* دعوى تعارض الأحاديث في حكم مرتكبي الكبائر وعصاة الموحدين ومصيرهم
صفحة 1 من اصل 1
* دعوى تعارض الأحاديث في حكم مرتكبي الكبائر وعصاة الموحدين ومصيرهم
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين تعارض الأحاديث الواردة بشأن مرتكبي الكبائر وعصاة الموحدين؛ حيث جاءت بعض الأحاديث تحكم بدخول هؤلاء العصاة الجنة وإن ماتوا دون توبة، ولم يفعلوا خيرا قط في حياتهم، وأن ارتكاب الكبائر لا يؤثر في الإيمان، على حين أن بعض الأحاديث الأخرى قطعت بعدم دخول أصحاب المعاصي ومرتكبي الكبائر الجنة، كما أفادت بأنهم قد يصلون إلى حد الكفر، والتخليد في النار بهذه الذنوب.
ويستدلون على ذلك بمجموعة من الأحاديث، منها:
· قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق....»الحديث.
· قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار رجل في قلبه مثقال ذرة من إيمان».
قوله صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة»، ونحو ذلك من الأحاديث التي جاءت في دخول أهل الكبائر والعصاة الجنة لمجرد موتهم على التوحيد.
ويزعمون أنها تناقض ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يفيد دخول هؤلاء النار، ووصولهم إلى حد الكفر والتي منها:
o قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة قاطع رحم».
o قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة نمام».
o قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...».
قوله صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع حق امرئ مسلم فقد أوجب الله تعالى له النار، وقد حرم عليه الجنة، فقال له الرجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك».
قوله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر».
ويتساءلون أليس هذا تناقضا بينا بين الأحاديث النبوية، وكيف يمكن لنا قبول هذه الأحاديث على ما فيها من هذا التعارض الشديد.
رامين من وراء ذلك إلى هدم السنة النبوية، وتشكيك المسلمين في عقائدهم وثوابتهم.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن الأحاديث النبوية الواردة في حكم مرتكبي الكبائر وعصاة الموحدين لا تعارض بينها ولا تناقض؛ إذ اتفقت كلمة أهل السنة وعلماء السلف - رغم اختلاف الفرق والمذاهب في هذه المسألة - على أن أصحاب الكبائر والعصاة من أهل التوحيد أمرهم في الآخرة إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، ولا يخرجون من الإيمان بكبائرهم، ولا يخلدون في النار إذا دخلوها، ومصيرهم في النهاية إلى الجنة، وبهذا الفهم القويم تتفق الأحاديث وتتكامل وينتفي ما توهم فيها من تعارض.
2) إن لأهل العلم ومحققي السنة آراء واحتمالات وتأويلات صحيحة في الأحاديث التي توهم المغرضون تعارضها، والتي تفيد بأن أصحاب المعاصي والكبائر تحرم عليهم الجنة ولا يدخلونها ومصيرهم إلى النار، فأولوا ذلك بأن هذه الأحاديث إما محمولة على من يستحل هذه المعاصي ولا يعتقد تحريمها، أو أنها محمولة على بعض الجنان دون بعض، أو أن هذه الأحاديث من باب الوعيد الذي يقف تنفيذه على شرط مشيئة الله، فيغفر لمن يشاء ويرحم من يشاء.
التفصيل:
أولا. اتفاق علماء السنة على أن مرتكبي الكبائر وعصاة الموحدين أمرهم في الآخرة إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، ولا يخلدون في النار ألبتة:
لقد جاء الإسلام دينا قويما شاملا لكل جوانب الخير والنفع للإنسان في عاجل أمره وآجله، وحرص كل الحرص على أن يتحقق التوحيد الخالص عند المرء المسلم، وأن يكون مثالا للتقوى، ونموذجا للاستقامة، ومن هنا خط له الطريق وأوضح له السبيل، وبين له طريق الهداية والرشاد، ووضح له طريق الغواية والضلال، وحذره من الشرور، وحثه على فعل الخيرات، وإقامة الحدود، وأقيمت العقوبات، وخطت الجزاءات، فكانت النار جزاء للعصاة والكافرين، وكانت الجنة ثوابا للطائعين الموحدين.
وعلى هذا ترددت أعمال المرء في حياته بين الصواب والخطأ، والطاعة والمعصية، إما أن يقترب من طريق الهداية (الإيمان)؛ فيتحقق له الخير والنجاة، وإما أن يقترب من طريق الغواية والضلال (الكفر)، فيزل في سبل الضلال والهلاك.
وهكذا تتنوع أعمال المسلم بين صغائر ملمات، وكبائر مهلكات، والصغائر تكفرها الطاعات والأعمال الصالحات، كما جاءت بذلك الأخبار والروايات.
قال تعالى: )إن الحسنات يذهبن السيئات( (هود: ١١٤(، وقال أيضا: )إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم( (النساء: ٣١)، وكما قال: )الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة( (النجم: ٣٢).
وقال صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر»[1].
وعلى هذا فصغائر الذنوب أمرها يهون إذا قرنها الاستغفار، ولحقتها الصلاة، وإقامة الطاعات والخيرات.
أما كبائر الذنوب: فالحديث حولها أثار جدلا وخلافا، وتنوعت فيها الآراء، واختلفت فيها المذاهب، وتضاربت فيها الأقوال، وهدى الله فيها أهل الحق إلى الحق بإذنه، على نحو ما سنذكر بإذن الله.
فما مصير صاحب الكبيرة إذن؟ هل هو من أصحاب النار المخلدين فيها؟ أم من أصحاب الجنة المنعمين فيها؟ وكيف يعاقب على ذنوبه ويلقى جزاء عصيانه في الآخرة؟ وهل يفارق الإيمان بمعصيته ويصبح من الكافرين؟ أم هو بها لا يزال من المؤمنين الموحدين؟.
تساؤلات عدة واستفهامات مترددة حاول كثير من العلماء - على اختلاف مذاهبهم - الإجابة عنها، وتحديد الصواب فيها، وذلك على ما جاءت به الأحاديث في هذا الشأن، فاختلفت الآراء وتفرقت المذاهب، وهدى الله أهل السنة من بينهم إلى الجمع بين الأحاديث، ونفي التعارض عنها، والتوفيق إلى القول الحق في هذه المسألة.
مذاهب الناس في حكم مرتكبي الكبيرة وعصاة الموحدين:
ذهب العلماء في حكم مرتكبي الكبائر والعصاة من الموحدين مذاهب شتى، واتخذوا فيها مواقف مختلفة وأراء متعددة، وخرج كثير منهم فيها عن حد الاعتدال، فذهبت الخوارج إلى أن مرتكب الكبيرة خالد مخلد في النار؛ قد خرج عن الإيمان، وفارق الإسلام. وذهبت المرجئة والجهمية إلى أنه مؤمن في أعلى درجات الإيمان ما دام على التوحيد مصدقا بها قلبه؛ بمعنى: أنه لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. وقالت المعتزلة: إنه في منزلة بين المنزلتين، لا هو بمؤمن ولا هو بكافر.
وقد توسط أهل السنة بين هذه المذاهب جميعا، فحكموا بأن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وفعل الخيرات، وينقص بالمعاصي وفعل المنكرات، فهم لا ينفون عن مرتكب الكبيرة اسم الإيمان على الإطلاق، ولا يعطونه على الإطلاق، فهو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ومصيره في الآخرة إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، إلا أنه لا يخلد في النار إذا دخلها، وإنما يخرج منها إلى الجنة مهما طال به المقام ما دام أنه مات على أصل الإيمان، وهو الإقرار بأنه لا إله إلا الله تصديقا بالجنان ونطقا باللسان.
وهذا ما أكد عليه الإمام ابن تيمية عند حديثه عن هذه المسألة، فقال: "الناس في الفاسق من أهل الملة - مثل الزاني والسارق والشارب ونحوهم - ثلاثة أقسام: طرفين ووسط، أحد الطرفين: أنه ليس بمؤمن بوجه من الوجوه، ولا يدخل في عموم الأحكام المتعلقة باسم الإيمان، ثم من هؤلاء من يقول: هو كافر كاليهودي والنصراني، وهو قول الخوارج، ومنهم من يقول: ننزله منزلة بين المنزلتين، وهي منزلة الفاسق، وليس هو بمؤمن ولا كافر، وهم المعتزلة، وهؤلاء يقولون: إن أهل الكبائر يخلدون في النار، وإن أحدا منهم لا يخرج منها، وهذا من مقالات أهل البدع التي دل الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان على خلافها...
والطرف الثاني: قول من يقول: إيمانهم باق كما كان لم ينقص، بناء على أن الإيمان هو مجرد التصديق والاعتقاد الجازم وهو لم يتغير، وإنما نقصت شرائع الإسلام، وهذا قول المرجئة والجهمية ومن سلك سبيلهم، وهو - أيضا - قول مخالف للكتاب والسنة وإجماع السابقين والتابعين لهم بإحسان... فالقول الوسط الذي هو قول أهل السنة والجماعة أنهم لا يسلبون الاسم على الإطلاق ولا يعطونه على الإطلاق، فنقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ويقال: ليس بمؤمن حقا، أو ليس بصادق الإيمان"[2].
كما نقل الإمام أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة موقفهم في هذه المسألة فقال: "ولا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون، وإن ارتكبوا الكبائر... ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ولا يقولون: مخلوق ولا غير مخلوق، ويقولون: أسماء الله هي الله، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون الله - سبحانه وتعالى - ينزلهم حيث شاء، ويقولون: أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، ويؤمنون بأن الله - سبحانه وتعالى - يخرج قوما من الموحدين من النار على ما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"[3].
وهذا ما أكد عليه الإمام الطحاوي بقوله: "وأهل الكبائر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهو موحدون، وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين، وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم، وعفا عنهم بفضله، كما ذكر - عز وجل - في كتابه: )ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء( (النساء: ٤٨)، وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا من ولايته"[4].
هذه هي آراء العلماء وأصحاب الفرق والمذاهب في حكم مرتكبي الكبائر وعصاة الموحدين ومصيرهم في الآخرة، ويبرز فيها رأي أهل السنة رأيا وسطا معتدلا لا إفراط فيه ولا تفريط، حيث يجمع كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ويوفق بينه في حسن فهم واكتمال بيان، وبهذا الفهم الواعي والرأي الراجح تظهر الأحاديث النبوية الصحيحة الواردة في هذا الباب حول مرتكب الكبيرة لا تعارض بينها ولا تناقض؛ لأن الإنسان ما دام لديه أصل الإيمان، ومات على كلمة التوحيد قولا باللسان وتصديقا بالجنان، فهو لا يخرج من دائرة الإيمان وإن ارتكب كل الآثام، وإنما هو مؤمن عاص، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته لا يخلد في النار يوم القيامة إذا دخلها، وأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
وقد استدل أهل السنة على موقفهم هذا بأدلة كثيرة منها:
ما جاء في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وحوله عصابة من أصحابه: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه، فبايعنا على ذلك»[5].
فهذا الحديث دليل على أن أصحاب الذنوب والعصاة أمرهم في الآخرة مردود إلى الله إن شاء عفا عنهم، وإن شاء عذبهم على قدر ذنوبهم، إلا أنهم لا يخلدون في النار بهذه الكبائر التي فعلوها.
ومنها ما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا، فيلقون في نهر الحيا - أو الحياة، شك مالك [6]ـ فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية؟»[7].
وكذلك ما جاء عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير»، قال أبو عبد الله: قال أبان: حدثنا قتادة، حدثنا أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم «من إيمان» مكان «من خير»[8].
فهذان الحديثان - وما جاء في معنيهما - من الأدلة القاطعة على أنه لا يخلد في النار موحد، فيعذب العصاة في النار على قدر ذنوبهم ما شاء الله لهم أن يعذبوا، ثم يخرجون من النار في حين من الأحيان، ويدخلون الجنة، ولا يخلدون في النار ما داموا على التوحيد، بل يخرجون منها برحمة أرحم الرحمين ثم بشفاعة الشافعين. والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وهذا ما يؤكده قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله؛ فإنه من كان آخر كلمته لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنة يوما من الدهر، وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه»[9].
وهذا مقام يطول الحديث فيه ويعظم تفصيله إلا أننا نخرج من هذا العرض بأن عصاة الموحدين وأصحاب الكبائر لا يخرجون من دائرة الإيمان بمعاصيهم، ولا يخلدون في النار إذا دخلوها، وإنما هم مؤمنون ناقصو الإيمان، أمرهم إلى الله في الآخرة، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، ثم يدخلون الجنة ما دام لديهم أصل الإيمان وكلمة التوحيد، وإن لم يفعلوا من الطاعات شيئا، وبهذا يرتفع التعارض المتوهم في أحاديث هذا الباب، فهم بتوحيدهم مستحقون الجنة وبمعاصيهم وكبائرهم يعذبون في النار بمشيئة الله عز وجل.
ثانيا.الأحاديث الصحيحة التي استدل بها المتوهمون لا تعارض فيها ولا تناقض، ولأهل العلم أقوال وتأويلات صحيحة فيها:
إن الأحاديث التي استدل بها هؤلاء المتوهمون على أنها متعارضة متضاربة - عند التحقيق فيها، ومطالعة آراء أهل العلم وعلماء السنة حولها نجد أنها متفقة مترابطة تمام الترابط لا تعارض فيها ولا اضطراب.
فقد ذكر العلماء توجيهات عديدة للأحاديث التي نصت على دخول أصحاب الكبائر وعصاة الموحدين النار وعدم دخولهم الجنة، والتي منها:
· ما روي عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة قتات»[10][11]، وفي رواية: «نمام».
· وحديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:«من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك»[12].
· وحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام»[13].
· وحديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة قاطع رحم»[14].
· وحديث أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل نفسا معاهدة بغير حقها فقد حرم الله - عز وجل - عليه الجنة أن يشم ريحها»[15].
إلى غير ذلك من الأخبار والأحاديث التي جاءت في هذا المعنى وذلك السياق، والتي تبدو متعارضة مع الأحاديث التي جاء فيها دخول أصحاب الكبائر والعصاة الجنة ما داموا على التوحيد، وإن لم يفعلوا خيرا قط. ومن هذه الأحاديث:
o قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان»[16].
o وقوله صلى الله عليه وسلم: «من مات يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صادقا من قلبه دخل الجنة»[17].
o وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال:«أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر»[18].
لقد أجاب العلماء عن هذا التعارض المتوهم وردوه، وجمعوا بين هذه الأحاديث، فإن أصحاب الكبائر والمعاصي من أهل التوحيد يدخلون الجنة ولا يخلدون في النيران إذا دخلوها، على نحو ما ذكرنا في الوجه الأول.
أما الأحاديث التي ذكرت أن هؤلاء العصاة لا يدخلون الجنة، بل تحرم عليهم، فقد ذكر العلماء لها عدة توجيهات من أهمها:
· أنها محمولة على من يستحل هذه الكبائر مع علمه بالتحريم، فهذا كافر مخلد في النار، ولا يدخل الجنة أصلا، بل يكون في حكم المرتد، ويقتل حدا إن أصر على فعله مع علمه التام به.
· أنها محمولة على أن مرتكب الكبيرة جزاؤه أن لا يدخل الجنة وقت دخول الفائزين إذا فتحت أبوابها لهم، بل يؤخر عنهم، ويدخل في مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
· أن هذه النصوص من باب الوعيد الذي توعد الله به عباده، وأن هذا الوعيد جزاء مرتكب الكبيرة حقا، إلا أن الله تكرم عليه، وأخبر أنه لا يخلد في النار موحد في قلبه مثقال ذرة من خير[19].
وعلى هذا فإذا كان أصحاب هذه المعاصي والكبائر مستحلين لها، ولا يعتقدون تحريمها وماتوا على هذا، فهم بهذا لا يدخلون الجنة، ويخلدون في النار؛ لأنهم بهذا كافرون أصلا، أما الذين لا يستحلون هذه المعاصي من أهل التوحيد، فهم بإذن الله مستحقون الجنة وإن عذبوا في النار، وأمرهم في مشيئة الله.
وقد تكون هذه الأحاديث من باب الوعيد، كما يقول الشيخ صالح آل الشيخ:
"دخول أهل الكبائر في النار، هذا وعيد، وهذا الوعيد يجوز إخلافه من الرب؛ وذلك أن مرتكب الكبيرة إذا تاب في الدنيا تاب الله عليه، وإذا طهر بحد أو نحوه كتعزير فإنه يكون كفارة له.
فإذا يكون مرتكب الكبيرة من أهل الوعيد إلا في حالات:
· الحال الأولى: أن يكون تائبا كما ذكرنا لك؛ لأن التوبة تجب ما قبلها، قال الله تعالى في آخر سورة الزمر: )قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا( (الزمر:٥٣) وقد أجمع أهل التأويل والتفسير: أنها نزلت في التائبين، فمن تاب تاب الله عليه، فلا يلحق التائب وعيد؛ لأنه قد محيت عنه زلته وخطيئته بالتوبة.
· الحال الثانية: أن يطهر من تلك الكبيرة إما بحد كمن شرب الخمر مثلا فأقيم عليه الحد، فهو طهارة وكفارة له، وكذلك من قتل مسلما فقتل، أو من قتل مسلما خطأ فدفع الدية، فإن هذا كفارة له، أو سرق فقطعت يده فهو كفارة له، أو قذف فأقيم عليه حد القذف فهو كفارة له، أو زنى إلى آخره، أو كان تعزيرا أيضا فإنه طهارة.
يعني أن ما يقام على المسلم من حد أو تعزير من عقوبة في الدنيا فإنها من جنس العقوبة في الآخرة تطهره من هذا الذنب.
· الحال الثالثة: بعض الذنوب الكبائر تكون لها حسنات ماحية، مثل الصدقة في حق القاتل، قال عز وجل: )فمن تصدق به فهو كفارة له( (المائدة:٤٥)، ومثل الجهاد العظيم فإنه ينجي من العذاب الأليم، قال سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم (10) تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (11)( (الصف)، والعذاب الأليم هو لمن فعل الكبيرة؛ لأنه وعيد شديد.
· الحال الرابعة: أن يغفر الله - عز وجل - له ذلك لأسباب متعددة...
· الحال الخامسة: أن يغفر الله - عز وجل - له بعد أن صار تحت المشيئة... إن شاء الله غفر لهم، وإن شاء عذبهم في النار، ثم يخرجون لا يخلدون"[20].
كما يشترط لعدم خلود من لم يغفر له ممن لم يتب عن الكبائر والمعاصي في النار شرطان، وهما:
o أن يكون مات على التوحيد، فهو شرط عام في دخول الجنة، وعدم الخلود في النار، فكل موحد لابد أن يخرج من النار.
o أن لا يكون مستحلا لهذه الكبيرة، فقد يكون موحدا في الأصل، ويكون من جهة أخرى مستحلا لكبيرة بعينها، فهو بهذا يخرج عن أهل الإيمان؛ لأن حقيقة الموحد هو أنه غير مستحل لشيء من محارم الله عز وجل.
وهذا بقيد: أن تكون الكبيرة مما أجمع على تحريمه، وأن يكون المستحل لها غير متأول[21].
وعلى هذا يزول التعارض المتوهم في الأحاديث، فالذي تحرم عليه الجنة ويخلد في النار من العصاة ومرتكبي الكبائر، هم الذين يستحلون هذه الذنوب، ويعتقدون عدم تحريمها، أو أن الأمر من باب الوعيد الذي توعد الله به - العصاة، وهذا الوعيد هو جزاؤهم الذي يستحقونه إلا أن الله تكرم عليهم، وأخبر بأنه سيغفر لهم، ويخرجهم من النار ويدخلهم الجنة بعد دخول الداخلين.
وقد علق الإمام النووي على حديث: «من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة»[22] قائلا: "وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخل الجنة أولا، وإن كان صاحب كبيرة مات مصرا عليها، فهو تحت المشيئة، فإن عفي عنه دخل أولا، وإلا عذب، ثم أخرج من النار وخلد في الجنة."[23].
وقد ذكر الإمام ابن خزيمة أن هذه الأخبار التي جاءت في أن أصحاب الكبائر والمعاصي لا يدخلون الجنة، ويحرمون عليها؛ إنما هي على أحد معنين:
"أحدهما: لا يدخل الجنة؛ أي بعض الجنان، إذ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعلم أنها جنان في جنة، واسم الجنة واقع على كل جنة منها، فمعنى هذه الأخبار التي ذكرنا: من فعل كذا لبعض المعاصي حرم الله عليه الجنة، أو لم يدخل الجنة، معناها: لا يدخل بعض الجنان التي هي أعلى وأشرف وأنبل وأكثر نعيما وسرورا وبهجة وأوسع، لا أنه أراد: لا يدخل شيئا من تلك الجنان التي هي في الجنة...والمعنى الثاني: ما قد أعلمت أصحابي ما لا أحصي من مرة: أن كل وعيد في الكتاب والسنة لأهل التوحيد؛ فإنما هو على شريطة؛ أي: إلا أن يشاء الله أن يغفر ويصفح ويتكرم فلا يعذب على ارتكاب تلك الخطيئة؛ إذ الله - عز وجل - قد أخبر في محكم كتابه أنه قد يشاء أن يغفر ما دون الشرك من الذنوب في قوله تعالى: )إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء( (النساء:٤٨)[24].
نخلص من هذه الآراء والأقوال إلى أن الأحاديث النبوية التي جاءت في حكم عصاة الموحدين، وأصحاب الكبائر لا تعارض بينها ولا تناقض، بل هي متوافقة متكاملة، وما توهم منه أنه شديد التعارض إنما هو محمول على عدة معان مقبولة عند أهل العلم، منها أن يكون صاحب المعصية مستحلا لمعصيته، أو أن هذه الأحاديث من باب الوعيد المشروط بمشيئة الله تعالى أن يغفر ويصفح ويتكرم فلا يعذب من مات على التوحيد، أو أنها محمولة على بعض الجنان دون بعض، أو لا يدخلون الجنة في أول الداخلين. وكلها تفسيرات مقبولة صحيحة يرتفع معها التعارض المتوهم في الأحاديث، وتذهب أوهام المغرضين أدراج الرياح.
وقد وردت أحاديث تفيد أن مرتكب الكبيرة قد يصل إلى مرحلة الكفر - وهو ما يوهم منه تأييد مذهب المعتزلة والخوارج - ومنها بعض الأحاديث التي تعارض الأحاديث التي مرت آنفا، مثال ذلك: ما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن»[25]، وما ورد عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»[26].
فكما يفهم من النصين: أن مرتكب إحدى الكبائر ليس بمؤمن، والحديث الثاني نص على أن قتال المسلم كفر، والقتال كبيرة من الكبائر، فعلى هذا مرتكب الكبيرة كافر، وهو ما يفهم من أن الكفر هو الارتداد؛ لقول الله تعالى: )إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء( (النساء: ٤٨).
فما المقصود بالحديثين عند ذلك، وكيف نفهمهما؟
بالنسبة للحديث الأول فقد جاء حل إشكاله في ألفاظه، وهو قوله: «حين يزني»، وقوله: «حين يسرق»؛ أي في لحظة الزنى، وفي لحظة السرقة، لا أن مسمى الإيمان يزول عنه كليا وينتقل إلى مسمى الكفر، فإن هذا لا يكون إلا باستحلال فاعل ذلك لما يصنع.
ويصدق هذا التفسير ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا زنى الرجل خرج منه (عنه) الإيمان كان عليه كالظلة، فإذا انقلع (أقلع) رجع إليه الإيمان»[27]، أما قوله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» فيجب ألا يحمل على ظاهره، ولا سيما إذا كان قتاله متأولا، وليس مستحلا له[28].
قال الحافظ ابن حجر: "قوله: «وقتاله كفر» إن قيل: هذا وإن تضمن الرد على المرجئة، لكن ظاهره يقوي مذهب الخوارج الذين يكفرون بالمعاصي. فالجواب: إن المبالغة في الرد على المبتدع اقتضت ذلك، ولا متمسك للخوارج فيه؛ لأن ظاهره غير مراد، لكن لما كان القتال أشد من السباب - لأنه مفض إلى إزهاق الروح - عبر عنه بلفظ أشد من لفظ الفسق وهو الكفر، ولم يرد حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملة، بل أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير، معتمدا على ما تقرر من القواعد أن مثل ذلك لا يخرج عن الملة، مثل حديث الشفاعة، ومثل قوله: )إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء( (النساء: ٤٨)... أو أنه أطلق عليه الكفر لشبهه به؛ لأن قتال المؤمن من شأن الكافر.
وقيل: المراد هنا الكفر اللغوي وهو التغطية، لأن حق المسلم على المسلم أن يعينه وينصره، ويكف عنه أذاه، فلما قاتله كان كأنه غطى على هذا الحق...
ومثل هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض»[29] ففيه هذه الأجوبة، ونظيره قوله تعالى: )أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض( (البقرة: 85) بعد قوله: )ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم( (البقرة: ٨٥) فدل على أن بعض الأعمال يطلق عليه الكفر تغليظا.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم: «لعن المسلم كقتله»[30] فلا يخالف هذا الحديث، لأن المشبه به فوق المشبه، والقدر الذي اشتركا فيه بلوغ الغاية في التأثير: هذا في العرض، وهذا في النفس"[31].
إذا فصرف الحديث عن ظاهره ليس من باب التشهي، أو تأييد مذهب معين، بل لما تقتضيه محكمات الآيات، ومتواترات الأحاديث، فما كان من متشابه يرد إلى المحكم؛ ليفهم على ضوئه، والحديث من النوع المتشابه الذي يفهم مع ضمه للأحاديث الأخرى الكثيرة المحكمة. وبديهي أن الله لا يغفر الكفر، إذا اقتضى أن يكون المراد بالكفر ليس كفر الردة.
ولزيادة التوضيح أنقل هذه الفقرات عن أحد علماء السلف، وهو أبو القاسم عبيد بن سلام إذ قال: وإن الذي عندنا في هذا الباب كله أن المعاصي والذنوب لا تزيل إيمانا، ولا توجب كفرا؛ ولكنها إنما تنفي من الإيمان حقيقته وإخلاصه الذي نعت الله به أهله.
وقال: وأما الآثار المرويات بذكر الكفر والشرك ووجوبهما بالمعاصي، فإن معانيهما عندنا لا تثبت على أهلها كفرا ولا شركا يزيلان الإيمان عن صاحبه، إنما وجوهها أنها من الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركون.
وقال: وأما الفرقان الشاهد عليه في التنزيل فقوله عز وجل: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)( (المائدة)، وقال ابن عباس رضي الله عنه: "ليس بكفر ينقل عن الملة"[32].
وقد بين ابن منده أن هذا القتال كفر لا يبلغ به الشرك، فقال: ذكر ما يدل على أن مواجهة المسلم بالقتال أخاه كفر لا يبلغ به الشرك والخروج من الإسلام، ثم روى حديثا عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»[33].
فالحديث سمى القاتل والمقتول مسلمين، ولهذا ترجم ابن منده بقوله الذي مر آنفا"[34].
وقد ترجم البخاري عند روايته هذا الحديث فقال: باب: )وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما( (الحجرات: ٩)، فسماهم المؤمنين، وغرض البخاري الرد على من يكفر المسلم بالمعصية.
فالمؤمن إذا ارتكب معصية لا يكفر، بدليل إبقاء المولى - عز وجل - اسم المؤمن؛ فقال تعالى: )وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا(، وقال تعالى: )إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10)( (الحجرات)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما» فسماهما مسلمين مع التوعد بالنار[35].
وبهذا التفصيل يتضح أنه لا تعارض بين الأحاديث الواردة في حكم مرتكب الكبيرة، وأن الفهم الصحيح لمعاني الأحاديث وفق مبادئ التشريع الإسلامي، وفي ضوء النصوص الصريحة الصحيحة يحبط أي محاولة لنزع الثقة في السنة. وينفي هذا الطعن بالتعارض بين الأحاديث السابقة، ويكون الصواب أن مرتكب الكبيرة لا يكفر بكبيرته، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، إلا أن يتوب، وإذا مات على ذلك ودخل النار فإنه لا يخلد في النار.
الخلاصة:
· لقد حرص الدين الإسلامي كل الحرص على حفظ كلمة التوحيد وحمايتها من صنوف البدع، وخرافات الشرك، وأوهام الضلال، وحرم كل ما يخالف مقتضيات هذه الكلمة أو ينحرف عنها، ومن هنا وضعت الحدود وأقيمت العقوبات لكل من يخالف هذه الكلمة والخروج عن أمر الله - عز وجل - ونهيه.
· تتنوع معاصي الإنسان وذنوبه بين صغائر ملمات وكبائر مهلكات، فالصغائر تكفرها الطاعات والعبادات، والأعمال الصالحات وملازمة الاستغفار، أما الكبائر فتكفرها التوبة، وإقامة الحدود، ولا تخرج صاحبها من الملة ما دام لديه أصل الإيمان، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إقرارا باللسان وتصديقا بالجنان.
· اختلفت الفرق والمذاهب الإسلامية في حكم مرتكب الكبائر والعصاة اختلافا كبيرا، وقام بينهم جدال حول هذه المسألة، فمن قائل: إن مرتكبي الكبيرة خالد مخلد في النار، ومن قائل: إنه في منزلة بين المنزلتين، لا هو بمؤمن ولا كافر، ومن قائل: إنه مؤمن في أعلى درجات الإيمان، فلا تضر مع الإيمان معصية، وكلها آراء مخالفة للكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
· لقد اتفقت كلمة أهل السنة والجماعة وعلماء السلف على أن مرتكبي الكبائر من عصاة الموحدين لا يخرجون عن الإيمان ولا يكفرون بمعاصيهم، وإنما هو مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته؛ لأن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وأمرهم في الآخرة إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، إلا أنهم لا يخلدون في النار مهما طال بهم المقام، ويخرجون منها يوما من الأيام ما داموا على التوحيد.
· إن هذا الفهم الصحيح لأهل السنة في حكم مرتكبي الكبائر وعصاة الموحدين ينفي عن الأحاديث النبوية التي جاءت في هذا الباب ما توهم فيها من تعارض، بل تتكامل فيها الأحاديث وتتفق تمام الاتفاق، فأصحاب الكبائر بتوحيدهم مستحقون الجنة، وبمعاصيهم وكبائرهم يعذبون في النار ما شاء الله أن يعذبوا ثم يدخلون الجنة، وإن شاء الله غفر لهم ابتداء ورحمهم من عذاب النار.
· إن الأحاديث التي جاء فيها أن أصحاب الكبائر يدخلون النار، وتحرم عليهم الجنة محمولة على معان عدة منها: أن يكون صاحب الكبيرة مستحلا لها لا يعتقد تحر يمها، مع علمه بالتحريم، فهو بهذا يصبح من الكافرين، ولا يدخل الجنة أبدا، أو أن هذا الأحاديث من باب الوعيد الذي توعد الله به العاصين، وهذا الوعيد مشروط بمشيئة الله تعالى، إن شاء عذب وإن شاء رحم وغفر، وقد وعد الله تعالى بمغفرة جميع الذنوب إلا الشرك، فقال تعالى: )إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء( (النساء:١١٦). أو أنها محمولة على بعض الجنان دون بعض، فلا يدخلون الجنة الأعلى منزلة والأشرف مكانا. أو أنها محمولة على عدم دخولهم الجنة في أول الداخلين، وكلها تفسيرات مستقيمة مقبولة يرتفع معها التعارض المتوهم في الحديث.
· إن الأحاديث التي تفيد أن مرتكب الكبيرة قد يصل إلى مرحلة الكفر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...» ليس المقصود بها نفي الإيمان، كما أن الحديث جاء بلفظ: "حين" أي ينفي عنه الإيمان في حال الزنا والسرقة والمعصية فقط، لا ينفي عنه الإيمان كلية.
· إن الحديث الذي جاء فيه «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»لا يحمل فيه لفظ الكفر على ظاهره - أي الخروج عن الإيمان - وإنما هو من باب المبالغة في العقاب والتحذير؛ لعظم الذنب، مع العلم أنه يرد إلى القواعد الثابتة بأن هذا الفعل لا يخرج من الملة وإنما أطلق عليه كفر؛ لأن قتال المؤمن من شأن الكافر، أو أنه - أيضا - محمول على من يستحل هذه الذنوب.
يدعي بعض المغرضين تعارض الأحاديث الواردة بشأن مرتكبي الكبائر وعصاة الموحدين؛ حيث جاءت بعض الأحاديث تحكم بدخول هؤلاء العصاة الجنة وإن ماتوا دون توبة، ولم يفعلوا خيرا قط في حياتهم، وأن ارتكاب الكبائر لا يؤثر في الإيمان، على حين أن بعض الأحاديث الأخرى قطعت بعدم دخول أصحاب المعاصي ومرتكبي الكبائر الجنة، كما أفادت بأنهم قد يصلون إلى حد الكفر، والتخليد في النار بهذه الذنوب.
ويستدلون على ذلك بمجموعة من الأحاديث، منها:
· قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق....»الحديث.
· قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار رجل في قلبه مثقال ذرة من إيمان».
قوله صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة»، ونحو ذلك من الأحاديث التي جاءت في دخول أهل الكبائر والعصاة الجنة لمجرد موتهم على التوحيد.
ويزعمون أنها تناقض ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يفيد دخول هؤلاء النار، ووصولهم إلى حد الكفر والتي منها:
o قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة قاطع رحم».
o قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة نمام».
o قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...».
قوله صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع حق امرئ مسلم فقد أوجب الله تعالى له النار، وقد حرم عليه الجنة، فقال له الرجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك».
قوله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر».
ويتساءلون أليس هذا تناقضا بينا بين الأحاديث النبوية، وكيف يمكن لنا قبول هذه الأحاديث على ما فيها من هذا التعارض الشديد.
رامين من وراء ذلك إلى هدم السنة النبوية، وتشكيك المسلمين في عقائدهم وثوابتهم.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن الأحاديث النبوية الواردة في حكم مرتكبي الكبائر وعصاة الموحدين لا تعارض بينها ولا تناقض؛ إذ اتفقت كلمة أهل السنة وعلماء السلف - رغم اختلاف الفرق والمذاهب في هذه المسألة - على أن أصحاب الكبائر والعصاة من أهل التوحيد أمرهم في الآخرة إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، ولا يخرجون من الإيمان بكبائرهم، ولا يخلدون في النار إذا دخلوها، ومصيرهم في النهاية إلى الجنة، وبهذا الفهم القويم تتفق الأحاديث وتتكامل وينتفي ما توهم فيها من تعارض.
2) إن لأهل العلم ومحققي السنة آراء واحتمالات وتأويلات صحيحة في الأحاديث التي توهم المغرضون تعارضها، والتي تفيد بأن أصحاب المعاصي والكبائر تحرم عليهم الجنة ولا يدخلونها ومصيرهم إلى النار، فأولوا ذلك بأن هذه الأحاديث إما محمولة على من يستحل هذه المعاصي ولا يعتقد تحريمها، أو أنها محمولة على بعض الجنان دون بعض، أو أن هذه الأحاديث من باب الوعيد الذي يقف تنفيذه على شرط مشيئة الله، فيغفر لمن يشاء ويرحم من يشاء.
التفصيل:
أولا. اتفاق علماء السنة على أن مرتكبي الكبائر وعصاة الموحدين أمرهم في الآخرة إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، ولا يخلدون في النار ألبتة:
لقد جاء الإسلام دينا قويما شاملا لكل جوانب الخير والنفع للإنسان في عاجل أمره وآجله، وحرص كل الحرص على أن يتحقق التوحيد الخالص عند المرء المسلم، وأن يكون مثالا للتقوى، ونموذجا للاستقامة، ومن هنا خط له الطريق وأوضح له السبيل، وبين له طريق الهداية والرشاد، ووضح له طريق الغواية والضلال، وحذره من الشرور، وحثه على فعل الخيرات، وإقامة الحدود، وأقيمت العقوبات، وخطت الجزاءات، فكانت النار جزاء للعصاة والكافرين، وكانت الجنة ثوابا للطائعين الموحدين.
وعلى هذا ترددت أعمال المرء في حياته بين الصواب والخطأ، والطاعة والمعصية، إما أن يقترب من طريق الهداية (الإيمان)؛ فيتحقق له الخير والنجاة، وإما أن يقترب من طريق الغواية والضلال (الكفر)، فيزل في سبل الضلال والهلاك.
وهكذا تتنوع أعمال المسلم بين صغائر ملمات، وكبائر مهلكات، والصغائر تكفرها الطاعات والأعمال الصالحات، كما جاءت بذلك الأخبار والروايات.
قال تعالى: )إن الحسنات يذهبن السيئات( (هود: ١١٤(، وقال أيضا: )إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم( (النساء: ٣١)، وكما قال: )الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة( (النجم: ٣٢).
وقال صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر»[1].
وعلى هذا فصغائر الذنوب أمرها يهون إذا قرنها الاستغفار، ولحقتها الصلاة، وإقامة الطاعات والخيرات.
أما كبائر الذنوب: فالحديث حولها أثار جدلا وخلافا، وتنوعت فيها الآراء، واختلفت فيها المذاهب، وتضاربت فيها الأقوال، وهدى الله فيها أهل الحق إلى الحق بإذنه، على نحو ما سنذكر بإذن الله.
فما مصير صاحب الكبيرة إذن؟ هل هو من أصحاب النار المخلدين فيها؟ أم من أصحاب الجنة المنعمين فيها؟ وكيف يعاقب على ذنوبه ويلقى جزاء عصيانه في الآخرة؟ وهل يفارق الإيمان بمعصيته ويصبح من الكافرين؟ أم هو بها لا يزال من المؤمنين الموحدين؟.
تساؤلات عدة واستفهامات مترددة حاول كثير من العلماء - على اختلاف مذاهبهم - الإجابة عنها، وتحديد الصواب فيها، وذلك على ما جاءت به الأحاديث في هذا الشأن، فاختلفت الآراء وتفرقت المذاهب، وهدى الله أهل السنة من بينهم إلى الجمع بين الأحاديث، ونفي التعارض عنها، والتوفيق إلى القول الحق في هذه المسألة.
مذاهب الناس في حكم مرتكبي الكبيرة وعصاة الموحدين:
ذهب العلماء في حكم مرتكبي الكبائر والعصاة من الموحدين مذاهب شتى، واتخذوا فيها مواقف مختلفة وأراء متعددة، وخرج كثير منهم فيها عن حد الاعتدال، فذهبت الخوارج إلى أن مرتكب الكبيرة خالد مخلد في النار؛ قد خرج عن الإيمان، وفارق الإسلام. وذهبت المرجئة والجهمية إلى أنه مؤمن في أعلى درجات الإيمان ما دام على التوحيد مصدقا بها قلبه؛ بمعنى: أنه لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. وقالت المعتزلة: إنه في منزلة بين المنزلتين، لا هو بمؤمن ولا هو بكافر.
وقد توسط أهل السنة بين هذه المذاهب جميعا، فحكموا بأن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وفعل الخيرات، وينقص بالمعاصي وفعل المنكرات، فهم لا ينفون عن مرتكب الكبيرة اسم الإيمان على الإطلاق، ولا يعطونه على الإطلاق، فهو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ومصيره في الآخرة إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، إلا أنه لا يخلد في النار إذا دخلها، وإنما يخرج منها إلى الجنة مهما طال به المقام ما دام أنه مات على أصل الإيمان، وهو الإقرار بأنه لا إله إلا الله تصديقا بالجنان ونطقا باللسان.
وهذا ما أكد عليه الإمام ابن تيمية عند حديثه عن هذه المسألة، فقال: "الناس في الفاسق من أهل الملة - مثل الزاني والسارق والشارب ونحوهم - ثلاثة أقسام: طرفين ووسط، أحد الطرفين: أنه ليس بمؤمن بوجه من الوجوه، ولا يدخل في عموم الأحكام المتعلقة باسم الإيمان، ثم من هؤلاء من يقول: هو كافر كاليهودي والنصراني، وهو قول الخوارج، ومنهم من يقول: ننزله منزلة بين المنزلتين، وهي منزلة الفاسق، وليس هو بمؤمن ولا كافر، وهم المعتزلة، وهؤلاء يقولون: إن أهل الكبائر يخلدون في النار، وإن أحدا منهم لا يخرج منها، وهذا من مقالات أهل البدع التي دل الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان على خلافها...
والطرف الثاني: قول من يقول: إيمانهم باق كما كان لم ينقص، بناء على أن الإيمان هو مجرد التصديق والاعتقاد الجازم وهو لم يتغير، وإنما نقصت شرائع الإسلام، وهذا قول المرجئة والجهمية ومن سلك سبيلهم، وهو - أيضا - قول مخالف للكتاب والسنة وإجماع السابقين والتابعين لهم بإحسان... فالقول الوسط الذي هو قول أهل السنة والجماعة أنهم لا يسلبون الاسم على الإطلاق ولا يعطونه على الإطلاق، فنقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ويقال: ليس بمؤمن حقا، أو ليس بصادق الإيمان"[2].
كما نقل الإمام أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة موقفهم في هذه المسألة فقال: "ولا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون، وإن ارتكبوا الكبائر... ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ولا يقولون: مخلوق ولا غير مخلوق، ويقولون: أسماء الله هي الله، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون الله - سبحانه وتعالى - ينزلهم حيث شاء، ويقولون: أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، ويؤمنون بأن الله - سبحانه وتعالى - يخرج قوما من الموحدين من النار على ما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"[3].
وهذا ما أكد عليه الإمام الطحاوي بقوله: "وأهل الكبائر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهو موحدون، وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين، وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم، وعفا عنهم بفضله، كما ذكر - عز وجل - في كتابه: )ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء( (النساء: ٤٨)، وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا من ولايته"[4].
هذه هي آراء العلماء وأصحاب الفرق والمذاهب في حكم مرتكبي الكبائر وعصاة الموحدين ومصيرهم في الآخرة، ويبرز فيها رأي أهل السنة رأيا وسطا معتدلا لا إفراط فيه ولا تفريط، حيث يجمع كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ويوفق بينه في حسن فهم واكتمال بيان، وبهذا الفهم الواعي والرأي الراجح تظهر الأحاديث النبوية الصحيحة الواردة في هذا الباب حول مرتكب الكبيرة لا تعارض بينها ولا تناقض؛ لأن الإنسان ما دام لديه أصل الإيمان، ومات على كلمة التوحيد قولا باللسان وتصديقا بالجنان، فهو لا يخرج من دائرة الإيمان وإن ارتكب كل الآثام، وإنما هو مؤمن عاص، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته لا يخلد في النار يوم القيامة إذا دخلها، وأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
وقد استدل أهل السنة على موقفهم هذا بأدلة كثيرة منها:
ما جاء في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وحوله عصابة من أصحابه: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه، فبايعنا على ذلك»[5].
فهذا الحديث دليل على أن أصحاب الذنوب والعصاة أمرهم في الآخرة مردود إلى الله إن شاء عفا عنهم، وإن شاء عذبهم على قدر ذنوبهم، إلا أنهم لا يخلدون في النار بهذه الكبائر التي فعلوها.
ومنها ما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا، فيلقون في نهر الحيا - أو الحياة، شك مالك [6]ـ فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية؟»[7].
وكذلك ما جاء عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير»، قال أبو عبد الله: قال أبان: حدثنا قتادة، حدثنا أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم «من إيمان» مكان «من خير»[8].
فهذان الحديثان - وما جاء في معنيهما - من الأدلة القاطعة على أنه لا يخلد في النار موحد، فيعذب العصاة في النار على قدر ذنوبهم ما شاء الله لهم أن يعذبوا، ثم يخرجون من النار في حين من الأحيان، ويدخلون الجنة، ولا يخلدون في النار ما داموا على التوحيد، بل يخرجون منها برحمة أرحم الرحمين ثم بشفاعة الشافعين. والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وهذا ما يؤكده قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله؛ فإنه من كان آخر كلمته لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنة يوما من الدهر، وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه»[9].
وهذا مقام يطول الحديث فيه ويعظم تفصيله إلا أننا نخرج من هذا العرض بأن عصاة الموحدين وأصحاب الكبائر لا يخرجون من دائرة الإيمان بمعاصيهم، ولا يخلدون في النار إذا دخلوها، وإنما هم مؤمنون ناقصو الإيمان، أمرهم إلى الله في الآخرة، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، ثم يدخلون الجنة ما دام لديهم أصل الإيمان وكلمة التوحيد، وإن لم يفعلوا من الطاعات شيئا، وبهذا يرتفع التعارض المتوهم في أحاديث هذا الباب، فهم بتوحيدهم مستحقون الجنة وبمعاصيهم وكبائرهم يعذبون في النار بمشيئة الله عز وجل.
ثانيا.الأحاديث الصحيحة التي استدل بها المتوهمون لا تعارض فيها ولا تناقض، ولأهل العلم أقوال وتأويلات صحيحة فيها:
إن الأحاديث التي استدل بها هؤلاء المتوهمون على أنها متعارضة متضاربة - عند التحقيق فيها، ومطالعة آراء أهل العلم وعلماء السنة حولها نجد أنها متفقة مترابطة تمام الترابط لا تعارض فيها ولا اضطراب.
فقد ذكر العلماء توجيهات عديدة للأحاديث التي نصت على دخول أصحاب الكبائر وعصاة الموحدين النار وعدم دخولهم الجنة، والتي منها:
· ما روي عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة قتات»[10][11]، وفي رواية: «نمام».
· وحديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:«من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك»[12].
· وحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام»[13].
· وحديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة قاطع رحم»[14].
· وحديث أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل نفسا معاهدة بغير حقها فقد حرم الله - عز وجل - عليه الجنة أن يشم ريحها»[15].
إلى غير ذلك من الأخبار والأحاديث التي جاءت في هذا المعنى وذلك السياق، والتي تبدو متعارضة مع الأحاديث التي جاء فيها دخول أصحاب الكبائر والعصاة الجنة ما داموا على التوحيد، وإن لم يفعلوا خيرا قط. ومن هذه الأحاديث:
o قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان»[16].
o وقوله صلى الله عليه وسلم: «من مات يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صادقا من قلبه دخل الجنة»[17].
o وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال:«أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر»[18].
لقد أجاب العلماء عن هذا التعارض المتوهم وردوه، وجمعوا بين هذه الأحاديث، فإن أصحاب الكبائر والمعاصي من أهل التوحيد يدخلون الجنة ولا يخلدون في النيران إذا دخلوها، على نحو ما ذكرنا في الوجه الأول.
أما الأحاديث التي ذكرت أن هؤلاء العصاة لا يدخلون الجنة، بل تحرم عليهم، فقد ذكر العلماء لها عدة توجيهات من أهمها:
· أنها محمولة على من يستحل هذه الكبائر مع علمه بالتحريم، فهذا كافر مخلد في النار، ولا يدخل الجنة أصلا، بل يكون في حكم المرتد، ويقتل حدا إن أصر على فعله مع علمه التام به.
· أنها محمولة على أن مرتكب الكبيرة جزاؤه أن لا يدخل الجنة وقت دخول الفائزين إذا فتحت أبوابها لهم، بل يؤخر عنهم، ويدخل في مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
· أن هذه النصوص من باب الوعيد الذي توعد الله به عباده، وأن هذا الوعيد جزاء مرتكب الكبيرة حقا، إلا أن الله تكرم عليه، وأخبر أنه لا يخلد في النار موحد في قلبه مثقال ذرة من خير[19].
وعلى هذا فإذا كان أصحاب هذه المعاصي والكبائر مستحلين لها، ولا يعتقدون تحريمها وماتوا على هذا، فهم بهذا لا يدخلون الجنة، ويخلدون في النار؛ لأنهم بهذا كافرون أصلا، أما الذين لا يستحلون هذه المعاصي من أهل التوحيد، فهم بإذن الله مستحقون الجنة وإن عذبوا في النار، وأمرهم في مشيئة الله.
وقد تكون هذه الأحاديث من باب الوعيد، كما يقول الشيخ صالح آل الشيخ:
"دخول أهل الكبائر في النار، هذا وعيد، وهذا الوعيد يجوز إخلافه من الرب؛ وذلك أن مرتكب الكبيرة إذا تاب في الدنيا تاب الله عليه، وإذا طهر بحد أو نحوه كتعزير فإنه يكون كفارة له.
فإذا يكون مرتكب الكبيرة من أهل الوعيد إلا في حالات:
· الحال الأولى: أن يكون تائبا كما ذكرنا لك؛ لأن التوبة تجب ما قبلها، قال الله تعالى في آخر سورة الزمر: )قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا( (الزمر:٥٣) وقد أجمع أهل التأويل والتفسير: أنها نزلت في التائبين، فمن تاب تاب الله عليه، فلا يلحق التائب وعيد؛ لأنه قد محيت عنه زلته وخطيئته بالتوبة.
· الحال الثانية: أن يطهر من تلك الكبيرة إما بحد كمن شرب الخمر مثلا فأقيم عليه الحد، فهو طهارة وكفارة له، وكذلك من قتل مسلما فقتل، أو من قتل مسلما خطأ فدفع الدية، فإن هذا كفارة له، أو سرق فقطعت يده فهو كفارة له، أو قذف فأقيم عليه حد القذف فهو كفارة له، أو زنى إلى آخره، أو كان تعزيرا أيضا فإنه طهارة.
يعني أن ما يقام على المسلم من حد أو تعزير من عقوبة في الدنيا فإنها من جنس العقوبة في الآخرة تطهره من هذا الذنب.
· الحال الثالثة: بعض الذنوب الكبائر تكون لها حسنات ماحية، مثل الصدقة في حق القاتل، قال عز وجل: )فمن تصدق به فهو كفارة له( (المائدة:٤٥)، ومثل الجهاد العظيم فإنه ينجي من العذاب الأليم، قال سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم (10) تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (11)( (الصف)، والعذاب الأليم هو لمن فعل الكبيرة؛ لأنه وعيد شديد.
· الحال الرابعة: أن يغفر الله - عز وجل - له ذلك لأسباب متعددة...
· الحال الخامسة: أن يغفر الله - عز وجل - له بعد أن صار تحت المشيئة... إن شاء الله غفر لهم، وإن شاء عذبهم في النار، ثم يخرجون لا يخلدون"[20].
كما يشترط لعدم خلود من لم يغفر له ممن لم يتب عن الكبائر والمعاصي في النار شرطان، وهما:
o أن يكون مات على التوحيد، فهو شرط عام في دخول الجنة، وعدم الخلود في النار، فكل موحد لابد أن يخرج من النار.
o أن لا يكون مستحلا لهذه الكبيرة، فقد يكون موحدا في الأصل، ويكون من جهة أخرى مستحلا لكبيرة بعينها، فهو بهذا يخرج عن أهل الإيمان؛ لأن حقيقة الموحد هو أنه غير مستحل لشيء من محارم الله عز وجل.
وهذا بقيد: أن تكون الكبيرة مما أجمع على تحريمه، وأن يكون المستحل لها غير متأول[21].
وعلى هذا يزول التعارض المتوهم في الأحاديث، فالذي تحرم عليه الجنة ويخلد في النار من العصاة ومرتكبي الكبائر، هم الذين يستحلون هذه الذنوب، ويعتقدون عدم تحريمها، أو أن الأمر من باب الوعيد الذي توعد الله به - العصاة، وهذا الوعيد هو جزاؤهم الذي يستحقونه إلا أن الله تكرم عليهم، وأخبر بأنه سيغفر لهم، ويخرجهم من النار ويدخلهم الجنة بعد دخول الداخلين.
وقد علق الإمام النووي على حديث: «من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة»[22] قائلا: "وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخل الجنة أولا، وإن كان صاحب كبيرة مات مصرا عليها، فهو تحت المشيئة، فإن عفي عنه دخل أولا، وإلا عذب، ثم أخرج من النار وخلد في الجنة."[23].
وقد ذكر الإمام ابن خزيمة أن هذه الأخبار التي جاءت في أن أصحاب الكبائر والمعاصي لا يدخلون الجنة، ويحرمون عليها؛ إنما هي على أحد معنين:
"أحدهما: لا يدخل الجنة؛ أي بعض الجنان، إذ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعلم أنها جنان في جنة، واسم الجنة واقع على كل جنة منها، فمعنى هذه الأخبار التي ذكرنا: من فعل كذا لبعض المعاصي حرم الله عليه الجنة، أو لم يدخل الجنة، معناها: لا يدخل بعض الجنان التي هي أعلى وأشرف وأنبل وأكثر نعيما وسرورا وبهجة وأوسع، لا أنه أراد: لا يدخل شيئا من تلك الجنان التي هي في الجنة...والمعنى الثاني: ما قد أعلمت أصحابي ما لا أحصي من مرة: أن كل وعيد في الكتاب والسنة لأهل التوحيد؛ فإنما هو على شريطة؛ أي: إلا أن يشاء الله أن يغفر ويصفح ويتكرم فلا يعذب على ارتكاب تلك الخطيئة؛ إذ الله - عز وجل - قد أخبر في محكم كتابه أنه قد يشاء أن يغفر ما دون الشرك من الذنوب في قوله تعالى: )إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء( (النساء:٤٨)[24].
نخلص من هذه الآراء والأقوال إلى أن الأحاديث النبوية التي جاءت في حكم عصاة الموحدين، وأصحاب الكبائر لا تعارض بينها ولا تناقض، بل هي متوافقة متكاملة، وما توهم منه أنه شديد التعارض إنما هو محمول على عدة معان مقبولة عند أهل العلم، منها أن يكون صاحب المعصية مستحلا لمعصيته، أو أن هذه الأحاديث من باب الوعيد المشروط بمشيئة الله تعالى أن يغفر ويصفح ويتكرم فلا يعذب من مات على التوحيد، أو أنها محمولة على بعض الجنان دون بعض، أو لا يدخلون الجنة في أول الداخلين. وكلها تفسيرات مقبولة صحيحة يرتفع معها التعارض المتوهم في الأحاديث، وتذهب أوهام المغرضين أدراج الرياح.
وقد وردت أحاديث تفيد أن مرتكب الكبيرة قد يصل إلى مرحلة الكفر - وهو ما يوهم منه تأييد مذهب المعتزلة والخوارج - ومنها بعض الأحاديث التي تعارض الأحاديث التي مرت آنفا، مثال ذلك: ما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن»[25]، وما ورد عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»[26].
فكما يفهم من النصين: أن مرتكب إحدى الكبائر ليس بمؤمن، والحديث الثاني نص على أن قتال المسلم كفر، والقتال كبيرة من الكبائر، فعلى هذا مرتكب الكبيرة كافر، وهو ما يفهم من أن الكفر هو الارتداد؛ لقول الله تعالى: )إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء( (النساء: ٤٨).
فما المقصود بالحديثين عند ذلك، وكيف نفهمهما؟
بالنسبة للحديث الأول فقد جاء حل إشكاله في ألفاظه، وهو قوله: «حين يزني»، وقوله: «حين يسرق»؛ أي في لحظة الزنى، وفي لحظة السرقة، لا أن مسمى الإيمان يزول عنه كليا وينتقل إلى مسمى الكفر، فإن هذا لا يكون إلا باستحلال فاعل ذلك لما يصنع.
ويصدق هذا التفسير ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا زنى الرجل خرج منه (عنه) الإيمان كان عليه كالظلة، فإذا انقلع (أقلع) رجع إليه الإيمان»[27]، أما قوله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» فيجب ألا يحمل على ظاهره، ولا سيما إذا كان قتاله متأولا، وليس مستحلا له[28].
قال الحافظ ابن حجر: "قوله: «وقتاله كفر» إن قيل: هذا وإن تضمن الرد على المرجئة، لكن ظاهره يقوي مذهب الخوارج الذين يكفرون بالمعاصي. فالجواب: إن المبالغة في الرد على المبتدع اقتضت ذلك، ولا متمسك للخوارج فيه؛ لأن ظاهره غير مراد، لكن لما كان القتال أشد من السباب - لأنه مفض إلى إزهاق الروح - عبر عنه بلفظ أشد من لفظ الفسق وهو الكفر، ولم يرد حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملة، بل أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير، معتمدا على ما تقرر من القواعد أن مثل ذلك لا يخرج عن الملة، مثل حديث الشفاعة، ومثل قوله: )إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء( (النساء: ٤٨)... أو أنه أطلق عليه الكفر لشبهه به؛ لأن قتال المؤمن من شأن الكافر.
وقيل: المراد هنا الكفر اللغوي وهو التغطية، لأن حق المسلم على المسلم أن يعينه وينصره، ويكف عنه أذاه، فلما قاتله كان كأنه غطى على هذا الحق...
ومثل هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض»[29] ففيه هذه الأجوبة، ونظيره قوله تعالى: )أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض( (البقرة: 85) بعد قوله: )ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم( (البقرة: ٨٥) فدل على أن بعض الأعمال يطلق عليه الكفر تغليظا.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم: «لعن المسلم كقتله»[30] فلا يخالف هذا الحديث، لأن المشبه به فوق المشبه، والقدر الذي اشتركا فيه بلوغ الغاية في التأثير: هذا في العرض، وهذا في النفس"[31].
إذا فصرف الحديث عن ظاهره ليس من باب التشهي، أو تأييد مذهب معين، بل لما تقتضيه محكمات الآيات، ومتواترات الأحاديث، فما كان من متشابه يرد إلى المحكم؛ ليفهم على ضوئه، والحديث من النوع المتشابه الذي يفهم مع ضمه للأحاديث الأخرى الكثيرة المحكمة. وبديهي أن الله لا يغفر الكفر، إذا اقتضى أن يكون المراد بالكفر ليس كفر الردة.
ولزيادة التوضيح أنقل هذه الفقرات عن أحد علماء السلف، وهو أبو القاسم عبيد بن سلام إذ قال: وإن الذي عندنا في هذا الباب كله أن المعاصي والذنوب لا تزيل إيمانا، ولا توجب كفرا؛ ولكنها إنما تنفي من الإيمان حقيقته وإخلاصه الذي نعت الله به أهله.
وقال: وأما الآثار المرويات بذكر الكفر والشرك ووجوبهما بالمعاصي، فإن معانيهما عندنا لا تثبت على أهلها كفرا ولا شركا يزيلان الإيمان عن صاحبه، إنما وجوهها أنها من الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركون.
وقال: وأما الفرقان الشاهد عليه في التنزيل فقوله عز وجل: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)( (المائدة)، وقال ابن عباس رضي الله عنه: "ليس بكفر ينقل عن الملة"[32].
وقد بين ابن منده أن هذا القتال كفر لا يبلغ به الشرك، فقال: ذكر ما يدل على أن مواجهة المسلم بالقتال أخاه كفر لا يبلغ به الشرك والخروج من الإسلام، ثم روى حديثا عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»[33].
فالحديث سمى القاتل والمقتول مسلمين، ولهذا ترجم ابن منده بقوله الذي مر آنفا"[34].
وقد ترجم البخاري عند روايته هذا الحديث فقال: باب: )وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما( (الحجرات: ٩)، فسماهم المؤمنين، وغرض البخاري الرد على من يكفر المسلم بالمعصية.
فالمؤمن إذا ارتكب معصية لا يكفر، بدليل إبقاء المولى - عز وجل - اسم المؤمن؛ فقال تعالى: )وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا(، وقال تعالى: )إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10)( (الحجرات)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما» فسماهما مسلمين مع التوعد بالنار[35].
وبهذا التفصيل يتضح أنه لا تعارض بين الأحاديث الواردة في حكم مرتكب الكبيرة، وأن الفهم الصحيح لمعاني الأحاديث وفق مبادئ التشريع الإسلامي، وفي ضوء النصوص الصريحة الصحيحة يحبط أي محاولة لنزع الثقة في السنة. وينفي هذا الطعن بالتعارض بين الأحاديث السابقة، ويكون الصواب أن مرتكب الكبيرة لا يكفر بكبيرته، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، إلا أن يتوب، وإذا مات على ذلك ودخل النار فإنه لا يخلد في النار.
الخلاصة:
· لقد حرص الدين الإسلامي كل الحرص على حفظ كلمة التوحيد وحمايتها من صنوف البدع، وخرافات الشرك، وأوهام الضلال، وحرم كل ما يخالف مقتضيات هذه الكلمة أو ينحرف عنها، ومن هنا وضعت الحدود وأقيمت العقوبات لكل من يخالف هذه الكلمة والخروج عن أمر الله - عز وجل - ونهيه.
· تتنوع معاصي الإنسان وذنوبه بين صغائر ملمات وكبائر مهلكات، فالصغائر تكفرها الطاعات والعبادات، والأعمال الصالحات وملازمة الاستغفار، أما الكبائر فتكفرها التوبة، وإقامة الحدود، ولا تخرج صاحبها من الملة ما دام لديه أصل الإيمان، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إقرارا باللسان وتصديقا بالجنان.
· اختلفت الفرق والمذاهب الإسلامية في حكم مرتكب الكبائر والعصاة اختلافا كبيرا، وقام بينهم جدال حول هذه المسألة، فمن قائل: إن مرتكبي الكبيرة خالد مخلد في النار، ومن قائل: إنه في منزلة بين المنزلتين، لا هو بمؤمن ولا كافر، ومن قائل: إنه مؤمن في أعلى درجات الإيمان، فلا تضر مع الإيمان معصية، وكلها آراء مخالفة للكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
· لقد اتفقت كلمة أهل السنة والجماعة وعلماء السلف على أن مرتكبي الكبائر من عصاة الموحدين لا يخرجون عن الإيمان ولا يكفرون بمعاصيهم، وإنما هو مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته؛ لأن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وأمرهم في الآخرة إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، إلا أنهم لا يخلدون في النار مهما طال بهم المقام، ويخرجون منها يوما من الأيام ما داموا على التوحيد.
· إن هذا الفهم الصحيح لأهل السنة في حكم مرتكبي الكبائر وعصاة الموحدين ينفي عن الأحاديث النبوية التي جاءت في هذا الباب ما توهم فيها من تعارض، بل تتكامل فيها الأحاديث وتتفق تمام الاتفاق، فأصحاب الكبائر بتوحيدهم مستحقون الجنة، وبمعاصيهم وكبائرهم يعذبون في النار ما شاء الله أن يعذبوا ثم يدخلون الجنة، وإن شاء الله غفر لهم ابتداء ورحمهم من عذاب النار.
· إن الأحاديث التي جاء فيها أن أصحاب الكبائر يدخلون النار، وتحرم عليهم الجنة محمولة على معان عدة منها: أن يكون صاحب الكبيرة مستحلا لها لا يعتقد تحر يمها، مع علمه بالتحريم، فهو بهذا يصبح من الكافرين، ولا يدخل الجنة أبدا، أو أن هذا الأحاديث من باب الوعيد الذي توعد الله به العاصين، وهذا الوعيد مشروط بمشيئة الله تعالى، إن شاء عذب وإن شاء رحم وغفر، وقد وعد الله تعالى بمغفرة جميع الذنوب إلا الشرك، فقال تعالى: )إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء( (النساء:١١٦). أو أنها محمولة على بعض الجنان دون بعض، فلا يدخلون الجنة الأعلى منزلة والأشرف مكانا. أو أنها محمولة على عدم دخولهم الجنة في أول الداخلين، وكلها تفسيرات مستقيمة مقبولة يرتفع معها التعارض المتوهم في الحديث.
· إن الأحاديث التي تفيد أن مرتكب الكبيرة قد يصل إلى مرحلة الكفر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...» ليس المقصود بها نفي الإيمان، كما أن الحديث جاء بلفظ: "حين" أي ينفي عنه الإيمان في حال الزنا والسرقة والمعصية فقط، لا ينفي عنه الإيمان كلية.
· إن الحديث الذي جاء فيه «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»لا يحمل فيه لفظ الكفر على ظاهره - أي الخروج عن الإيمان - وإنما هو من باب المبالغة في العقاب والتحذير؛ لعظم الذنب، مع العلم أنه يرد إلى القواعد الثابتة بأن هذا الفعل لا يخرج من الملة وإنما أطلق عليه كفر؛ لأن قتال المؤمن من شأن الكافر، أو أنه - أيضا - محمول على من يستحل هذه الذنوب.
مواضيع مماثلة
» * دعوى تعارض حديث "إذا أنا مت فأحرقوني" - أثر الإيمان بالقيم الأخلاقية على الدول الأوربية
» * إنكار حديث "فضل عائشة على النساء - دعوى تعارض زيادة العمر ورد القضاء مع القرآن
» * دعوى أن أحاديث "النيل والفرات من الجنة " لا تخالف الواقع
» * دعوى بطلان حديث "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما
» * توهم تعارض أحاديث تنازع الخيرية بين أول زمان الأمة وآخره
» * إنكار حديث "فضل عائشة على النساء - دعوى تعارض زيادة العمر ورد القضاء مع القرآن
» * دعوى أن أحاديث "النيل والفرات من الجنة " لا تخالف الواقع
» * دعوى بطلان حديث "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما
» * توهم تعارض أحاديث تنازع الخيرية بين أول زمان الأمة وآخره
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى