* منزلة العلماء في الإسلام - أنواع العلوم في الإسلام
صفحة 1 من اصل 1
* منزلة العلماء في الإسلام - أنواع العلوم في الإسلام
صناعة العلماء
قد يبدو غريبًا هذا العنوان، وقد يبدو أشد غرابةً عند مَن يتواضع كثيرًا فيجعل همَّه وطموحه فقط أن يصبح طالب علم، أو -كما يقول بعضهم- "طُويلب علم"..!! ولا شك أن مثل هذه الهمة هي همة قاصرة، وهي همة تعجز في أن تلحق -بالمرة- بركب العلماء. وأولى بصاحبها وأجدر أن يقف مع نفسه وقفة أخرى، يجدد العزم، ويعقد العهد قبل أن تتفلت من يده الأيام، ويندم ولات حين مناص!
يقول المتنبي:
إذا غامرت في شرفٍ مرومٍ *** فلا تقْنعْ بما دُون النُّجـــومِ
فطعمُ المـوتِ فـي أمرٍ حقيرٍ *** كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمِ
لذا لا يصلح لك إلا أن تكون عالمًا .. وليس فقط من طلاب العلم.
ولا شك أن ذلك يتطلب نوعًا خاصًا من الإعداد، فيتطلب خطة بعينها، ويتطلب حياة خاصة، وأيضًا حالة نفسية معينة، أو قل: يتطلب ذلك منهجًا في الحياة جديد، فتصبح لك طريقة تفكير خاصة، وطريقة ترتيب وقت يناسب هذه الحياة الخاصة، بل وطريقة نوم وأكل مختلفة عن بقية الناس، إنها حياة إنسان يُربَّى ليُغيِّر لا ليتغير، ويؤثِّر لا ليتأثر، إنها حياة مختلفة حقًا!!
العلماء ورثة الأنبياء
وللعلم قيمة في الميزان الإسلامي، فحياة الناس لا تستقيم إلا به، وقد كان العلم كان صفةً لازمةً للأنبياء عليهم السلام، وكان من رحمة الله عز وجل أنه لم يرفع العلم بذهاب الأنبياء، وإنما جعل الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يورِّثُوا علمهم هذا قبل أن يموتوا إلى طائفة معينة من البشر، أوكل إليها مهمة تعليم الناس، والقيام بالدور الذي كان يقوم به الأنبياء في حياتهم، ولكن دون وحيٍ ودونما عصمة. وهذه الطائفة من البشر هي "العلماء".
عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إلى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ"
ففي نهاية هذا الحديث وضح رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء لم يتركوا خلفهم مالاً ولا مُلكًا، وإنما تركوا العلم، وهذه هي أعظم تركة، ومن أخذها فقد فاز حقًا، يقول الله تعالي: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة:269].
وفضلاً عن ذلك فالحديث يبين فضل العلم ومنزلة العلماء؛ فالملائكة تضع أجنحتها لمن يبدءون طريق العلم؛ تواضعًا وتعظيمًا وتكريمًا وتبجيلاً لهم، وكفى بذلك شرفًا ومنزلة !!
ويخص رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة العلماء -وليس طلاب العلم- بمزية خاصة، وهي أنه يستغفر لهم من في السماوات ومن في الأرض، بل يصل الأمر إلى أن تستغفر له الحيوانات أيضًا، بل حتى تلك التي تسبح في جوف الماء !!
وليت الأمر يقف عند هذا الحد فقط، بل إنه صلى الله عليه وسلم يُفضِّل ذلك العالِم ويرفع منزلته ومكانته على العابد لله عز وجل !! وقد جعل المقارنة بينهما في ذلك تمامًا كما يكون القمر ليلة البدر -كما ورد ذلك في رواية أخرى- مع غيره من النجوم، وذلك في إشارة إلى أن نور القمر يحجب نور الكواكب الأخرى ويُغطِّي عليها، مهما كثُر نورها بكثرة أعدادها !!
ألا ترى أن الأمر جد عظيم..؟!
بين العالم والعابد
ومع كون هذه المقارنة عظيمة في حق العلماء، إلا أن هناك مقارنة أعظم منها، ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَابِدٌ، وَالْآخَرُ: عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ"
ففي هذا الحديث الشريف يُقارن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العالم والعابد، فيشبه ذلك بالفارق بين منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنزلة أقل المسلمين، أي أن الفجوة التي بينه صلى الله عليه وسلم وبين أدنى المسلمين، تشبه تلك التي بين العالم والعابد !!
وفي ذلك من الفضل والشرف والمنزلة الرفيعة العالية ما فيه، فلم يقارن صلى الله عليه وسلم بين نفسه وبين أحد العظماء -مثلاً- في الإسلام، رغم أن مثل هذه المقارنة هي عظيمة أيضًا؛ إذ البون شاسع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أي إنسان آخر، ولكن لعظم المفارقة هنا وبيان الفضل، فهو يقارن بين نفسه صلى الله عليه وسلم وبين أدنى المسلمين !!
ولعل البعض قد يستغرب من كون هذه المنزلة العالية للعالم إنما هي فوق منزلة العابد، ولعل هذا العجب يزول إذا علمت أن العابد الذي يعبد الله على غير علم يَضل ويُضل، وقد كان كفار مكة أنفسهم يعترفون لله بالعبودية، ولكنها عبودية على غير علم، فكان أن كفروا وضلوا، يقول تعالى يصف حالهم وهم يتحدثون عن الأصنام: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
كما أن العابد إذا كانت عبادته لله على ظنٍ فاسدٍ، فإن عبادته هذه لا تُقبل، ويكون بذلك من الخاسرين، قال تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23].
ويروى الدارمي أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كتب إلى أهل المدينة: "إنه من تعبد بغير علمٍ، كان ما يُفسد أكثر مما يصلح"
العلماء فوق المجاهدين والشهداء
بل إن من الفقهاء في الإسلام من رفع درجة العلماء فوق درجه المجاهدين في سبيل الله وليس فقط العُبَّاد!! يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهو من علماء الصحابة الأفذاذ: "والذي نفسي بيده، ليودَّنَّ رجالٌ قُتلوا في سبيل الله شهداء، أن يبعثهم الله علماء؛ لما يرون من كرامتهم" أي من كرامة العلماء. ويقول العلامة التابعي الحسن البصري رحمه الله: "يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء، فيرجح مداد العلماء!!"
وإن كان البعض قد يستغرب هذا الكلام، إلا أن حجته قوية، فالجهاد لا يُعرف فضله أساسًا إلا بالعلم، وعليه فلن يجاهد إلا من "علم" قيمة الجهاد ودرجة المجاهد، كما لن تُعرف شروط الجهاد ومشروعيته إلا بالعلم، ولن يُعرف فرض العين من فرض الكفاية فيه إلا بالعلم، ومن ثم فقد يترك "من لا يعلم" فرضًا ويقيم نافلة، وهذا لا يجوز، كما أنه قد يتعدى في جهاده الحدود المشروعة، أو يقاتل من لا يجوز قتاله، وهذا كله لا يجوز.
وهكذا، فالعلم هو الذي يحدد مشروعية الجهاد وحدوده، وبغير العلماء الصادقين لن يوجد مجاهدون على حق.
بل قد يأثم المسلم بجهاده بغير علم!! وما فتنه الخوارج بخافية على أحد.
فتنة الخوارج
فالخوارج كانوا يعبدون الله تعالى، ويقيمون الفرائض، ويجاهدون في سبيل الله، وذلك كله على غير هدًى من الله ولا علم، فكان أن خرجوا من الدين بالكلية، بينما هم يحسبون أنفسهم على أفضل درجات العبادة والجهاد !!
ولما همَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقتل أحدهم -كما يروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه- قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُ؛ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" .
فكانت آفتهم الرئيسية أنهم اجتهدوا بغير علم، فأدى بهم ذلك إلى أن يجاهدوا على باطل، حتى كان أحد زعمائهم، وهو عبد الرحمن بن ملجم والذي قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه - كان يظن تمام الظن أنه تقرب إلى الله تعالى بقتل أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين وزوج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والمبشر بالجنة مرارًا، علي بن أبي طالب رضي الله عنه!!
وكان هذا اعتقادٌ راسخ عند كل الخوارج، حتى إنك لتجد عمران بن قحطان (أحد شعراء الخوارج المتأخرين) يقول واصفًا هذه الطعنة اللئيمة التي قُتل بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
يا ضربةً من تقيٍّ ما أراد بها *** إلا ليبلُغ من ذي العرش رِضوانًا
إنــي لأذكــره حينًـــا فأحسبــه *** أوْفَى البـريَّــة عنـد الله ميزانًـــــا
كل ذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه يوم خيبر -كما يروي سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: "لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ قَالَ: يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ" . وحين كان الغد كان هذا الرجل هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ولم يقع عبد الرحمن بن ملجم (القاتل) في هذه الكارثة إلا بفقد العلم، يقول تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103- 104].
ولكم عانت الأمة الإسلامية من بعض المتحمسين للدين، المشتاقين للجهاد ولكن بغير علم، وقد أدى بهم حالهم هذا إلى أن يجتهدوا اجتهادات خاطئة، ويحكموا أحكامًا جائرة، فكانت النتيجة تكفير المجتمعات المسلمة، واستباحة دماء الأبرياء، والاستهانة بكل الحرمات، والقتل والسفك والظلم والبطش باسم الجهاد والدعوة والتضحية!! والإسلام من ذلك كله براء.
تعظيم العلم والعلماء
ولأجل ذلك، ومن فقهٍ لمنزلة العلماء وقيمة العلم مقارنة بغيره، يقول كعب الأحبار رحمه الله موضحًا الحقيقة: "طالب العلم كالغادي الرائح في سبيل الله تعالى" . وهو ما أكده أبو الدرداء رضي الله عنه حين قال: "من رأى الغدو والرواح إلى العلم ليس بجهاد، فقد نقص في عقله ورأيه" .
وترى سفيان بن عيينة رحمه الله، وهو من التابعين يقول أيضًا: "من طلب العلم فقد بايع الله تعالى"
ولذلك فإن الله تعالى رفع قدر العلماء وعظم قيمتهم، يقول تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].
مكانة معاذ بن جبل
وقد فقه الصحابة والتابعون والصالحون من هذه الأمة الكريمة هذا القدر، فعظموا علماءهم، ورفعوا من قدرهم، وحفظوا لهم مكانتهم، ولم يعتبروا في ذلك بعرقٍ ولا نسبٍ ولا جنسٍ ولا عمرٍ ولا منصب، إنما اعتبروا فقط بالعلم، فكان معاذ بن جبل رضي الله عنه على صِغر سنه معظمًا جدًّا بين الصحابة، حتى إنهم كانوا لا يرفعون أعينهم في عينه حياءً منه وتعظيمًا له رضي الله عنه. هذا مع أنه مات وهو لم يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، ولكنه عُظِّم بالعلم الذي كان يحويه في صدره رضي الله عنه.
يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في حقه -كما يروي أنس بن مالك رضي الله عنه: "وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ"
ومن هنا نستطيع فهم الموقف الذي حكاه لنا أبو مسلم الخولاني رحمه الله (من التابعين)، وفيه يصور مدى احترام وتعظيم الصحابة لمعاذ بن جبل رضي الله عنه مع حداثة سنه، يقول أبو مسلم الخولاني: "أَتَيْتُ مَسْجِدَ أَهْلِ دِمَشْقَ فَإِذَا حَلْقَةٌ فِيهَا كُهُولٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِذَا شَابٌّ فِيهِمْ أَكْحَلُ الْعَيْنِ بَرَّاقُ الثَّنَايَا، كُلَّمَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إلى الْفَتَى فَتًى شَابٌّ -وفي رواية أخرى: ولا يصدرون إلا عن رأيه- قَالَ: قُلْتُ لِجَلِيسٍ لِي: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ"
فقد وصف أبو مسلم الصحابةَ الذين هم حول معاذ رضي الله عنه بأنهم "كهول"، أي شيوخ كبار في السن، ورغم ذلك -وكما جاء في الحديث- فكانوا يرجعون فيما يختلفون فيه وفيما لا يُدركون له حلاً إلى معاذٍ وهو يومئذ فتًى شاب، ولم يكن ذلك إلا لعلمه وفقهه رضي الله عنه.
وقد جاء في رواية أن هؤلاء الأصحاب كانوا نحو من ثلاثين كهلاً من الصحابة
تقديم العلماء على غيرهم
ويؤكد معنى تقديم العلماء على غيرهم بصرف النظر عن مناصبهم ما رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهو أن نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ -وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ- فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى. قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالينَا. قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى! قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ تعالى، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ. قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ" .
وفي مثل ذلك ما روي أن زيد بن ثابت رضي الله عنه صلى على جنازة فقُرِّبت إليه بغلته ليركبها، فجاء ابن عباس رضي الله عنهما فأخذ بركابه، فقال زيد: خلِّ عنه يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء والكبراء. فقبَّل زيد بن ثابت رضي الله عنه يده وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم
فعبد الله بن عباس رضي الله عنهما يرفع من قدر زيد بن ثابت رضي الله عنه ويوقِّره ويقدِّمه، ويمسك له دابته رغم صغر سنه، وليس ذلك لشيءٍ إلا لعلمه وفقهه، وكان هذا عموم حال الصحابة رضي الله عنهم وعهدهم مع العلماء.
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إن من حق العالم أن لا تكثر عليه بالسؤال، ولا تعنته في الجواب، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشي له سرًّا، ولا تغتابن أحدًا عنده، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره وتعظمه لله تعالى ما دام يحفظ أمر الله تعالى، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته" .
وقال علي رضي الله عنه أيضًا: "العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة (أي: ثغرة) لا يسدها إلا خلفٌ منه"
وقال أيضًا منشدًا:
مـا الفخـر إلا لأهــل العلــم إنهــم *** على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
وقــدر كل امــرئٍ ما كان يحسنـه *** والجاهلــون لأهــل العلم أعـداءُ
ففــزْ بعلــمٍ تعــشْ حيًّــا بـه أبــدًا *** الناس موتى وأهل العلــم أحياءُ
بل يذكر الغزالي رحمه الله في الإحياء أن حق المعلم أعظم من حق الوالدين؛ لأن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية، والمعلم سبب الحياة الباقية، فهو معلم علوم الآخرة أو علوم الدنيا على قصد الآخرة
ثم يقرر الغزالي -بعد أن أورد قول ابن المبارك حين سُئل: من الناس؟ فقال: العلماء. قيل: فمن الملوك؟ قال: الزهاد- فيقول: "ولم يجعل غير العالم من الناس؛ لأن الخاصية التي يتميز بها الناس عن سائر البهائم هو العلم؛ فالإنسان إنسان بما هو شريف لأجله، وليس ذلك بقوة شخصه، فإن الجمل أقوى منه، ولا بعظمه فإن الفيل أعظم منه، ولا بشجاعته فإن السبع أشجع منه، ولا بأكله فإن الثور أوسع بطنًا منه، ولا ليجامع فإن أخس العصافير أقوى على السفاد منه، بل لم يخلق إلا للعلم"
ويروي عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف عالمنا" أي يعرف لعالمنا حقه.
وفي قصة موسى عليه السلام مع الخضر كان غاية توقير العلماء وإجلالهم، فمع كون موسى عليه السلام أعلى قدرًا وأعظم مكانة؛ كونه ليس نبيًّا فقط، بل من أولى العزم من الرسل، إلا أنه قال للخضر موقرًا مبجِّلا: "هل أتبعك؟"!
فهو يصرح بأنه سيتبع الخضر، وسبب الاتباع هو العلم: {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]، ثم هو يستأذن منه، ويسترضيه، ويستسمحه. لا لشيء إلا للعلم الذي رفع من قدر الخضر، وجعل له هيبة واحترامًا وإجلالاً.
ويقول الزهري رحمه الله (وهو من التابعين العظماء) مقررًا: "كنت آتي باب عروة بن الزبير رضي الله عنهما (وهو أيضًا من التابعين) فأجلس بالباب، ولو شئت أن أدخل لدخلت، ولكن إجلالاً له"
وفي سبيل التربية على ذلك يقول الحسن بن علي رضي الله عنهما لابنه ناصحًا ومرشدًا: "يا بنى، إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الصمت، ولا تقطع على أحد حديثًا -وإن طال- حتى يسمِّك".
وعلى هذا ظلت مكانة العلماء محفوظة ومرموقة في الأمة الإسلامية، وظل قدرهم مرفوعًا فوق غيرهم من المسلمين.
ولقد كان الناس يجتمعون بالآلاف حول البخاري رحمه الله ليعلمهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بعد في السادسة عشرة من عمره!!
يقول الشافعي رحمه الله:
وإن صغير القوم إن كان عالمًا *** كبيرٌ إذا ردت إليه المحافـــــــل
الحلفاء وتعظيم العلماء
ولم يكن هذا التقدير من جانب العامة فقط، بل كان أيضًا من قبل الأمراء وأصحاب السلطان، فكانوا ينزلون العلماء منازلهم ويرفعونهم قدرهم، ولذلك عزَّت أمتهم، وسادت غيرها من الأمم.
ففي أحد مواسم الحج جاء أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك رحمه الله إلى الحج هو واثنان من أبنائه الأمراء، فاحتاجوا إلى إجابة عن بعض الأسئلة المتعلقة بالحج، ولم يجدوا لذلك أفضل من العلامة عطاء بن أبي رباح رحمه الله، فذهبوا إليه وهو يصلي، فانتظروا إلى جواره حتى انتهى من صلاته، فبدءوا يسألونه وهو يجيبهم في وضع الصلاة لا يلتفت إليهم، وهو يقبلون بهذا الوضع لأنهم يحتاجون إلى العلم، وبعد انتهاء الأسئلة انصرفوا، ثم جمع أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك رحمه الله ولديه وقال لهما: "يا بني، لا تنيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود"
وكان عطاء بن أبي رباح رحمه الله (من التابعين) عبدًا أسودًا لامرأة من مكة !!
وصدق قول الشاعر:
العلم يرفع بيتًا لا عماد له *** والجهل يهدم بيت العزِّ والشرفِ
وكان المأمون قد وكل الفراء يلقن ابنيه النحو، فلما كان يومًا أراد الفراء أن ينهض إلى بعض حوائجه، فابتدرا إلى نعل الفراء يقدمانه له، فتنازعا أيهما يقدمه، فاصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما فردًا فقدماها، فرفع ذلك الخبر إلى المأمون، فوجه إلى الفراء فاستدعاه، فلما دخل عليه قال: من أعز الناس؟ قال: ما أعرف أعز من أمير المؤمنين، قال: بل من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين حتى رضي كل واحد أن يقدم له فردًا!! قال: يا أمير المؤمنين، لقد أردت منعهما عن ذلك، ولكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقا إليها أو أكسر نفوسهما عن شريعة حرصا عليها. فقال له المأمون: لو منعتهما عن ذلك لأوجعتك لومًا وعتبًا وألزمتك ذنبًا، وما وَضَعَ ما فعلاه من شرفهما، بل رفع من قدرهما وبيَّن عن جوهرهما، ولقد ظهرت لي مخيلة الفراسة بفعلهما، فليس يكبر الرجل وإن كان كبيرًا عن ثلاث: عن تواضعه لسلطانه، ووالده، ومعلمه العلم.
وإن جواب المأمون هذا ليعكس نظرة الإسلام والأمة الإسلامية كلها آنذاك إلى العلم والعلماء، وما كانوا عليه رعاة ورعية من العناية والاهتمام والتعظيم والإجلال للعلم وأهله.
فكان العالِم حقًا أعز الناس، وهذه هي الدرجة والمنزلة التي قررها الصالحون لعلماء الأمة وحفظوها لهم وأنزلوهم إياها، وقد علموا أنهم مصابيح الدجى التي يُهتدى بها، وهو الأمر الذي أورثهم عزًا ومجدًا وتقدمًا وحضارة ورفعة !!
فإن أردت -أخي في الله- أن تصبح عالمًا، فلابد لك أولًا أن تعرف منزلة ما تطلب، ومكانة ما تهفو إليه نفسك؛ فليس في الدنيا أعز ممن ورث الأنبياء، واستغفر له أهل الأرض والسماء !!
أنواع العلوم في الإسلام
مُساهمة طارق فتحي في الجمعة 7 نوفمبر 2014 - 20:28
جاءت كلمة العلم في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم مطلقة، ودونما تقييد أو تحديد؛ فهي تشمل كل علمٍ نافعٍ يهدف إلى خير الدنيا وعمارة الأرض، وكل علمٍ يهدف إلى صلاح الناس، والقيام السليم بواجبات الخلافة البشرية على هذا الكوكب.
ويمكننا تقسيم العلوم إلى قسمين كبيرين يشملان كل علم نعرفه أو نحتاج إليه، وهذان القسمان هما: العلوم الشرعية والعلوم الحياتية.
العلوم الشرعية والعلوم الحياتية
أما العلوم الشرعية فهي العلوم التي يُعرَف بها الله تعالى، ويُعرَف بها كيف تكون العبادة الصحيحة، ويشمل ذلك كل العلوم المتعلقة بدراسة الدين وفقه الشريعة، مثل علوم القرآن، وعلوم السنة والحديث الشريف، وعلوم العقيدة، وعلوم الفقه وأصوله، وعلوم الأخلاق، وغير ذلك مما يتعلق بالشريعة والدين. ويرتبط بهذا القسم بعض العلوم الأخرى التي يُحتاج إليها في فقه تلك العلوم الشرعية، مثل علوم اللغة والأدب والتاريخ، ونحو ذلك.
أما العلوم الحياتية فهي العلوم النافعة التي يحتاج إليها الإنسان ليصلح بها حياته، ويعمِّر بها أرضه، ويستكشف بها كونه وبيئته، وذلك مثل علوم الطب والهندسة والفلك والكيمياء والفيزياء والجغرافيا، وعلوم الأرض والنبات والحيوان، وغير ذلك من العلوم المشابهة.
فكلمة العلم التي كَثُرت الإشارة إليها في الكتاب والسنة إنما تعني -في أكثر الأحيان- العلم بشقيه الشرعي والحياتي، وكل ما جاء من مدحٍ للعلماء، فهو لكل عالمٍ نفع الناس بعلمه، سواء كان شرعيًّا أم حياتيًّا.
علوم فرض العين وعلوم فرض الكفاية
ثم إن هذه العلوم -سواء علوم الشرع أو علوم الحياة- تنقسم بدورها إلى قسمين: علوم فرض عين، وعلوم فرض كفاية.
وفرض العين هو ما طلب الشارع فعله طلبًا جازمًا من كل مكلف بعينه، فلا يكفي أن يقوم به البعض دون البعض الآخر، ومنه: الصلاة، والصيام، والوفاء بالعقود وغيرها.
وفرض الكفاية هو ما طلب الشارع حصوله طلبًا جازمًا من جماعة المكلفين، فإن أقامه أحدهم أو بعضهم على الوجه المطلوب، سقط الإثم عن الباقين، وإن لم يقمه أحد أثم الجميع، ومنه: الجهاد في سبيل الله، وإقامة الخلافة، والصلاة على الميت ودفنه، وغيرها .
وعليه فالعلوم التي تُعَد من فروض العين هي تلك التي يتعين على كل مسلم ومسلمة ممن اتصف بالعقل والبلوغ أن يُحصِّلَها ويتعلَّمها، وإذا لم يحصلها أثم بسبب ذلك، وركبته السيئات بحجم التفريط الذي فرّط.
فهذا النوع من العلوم حتميٌ على كل المسلمين، وليس هناك استثناء فيه، وهو الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه وقال فيه: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ" .
وأما العلوم فرض الكفاية فهي تلك العلوم التي إن قام بها بعض المسلمين على الوجه الأكمل، واستطاعوا أن يكْفوا بقية الأمة فيها، فإنهم يثابون عليها ويسقط الإثم عن باقي الأمة، حتى أولئك الذين لم يقوموا بها، وأما إذا لم توفر الأمة من العلماء ما يكفي حاجتها في فرع معين، فإن الإثم يقع على الجميع إلى أن تكفي الأمة حاجتها في ذلك الفرع، فتوفر الكم والنوع اللازم لسد كل الثغرات.
وفروض الكفاية كثيرة جدًّا، والأمة النجيبة الواعية هي التي توزِّع فروض الكفاية على أفرادها بحيث تسد كل الثغرات لديها، وتكفى كل حاجاتها، بحيث لا يصبح هناك -مثلاً- تكدسٌ في أحد المجالات، ونقصٌ وقصورٌ في مجالات أخرى، وهذا يحتاج إلى اتساع أفقٍ وشمولِ نظرة.
ولنحاول أن نسقط هذه التعريفات على الواقع.
العلوم الشرعية
فالعلوم الشرعية منها ما هو فرض عين، "يتعين" على كل مسلمٍ ومسلمةٍ أن يتعلموه، ويأثمون بتركه، وذلك مثل العلم بالله تعالى على سبيل الإجمال، كالعلم بأنه سبحانه عليمٌ وخبيرٌ وقادرٌ على كل شيء، وأنه خالقٌ ورازقٌ ورحيمٌ وكريمٌ وغير ذلك.
وأيضًا مثل العلم بأمور الفقه الضرورية لأداء العبادات، فيتعلم المسلم كيف يتوضأ وكيف يصلِّي، وما هي نواقض الوضوء، وما هي نواقض الصلاة، وما الفرق بين الفرض والنافلة، وبين ما تصح الصلاة بدونه، وما لا تصح الصلاة إلا به، وأن يعرف الصيامَ وأحكامه، والزكاة وأحكامها، وأن يعرف أمور الحلال والحرام، وخاصة المشهور منها، والذي سمّاه العلماء "ما هو معلوم من الدين بالضرورة" كحرمة الزنا والخمر والخنزير والربا، وكذلك عليه أن يعرف رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ونبذة عن سيرته، وأيضًا يعرف القرآن وكيف يُتلى، ويعرف عن الساعة ويوم القيامة إجمالاً، وكذلك عن الجنة والنار وهكذا.
ومن العلوم الشرعية ما هو فرض كفاية على بعض علماء الأمة وليس مفروضًا على بقية المسلمين، مثل دقائق علم العقيدة، ودقائق الفقه مثل فقه المواريث، ودقائق فقه التجارة لغير التجار، وكيفية حساب الزكاة في الاحتمالات المختلفة، ودقائق الاقتصاد لغير الاقتصاديين، ودقائق تفسير القرآن، وأسباب النزول، وتفاصيل حياة الرسول وحياة أصحابه، وتخريج الأحاديث، والعلم برواتها، ودرجاتهم من حيث الجرح والتعديل، وتفاصيل التاريخ الإسلامي، وفنون اللغة ودقائقها [3].
فهذه العلوم هي من فروض الكفاية، والتي وجب على الأمة أن توجد طائفة من أفرادها ليقوموا بالخوض فيها، وإتقانها والتبحر فيها والتمكن منها، والقدرة على معرفة كافة أطرافها ودقائقها، وهو مصداق قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
وإذا لم توفر الأمة هؤلاء العلماء، وكانت تعاني مثلاً- نقصًا في علماء التفسير أو علماء الفقه أو الحديث أو غيره، فإن الأمة جميعها تأثم إلى أن توفر هذه الطائفة.
العلوم الحياتية
والأمر هو نفسه بالنسبة للعلوم الحياتية، فمنها ما هو فرض عين، "يتعين" على كل مسلمٍ ومسلمةٍ أن يتعلموه، ويأثمون بتركه، ومنها ما هو فرض كفاية، إن قام به البعض سقط عن الجميع.
فمثلًا: علم الطب يُعد فرض عينٍ على الطبيب، وعلم الهندسة يُعد فرض عينٍ على المهندس، وعلم الكيمياء فرض عينٍ على الكيميائي وهكذا. فإذا تعلم كل واحدٍ من هؤلاء مهنته وأتقنها وبرع فيها، ووصل إلى درجة من الابتكار وحل المشكلات في مجاله، وهكذا في كل تخصص، فإن الفرض يُكفى، وبذلك يسقط الإثم عن المسلمين.
أما إذا فشلت الأمة في إخراج عدد مناسب، وبكفاءة متميزة يكْفون حاجة المسلمين، فإن الإثم يقع على الأمة جميعًا؛ وذلك لفشلها في تحقيق ذلك الأمر [4]!!
وليس غريبًا بعد ذلك أن يكون من نتيجة ذلك الفشل أن تتخلف الأمة عن ركب الحضارة، وأن تكثر أزماتها ومشكلاتها، فضلا عن سقوطها في أعين غيرها من الأمم الأخرى، فتصبح وقد اقتادها غيرها، وقد أضحت فريسة سهلة للطامعين، فلا يُستبعد أن تنتهك سيادتها، وأن تحتل أرضها، وأن تسلب ثرواتها.. حتى تضيع تحت أقدام الغزاة!!
والشاهد من ذلك أن المرء المسلم واقع بين نوعين من العلوم يتعين عليه أن يتقنهما: الأول خاص بمعرفة دينه المعرفة التي توصله إلى العبادة الصحيحة كما ذكرنا سابقا، وهو ما لابد للجميع منه. والثاني خاص بمجال التخصص الذي هو فيه، أيًّا كان مجاله وطبيعة عمله. والذنب والإثم في كلٍ هو بحجم التقصير الذي يحصل.
ومن هذا المنطلق لا يستقيم لطالب رفعةٍ لهذه الأمة، وراجي التمكين لها في الأرض، أن يكون فاشلاً في مجاله، متخلفًا في صنعته أو في مهنته أو في علمه الذي وُكِّل به؛ إذ أن تقدم الأمة معتمدٌ على تقدمه، وتخلفها هو نتيجة لتخلفه.
مثال توضيحي للمسلم العالم
وعلى ذلك فإننا إذا أخذنا أحد المسلمين كمثال توضيحي، فإننا نقول:
لو أن هناك اقتصاديًّا متخصصًا من المسلمين، فإنه يتعين عليه أن يتعلم كيف يُصلِّي، وكيف يصوم، وكيف يزكِّي، وكيف يعتقد في ربه وفي رسوله وفي القرآن، وأن يعرف عن يوم القيامة والجنة والنار، كما سبق أن ذكرنا.
وفوق ذلك فيتعيَّن عليه أن يُتقن مجال الاقتصاد ويبرع فيه، ويبتكر الطرق الحديثة التي ترفع من اقتصاد الأمة وتُعْلي من شأنها ماديًّا، وعليه أيضًا أن يعرف الفقه الإسلامي الخاص بالاقتصاد، وحكم الإسلام في المعاملات الاقتصادية المختلفة، وحكمه في قضايا البنوك وشركات الاستثمار والتأمين والتوفير والقروض، وغير ذلك من الأمور التي تمس هذا الجانب بصورة مباشرة.
ولكن هذا الاقتصادي لا يتعين عليه ولا يلزمه أن يتعلم دقائق التفسير، أو يتعلم بنود الفقه المختلفة الخاصة بالطب، أو الخاصة بالحرب أو الخاصة بالزواج أو الطلاق أو الميراث؛ فهذا له متخصصون ومهتمون، تماما كما هو في تخصصه في مجال الاقتصاد.
كما أنه لا يلزمه أن يتعلم شيئًا عن الطب أو الهندسة أو الفلك أو الزراعة أو غيرها، إلا فيما يرتبط بعمله كاقتصادي..
وهكذا تتوزع كفاءات الأمة على الفروع المختلفة، وتسد الثغرات تباعًا.
الأمة الناجحة
ولا يستقيم لأمة ناجحة أن تتكدس فيها –مثلًا- طاقات فقهية، بينما تفتقر إلى علماء الطب أو الكيمياء، ولا يستقيم لأمة متكاملة أن يتكدس فيها جمعٌ غفيرٌ من القضاة، وهي تفتقر إلى علماء التاريخ، وهكذا.
وهذا دور الدولة الناجحة، أن ترقُب باستمرارٍ أوجه النقص، ومن ثم تسد الخلل وتحرص على تكميله.. كما أنه دور الأفراد في أن يتوجهوا إلى سد الثغرات المهمة والضعيفة، وألا يترك أصحاب التخصص منهم تخصصهم وينشغلوا بغيره من الأعمال التي لم يكلفوا أصلاً بأدائها، ولم توجب عليهم.
على أن الدور الأكبر والمسؤولية الضخمة في هذا الأمر تتحمله الدولة ممثلة في الحكومة، ولابد لها من أن تسعى لرفعة شعبها وإعزاز أمَّتها في كل المجالات، وهي غير معذورة في أي تقصير في هذا الأمر، كما أنه ليس هناك مبررٌ للبقاء في ذيل الأمم لسنوات وسنوات.
وهذا لا يعني -كما سبق أن أشرنا- إعفاء أنفسنا من المسئولية، فهذا مصير الأمة، وإننا -كأفراد- لدينا من المساحات الضخمة التي من الممكن أن نعمل فيها وننتج ونبرع الكثير والكثير.
فالطالب -مثلاً- في أي مراحله التعليمية بإمكانه ألا يكتفي بما هو مقررٌ عليه فقط، وخاصة إذا كان هذا المقرر على مستوى غير كافٍ، ومن ثم فيمكن أن يلجأ إلى المكتبات وإلى الشبكة العالمية (الإنترنت) وغيرها، مما يزيد من حصيلته العلمية في مقرراته الدراسية وفي مجال تخصصه.
فإذا كان طالبًا يكون طالبًا متفوقًا، وإذا كان أستاذًا أو معلمًا يكون معلمًا متقنا ومبدعًا، وإذا كان مهندسًا يكون على أعلى درجة وأمكن معرفة بمجال عمله وهندسته، وهكذا، والمطلوب هو بذل الجهد كلٌ في مجاله قدر المستطاع.
وحين يكون الالتزام بذلك، وحين لا يكون مبلغ علم الجميع وأقصى أمانيهم هو فقط الحصول على شهادة في كذا أو كذا، حينها يسود جوٌ عام من حب العلم، فيصبح البلد أو الإقليم وقد اتخذ وجهة العلم قبلة له، شاء في ذلك أم أبى أصحاب اتخاذ القرار وصُنَّاعه!!
بل إن السياسيين حينذاك سيجدون أنهم مضطرون إلى أن يسايروا تلك الموجة العلمية، ويكونون من ركْبها، تماما كما يسايرون الموجة الدينية -رغم أن الكثيرين منهم ليست لهم ميول دينية أصلًا- فتراهم -مثلاً- يُقيمون المسابقات الدينية، ويحضرون الاحتفالات الموسمية، ويهبون الجوائز على حفظ القرآن الكريم.. وذلك طالما كان هناك جو عام من الاهتمام بالدين.
فكذلك إذا كانت هناك ثورة علمية، وأصبح العلم شغل الأفراد ومصب اهتماماتهم، حينها ستجد السياسي –مثلاً- الذي يريد أن ينجح في الانتخابات، تراه يضع في برنامجه الانتخابي الاهتمام بالمؤسسات العلمية، والعمل على إنشاء الجديد منها والمزيد، وزيادة ميزانية الدولة في هذا الجانب. وعليه فلن تجد اهتماماته متجهةً فقط إلى الطعام والشراب، وما إلى ذلك، وإنما يكون جل اهتماماته هو همّ الأمة الأول وشغلها الشاغل، وهو يومئذ العلم وقضايا التعليم!!
ولو قامت الأمة الإسلامية بدورها في هذا المجال (الاهتمام بالتوازن بين العلوم والربط بين العلم الشرعي والعلم الحياتي) حكومة وشعبًا، جماعات وأفرادًا، ما افتقرت أبدًا إلى غيرها، ولقامت معتمدة على سواعد أبنائها، وهذا -ولاشك- يرفع من قيمتها ويعز شأنها.
قد يبدو غريبًا هذا العنوان، وقد يبدو أشد غرابةً عند مَن يتواضع كثيرًا فيجعل همَّه وطموحه فقط أن يصبح طالب علم، أو -كما يقول بعضهم- "طُويلب علم"..!! ولا شك أن مثل هذه الهمة هي همة قاصرة، وهي همة تعجز في أن تلحق -بالمرة- بركب العلماء. وأولى بصاحبها وأجدر أن يقف مع نفسه وقفة أخرى، يجدد العزم، ويعقد العهد قبل أن تتفلت من يده الأيام، ويندم ولات حين مناص!
يقول المتنبي:
إذا غامرت في شرفٍ مرومٍ *** فلا تقْنعْ بما دُون النُّجـــومِ
فطعمُ المـوتِ فـي أمرٍ حقيرٍ *** كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمِ
لذا لا يصلح لك إلا أن تكون عالمًا .. وليس فقط من طلاب العلم.
ولا شك أن ذلك يتطلب نوعًا خاصًا من الإعداد، فيتطلب خطة بعينها، ويتطلب حياة خاصة، وأيضًا حالة نفسية معينة، أو قل: يتطلب ذلك منهجًا في الحياة جديد، فتصبح لك طريقة تفكير خاصة، وطريقة ترتيب وقت يناسب هذه الحياة الخاصة، بل وطريقة نوم وأكل مختلفة عن بقية الناس، إنها حياة إنسان يُربَّى ليُغيِّر لا ليتغير، ويؤثِّر لا ليتأثر، إنها حياة مختلفة حقًا!!
العلماء ورثة الأنبياء
وللعلم قيمة في الميزان الإسلامي، فحياة الناس لا تستقيم إلا به، وقد كان العلم كان صفةً لازمةً للأنبياء عليهم السلام، وكان من رحمة الله عز وجل أنه لم يرفع العلم بذهاب الأنبياء، وإنما جعل الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يورِّثُوا علمهم هذا قبل أن يموتوا إلى طائفة معينة من البشر، أوكل إليها مهمة تعليم الناس، والقيام بالدور الذي كان يقوم به الأنبياء في حياتهم، ولكن دون وحيٍ ودونما عصمة. وهذه الطائفة من البشر هي "العلماء".
عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إلى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ"
ففي نهاية هذا الحديث وضح رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء لم يتركوا خلفهم مالاً ولا مُلكًا، وإنما تركوا العلم، وهذه هي أعظم تركة، ومن أخذها فقد فاز حقًا، يقول الله تعالي: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة:269].
وفضلاً عن ذلك فالحديث يبين فضل العلم ومنزلة العلماء؛ فالملائكة تضع أجنحتها لمن يبدءون طريق العلم؛ تواضعًا وتعظيمًا وتكريمًا وتبجيلاً لهم، وكفى بذلك شرفًا ومنزلة !!
ويخص رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة العلماء -وليس طلاب العلم- بمزية خاصة، وهي أنه يستغفر لهم من في السماوات ومن في الأرض، بل يصل الأمر إلى أن تستغفر له الحيوانات أيضًا، بل حتى تلك التي تسبح في جوف الماء !!
وليت الأمر يقف عند هذا الحد فقط، بل إنه صلى الله عليه وسلم يُفضِّل ذلك العالِم ويرفع منزلته ومكانته على العابد لله عز وجل !! وقد جعل المقارنة بينهما في ذلك تمامًا كما يكون القمر ليلة البدر -كما ورد ذلك في رواية أخرى- مع غيره من النجوم، وذلك في إشارة إلى أن نور القمر يحجب نور الكواكب الأخرى ويُغطِّي عليها، مهما كثُر نورها بكثرة أعدادها !!
ألا ترى أن الأمر جد عظيم..؟!
بين العالم والعابد
ومع كون هذه المقارنة عظيمة في حق العلماء، إلا أن هناك مقارنة أعظم منها، ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَابِدٌ، وَالْآخَرُ: عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ"
ففي هذا الحديث الشريف يُقارن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العالم والعابد، فيشبه ذلك بالفارق بين منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنزلة أقل المسلمين، أي أن الفجوة التي بينه صلى الله عليه وسلم وبين أدنى المسلمين، تشبه تلك التي بين العالم والعابد !!
وفي ذلك من الفضل والشرف والمنزلة الرفيعة العالية ما فيه، فلم يقارن صلى الله عليه وسلم بين نفسه وبين أحد العظماء -مثلاً- في الإسلام، رغم أن مثل هذه المقارنة هي عظيمة أيضًا؛ إذ البون شاسع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أي إنسان آخر، ولكن لعظم المفارقة هنا وبيان الفضل، فهو يقارن بين نفسه صلى الله عليه وسلم وبين أدنى المسلمين !!
ولعل البعض قد يستغرب من كون هذه المنزلة العالية للعالم إنما هي فوق منزلة العابد، ولعل هذا العجب يزول إذا علمت أن العابد الذي يعبد الله على غير علم يَضل ويُضل، وقد كان كفار مكة أنفسهم يعترفون لله بالعبودية، ولكنها عبودية على غير علم، فكان أن كفروا وضلوا، يقول تعالى يصف حالهم وهم يتحدثون عن الأصنام: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
كما أن العابد إذا كانت عبادته لله على ظنٍ فاسدٍ، فإن عبادته هذه لا تُقبل، ويكون بذلك من الخاسرين، قال تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23].
ويروى الدارمي أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كتب إلى أهل المدينة: "إنه من تعبد بغير علمٍ، كان ما يُفسد أكثر مما يصلح"
العلماء فوق المجاهدين والشهداء
بل إن من الفقهاء في الإسلام من رفع درجة العلماء فوق درجه المجاهدين في سبيل الله وليس فقط العُبَّاد!! يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهو من علماء الصحابة الأفذاذ: "والذي نفسي بيده، ليودَّنَّ رجالٌ قُتلوا في سبيل الله شهداء، أن يبعثهم الله علماء؛ لما يرون من كرامتهم" أي من كرامة العلماء. ويقول العلامة التابعي الحسن البصري رحمه الله: "يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء، فيرجح مداد العلماء!!"
وإن كان البعض قد يستغرب هذا الكلام، إلا أن حجته قوية، فالجهاد لا يُعرف فضله أساسًا إلا بالعلم، وعليه فلن يجاهد إلا من "علم" قيمة الجهاد ودرجة المجاهد، كما لن تُعرف شروط الجهاد ومشروعيته إلا بالعلم، ولن يُعرف فرض العين من فرض الكفاية فيه إلا بالعلم، ومن ثم فقد يترك "من لا يعلم" فرضًا ويقيم نافلة، وهذا لا يجوز، كما أنه قد يتعدى في جهاده الحدود المشروعة، أو يقاتل من لا يجوز قتاله، وهذا كله لا يجوز.
وهكذا، فالعلم هو الذي يحدد مشروعية الجهاد وحدوده، وبغير العلماء الصادقين لن يوجد مجاهدون على حق.
بل قد يأثم المسلم بجهاده بغير علم!! وما فتنه الخوارج بخافية على أحد.
فتنة الخوارج
فالخوارج كانوا يعبدون الله تعالى، ويقيمون الفرائض، ويجاهدون في سبيل الله، وذلك كله على غير هدًى من الله ولا علم، فكان أن خرجوا من الدين بالكلية، بينما هم يحسبون أنفسهم على أفضل درجات العبادة والجهاد !!
ولما همَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقتل أحدهم -كما يروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه- قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُ؛ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" .
فكانت آفتهم الرئيسية أنهم اجتهدوا بغير علم، فأدى بهم ذلك إلى أن يجاهدوا على باطل، حتى كان أحد زعمائهم، وهو عبد الرحمن بن ملجم والذي قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه - كان يظن تمام الظن أنه تقرب إلى الله تعالى بقتل أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين وزوج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والمبشر بالجنة مرارًا، علي بن أبي طالب رضي الله عنه!!
وكان هذا اعتقادٌ راسخ عند كل الخوارج، حتى إنك لتجد عمران بن قحطان (أحد شعراء الخوارج المتأخرين) يقول واصفًا هذه الطعنة اللئيمة التي قُتل بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
يا ضربةً من تقيٍّ ما أراد بها *** إلا ليبلُغ من ذي العرش رِضوانًا
إنــي لأذكــره حينًـــا فأحسبــه *** أوْفَى البـريَّــة عنـد الله ميزانًـــــا
كل ذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه يوم خيبر -كما يروي سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: "لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ قَالَ: يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ" . وحين كان الغد كان هذا الرجل هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ولم يقع عبد الرحمن بن ملجم (القاتل) في هذه الكارثة إلا بفقد العلم، يقول تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103- 104].
ولكم عانت الأمة الإسلامية من بعض المتحمسين للدين، المشتاقين للجهاد ولكن بغير علم، وقد أدى بهم حالهم هذا إلى أن يجتهدوا اجتهادات خاطئة، ويحكموا أحكامًا جائرة، فكانت النتيجة تكفير المجتمعات المسلمة، واستباحة دماء الأبرياء، والاستهانة بكل الحرمات، والقتل والسفك والظلم والبطش باسم الجهاد والدعوة والتضحية!! والإسلام من ذلك كله براء.
تعظيم العلم والعلماء
ولأجل ذلك، ومن فقهٍ لمنزلة العلماء وقيمة العلم مقارنة بغيره، يقول كعب الأحبار رحمه الله موضحًا الحقيقة: "طالب العلم كالغادي الرائح في سبيل الله تعالى" . وهو ما أكده أبو الدرداء رضي الله عنه حين قال: "من رأى الغدو والرواح إلى العلم ليس بجهاد، فقد نقص في عقله ورأيه" .
وترى سفيان بن عيينة رحمه الله، وهو من التابعين يقول أيضًا: "من طلب العلم فقد بايع الله تعالى"
ولذلك فإن الله تعالى رفع قدر العلماء وعظم قيمتهم، يقول تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].
مكانة معاذ بن جبل
وقد فقه الصحابة والتابعون والصالحون من هذه الأمة الكريمة هذا القدر، فعظموا علماءهم، ورفعوا من قدرهم، وحفظوا لهم مكانتهم، ولم يعتبروا في ذلك بعرقٍ ولا نسبٍ ولا جنسٍ ولا عمرٍ ولا منصب، إنما اعتبروا فقط بالعلم، فكان معاذ بن جبل رضي الله عنه على صِغر سنه معظمًا جدًّا بين الصحابة، حتى إنهم كانوا لا يرفعون أعينهم في عينه حياءً منه وتعظيمًا له رضي الله عنه. هذا مع أنه مات وهو لم يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، ولكنه عُظِّم بالعلم الذي كان يحويه في صدره رضي الله عنه.
يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في حقه -كما يروي أنس بن مالك رضي الله عنه: "وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ"
ومن هنا نستطيع فهم الموقف الذي حكاه لنا أبو مسلم الخولاني رحمه الله (من التابعين)، وفيه يصور مدى احترام وتعظيم الصحابة لمعاذ بن جبل رضي الله عنه مع حداثة سنه، يقول أبو مسلم الخولاني: "أَتَيْتُ مَسْجِدَ أَهْلِ دِمَشْقَ فَإِذَا حَلْقَةٌ فِيهَا كُهُولٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِذَا شَابٌّ فِيهِمْ أَكْحَلُ الْعَيْنِ بَرَّاقُ الثَّنَايَا، كُلَّمَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إلى الْفَتَى فَتًى شَابٌّ -وفي رواية أخرى: ولا يصدرون إلا عن رأيه- قَالَ: قُلْتُ لِجَلِيسٍ لِي: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ"
فقد وصف أبو مسلم الصحابةَ الذين هم حول معاذ رضي الله عنه بأنهم "كهول"، أي شيوخ كبار في السن، ورغم ذلك -وكما جاء في الحديث- فكانوا يرجعون فيما يختلفون فيه وفيما لا يُدركون له حلاً إلى معاذٍ وهو يومئذ فتًى شاب، ولم يكن ذلك إلا لعلمه وفقهه رضي الله عنه.
وقد جاء في رواية أن هؤلاء الأصحاب كانوا نحو من ثلاثين كهلاً من الصحابة
تقديم العلماء على غيرهم
ويؤكد معنى تقديم العلماء على غيرهم بصرف النظر عن مناصبهم ما رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهو أن نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ -وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ- فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى. قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالينَا. قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى! قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ تعالى، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ. قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ" .
وفي مثل ذلك ما روي أن زيد بن ثابت رضي الله عنه صلى على جنازة فقُرِّبت إليه بغلته ليركبها، فجاء ابن عباس رضي الله عنهما فأخذ بركابه، فقال زيد: خلِّ عنه يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء والكبراء. فقبَّل زيد بن ثابت رضي الله عنه يده وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم
فعبد الله بن عباس رضي الله عنهما يرفع من قدر زيد بن ثابت رضي الله عنه ويوقِّره ويقدِّمه، ويمسك له دابته رغم صغر سنه، وليس ذلك لشيءٍ إلا لعلمه وفقهه، وكان هذا عموم حال الصحابة رضي الله عنهم وعهدهم مع العلماء.
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إن من حق العالم أن لا تكثر عليه بالسؤال، ولا تعنته في الجواب، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشي له سرًّا، ولا تغتابن أحدًا عنده، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره وتعظمه لله تعالى ما دام يحفظ أمر الله تعالى، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته" .
وقال علي رضي الله عنه أيضًا: "العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة (أي: ثغرة) لا يسدها إلا خلفٌ منه"
وقال أيضًا منشدًا:
مـا الفخـر إلا لأهــل العلــم إنهــم *** على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
وقــدر كل امــرئٍ ما كان يحسنـه *** والجاهلــون لأهــل العلم أعـداءُ
ففــزْ بعلــمٍ تعــشْ حيًّــا بـه أبــدًا *** الناس موتى وأهل العلــم أحياءُ
بل يذكر الغزالي رحمه الله في الإحياء أن حق المعلم أعظم من حق الوالدين؛ لأن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية، والمعلم سبب الحياة الباقية، فهو معلم علوم الآخرة أو علوم الدنيا على قصد الآخرة
ثم يقرر الغزالي -بعد أن أورد قول ابن المبارك حين سُئل: من الناس؟ فقال: العلماء. قيل: فمن الملوك؟ قال: الزهاد- فيقول: "ولم يجعل غير العالم من الناس؛ لأن الخاصية التي يتميز بها الناس عن سائر البهائم هو العلم؛ فالإنسان إنسان بما هو شريف لأجله، وليس ذلك بقوة شخصه، فإن الجمل أقوى منه، ولا بعظمه فإن الفيل أعظم منه، ولا بشجاعته فإن السبع أشجع منه، ولا بأكله فإن الثور أوسع بطنًا منه، ولا ليجامع فإن أخس العصافير أقوى على السفاد منه، بل لم يخلق إلا للعلم"
ويروي عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف عالمنا" أي يعرف لعالمنا حقه.
وفي قصة موسى عليه السلام مع الخضر كان غاية توقير العلماء وإجلالهم، فمع كون موسى عليه السلام أعلى قدرًا وأعظم مكانة؛ كونه ليس نبيًّا فقط، بل من أولى العزم من الرسل، إلا أنه قال للخضر موقرًا مبجِّلا: "هل أتبعك؟"!
فهو يصرح بأنه سيتبع الخضر، وسبب الاتباع هو العلم: {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]، ثم هو يستأذن منه، ويسترضيه، ويستسمحه. لا لشيء إلا للعلم الذي رفع من قدر الخضر، وجعل له هيبة واحترامًا وإجلالاً.
ويقول الزهري رحمه الله (وهو من التابعين العظماء) مقررًا: "كنت آتي باب عروة بن الزبير رضي الله عنهما (وهو أيضًا من التابعين) فأجلس بالباب، ولو شئت أن أدخل لدخلت، ولكن إجلالاً له"
وفي سبيل التربية على ذلك يقول الحسن بن علي رضي الله عنهما لابنه ناصحًا ومرشدًا: "يا بنى، إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الصمت، ولا تقطع على أحد حديثًا -وإن طال- حتى يسمِّك".
وعلى هذا ظلت مكانة العلماء محفوظة ومرموقة في الأمة الإسلامية، وظل قدرهم مرفوعًا فوق غيرهم من المسلمين.
ولقد كان الناس يجتمعون بالآلاف حول البخاري رحمه الله ليعلمهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بعد في السادسة عشرة من عمره!!
يقول الشافعي رحمه الله:
وإن صغير القوم إن كان عالمًا *** كبيرٌ إذا ردت إليه المحافـــــــل
الحلفاء وتعظيم العلماء
ولم يكن هذا التقدير من جانب العامة فقط، بل كان أيضًا من قبل الأمراء وأصحاب السلطان، فكانوا ينزلون العلماء منازلهم ويرفعونهم قدرهم، ولذلك عزَّت أمتهم، وسادت غيرها من الأمم.
ففي أحد مواسم الحج جاء أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك رحمه الله إلى الحج هو واثنان من أبنائه الأمراء، فاحتاجوا إلى إجابة عن بعض الأسئلة المتعلقة بالحج، ولم يجدوا لذلك أفضل من العلامة عطاء بن أبي رباح رحمه الله، فذهبوا إليه وهو يصلي، فانتظروا إلى جواره حتى انتهى من صلاته، فبدءوا يسألونه وهو يجيبهم في وضع الصلاة لا يلتفت إليهم، وهو يقبلون بهذا الوضع لأنهم يحتاجون إلى العلم، وبعد انتهاء الأسئلة انصرفوا، ثم جمع أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك رحمه الله ولديه وقال لهما: "يا بني، لا تنيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود"
وكان عطاء بن أبي رباح رحمه الله (من التابعين) عبدًا أسودًا لامرأة من مكة !!
وصدق قول الشاعر:
العلم يرفع بيتًا لا عماد له *** والجهل يهدم بيت العزِّ والشرفِ
وكان المأمون قد وكل الفراء يلقن ابنيه النحو، فلما كان يومًا أراد الفراء أن ينهض إلى بعض حوائجه، فابتدرا إلى نعل الفراء يقدمانه له، فتنازعا أيهما يقدمه، فاصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما فردًا فقدماها، فرفع ذلك الخبر إلى المأمون، فوجه إلى الفراء فاستدعاه، فلما دخل عليه قال: من أعز الناس؟ قال: ما أعرف أعز من أمير المؤمنين، قال: بل من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين حتى رضي كل واحد أن يقدم له فردًا!! قال: يا أمير المؤمنين، لقد أردت منعهما عن ذلك، ولكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقا إليها أو أكسر نفوسهما عن شريعة حرصا عليها. فقال له المأمون: لو منعتهما عن ذلك لأوجعتك لومًا وعتبًا وألزمتك ذنبًا، وما وَضَعَ ما فعلاه من شرفهما، بل رفع من قدرهما وبيَّن عن جوهرهما، ولقد ظهرت لي مخيلة الفراسة بفعلهما، فليس يكبر الرجل وإن كان كبيرًا عن ثلاث: عن تواضعه لسلطانه، ووالده، ومعلمه العلم.
وإن جواب المأمون هذا ليعكس نظرة الإسلام والأمة الإسلامية كلها آنذاك إلى العلم والعلماء، وما كانوا عليه رعاة ورعية من العناية والاهتمام والتعظيم والإجلال للعلم وأهله.
فكان العالِم حقًا أعز الناس، وهذه هي الدرجة والمنزلة التي قررها الصالحون لعلماء الأمة وحفظوها لهم وأنزلوهم إياها، وقد علموا أنهم مصابيح الدجى التي يُهتدى بها، وهو الأمر الذي أورثهم عزًا ومجدًا وتقدمًا وحضارة ورفعة !!
فإن أردت -أخي في الله- أن تصبح عالمًا، فلابد لك أولًا أن تعرف منزلة ما تطلب، ومكانة ما تهفو إليه نفسك؛ فليس في الدنيا أعز ممن ورث الأنبياء، واستغفر له أهل الأرض والسماء !!
أنواع العلوم في الإسلام
مُساهمة طارق فتحي في الجمعة 7 نوفمبر 2014 - 20:28
جاءت كلمة العلم في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم مطلقة، ودونما تقييد أو تحديد؛ فهي تشمل كل علمٍ نافعٍ يهدف إلى خير الدنيا وعمارة الأرض، وكل علمٍ يهدف إلى صلاح الناس، والقيام السليم بواجبات الخلافة البشرية على هذا الكوكب.
ويمكننا تقسيم العلوم إلى قسمين كبيرين يشملان كل علم نعرفه أو نحتاج إليه، وهذان القسمان هما: العلوم الشرعية والعلوم الحياتية.
العلوم الشرعية والعلوم الحياتية
أما العلوم الشرعية فهي العلوم التي يُعرَف بها الله تعالى، ويُعرَف بها كيف تكون العبادة الصحيحة، ويشمل ذلك كل العلوم المتعلقة بدراسة الدين وفقه الشريعة، مثل علوم القرآن، وعلوم السنة والحديث الشريف، وعلوم العقيدة، وعلوم الفقه وأصوله، وعلوم الأخلاق، وغير ذلك مما يتعلق بالشريعة والدين. ويرتبط بهذا القسم بعض العلوم الأخرى التي يُحتاج إليها في فقه تلك العلوم الشرعية، مثل علوم اللغة والأدب والتاريخ، ونحو ذلك.
أما العلوم الحياتية فهي العلوم النافعة التي يحتاج إليها الإنسان ليصلح بها حياته، ويعمِّر بها أرضه، ويستكشف بها كونه وبيئته، وذلك مثل علوم الطب والهندسة والفلك والكيمياء والفيزياء والجغرافيا، وعلوم الأرض والنبات والحيوان، وغير ذلك من العلوم المشابهة.
فكلمة العلم التي كَثُرت الإشارة إليها في الكتاب والسنة إنما تعني -في أكثر الأحيان- العلم بشقيه الشرعي والحياتي، وكل ما جاء من مدحٍ للعلماء، فهو لكل عالمٍ نفع الناس بعلمه، سواء كان شرعيًّا أم حياتيًّا.
علوم فرض العين وعلوم فرض الكفاية
ثم إن هذه العلوم -سواء علوم الشرع أو علوم الحياة- تنقسم بدورها إلى قسمين: علوم فرض عين، وعلوم فرض كفاية.
وفرض العين هو ما طلب الشارع فعله طلبًا جازمًا من كل مكلف بعينه، فلا يكفي أن يقوم به البعض دون البعض الآخر، ومنه: الصلاة، والصيام، والوفاء بالعقود وغيرها.
وفرض الكفاية هو ما طلب الشارع حصوله طلبًا جازمًا من جماعة المكلفين، فإن أقامه أحدهم أو بعضهم على الوجه المطلوب، سقط الإثم عن الباقين، وإن لم يقمه أحد أثم الجميع، ومنه: الجهاد في سبيل الله، وإقامة الخلافة، والصلاة على الميت ودفنه، وغيرها .
وعليه فالعلوم التي تُعَد من فروض العين هي تلك التي يتعين على كل مسلم ومسلمة ممن اتصف بالعقل والبلوغ أن يُحصِّلَها ويتعلَّمها، وإذا لم يحصلها أثم بسبب ذلك، وركبته السيئات بحجم التفريط الذي فرّط.
فهذا النوع من العلوم حتميٌ على كل المسلمين، وليس هناك استثناء فيه، وهو الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه وقال فيه: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ" .
وأما العلوم فرض الكفاية فهي تلك العلوم التي إن قام بها بعض المسلمين على الوجه الأكمل، واستطاعوا أن يكْفوا بقية الأمة فيها، فإنهم يثابون عليها ويسقط الإثم عن باقي الأمة، حتى أولئك الذين لم يقوموا بها، وأما إذا لم توفر الأمة من العلماء ما يكفي حاجتها في فرع معين، فإن الإثم يقع على الجميع إلى أن تكفي الأمة حاجتها في ذلك الفرع، فتوفر الكم والنوع اللازم لسد كل الثغرات.
وفروض الكفاية كثيرة جدًّا، والأمة النجيبة الواعية هي التي توزِّع فروض الكفاية على أفرادها بحيث تسد كل الثغرات لديها، وتكفى كل حاجاتها، بحيث لا يصبح هناك -مثلاً- تكدسٌ في أحد المجالات، ونقصٌ وقصورٌ في مجالات أخرى، وهذا يحتاج إلى اتساع أفقٍ وشمولِ نظرة.
ولنحاول أن نسقط هذه التعريفات على الواقع.
العلوم الشرعية
فالعلوم الشرعية منها ما هو فرض عين، "يتعين" على كل مسلمٍ ومسلمةٍ أن يتعلموه، ويأثمون بتركه، وذلك مثل العلم بالله تعالى على سبيل الإجمال، كالعلم بأنه سبحانه عليمٌ وخبيرٌ وقادرٌ على كل شيء، وأنه خالقٌ ورازقٌ ورحيمٌ وكريمٌ وغير ذلك.
وأيضًا مثل العلم بأمور الفقه الضرورية لأداء العبادات، فيتعلم المسلم كيف يتوضأ وكيف يصلِّي، وما هي نواقض الوضوء، وما هي نواقض الصلاة، وما الفرق بين الفرض والنافلة، وبين ما تصح الصلاة بدونه، وما لا تصح الصلاة إلا به، وأن يعرف الصيامَ وأحكامه، والزكاة وأحكامها، وأن يعرف أمور الحلال والحرام، وخاصة المشهور منها، والذي سمّاه العلماء "ما هو معلوم من الدين بالضرورة" كحرمة الزنا والخمر والخنزير والربا، وكذلك عليه أن يعرف رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ونبذة عن سيرته، وأيضًا يعرف القرآن وكيف يُتلى، ويعرف عن الساعة ويوم القيامة إجمالاً، وكذلك عن الجنة والنار وهكذا.
ومن العلوم الشرعية ما هو فرض كفاية على بعض علماء الأمة وليس مفروضًا على بقية المسلمين، مثل دقائق علم العقيدة، ودقائق الفقه مثل فقه المواريث، ودقائق فقه التجارة لغير التجار، وكيفية حساب الزكاة في الاحتمالات المختلفة، ودقائق الاقتصاد لغير الاقتصاديين، ودقائق تفسير القرآن، وأسباب النزول، وتفاصيل حياة الرسول وحياة أصحابه، وتخريج الأحاديث، والعلم برواتها، ودرجاتهم من حيث الجرح والتعديل، وتفاصيل التاريخ الإسلامي، وفنون اللغة ودقائقها [3].
فهذه العلوم هي من فروض الكفاية، والتي وجب على الأمة أن توجد طائفة من أفرادها ليقوموا بالخوض فيها، وإتقانها والتبحر فيها والتمكن منها، والقدرة على معرفة كافة أطرافها ودقائقها، وهو مصداق قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
وإذا لم توفر الأمة هؤلاء العلماء، وكانت تعاني مثلاً- نقصًا في علماء التفسير أو علماء الفقه أو الحديث أو غيره، فإن الأمة جميعها تأثم إلى أن توفر هذه الطائفة.
العلوم الحياتية
والأمر هو نفسه بالنسبة للعلوم الحياتية، فمنها ما هو فرض عين، "يتعين" على كل مسلمٍ ومسلمةٍ أن يتعلموه، ويأثمون بتركه، ومنها ما هو فرض كفاية، إن قام به البعض سقط عن الجميع.
فمثلًا: علم الطب يُعد فرض عينٍ على الطبيب، وعلم الهندسة يُعد فرض عينٍ على المهندس، وعلم الكيمياء فرض عينٍ على الكيميائي وهكذا. فإذا تعلم كل واحدٍ من هؤلاء مهنته وأتقنها وبرع فيها، ووصل إلى درجة من الابتكار وحل المشكلات في مجاله، وهكذا في كل تخصص، فإن الفرض يُكفى، وبذلك يسقط الإثم عن المسلمين.
أما إذا فشلت الأمة في إخراج عدد مناسب، وبكفاءة متميزة يكْفون حاجة المسلمين، فإن الإثم يقع على الأمة جميعًا؛ وذلك لفشلها في تحقيق ذلك الأمر [4]!!
وليس غريبًا بعد ذلك أن يكون من نتيجة ذلك الفشل أن تتخلف الأمة عن ركب الحضارة، وأن تكثر أزماتها ومشكلاتها، فضلا عن سقوطها في أعين غيرها من الأمم الأخرى، فتصبح وقد اقتادها غيرها، وقد أضحت فريسة سهلة للطامعين، فلا يُستبعد أن تنتهك سيادتها، وأن تحتل أرضها، وأن تسلب ثرواتها.. حتى تضيع تحت أقدام الغزاة!!
والشاهد من ذلك أن المرء المسلم واقع بين نوعين من العلوم يتعين عليه أن يتقنهما: الأول خاص بمعرفة دينه المعرفة التي توصله إلى العبادة الصحيحة كما ذكرنا سابقا، وهو ما لابد للجميع منه. والثاني خاص بمجال التخصص الذي هو فيه، أيًّا كان مجاله وطبيعة عمله. والذنب والإثم في كلٍ هو بحجم التقصير الذي يحصل.
ومن هذا المنطلق لا يستقيم لطالب رفعةٍ لهذه الأمة، وراجي التمكين لها في الأرض، أن يكون فاشلاً في مجاله، متخلفًا في صنعته أو في مهنته أو في علمه الذي وُكِّل به؛ إذ أن تقدم الأمة معتمدٌ على تقدمه، وتخلفها هو نتيجة لتخلفه.
مثال توضيحي للمسلم العالم
وعلى ذلك فإننا إذا أخذنا أحد المسلمين كمثال توضيحي، فإننا نقول:
لو أن هناك اقتصاديًّا متخصصًا من المسلمين، فإنه يتعين عليه أن يتعلم كيف يُصلِّي، وكيف يصوم، وكيف يزكِّي، وكيف يعتقد في ربه وفي رسوله وفي القرآن، وأن يعرف عن يوم القيامة والجنة والنار، كما سبق أن ذكرنا.
وفوق ذلك فيتعيَّن عليه أن يُتقن مجال الاقتصاد ويبرع فيه، ويبتكر الطرق الحديثة التي ترفع من اقتصاد الأمة وتُعْلي من شأنها ماديًّا، وعليه أيضًا أن يعرف الفقه الإسلامي الخاص بالاقتصاد، وحكم الإسلام في المعاملات الاقتصادية المختلفة، وحكمه في قضايا البنوك وشركات الاستثمار والتأمين والتوفير والقروض، وغير ذلك من الأمور التي تمس هذا الجانب بصورة مباشرة.
ولكن هذا الاقتصادي لا يتعين عليه ولا يلزمه أن يتعلم دقائق التفسير، أو يتعلم بنود الفقه المختلفة الخاصة بالطب، أو الخاصة بالحرب أو الخاصة بالزواج أو الطلاق أو الميراث؛ فهذا له متخصصون ومهتمون، تماما كما هو في تخصصه في مجال الاقتصاد.
كما أنه لا يلزمه أن يتعلم شيئًا عن الطب أو الهندسة أو الفلك أو الزراعة أو غيرها، إلا فيما يرتبط بعمله كاقتصادي..
وهكذا تتوزع كفاءات الأمة على الفروع المختلفة، وتسد الثغرات تباعًا.
الأمة الناجحة
ولا يستقيم لأمة ناجحة أن تتكدس فيها –مثلًا- طاقات فقهية، بينما تفتقر إلى علماء الطب أو الكيمياء، ولا يستقيم لأمة متكاملة أن يتكدس فيها جمعٌ غفيرٌ من القضاة، وهي تفتقر إلى علماء التاريخ، وهكذا.
وهذا دور الدولة الناجحة، أن ترقُب باستمرارٍ أوجه النقص، ومن ثم تسد الخلل وتحرص على تكميله.. كما أنه دور الأفراد في أن يتوجهوا إلى سد الثغرات المهمة والضعيفة، وألا يترك أصحاب التخصص منهم تخصصهم وينشغلوا بغيره من الأعمال التي لم يكلفوا أصلاً بأدائها، ولم توجب عليهم.
على أن الدور الأكبر والمسؤولية الضخمة في هذا الأمر تتحمله الدولة ممثلة في الحكومة، ولابد لها من أن تسعى لرفعة شعبها وإعزاز أمَّتها في كل المجالات، وهي غير معذورة في أي تقصير في هذا الأمر، كما أنه ليس هناك مبررٌ للبقاء في ذيل الأمم لسنوات وسنوات.
وهذا لا يعني -كما سبق أن أشرنا- إعفاء أنفسنا من المسئولية، فهذا مصير الأمة، وإننا -كأفراد- لدينا من المساحات الضخمة التي من الممكن أن نعمل فيها وننتج ونبرع الكثير والكثير.
فالطالب -مثلاً- في أي مراحله التعليمية بإمكانه ألا يكتفي بما هو مقررٌ عليه فقط، وخاصة إذا كان هذا المقرر على مستوى غير كافٍ، ومن ثم فيمكن أن يلجأ إلى المكتبات وإلى الشبكة العالمية (الإنترنت) وغيرها، مما يزيد من حصيلته العلمية في مقرراته الدراسية وفي مجال تخصصه.
فإذا كان طالبًا يكون طالبًا متفوقًا، وإذا كان أستاذًا أو معلمًا يكون معلمًا متقنا ومبدعًا، وإذا كان مهندسًا يكون على أعلى درجة وأمكن معرفة بمجال عمله وهندسته، وهكذا، والمطلوب هو بذل الجهد كلٌ في مجاله قدر المستطاع.
وحين يكون الالتزام بذلك، وحين لا يكون مبلغ علم الجميع وأقصى أمانيهم هو فقط الحصول على شهادة في كذا أو كذا، حينها يسود جوٌ عام من حب العلم، فيصبح البلد أو الإقليم وقد اتخذ وجهة العلم قبلة له، شاء في ذلك أم أبى أصحاب اتخاذ القرار وصُنَّاعه!!
بل إن السياسيين حينذاك سيجدون أنهم مضطرون إلى أن يسايروا تلك الموجة العلمية، ويكونون من ركْبها، تماما كما يسايرون الموجة الدينية -رغم أن الكثيرين منهم ليست لهم ميول دينية أصلًا- فتراهم -مثلاً- يُقيمون المسابقات الدينية، ويحضرون الاحتفالات الموسمية، ويهبون الجوائز على حفظ القرآن الكريم.. وذلك طالما كان هناك جو عام من الاهتمام بالدين.
فكذلك إذا كانت هناك ثورة علمية، وأصبح العلم شغل الأفراد ومصب اهتماماتهم، حينها ستجد السياسي –مثلاً- الذي يريد أن ينجح في الانتخابات، تراه يضع في برنامجه الانتخابي الاهتمام بالمؤسسات العلمية، والعمل على إنشاء الجديد منها والمزيد، وزيادة ميزانية الدولة في هذا الجانب. وعليه فلن تجد اهتماماته متجهةً فقط إلى الطعام والشراب، وما إلى ذلك، وإنما يكون جل اهتماماته هو همّ الأمة الأول وشغلها الشاغل، وهو يومئذ العلم وقضايا التعليم!!
ولو قامت الأمة الإسلامية بدورها في هذا المجال (الاهتمام بالتوازن بين العلوم والربط بين العلم الشرعي والعلم الحياتي) حكومة وشعبًا، جماعات وأفرادًا، ما افتقرت أبدًا إلى غيرها، ولقامت معتمدة على سواعد أبنائها، وهذا -ولاشك- يرفع من قيمتها ويعز شأنها.
مواضيع مماثلة
» * العلوم العربية قبل الإسلام - الفيزياء العربية - تقنية الشفاء الذاتي - قانون الجذب
» * اغتيال العلماء العرب والمسلمين إسرائيل المتهم والمستفيد الأول - اغتيال العلماء العراقيون.
» * مآخذ أعداء الإسلام بشأن المرأة: : الطلاق في الإسلام:
» * الرقم 7 الذي حير العلماء
» * علم الوراثة -الـخلية-السيتوبلازم-النظرية والروابط الخلوية- أنواع الخلايا
» * اغتيال العلماء العرب والمسلمين إسرائيل المتهم والمستفيد الأول - اغتيال العلماء العراقيون.
» * مآخذ أعداء الإسلام بشأن المرأة: : الطلاق في الإسلام:
» * الرقم 7 الذي حير العلماء
» * علم الوراثة -الـخلية-السيتوبلازم-النظرية والروابط الخلوية- أنواع الخلايا
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى