلى غاية ما! ولكن لا أدرك كنهها ولا مفهومها، بدأت أفكر، وأبحث عن السعادة التي لم أجدها في الشهرة ولا في القمة ولا في المسيحية، فطرقت باب البوذية والفلسفة الصينية، وصرت قدريا
وآمنت بالنجوم، ولكني وجدت ذلك كله هراء، ثم انتقلت إلى الشيوعية، ولكني شعرت أن الشيوعية لا تتفق مع الفطرة، فأيقنت - إذ ذاك - أنه ليست هناك عقيدة تعطيني الإجابة وتوضح لي الحقيقة - ولم أكن أعرف عن الإسلام شيئا بعد - فرجعت إلى معتقدي الأول، وهو ما تعلمته من الكنيسة؛ لأن الكنيسة أفضل من تلك قليلا".
وبعد أن هداه الله إلى الإسلام عن طريق قراءته ترجمة معاني القرآن الكريم وجد الإجابة التي يطلبها، والحق الذي ينشده يقول: "لقد أجاب القرآن على كل تساؤلاتي وبذلك شعرت بالسعادة، سعادة العثور على الحقيقة، ووجدت في القرآن كيف أن هذه السعادة هي الخالدة".
وينبغي أن نشير هنا إلى أن الإسلام الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - يتحد فيه الدين الوضعي والعقلي معا، حسب تقسيم كانت، الذي قسم الدين إلى نوعين: وضعي وهو الموحى به الذي يقوم على عقيدة أبلغت لنا، وعقلي وهو القائم على الصدق الكلي الذي تتفق فيه جميع العقول؛ لأنهما جميعا من الله، وما جاء عن الله لا يمكن أن يتناقض.
يقول د. عبد الرحمن الزنيدي معلقا على ما ذكره كانت: بل أرى عكس ما رسم كانت من العلاقة بينهما حيث جعل الأصل هو الدين العقلي، ومن ثم ينبغي ألا يقبل من تعاليم الدين الوضعي إلا ما اتفق مع الأول، أما ما أرى أنه منهج الإسلام، فهو أنه يكفي من العقل اقتناعه بأن هذا الدين موحى من الله، ليصبح - نتيجة هذا الاقتناع - الدين الوضعي المتمثل بالوحي المنزل هو الميزان الحق؛ لأنه مضمون الصدق بتفاصيله، بحكم أنه وحي منزل من علم الله، ومحفوظ من تلاعب البشرية، خلافا للدين العقلي فإنه غير مضمون الصدق وإن كان قائما - أو هكذا يفترض - على أصل مضمون الصدق وهو الفطرة أو المبادئ القبلية، ولهذا أجمع علماء الإسلام على أن المعتبر هو الإسلام والإيمان الشرعيان دون الفطريين
ونخلص من ذلك كله إلى أن الإنسان مفطور على الإيمان والتدين، وهما ضاربان في أعماق نفسه البشرية وإذا كان ذلك كذلك فما الكفر إذن، وهل هو طمس للإيمان؟ ويجيب الأستاذ عبد المجيد الزنداني على ذلك فيقول: الكفر تغطية للحق الواضح، وهو جحود بما جاء به المرسلون الصادقون، فكل كافر يعلم أنه ما خلق نفسه، وأن له خالقا هو مالكه وسيده، ولكن الكافر لا يهتم بمعرفة خالقه، أو تجده قد هام في وثن أصم، أو في أحد الطواغيت، أو طبيعة جامدة بليدة، وقد تجده محتارا في أمره تائها كريشة في مهب الريح، وأي عذر للكافر وقد امتلأت الدنيا برسل الله ورسالاته؟ وأي عذر له يوم يسأل غدا؟ قال سبحانه وتعالى: )ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين (65) فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون (66)( (القصص).
والكافر يعرف أن الله قد أرسل رسلا إلى الناس لهدايتهم وأيدهم بالمعجزات والبينات، التي تثبت صدقهم، وتجد الكافرين إما قد اطلعوا على بينات الرسول: )وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا( (النمل: 14)،
تكبرا واستهزاء واتباعا للهوى، أو تجد فريقا منهم قد أعرضوا ولم يكلفوا أنفسهم أن يعرفوا ما أنزل ربهم من هدى فتعاموا، وتناسوا فويل لهؤلاء المتغافلين المتعامين عندما يوجه إليهم غدا هذا السؤال: )حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أماذا كنتم تعملون (84)( (النمل)،
وأي عذر للكافرين وهم يرون أو يسمعون بذلك الموكب الإيماني الكبير الذي يمتد عبر القرون يقوده الأنبياء والمرسلون، وقد التف حولهم وسار خلفهم ملايين الملايين الملايين من الناس أمثالهم: )والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد (16)( (الشورى).
والكافر يعلم أن كل نعمة يتمتع بها في نفسه كالسمع، والبصر، والعقل، والصحة، والحياة، وكل نعمة ينتفع بها في الأرض، كالنبات، والحيوان، والماء، والهواء، والخيرات المختلفة، والمعادن، وكل نعمة يستفيد منها في السماء، كالشمس والقمر وتقلب الليل والنهار - يعلم الكافر أن كل هذه النعم الظاهرة والباطنة لم يخلقها لنفسه، وأن لها ربا وخالقا أنعم بها عليه، ولكنه يجحد نعمه ويتناسى ويتعامى عن فضل خالقه عليه، ويستخدم نعم ربه في المجاهرة بالكفر والمعصية: )الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار (32) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار (33)( (إبراهيم)،
وقال سبحانه وتعالى في موضع آخر: )أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون (67)( (العنكبوت).
فذلك هو الكفر، فهو باطل وتغطية للحق وضلال.
والكافر يسبح في ظلمات الجهالة الكبرى، لا يعرف خالقه الحق! ولا يعلم لماذا خلقه؟! ولا يدري لماذا جاء به إلى هذه الدنيا؟ يستخدم ما سخر له ربه بدون علم بالعمل الذي يريد ربه منه أن يعمله، والذي يغضبه سبحانه منه إن عمله، قد سخرت الدنيا للناس، ولكن الكافر لا يدري ما الحكمة من تسخيرها له؟ يأكل ويشرب، وينام ويستقيظ ويموت كموت البعير، لا يدري لماذا بدأت حياته؟ ولا يدري لماذا انتهت؟ ولا يدري لماذا عاش على الأرض مدة ذلك الأجل المحدود؟ وتجد الكافر يتعاطى الأشياء مجازفة دون إرشاد من الخالق لها، كمن يتعاطى تسيير آلة دون اتباع إرشاد صانعها! فيفسد في الأرض وهو يظن أنه يصلح بإفساده: )وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12)( (البقرة). )لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد (196)( (آل عمران).
فما أشبه الحضارة الكافرة التي يعيش فيها الناس بدون إيمان، بدون هدف، بدون صلة بالخالق - عز وجل - ما أشبه تلك الحضارة بصانع سفينة ضخمة أنيقة جميلة، قد رتبت فيها أماكن الطعام، وأماكن الرقود، وأماكن اللعب والتسلية، وأخذ صانعها يدعو الناس إلى ركوبها، ويشرح لهم كيف يأكلون ويشربون، وكيف يرقدون، وكيف يلعبون؟ حتى إذا سأله أحد الركاب، وإلى أين تذهب بنا هذه السفينة؟ أجاب: لا أدري!! اركبوا فقط!!
والكافر لا يعرف إلا دنياه، ولا يعرف من دنياه إلا مصالحه ولذائذه، فهي التي توجه عمله، وتحدد علاقاته بغيره من الناس. إن الكافرين يبالغون في تقدير هذه الحياة، وترى الفرد منهم يسرف في عبادة ذاته، وإرضاء شهواته، قد انقطعت الصلة بينه وبين ربه؛ لتكذيبه برسالة الأنبياء، وعقيدة الآخرة، فكان هذا الفرد الكافر هو مصدر الشقاء، فإذا كان تاجرا فهو التاجر المحتكر النهم الذي يحجب السلع أيام رخصها، ويبرزها عند غلائها، ويسبب المجاعات والأزمات، وإذا كان فقيرا فهو الفقير الحاقد، الذي يريد أن ينال ما في أيدي الآخرين بغير تعب، وإذا كان عاملا فهو العامل المطفف الذي يريد أن يأخذ ما له ولا يريد أن يدفع ما عليه، وإذا كان غنيا فهو الغني الشحيح القاسي لا رحمة فيه ولا عطف، وإذا كان واليا فهو الوالي الغاش، الناهب للأموال، وإذا كان سيدا فهو الرجل المستبد المستأثر الذي لا يرى إلا فائدته وراحته، وإذا كان خادما فهو الضعيف الخائن، وإذا كان خازنا فهو السارق المختلس للأموال، وإذا كان وزير دولة أو رئيس وزارة، أو رئيس جمهورية، فهو المادي المستأثر الذي لا يخدم إلا نفسه وحزبه وشيعته، ولا يعرف غير ذلك، وإذا كان زعيما أو قائدا، فهو الأناني الذي يعقد مصلحة مواطنيه ويدوس كرامة البلاد الأخرى، والشعوب الأخرى، وإذا كان مشرعا فهو الذي يسن القوانين الجائرة، والضرائب الفادحة، وإذا كان مكتشفا صنع الغازات المبيدة للشعوب المخربة للبلاد، ولقد أصبحت القنابل الذرية أعظم مشكلة تهدد سلامة العالم كله بين لحظة وأخرى، وإذا كان منقذا فهو المنقذ القاسي منزوع الرحمة.
وقد يخرج أفراد من الكفار عن بعض الصفات السابقة، ولكنها حالات نادرة، ومن هؤلاء الأفراد الفاسدين تكونت المجتمعات الكافرة، فكانت مجتمعات مادية اجتمع فيها: احتكار التاجر، وحقد الفقير، وتطفيف العامل، وشح الغني، وغش الوالي، واستبداد السيد، وخيانة الخادم، وسرقة الخازن، ونفعية الوزراء، وأنانية الزعماء، وإجحاف المشرع، وإسراف المخترع والمكتشف، وقسوة المنقذ، ومن هذه النفسيات المادية تبتعث المشكلات الكبرى في المجتمعات الكافرة، فأصابت الإنسانية بويلاتها.
وترى الكافر يعيش حياة مضطربة لا اطمئنان فيها ولا استقرار، حياة ساخطة ثائرة، ولكن ذلك السخط والقلق لا يدفع عنه شيئا، إنما هو العذاب النفسي الذي تكتوي بناره المجتمعات الكافرة في الدنيا. والكافر - برفضه لعبودية الخالق - سريعا ما يتحول إلى عبد ذليل لمخلوقين مثله، هو إما أن يكون عبدا متذللا لطاغية أو دكتاتور أو زعيم أو وثن، وإما أن يكون عبدا للأهواء أو الخرافات والأوهام السخيفة.
أين المسلمون من الفطرة والوراثة؟!
لقد كان حريا بمثيري هذه الشبهة أن يعترفوا بكون إيمان المسلمين فطريا لا موروثا أو تقليديا، وذلك أن الإسلام والإيمان به هو فطرة الناس جميعا التي فطرهم الله عليها، وقول الله سبحانه وتعالى: )فطرت الله التي فطر الناس عليها( (الروم: ٣٠) يوضح هذا المعنى، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، وأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه..» ولم يقل النبي: أو يمسلمانه؛ لأن الإسلام والإيمان به هو فطرة الناس جميعا.
إن خبرا جاء إلى العالمين، أن رسولا بعث منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام بدين هو الإسلام يدعو الناس إلى الإيمان بإله واحد لهذا الكون، ويدعوهم كذلك إلى الإيمان بملائكته، وكتبه، وجميع رسله واليوم الآخر، والقدر: خيره وشره، فصدق المسلمون ذلك وكذب غيرهم، فما دليل المصدقين وما دليل المكذبين؟ فكون الخبر قد جاءنا ممن سبقنا لا عيب فيه، بل العيب كل العيب ألا نمتلك دليلا على تصديقنا أو تكذيبنا.
هب أن رجلا في البحر ماجت به سفينته، وأيقن بالهلاك، أو اختلت به طائرته في الجو، على الفور تجده يتعلق بقوة غيبية، وهو يعلم في قرارة نفسه أنه لا خلاص له مما هو فيه إلا بتلك القوة، وتلك القوة هي قوة الله وقدرته الواحد مالك السماوات والأرض، وتحرك النفس نحوه هو الفطرة. وعليه فإن إيمان المسلمين فطري لا مورث.
أثر الإيمان بالقيم الأخلاقية على الدول الأوربية
إن أثر هذا الإيمان لم يقف عند المسلمين فقط، بل تعداهم إلى بقية أمم الأرض وشعوبها، وفي ذلك يقول الأستاذ محمد قطب: إن أوربا - في عصورها المظلمة - كانت واقعة في الجهالة العلمية التي حرص عليها حكام شعوبها، كما حرصت عليها الكنيسة؛ ليظل سلطانها الرهيب قائما في قلوب الناس وأرواحهم، وكانت واقعة تحت وطأة الإقطاع[
ممزقة لا رباط بينها - وإن كانت كلها مسيحية - لأن السيد الإقطاعي يمثل في إقطاعيته السلطان المطلق، فهو السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية في وقت واحد، وواقعة من جهة أخرى تحت سطوة البابوية التي تستعبد أرواح الناس وأفكارهم، وتأكل جهدهم كما تأكل أموالهم بالباطل:
يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34)( (التوبة).
وبينما أوربا في حالتها هذه إذ التقت بالإسلام يحيط بها من كل جانب، التقت به سلما في الأندلس، والشمال الإفريقي، وصقلية، وغيرها، والتقت به حربا عبر الحروب الصليبية التي استغرقت حوالي قرنين من الزمان، ثم كان من نتيجة ذلك تلك الآثار في أوربا:
· أخذت أوربا العلوم الإسلامية كلها، وبصفة خاصة المنهج التجريبي في البحث العلمي وأقامت عليه نهضتها العلمية الحاضرة.
· أخذت معنى "الأمة" التي يربطها رباط واحد وتحكمها شريعة واحدة، ولكنها لم تستطع إقامتها على أساس العقيدة؛ لفساد العقيدة عندهم، وفساد القائمين عليها من الكهنوت[30]، فأقاموها على شكل قوميات، هي الأساس الذي قامت عليه دول الغرب الحالية.
· حاولت إصلاح الفساد العقدي والكنسي في حركات كالفين ومارتن لوثر، وغيرهما، وإن كانت لم تحقق إلا إصلاحات جزئية في داخل الفساد الشامل؛ وذلك لأنها رفضت الإسلام ابتداء، وهو الطريق الوحيد للإصلاح الحقيقي.
· أخذت نظام الجامعات الإسلامية وأنشأت جامعاتها على غراره.
· قامت فيها حركات فروسية تحاول أن تقلد ما وجدوه عند المسلمين من الشهامة والنجدة والأخلاق العالية.
تأثرت أوربا بالنظم المعمارية الإسلامية، وقلدتها في بعض مبانيها عامة "خذ مثالا بسيطا على ذلك إدخال الحمامات في البيوت وتنظيف الأبدان بالاستحمام، ولم تكن أوربا تمارسه حتى التقت بالمسلمين".
بدأت فكرة "الدساتير" التي تشمل أسسا واضحة للحكم بغير هوى الحكام، وشهواتهم الشخصية، واقتبست أوربا كثيرا من الفقه الإسلامي، ومما يذكر في هذا الصدد أن القانون المدني الفرنسي أخذ معظمه من فقه مالك؛ لأنه كان أقرب المذاهب إليهم في الشمال الإفريقي.
· استفادت أوربا في الكشوف الجغرافية من الخرائط الإسلامية، فبدأت تنساح في الأرض على هدي هذه الخرائط.
وباختصار فإن أوربا أخذت بذور نهضتها الحالية كلها من الإسلام، وإن كانت جمدت أثر الإسلام والمسلمين في حياتها، ورفضت في عصبية جاهلية أن تعتنقه.
ماذا عن تجاهل القيم الحياتية والأخلاقية؟
ها هي الحضارة الغربية وريثة الباطل بشتى صوره تري العالم كله الفرق بين وراثة الحق، ووراثة الباطل، ونترك الكلام لفضيلة الشيخ محمد الغزالي مجيبا على سؤال طرح عليه: ما أثر الإيمان على الأخلاق والسلوك والضمير في ضوء ما يحدث في الدول المتقدمة التي تأخذ بالعقل ونتائج العلوم فقط؟
يقول: لا نستطيع إنكار المدى الكبير الذي بلغته الحضارة الحديثة في اكتشاف أسرار الكون؛ إنها حضارة ذكية العقل واسعة المعرفة، وقد طوعت ما بلغته إلى تقدم صناعي باهر طفر بالإنسانية طفرة قوية في جميع المجالات المدنية والعسكرية.
ولكن هناك إحساسا عاما بأن هذا التقدم المادي لم يواكبه تقدم روحي، وأن إنسان العصر الحديث لا يختلف كثيرا عن إنسان العصر الأول في غرائزه وشهواته! وإذا كانت ثمة فروق، ففيالوسائل، لا في البواعث والغايات، بل لقد قيل في إنسان العصر الحاضر: إن عضلاته أكبر من عقله، والواقع أن الإنسان يتضاعف شره عندما يكون حاد الذكاء حقير الخلق، ولطالما رددنا أن الإسلام عقل يرفض الخرافة، وقلب يكره الرذيلة.
إن الكمال الحقيقي امتداد ونضج في جميع الملكات الإنسانية، وهذا التوازن أساس لا بد منه لقيام مجتمع رشيد، وحضارة يانعة الثمار، مديدة الظلال، فهل الحضارة الحديثة بعد تلك المقررات جديرة بالخلود؟ أو هي أرجح من غيرها في موازنة منصفة؟ الحق أن لا؛ فالرجل الأبيض، قائد هذه الحضارة ورائدها، إنسان طافح الأنانية، يشده إلى منافعه ألف رباط، وقبل أن نشرح شرهه المسعور واستعلاءه على غيره، نذكر أحد مظاهر الحضارة الإسلامية القديمة.
فالعرب الفاتحون قدموا الإسلام للأعاجم، ونقلوهم به من الظلمة إلى النور، وبعد ردح من الزمان، كان هؤلاء العرب يصلون وراء الأتقياء في شتى الأجناس، ويتلقون عنهم العلوم الدينية، دون غضاضة أو كبرياء، فالبخاري هو المحدث الأول، وأبو حنيفة الفقيه الأول، والحسن البصري المربي الأول، وسيبويه اللغوي الأول، ولم يشعر المصريون بأي ضيق من أن يقودهم قطز التركي في معركته الهائلة ضد التتار بعين جالوت، وما خامرهم حرج في أن يقودهم صلاح الدين الكردي ضد الصليبيين في معركة "حطين".
إن الإسلام محا النعرات الجنسية في أغلب الميادين، وربط الناس بمثلهم العالية وحدها. أما الجنس الأبيض وطلائعه الغازية والمكتشفة، فقد كانوا يعبدون أنفسهم ويقدسون مصالحهم ولا تحكمهم إلا شريعة الغاب.
اكتشف الإنجليز استراليا فماذا صنعوا بسكانها؟ شرعوا يطاردونهم من مكان إلى آخر، حتى حصدوا جمهرتهم، وأخبرني - والكلام للشيخ محمد الغزالي - صديق قادم من أستراليا أن البيض ييسرون أردأ الخمور لهؤلاء السكان الأصليين حتى يقضوا عليهم القضاء الأخير، وتبقى أستراليا للمغيرين المسلحين بالتقدم العلمي والصناعي المجردين من كل رحمة وإيثار.
ولم يكن سكان أمريكا الأصليون أسعد حظا من أستراليا، فقد كانت رؤوسهم تقطع لنيل التيجان المرصعة بالذهب، قد يقال: كان ذلك في الأيام الأولى لاكتشاف العالم الجديد وقد ارتقت البشرية اليوم، وضاقت بما كان يفعله المستعمرون الأولون واستنكرته!
ونجيب بأن الاستهانة بالأجناس الأخرى كانت وما زالت ديدن الرجل الأبيض وعندما أعوزه الانتصار السريع ضد اليابان ألقى قنبلتين مبيدتين على هيروشيما وناجازاكي، فقتل نصف مليون إنسان بين طفل وامرأة وشيخ وشاب، ولا ريب أن عشر هؤلاء الهلكى فقط هو الذي كان يمكن أن يجند في الحرب!
إن الإنسان يتحول إلى وحش كاسر عندما ينسى الله واليوم الآخر، لا سيما إذا كان هو واضع القانون ومطبقه! إن القانون يومئذ يحرس الأقوياء ويجتاح الضعفاء، وقد رأينا كيف يباد الشعب الفلسطيني ويمحي وجوده من فوق الأرض، ويجاء بألوف مؤلفة من اليهود لتحيا على أنقاضه، والقانون الدولي مكمم الفم؛ لأن ملاك القوة يريدون ذلك، وأجهزة الدعاية قديرة على إبطال الحق، وإحقاق الباطل: )ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار (42) مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء (43) وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل( (إبراهيم)
إن وراثتكم للباطل جعلتكم في دنياكم لا تذوقون طعم سعادة أو هناء، ولسان حالكم ومقالكم يقول ذلك؛ فها هي أعلى نسب انتحار على مستوى العالم عندكم، وها هو الفساد قد انتشر في شتى مناحي حياتكم، لا وزن للإنسان عندكم، أصبحتم كالذئاب الجائعة تعيثون في الأرض فسادا، عبيدا لشهواتكم ونزواتكم، عبيدا للمادة والمصلحة، لا تملكون من الخير إلا شعارات براقة تطلقونها في الآذان إذا أردتم وراء ذلك مآرب.
إن ما يقع على معظم شعوب الأرض الآن من ظلم من هذه الحضارة العاتية المتجردة من كل الأخلاق والفضائل ليوحي لنا بأنها وريثة التتار، والصليبيين، وكل المخربين على مدار التاريخ؛ فالتتار الذين أحرقوا العلم بإحراقهم مكتبة بغداد، وإلقاء مئات الآلاف من الكتب في نهر دجلة، وقتلوا مئات الآلاف من البشر حتى تغير لون نهر الفرات بلون الدم من كثرة إلقاء القتلى فيه - أنتم ورثتهم في سفكهم الدماء، وتخريبهم البلاد، فلا غرو إذن أن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية حربها الأخيرة على العراق في 14 محرم، وهو نفس اليوم الذي دخل فيه التتار بغداد.
· وكذلك الصليبيون وتقتيلهم بشراسة في المسلمين دون تفريق بين كبير وصغير، أو رجل وامرأة، أو شيخ وشاب. وهذا ما فعلتموه في المسلمين في فلسطين، والعراق، والشيشان، وكشمير، والبوسنة، والهرسك، وإندونيسيا، ومصر، والجزائر، وشتى بقاع العالم الإسلامي، فيا ورثة الباطل، أي الأمرين أولى: وراثة الحق، أم وراثة الباطل؟ قال سبحانه وتعالى: )هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب (52)( (إبراهيم).
الخلاصة:
· إن للإيمان معنى وحقيقة، وصحة الإيمان أو بطلانه ليسا مرتبطين بوجود دليل عليه وعدم وجوده، مع التسليم التام بأنه يزيد بالأدلة وينقص بعدم وجودها. وهذه صورة من رحمات الإسلام بالناس ومراعاته لكل مستوياتهم الفكرية والعلمية، إله ما أرحمه، ودين ما أيسره!!، فالمؤمن بربه ينجو من جحيم الاختلافات بين المذاهب والطرق البشرية القاصرة الضيقة التي يضعها بشر يزدادون علما كل يوم؛ لأنه يتلقى الهدى من خالق كل شيء، الذي أحاط علما بكل شيء، والذي خلق الناس ومنحهم مقدرة محدودة بها يتعلمون ما جهلوا، ويهتدون إلى ما غاب عنهم.
· إذا اتصف إنسان ما أو شيء ما بصفتين كان من الأولى أن نصفه بالصفة اللاحقة أم السابقة؟ السابقة بالطبع، وفطرة الإيمان ليست سابقة لوراثته فحسب، بل هي أغلب منها؛ لأنها فطرة - أو طبيعة - الناس جميعا؛ فالرجل الذي ماجت به أمواج البحر حتى إذا أيقن بالهلاك نجده يناجي من أعماق قلبه قوة هائلة خفية لا يراها، ولكنه على يقين من وجودها، ويرجو منها النجاة، هذه القوة هي قدرة الله عز وجل، ولجوء المضطرين إليها هو الفطرة، وكل الناس مفطورون على ذلك.
· الفطرة لها معنى، والوراثة لها معنى، وحال المسلمين يبرهن على: أنهم مفطورون على الإيمان لا مجرد ورثة له، وإلا لكانت أعمالهم نسخة مكررة من أعمال أسلافهم، ولكان الأمر وراثة لا فطرة، فالمعرفة الدينية فطرية دينية على الحالين، سواء قيل إنها فطرية بنفسها، أو قيل: إنها تحصل بأسباب كالأدلة التي تنتظم في النفس،فإن النفس بفطرتها قد يقوم بها من النظر والاستدلال ما لا يحتاج معه إلى كلام أحد، وهذه الفطرة لا يمكن الوفاء بحقها إلا بالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عقيدته التي يجد فيها العقل البشري الحل الصحيح المقنع لكل تساؤلاته عن مسائل الوجود والكون والحياة.
· هب أن إيمان المسلمين موروث فذاك محل فخر واعتزاز؛ لأنه الحق الأوحد على ظهر هذه الأرض، فالعقيدة تنشئ الإنسان الصالح، وهو الإنسان العابد لله بالمعنى الواسع للعبادة، الذي يشمل ــ إلى جانب شعائر التعبد ــ كل عمل، وكل فكر وكل شعور فيه وجه الله ويلتزم فيه بأمر الله، فالإنسان المستعلي على شهوات الأرض. المتحرر لعبوديته الحقة لله من كل عبودية لأحد أو لشيء سواه، المتوازن في سلوكه وفكره وفي شعوره الذي يعمر الأرض بجهده، وهو يتطلع إلى رضوان الله، والتاريخ يثبت ذلك وحقائق العلم تقره، وواقع المسلمين وواقع غيرهم ينطق بشهادة الحق، ويؤكد أن وراثة الحق أولى من وراثة الباطل.
لا شك أن الفطرة المركوزة في الإنسان، والتي إن استعملت استعمالا سليما، فإنها تهدي على الفور إلى الدين القويم، ترتبط بالأوليات العقلية البسيطة، وعن هذا الارتباط يتحدث د. عبد الرحمن الزنيدي فيقول: قال سبحانه وتعالى: )فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم( (الروم: 30).
وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء". ثم قرأ أبو هريرة: فطرت الله التي فطر الناس عليها.
ما هذه الفطرة؟ وما الشيء الذي يفطر عليه الإنسان على ضوء هذين النصين؟ وما علاقتها بالمبادئ القبلية الفطرية؟
أما الفطرة: فقد فسرت بتفسيرات كثيرة؛ فقيل: هي الإلهام للإيمان والكفر، وذلك مصداق قوله سبحانه وتعالى: )فألهمها فجورها وتقواها (Cool( (الشمس). وهذا عند الذين ينكرون فطرية معرفة الله، ويرون أنها نظرية لا تحصل إلا بالاستدلال والنظر، وقيل: هي المعرفة، أي معرفة الله والإقرار بربوبيته. وقيل: إنها الدين الذي أرسل الله به رسوله، وأعظمه معرفة الله وتوحيده، وهذا مذهب جمهور السلف؛ قالوا: الفطرة: الإسلام، ويؤيد هذا ما جاء في روايات أخرى: «كل مولود يولد على الملة». و «خلقـت عبـادي حنفـاء كلهــم، وإنهـم أتتهـم الشياطيـن فاجتالتهــم» قال ابن تيمية: "وأصل الدين الذي فطر الله عليه عباده يجمع أصلين:
أحدهما: عبادة الله وحده لا شريك له، وإنما يعبد بما أحبه، وأمر به.
والثاني: حل الطيبات التي يستعان بها على المقصود، وهو الوسيلة، وضدها تحريم الحلال.
أما علاقة الفطرة بالمبادئ القبلية: فإما أن يقال: إن هذه الفطرة الدينية تمثل جزءا من هذه المبادئ والأفكار الأولية، بل هي أوضح أجزائها؛ فإنها من العلوم اللازمة للخلق التي لم يخل منها بشر قط، بخلاف كثير من العلوم التي قد تكون ضرورية، ولكن قد يغفل عنها كثير من بني آدم، فإذا تصورت كانت علوما ضرورية.
وإما أن يقال إن هذه المبادئ هي قاعدتها التي تقوم عليها بحكم أنها حق، وما تؤدي إليه حق، فالمعرفة الدينية فطرية ضرورية على الحالين، سواء قيل إنها فطرية بنفسها، أو قيل إنها تحصل بأسباب كالأدلة التي تنتظم في النفس.. فإن النفس بفطرتها قد يقوم بها من النظر والاستدلال ما لا يحتاج معه إلى كلام أحد.
ولا يعني أن المولى قد فطر الناس على الإسلام أنه يتمثل في عقولهم بالفعل، كما يتمثل لمن قرأ نصوص الكتاب والسنة وفهمها، خصوصا أن لوثات الوثنية والجاهليات تغشيها حتى يخفت نورها، إن قليلا وإن كثيرا. ولكنها مع ذلك تبقى شعورا عاما في نفس الإنسان - البعيد عن هدى الله -
حتى يأذن الله له بسبب يجلو هذه اللوثات كالاطلاع على الدين الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - والاهتداء به، فيشعر عندئذ شعورا فعليا بأن هذا هو ما كان يبحث عنه، وتتطلع إليه نفسه، كما صرح بذلك كثير من الذين أسلموا.
وبهذا نعلم أن هذه النزعة الفطرية الدينية أبعد مدى من الغريزة الدينية، التي يتكلم عنها علماء الاجتماع، ويؤكدون اشتراك كل الأجناس البشرية فيها، وأصالتها في النفوس؛ لأن هذه الغريزة لا تتجاوز - حسب قولهم -
الاهتمام بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة، والتأمل في المسائل الميتافيزيقية الكبرى، كيف جاء هذا العالم، وما حكمة وجودنا فيه، وما وراءه؟ وغايتها هو الاتجاه إلى الله، ولهذا كان سبيل إرواء هذه الغريزة هو اعتناق الديانات التي تربط بين الإنسان وبين الله وهي الأديان التي تتطور بتطور البشرية، وتتجاوب دائما مع درجة الثقافة العقلية".
أما الفطرة التي فطر الله الخلق عليها - كما أخبر بذلك الوحي - فإنه لا يمكن الوفاء بحقها إلا بالدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بعقيدته التي يجد فيها العقل البشري الحل الصحيح المقنع لكل تساؤلاته عن مسائل الوجود والكون والحياة، وبشريعته التي يجد فيها الإنسان الحق واستهداف الخير في كل جزئية منها.
ولهذا اعتبر الإسلام اعتناق الأديان الأخرى حتى ذات الأصل السماوي المبدل؛ اليهودية، والنصرانية - انحرافا عن الفطرة "فأبواه يهودانه، أو ينصرانه"، وهذا ما يشهد به الواقع، فإن كثيرا ممن أسلموا وكانوا قبل إسلامهم على أديان أخرى يهودية أو نصرانية، أو غيرها يخبرون أنهم لم يكونوا يجدون في أديانهم السابقة انسجاما مع الفطرة ولا تحقيقا للسعادة، وإنما وجدوا ذلك - فقط - في الإسلام.
ومثال على ذلك: الفنان الإنجليزي الشهير كات ستيفينز أو يوسف إسلام كما سمى نفسه بعد إسلامه؛ فقد نشأ على المسيحية وعرف عقائدها، وسعى لبلوغ الكمال الذي ترسمه المسيحية كما يقول ولكن فطرته لم تجدها الدين المناسب لها فلم تنسجم معها، وكانت تتطلع إلى الدين المرضي وتدفع صاحبها للبحث عنه، يقول عن حاله في هذا الظرف: "وبدأت أفكر بطريقتي لحياة جديدة، أبحث فيها عن السلام والحقيقة، وانتابني شعور هو أن أتجه إلى غاية ما! ولكن لا أدرك كنهها ولا مفهومها، بدأت أفكر، وأبحث عن السعادة التي لم أجدها في الشهرة ولا في القمة ولا في المسيحية، فطرقت باب البوذية والفلسفة الصينية، وصرت قدريا
وآمنت بالنجوم، ولكني وجدت ذلك كله هراء، ثم انتقلت إلى الشيوعية، ولكني شعرت أن الشيوعية لا تتفق مع الفطرة، فأيقنت - إذ ذاك - أنه ليست هناك عقيدة تعطيني الإجابة وتوضح لي الحقيقة - ولم أكن أعرف عن الإسلام شيئا بعد - فرجعت إلى معتقدي الأول، وهو ما تعلمته من الكنيسة؛ لأن الكنيسة أفضل من تلك قليلا".
وبعد أن هداه الله إلى الإسلام عن طريق قراءته ترجمة معاني القرآن الكريم وجد الإجابة التي يطلبها، والحق الذي ينشده يقول: "لقد أجاب القرآن على كل تساؤلاتي وبذلك شعرت بالسعادة، سعادة العثور على الحقيقة، ووجدت في القرآن كيف أن هذه السعادة هي الخالدة".
وينبغي أن نشير هنا إلى أن الإسلام الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - يتحد فيه الدين الوضعي والعقلي معا، حسب تقسيم كانت، الذي قسم الدين إلى نوعين: وضعي وهو الموحى به الذي يقوم على عقيدة أبلغت لنا، وعقلي وهو القائم على الصدق الكلي الذي تتفق فيه جميع العقول؛ لأنهما جميعا من الله، وما جاء عن الله لا يمكن أن يتناقض.
يقول د. عبد الرحمن الزنيدي معلقا على ما ذكره كانت: بل أرى عكس ما رسم كانت من العلاقة بينهما حيث جعل الأصل هو الدين العقلي، ومن ثم ينبغي ألا يقبل من تعاليم الدين الوضعي إلا ما اتفق مع الأول، أما ما أرى أنه منهج الإسلام، فهو أنه يكفي من العقل اقتناعه بأن هذا الدين موحى من الله، ليصبح - نتيجة هذا الاقتناع - الدين الوضعي المتمثل بالوحي المنزل هو الميزان الحق؛ لأنه مضمون الصدق بتفاصيله، بحكم أنه وحي منزل من علم الله، ومحفوظ من تلاعب البشرية، خلافا للدين العقلي فإنه غير مضمون الصدق وإن كان قائما - أو هكذا يفترض - على أصل مضمون الصدق وهو الفطرة أو المبادئ القبلية، ولهذا أجمع علماء الإسلام على أن المعتبر هو الإسلام والإيمان الشرعيان دون الفطريين
ونخلص من ذلك كله إلى أن الإنسان مفطور على الإيمان والتدين، وهما ضاربان في أعماق نفسه البشرية وإذا كان ذلك كذلك فما الكفر إذن، وهل هو طمس للإيمان؟ ويجيب الأستاذ عبد المجيد الزنداني على ذلك فيقول: الكفر تغطية للحق الواضح، وهو جحود بما جاء به المرسلون الصادقون، فكل كافر يعلم أنه ما خلق نفسه، وأن له خالقا هو مالكه وسيده، ولكن الكافر لا يهتم بمعرفة خالقه، أو تجده قد هام في وثن أصم، أو في أحد الطواغيت، أو طبيعة جامدة بليدة، وقد تجده محتارا في أمره تائها كريشة في مهب الريح، وأي عذر للكافر وقد امتلأت الدنيا برسل الله ورسالاته؟ وأي عذر له يوم يسأل غدا؟ قال سبحانه وتعالى: )ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين (65) فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون (66)( (القصص).
والكافر يعرف أن الله قد أرسل رسلا إلى الناس لهدايتهم وأيدهم بالمعجزات والبينات، التي تثبت صدقهم، وتجد الكافرين إما قد اطلعوا على بينات الرسول: )وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا( (النمل: 14)،
تكبرا واستهزاء واتباعا للهوى، أو تجد فريقا منهم قد أعرضوا ولم يكلفوا أنفسهم أن يعرفوا ما أنزل ربهم من هدى فتعاموا، وتناسوا فويل لهؤلاء المتغافلين المتعامين عندما يوجه إليهم غدا هذا السؤال: )حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أماذا كنتم تعملون (84)( (النمل)،
وأي عذر للكافرين وهم يرون أو يسمعون بذلك الموكب الإيماني الكبير الذي يمتد عبر القرون يقوده الأنبياء والمرسلون، وقد التف حولهم وسار خلفهم ملايين الملايين الملايين من الناس أمثالهم: )والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد (16)( (الشورى).
والكافر يعلم أن كل نعمة يتمتع بها في نفسه كالسمع، والبصر، والعقل، والصحة، والحياة، وكل نعمة ينتفع بها في الأرض، كالنبات، والحيوان، والماء، والهواء، والخيرات المختلفة، والمعادن، وكل نعمة يستفيد منها في السماء، كالشمس والقمر وتقلب الليل والنهار - يعلم الكافر أن كل هذه النعم الظاهرة والباطنة لم يخلقها لنفسه، وأن لها ربا وخالقا أنعم بها عليه، ولكنه يجحد نعمه ويتناسى ويتعامى عن فضل خالقه عليه، ويستخدم نعم ربه في المجاهرة بالكفر والمعصية: )الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار (32) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار (33)( (إبراهيم)،
وقال سبحانه وتعالى في موضع آخر: )أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون (67)( (العنكبوت).
فذلك هو الكفر، فهو باطل وتغطية للحق وضلال.
والكافر يسبح في ظلمات الجهالة الكبرى، لا يعرف خالقه الحق! ولا يعلم لماذا خلقه؟! ولا يدري لماذا جاء به إلى هذه الدنيا؟ يستخدم ما سخر له ربه بدون علم بالعمل الذي يريد ربه منه أن يعمله، والذي يغضبه سبحانه منه إن عمله، قد سخرت الدنيا للناس، ولكن الكافر لا يدري ما الحكمة من تسخيرها له؟ يأكل ويشرب، وينام ويستقيظ ويموت كموت البعير، لا يدري لماذا بدأت حياته؟ ولا يدري لماذا انتهت؟ ولا يدري لماذا عاش على الأرض مدة ذلك الأجل المحدود؟ وتجد الكافر يتعاطى الأشياء مجازفة دون إرشاد من الخالق لها، كمن يتعاطى تسيير آلة دون اتباع إرشاد صانعها! فيفسد في الأرض وهو يظن أنه يصلح بإفساده: )وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12)( (البقرة). )لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد (196)( (آل عمران).
فما أشبه الحضارة الكافرة التي يعيش فيها الناس بدون إيمان، بدون هدف، بدون صلة بالخالق - عز وجل - ما أشبه تلك الحضارة بصانع سفينة ضخمة أنيقة جميلة، قد رتبت فيها أماكن الطعام، وأماكن الرقود، وأماكن اللعب والتسلية، وأخذ صانعها يدعو الناس إلى ركوبها، ويشرح لهم كيف يأكلون ويشربون، وكيف يرقدون، وكيف يلعبون؟ حتى إذا سأله أحد الركاب، وإلى أين تذهب بنا هذه السفينة؟ أجاب: لا أدري!! اركبوا فقط!!
والكافر لا يعرف إلا دنياه، ولا يعرف من دنياه إلا مصالحه ولذائذه، فهي التي توجه عمله، وتحدد علاقاته بغيره من الناس. إن الكافرين يبالغون في تقدير هذه الحياة، وترى الفرد منهم يسرف في عبادة ذاته، وإرضاء شهواته، قد انقطعت الصلة بينه وبين ربه؛ لتكذيبه برسالة الأنبياء، وعقيدة الآخرة، فكان هذا الفرد الكافر هو مصدر الشقاء، فإذا كان تاجرا فهو التاجر المحتكر النهم الذي يحجب السلع أيام رخصها، ويبرزها عند غلائها، ويسبب المجاعات والأزمات، وإذا كان فقيرا فهو الفقير الحاقد، الذي يريد أن ينال ما في أيدي الآخرين بغير تعب، وإذا كان عاملا فهو العامل المطفف الذي يريد أن يأخذ ما له ولا يريد أن يدفع ما عليه، وإذا كان غنيا فهو الغني الشحيح القاسي لا رحمة فيه ولا عطف، وإذا كان واليا فهو الوالي الغاش، الناهب للأموال، وإذا كان سيدا فهو الرجل المستبد المستأثر الذي لا يرى إلا فائدته وراحته، وإذا كان خادما فهو الضعيف الخائن، وإذا كان خازنا فهو السارق المختلس للأموال، وإذا كان وزير دولة أو رئيس وزارة، أو رئيس جمهورية، فهو المادي المستأثر الذي لا يخدم إلا نفسه وحزبه وشيعته، ولا يعرف غير ذلك، وإذا كان زعيما أو قائدا، فهو الأناني الذي يعقد مصلحة مواطنيه ويدوس كرامة البلاد الأخرى، والشعوب الأخرى، وإذا كان مشرعا فهو الذي يسن القوانين الجائرة، والضرائب الفادحة، وإذا كان مكتشفا صنع الغازات المبيدة للشعوب المخربة للبلاد، ولقد أصبحت القنابل الذرية أعظم مشكلة تهدد سلامة العالم كله بين لحظة وأخرى، وإذا كان منقذا فهو المنقذ القاسي منزوع الرحمة.
وقد يخرج أفراد من الكفار عن بعض الصفات السابقة، ولكنها حالات نادرة، ومن هؤلاء الأفراد الفاسدين تكونت المجتمعات الكافرة، فكانت مجتمعات مادية اجتمع فيها: احتكار التاجر، وحقد الفقير، وتطفيف العامل، وشح الغني، وغش الوالي، واستبداد السيد، وخيانة الخادم، وسرقة الخازن، ونفعية الوزراء، وأنانية الزعماء، وإجحاف المشرع، وإسراف المخترع والمكتشف، وقسوة المنقذ، ومن هذه النفسيات المادية تبتعث المشكلات الكبرى في المجتمعات الكافرة، فأصابت الإنسانية بويلاتها.
وترى الكافر يعيش حياة مضطربة لا اطمئنان فيها ولا استقرار، حياة ساخطة ثائرة، ولكن ذلك السخط والقلق لا يدفع عنه شيئا، إنما هو العذاب النفسي الذي تكتوي بناره المجتمعات الكافرة في الدنيا. والكافر - برفضه لعبودية الخالق - سريعا ما يتحول إلى عبد ذليل لمخلوقين مثله، هو إما أن يكون عبدا متذللا لطاغية أو دكتاتور أو زعيم أو وثن، وإما أن يكون عبدا للأهواء أو الخرافات والأوهام السخيفة.
أين المسلمون من الفطرة والوراثة؟!
لقد كان حريا بمثيري هذه الشبهة أن يعترفوا بكون إيمان المسلمين فطريا لا موروثا أو تقليديا، وذلك أن الإسلام والإيمان به هو فطرة الناس جميعا التي فطرهم الله عليها، وقول الله سبحانه وتعالى: )فطرت الله التي فطر الناس عليها( (الروم: ٣٠) يوضح هذا المعنى، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، وأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه..» ولم يقل النبي: أو يمسلمانه؛ لأن الإسلام والإيمان به هو فطرة الناس جميعا.
إن خبرا جاء إلى العالمين، أن رسولا بعث منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام بدين هو الإسلام يدعو الناس إلى الإيمان بإله واحد لهذا الكون، ويدعوهم كذلك إلى الإيمان بملائكته، وكتبه، وجميع رسله واليوم الآخر، والقدر: خيره وشره، فصدق المسلمون ذلك وكذب غيرهم، فما دليل المصدقين وما دليل المكذبين؟ فكون الخبر قد جاءنا ممن سبقنا لا عيب فيه، بل العيب كل العيب ألا نمتلك دليلا على تصديقنا أو تكذيبنا.
هب أن رجلا في البحر ماجت به سفينته، وأيقن بالهلاك، أو اختلت به طائرته في الجو، على الفور تجده يتعلق بقوة غيبية، وهو يعلم في قرارة نفسه أنه لا خلاص له مما هو فيه إلا بتلك القوة، وتلك القوة هي قوة الله وقدرته الواحد مالك السماوات والأرض، وتحرك النفس نحوه هو الفطرة. وعليه فإن إيمان المسلمين فطري لا مورث.
أثر الإيمان بالقيم الأخلاقية على الدول الأوربية
إن أثر هذا الإيمان لم يقف عند المسلمين فقط، بل تعداهم إلى بقية أمم الأرض وشعوبها، وفي ذلك يقول الأستاذ محمد قطب: إن أوربا - في عصورها المظلمة - كانت واقعة في الجهالة العلمية التي حرص عليها حكام شعوبها، كما حرصت عليها الكنيسة؛ ليظل سلطانها الرهيب قائما في قلوب الناس وأرواحهم، وكانت واقعة تحت وطأة الإقطاع[
ممزقة لا رباط بينها - وإن كانت كلها مسيحية - لأن السيد الإقطاعي يمثل في إقطاعيته السلطان المطلق، فهو السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية في وقت واحد، وواقعة من جهة أخرى تحت سطوة البابوية التي تستعبد أرواح الناس وأفكارهم، وتأكل جهدهم كما تأكل أموالهم بالباطل:
يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34)( (التوبة).
وبينما أوربا في حالتها هذه إذ التقت بالإسلام يحيط بها من كل جانب، التقت به سلما في الأندلس، والشمال الإفريقي، وصقلية، وغيرها، والتقت به حربا عبر الحروب الصليبية التي استغرقت حوالي قرنين من الزمان، ثم كان من نتيجة ذلك تلك الآثار في أوربا:
· أخذت أوربا العلوم الإسلامية كلها، وبصفة خاصة المنهج التجريبي في البحث العلمي وأقامت عليه نهضتها العلمية الحاضرة.
· أخذت معنى "الأمة" التي يربطها رباط واحد وتحكمها شريعة واحدة، ولكنها لم تستطع إقامتها على أساس العقيدة؛ لفساد العقيدة عندهم، وفساد القائمين عليها من الكهنوت[30]، فأقاموها على شكل قوميات، هي الأساس الذي قامت عليه دول الغرب الحالية.
· حاولت إصلاح الفساد العقدي والكنسي في حركات كالفين ومارتن لوثر، وغيرهما، وإن كانت لم تحقق إلا إصلاحات جزئية في داخل الفساد الشامل؛ وذلك لأنها رفضت الإسلام ابتداء، وهو الطريق الوحيد للإصلاح الحقيقي.
· أخذت نظام الجامعات الإسلامية وأنشأت جامعاتها على غراره.
· قامت فيها حركات فروسية تحاول أن تقلد ما وجدوه عند المسلمين من الشهامة والنجدة والأخلاق العالية.
تأثرت أوربا بالنظم المعمارية الإسلامية، وقلدتها في بعض مبانيها عامة "خذ مثالا بسيطا على ذلك إدخال الحمامات في البيوت وتنظيف الأبدان بالاستحمام، ولم تكن أوربا تمارسه حتى التقت بالمسلمين".
بدأت فكرة "الدساتير" التي تشمل أسسا واضحة للحكم بغير هوى الحكام، وشهواتهم الشخصية، واقتبست أوربا كثيرا من الفقه الإسلامي، ومما يذكر في هذا الصدد أن القانون المدني الفرنسي أخذ معظمه من فقه مالك؛ لأنه كان أقرب المذاهب إليهم في الشمال الإفريقي.
· استفادت أوربا في الكشوف الجغرافية من الخرائط الإسلامية، فبدأت تنساح في الأرض على هدي هذه الخرائط.
وباختصار فإن أوربا أخذت بذور نهضتها الحالية كلها من الإسلام، وإن كانت جمدت أثر الإسلام والمسلمين في حياتها، ورفضت في عصبية جاهلية أن تعتنقه.
ماذا عن تجاهل القيم الحياتية والأخلاقية؟
ها هي الحضارة الغربية وريثة الباطل بشتى صوره تري العالم كله الفرق بين وراثة الحق، ووراثة الباطل، ونترك الكلام لفضيلة الشيخ محمد الغزالي مجيبا على سؤال طرح عليه: ما أثر الإيمان على الأخلاق والسلوك والضمير في ضوء ما يحدث في الدول المتقدمة التي تأخذ بالعقل ونتائج العلوم فقط؟
يقول: لا نستطيع إنكار المدى الكبير الذي بلغته الحضارة الحديثة في اكتشاف أسرار الكون؛ إنها حضارة ذكية العقل واسعة المعرفة، وقد طوعت ما بلغته إلى تقدم صناعي باهر طفر بالإنسانية طفرة قوية في جميع المجالات المدنية والعسكرية.
ولكن هناك إحساسا عاما بأن هذا التقدم المادي لم يواكبه تقدم روحي، وأن إنسان العصر الحديث لا يختلف كثيرا عن إنسان العصر الأول في غرائزه وشهواته! وإذا كانت ثمة فروق، ففيالوسائل، لا في البواعث والغايات، بل لقد قيل في إنسان العصر الحاضر: إن عضلاته أكبر من عقله، والواقع أن الإنسان يتضاعف شره عندما يكون حاد الذكاء حقير الخلق، ولطالما رددنا أن الإسلام عقل يرفض الخرافة، وقلب يكره الرذيلة.
إن الكمال الحقيقي امتداد ونضج في جميع الملكات الإنسانية، وهذا التوازن أساس لا بد منه لقيام مجتمع رشيد، وحضارة يانعة الثمار، مديدة الظلال، فهل الحضارة الحديثة بعد تلك المقررات جديرة بالخلود؟ أو هي أرجح من غيرها في موازنة منصفة؟ الحق أن لا؛ فالرجل الأبيض، قائد هذه الحضارة ورائدها، إنسان طافح الأنانية، يشده إلى منافعه ألف رباط، وقبل أن نشرح شرهه المسعور واستعلاءه على غيره، نذكر أحد مظاهر الحضارة الإسلامية القديمة.
فالعرب الفاتحون قدموا الإسلام للأعاجم، ونقلوهم به من الظلمة إلى النور، وبعد ردح من الزمان، كان هؤلاء العرب يصلون وراء الأتقياء في شتى الأجناس، ويتلقون عنهم العلوم الدينية، دون غضاضة أو كبرياء، فالبخاري هو المحدث الأول، وأبو حنيفة الفقيه الأول، والحسن البصري المربي الأول، وسيبويه اللغوي الأول، ولم يشعر المصريون بأي ضيق من أن يقودهم قطز التركي في معركته الهائلة ضد التتار بعين جالوت، وما خامرهم حرج في أن يقودهم صلاح الدين الكردي ضد الصليبيين في معركة "حطين".
إن الإسلام محا النعرات الجنسية في أغلب الميادين، وربط الناس بمثلهم العالية وحدها. أما الجنس الأبيض وطلائعه الغازية والمكتشفة، فقد كانوا يعبدون أنفسهم ويقدسون مصالحهم ولا تحكمهم إلا شريعة الغاب.
اكتشف الإنجليز استراليا فماذا صنعوا بسكانها؟ شرعوا يطاردونهم من مكان إلى آخر، حتى حصدوا جمهرتهم، وأخبرني - والكلام للشيخ محمد الغزالي - صديق قادم من أستراليا أن البيض ييسرون أردأ الخمور لهؤلاء السكان الأصليين حتى يقضوا عليهم القضاء الأخير، وتبقى أستراليا للمغيرين المسلحين بالتقدم العلمي والصناعي المجردين من كل رحمة وإيثار.
ولم يكن سكان أمريكا الأصليون أسعد حظا من أستراليا، فقد كانت رؤوسهم تقطع لنيل التيجان المرصعة بالذهب، قد يقال: كان ذلك في الأيام الأولى لاكتشاف العالم الجديد وقد ارتقت البشرية اليوم، وضاقت بما كان يفعله المستعمرون الأولون واستنكرته!
ونجيب بأن الاستهانة بالأجناس الأخرى كانت وما زالت ديدن الرجل الأبيض وعندما أعوزه الانتصار السريع ضد اليابان ألقى قنبلتين مبيدتين على هيروشيما وناجازاكي، فقتل نصف مليون إنسان بين طفل وامرأة وشيخ وشاب، ولا ريب أن عشر هؤلاء الهلكى فقط هو الذي كان يمكن أن يجند في الحرب!
إن الإنسان يتحول إلى وحش كاسر عندما ينسى الله واليوم الآخر، لا سيما إذا كان هو واضع القانون ومطبقه! إن القانون يومئذ يحرس الأقوياء ويجتاح الضعفاء، وقد رأينا كيف يباد الشعب الفلسطيني ويمحي وجوده من فوق الأرض، ويجاء بألوف مؤلفة من اليهود لتحيا على أنقاضه، والقانون الدولي مكمم الفم؛ لأن ملاك القوة يريدون ذلك، وأجهزة الدعاية قديرة على إبطال الحق، وإحقاق الباطل: )ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار (42) مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء (43) وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل( (إبراهيم)
إن وراثتكم للباطل جعلتكم في دنياكم لا تذوقون طعم سعادة أو هناء، ولسان حالكم ومقالكم يقول ذلك؛ فها هي أعلى نسب انتحار على مستوى العالم عندكم، وها هو الفساد قد انتشر في شتى مناحي حياتكم، لا وزن للإنسان عندكم، أصبحتم كالذئاب الجائعة تعيثون في الأرض فسادا، عبيدا لشهواتكم ونزواتكم، عبيدا للمادة والمصلحة، لا تملكون من الخير إلا شعارات براقة تطلقونها في الآذان إذا أردتم وراء ذلك مآرب.
إن ما يقع على معظم شعوب الأرض الآن من ظلم من هذه الحضارة العاتية المتجردة من كل الأخلاق والفضائل ليوحي لنا بأنها وريثة التتار، والصليبيين، وكل المخربين على مدار التاريخ؛ فالتتار الذين أحرقوا العلم بإحراقهم مكتبة بغداد، وإلقاء مئات الآلاف من الكتب في نهر دجلة، وقتلوا مئات الآلاف من البشر حتى تغير لون نهر الفرات بلون الدم من كثرة إلقاء القتلى فيه - أنتم ورثتهم في سفكهم الدماء، وتخريبهم البلاد، فلا غرو إذن أن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية حربها الأخيرة على العراق في 14 محرم، وهو نفس اليوم الذي دخل فيه التتار بغداد.
· وكذلك الصليبيون وتقتيلهم بشراسة في المسلمين دون تفريق بين كبير وصغير، أو رجل وامرأة، أو شيخ وشاب. وهذا ما فعلتموه في المسلمين في فلسطين، والعراق، والشيشان، وكشمير، والبوسنة، والهرسك، وإندونيسيا، ومصر، والجزائر، وشتى بقاع العالم الإسلامي، فيا ورثة الباطل، أي الأمرين أولى: وراثة الحق، أم وراثة الباطل؟ قال سبحانه وتعالى: )هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب (52)( (إبراهيم).
الخلاصة:
· إن للإيمان معنى وحقيقة، وصحة الإيمان أو بطلانه ليسا مرتبطين بوجود دليل عليه وعدم وجوده، مع التسليم التام بأنه يزيد بالأدلة وينقص بعدم وجودها. وهذه صورة من رحمات الإسلام بالناس ومراعاته لكل مستوياتهم الفكرية والعلمية، إله ما أرحمه، ودين ما أيسره!!، فالمؤمن بربه ينجو من جحيم الاختلافات بين المذاهب والطرق البشرية القاصرة الضيقة التي يضعها بشر يزدادون علما كل يوم؛ لأنه يتلقى الهدى من خالق كل شيء، الذي أحاط علما بكل شيء، والذي خلق الناس ومنحهم مقدرة محدودة بها يتعلمون ما جهلوا، ويهتدون إلى ما غاب عنهم.
· إذا اتصف إنسان ما أو شيء ما بصفتين كان من الأولى أن نصفه بالصفة اللاحقة أم السابقة؟ السابقة بالطبع، وفطرة الإيمان ليست سابقة لوراثته فحسب، بل هي أغلب منها؛ لأنها فطرة - أو طبيعة - الناس جميعا؛ فالرجل الذي ماجت به أمواج البحر حتى إذا أيقن بالهلاك نجده يناجي من أعماق قلبه قوة هائلة خفية لا يراها، ولكنه على يقين من وجودها، ويرجو منها النجاة، هذه القوة هي قدرة الله عز وجل، ولجوء المضطرين إليها هو الفطرة، وكل الناس مفطورون على ذلك.
· الفطرة لها معنى، والوراثة لها معنى، وحال المسلمين يبرهن على: أنهم مفطورون على الإيمان لا مجرد ورثة له، وإلا لكانت أعمالهم نسخة مكررة من أعمال أسلافهم، ولكان الأمر وراثة لا فطرة، فالمعرفة الدينية فطرية دينية على الحالين، سواء قيل إنها فطرية بنفسها، أو قيل: إنها تحصل بأسباب كالأدلة التي تنتظم في النفس،فإن النفس بفطرتها قد يقوم بها من النظر والاستدلال ما لا يحتاج معه إلى كلام أحد، وهذه الفطرة لا يمكن الوفاء بحقها إلا بالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عقيدته التي يجد فيها العقل البشري الحل الصحيح المقنع لكل تساؤلاته عن مسائل الوجود والكون والحياة.
· هب أن إيمان المسلمين موروث فذاك محل فخر واعتزاز؛ لأنه الحق الأوحد على ظهر هذه الأرض، فالعقيدة تنشئ الإنسان الصالح، وهو الإنسان العابد لله بالمعنى الواسع للعبادة، الذي يشمل ــ إلى جانب شعائر التعبد ــ كل عمل، وكل فكر وكل شعور فيه وجه الله ويلتزم فيه بأمر الله، فالإنسان المستعلي على شهوات الأرض. المتحرر لعبوديته الحقة لله من كل عبودية لأحد أو لشيء سواه، المتوازن في سلوكه وفكره وفي شعوره الذي يعمر الأرض بجهده، وهو يتطلع إلى رضوان الله، والتاريخ يثبت ذلك وحقائق العلم تقره، وواقع المسلمين وواقع غيرهم ينطق بشهادة الحق، ويؤكد أن وراثة الحق أولى من وراثة الباطل.
مواضيع مماثلة
» * مآخذ أعداء الإسلام بشأن المرأة: : الطلاق في الإسلام:
» * منزلة العلماء في الإسلام - أنواع العلوم في الإسلام
» * الطاقة العقلية والتخاطر- الحياة بعد الموت.
» * الاحجار وعلاقتها بالنفس البشرية
» * الميراث بين الرجل والمرأة في الإسلام
» * منزلة العلماء في الإسلام - أنواع العلوم في الإسلام
» * الطاقة العقلية والتخاطر- الحياة بعد الموت.
» * الاحجار وعلاقتها بالنفس البشرية
» * الميراث بين الرجل والمرأة في الإسلام
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى