* توهم تعارض أحاديث تنازع الخيرية بين أول زمان الأمة وآخره
صفحة 1 من اصل 1
* توهم تعارض أحاديث تنازع الخيرية بين أول زمان الأمة وآخره
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المتوهمين أن أحاديث الخيرية بين أول زمان الأمة وآخره غير صحيحة؛ لأنها متعارضة، ويستدلون على ذلك بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه»، وقوله: «خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم...» يتعارضان مع قوله، صلى الله عليه وسلم: «مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أو آخره»، وقوله، صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء...»، بالإضافة إلى أن هذه الأحاديث تصيب كل من يحاول الإصلاح وإعادة بناء الأمة كما كانت في سالف عهدها بشتى ألوان اليأس والإحباط؛ لأنها تدل على أن الأمة تسير من السيء إلى الأسوأ، وهذا مخالف لتعاليم الدين الإسلامي الذي يدعو إلى الوقوف في وجه الظلم ورد العدوان.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن ثبوت صحة الأحاديث الواردة في خيرية زمان أمة الإسلام أوله وآخره - لينفي التعارض المتوهم بينها؛ لأنه لا تعارض بين الصحيح، والشر المذكور في الحديث ليس على عمومه وإطلاقه؛ فقرن الصحابة -رضي الله عنهم- وإن كان أفضل القرون، إلا أنه لا يدل على نزع الخيرية من آخر الزمان؛ لأن الخيرية بالنسبة للمجموع لا للأفراد، ويدل على ذلك ما يكون من خير ورفعة لراية الإسلام، وذلك بخروج المهدي ونزول عيسى -عليه السلام- آخر الزمان.
2) في السنة أحاديث كثيرة تؤكد أن المستقبل للإسلام، ولا داعي لاتهام تلك الأحاديث التي معنا بأنها تثير الإحباط واليأس في قلوب الناس؛ لأنه يجب الجمع بين الأحاديث؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال في حديث له: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين بالحق لا يضرهم من خذلهم أو ناوأهم حتى قيام الساعة»، كما أنها لا تدعو إلى السكوت عن الظلم ورده؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قال في حديث آخر: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر».
أولا. صحة الأحاديث تنفي تعارضها، وبالجمع بينها وبين أحاديث أخرى يكون الخير في الأمة إلى قيام الساعة:
إن هذه الأحاديث المتوهم عدم صحتها بحجة أنها تدعو إلى اليأس والإحباط إنما هي أحاديث صحيحة وردت في كتب السنة الصحيحة؛ فحديث: «لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه» حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري - رحمه الله - في صحيحه [1]، وقد أخرجه أيضا الإمام الترمذي في سننه [2].
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم-: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم...»، فهذا أيضا حديث صحيح في أعلى درجات الصحة؛ لأنه مروي في الصحيحين: البخاري ومسلم [3]، وأخرجه - أيضا - الإمام الترمذي في سننه[4].
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره»، فقد أخرجه الترمذي في سننه[5]. وكذلك الإمام أحمد في مسنده[6].
وأما حديث: «بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء»، فقد أخرجه الإمام مسلم في صحيحه[7]، وأخرجه ابن ماجه في سننه[8].
وعليه، فهذه الأحاديث صحيحة، وطالما أنها صحيحة، فلا تعارض بينها، يقول الحافظ ابن حجر معلقا على حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه- حين شكى إليه الناس ما يلقون من الحجاج - وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه»، "قال ابن بطال: هذا الخبر من أعلام النبوة؛ لإخباره - صلى الله عليه وسلم- بفساد الأحوال، وذلك من الغيب الذي لا يعلم بالرأي، وإنما يعلم بالوحي. ثم يقول ابن حجر: وقد استشكل هذا الإطلاق مع أن بعض الأزمنة تكون في الشر دون التي قبلها، ولو لم يكن في ذلك إلا زمن عمر بن عبد العزيز، وهو بعد زمن الحجاج بيسير، وقد اشتهر الخبر الذي كان في زمن عمر بن عبد العزيز، بل لو قيل: إن الشر اضمحل في زمانه لما كان بعيدا، فضلا عن أن يكون شرا من الزمن الذي قبله، وقد حمله الحسن البصري على الأكثر الأغلب، فسئل عن وجود عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج، فقال: لا بد للناس من تنفيس.
وأجاب بعضهم: أن المراد بالتفضيل تفضيل مجموع العصر على مجموع العصر، فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء، وفي عصر عمر بن عبد العزيز انقرضوا، والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «خير القرون قرني»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون»[9]، ثم وجدت عن عبد الله بن مسعود التصريح بالمراد، وهو أولى بالاتباع، فأخرج يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة عن زيد بن وهب قال: سمعت عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يقول: «لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه، ولا مالا يفيده، ولكن لا يأتـي عليكم يوم إلا وهو أقل علما من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس، فلا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون».
ومن طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود إلى قوله: "شر منه" قال: «فأصابتنا سنة خصب، فقال: ليس ذلك أعني، إنما أعني ذهاب العلماء»، ومن طريق الشعبي عن مسروق عنه قال: «لا يأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما كان قبله، أما إني لا أعني أميرا خيرا من أمير، ولا عاما خيرا من عام، ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون، ثم لا تجدون منهم خلفا، ويجيء قوم يفتون برأيهم»، وفي لفظ عنه من هذا الوجه: «وما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها، ولكن بذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه»، وأخرج الدارمي الأول من طريق الشعبي بلفظ «لست أعني عاما أخصب من عام» والباقي مثله وزاد: "وخياركم" قبل قوله: "وفقهاؤكم"، واستشكلوا أيضا زمان عيسى ابن مريم بعد زمان الدجال، وأجاب الكرماني بأن المراد الزمان الذي يكون بعد عيسى، أو المراد: جنس الزمان الذي فيه الأمراء، وإلا فمعلوم من الدين بالضرورة أن زمان النبي المعصوم لا شر فيه. قلت: ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة ما قبل وجود العلامات العظام كالدجال وما بعده، ويكون المراد بالأزمنة المتفاضلة في الشر من زمن الحجاج فما بعده إلى زمن الدجال، وأما زمن عيسى -عليه السلام- فله حكم مستأنف.
ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة المذكورة أزمنة الصحابة بناء على أنهم هم المخاطبون بذلك فيختص بهم، فأما من بعدهم فلم يقصد في الخبر المذكور، لكن الصحابي فهم التعميم، فلذلك أجاب من شكى إليه الحجاج بذلك وأمرهم بالصبر، وهم أو جلهم من التابعين.
واستدل ابن حبان في صحيحه بأن حديث أنس ليس على عمومه، وقد استدل على ذلك بالأحاديث الواردة في المهدي، وأنه يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا"[10].
ومن تتبع أحوال هذه الأمة وجد الأمر كذلك، لكن يجب أن نعرف الفرق بين الجملة والأفراد، فحديث أنس - ضي الله عنه- حديث صحيح سندا ومتنا، فالمتن ليس فيه شذوذ، والسند في البخاري، والمراد به من حيث الجملة؛ ولذلك يوجد في أتباع التابعين من هو خير من التابعين، فلا تيأسوا فتقولوا: إذن، لا يمكن أن يوجد في زماننا هذا من سبق، لكننا نقول: إن مثل هذا الحديث يراد به الجملة، وإذا شئتم أن يتضح الأمر، فانظروا إلى جنس الرجال وجنس النساء، أيهما خير؟ والجواب جنس الرجال خير، قال تعالى: )وللرجال عليهن درجة( (البقرة:٢٢٨)، ولكن يوجد في النساء من هي خير من كثير من الرجال، فيجب أن نفرق بين الجملة والأفراد، فإذا نظرنا إلى مجموع القرن كله نجد أن ما بعد القرن شر منه، لا باعتبار الأفراد، ولا باعتبار مكان دون مكان، فقد تكون أمة في الجهات، يرتفع فيها من حسن على أحسن، كما لو نشأ فيها علماء نفع الله بهم. وقد يقال: إن هذا الحديث بناء على الأغلب، فما وقع من خير بعد الشر ولو كان عاما، فإنه يكون مخصصا لهذا الحديث[11].
وفي ضوء فهم الحديث على هذا النحو؛ فليس ثمة تعارض بينه وبين حديث «مثل أمتي كالمطر...»، "قال التوربشتي: لا يحمل هذا الحديث على التردد في فضل الأول على الآخر، فإن القرون الأول هم المفضلون على سائر القرون من غير شبهة، ثم الذين يلونهم، وفي الرابع اشتباه من قبل الراوي، وإنما المراد بهم نفعهم في بث الشريعة، والذب عن الحقيقة، قال القاضي: نفى تعلق العلم بتفاوت طبقات الأمة في الخيرية، وأراد نفي التفاوت، كما قال: )قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض( (يونس: ١٨)؛ أي: بما ليس فيهن كأنه قال: لو كان لعلم؛ لأنه أمر لا يخفى، ولكن لا يعلم؛ لاختصاص كل طبقة منهم بخاصية وفضيلة توجب خيريتها، كما أن كل نوبة من نوب المطر لها فائدة في النشو والنماء لا يمكنك إنكارها والحكم بعدم نفعها، فإن الأولين آمنوا بما شاهدوا من المعجزات، وتلقوا دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم- بالإجابة والإيمان، والآخرين آمنوا بالغيب، لما تواتر عندهم من الآيات، واتبعوا من قبلهم بالإحسان، وكما أن المتقدمين اجتهدوا في التأسيس والتمهيد، فالمتأخرون بذلوا وسعهم في التلخيص والتجريد، وصرفوا عمرهم في التقرير والتأكيد، فكل ذنبهم مغفور، وسعيهم مشكور، وأجرهم موفور.
قال الطيبي: وتمثيل الأمة بالمطر إنما يكون بالهدى والعلم، كما أن تمثيله - صلى الله عليه وسلم- الغيث بالهدى والعلم، فتختص هذه الأمة المشبهة بالمطر بالعلماء الكاملين منهم المكملين لغيرهم، فيستدعي هذا التفسير أن يراد بالخير النفع، فلا يلزم من هذا المساواة في الأفضلية، ولو ذهب إلى الخيرية، فالمراد: وصف الأمة قاطبة سابقها ولاحقها، وأولها وآخرها بالخير، وأنها ملتحمة بعضها مع بعض مرصوصة بالبنيان مفرغة كالحلقة التي لا يدرى أين طرفاها...
فالحاصل: أن الأمة مرتبط بعضها مع بعض في الخيرية بحيث أبهم أمرها فيها، وارتفع التمييز بينها، وإن كان بعضها أفضل من بعض في نفس الأمر، وهو قريب من سوق المعلوم مساق غيره،
ومن المعلوم جليا أن يوم بداءة العمر أفضل من يوم يأسه، لكن البدء لما لم يكن يكمل ويستتب إلا باليأس أشكل عليه الأمر فقال ما قال، وكذا أمر المطر والأمة[12].
ويعلق ابن حجر على حديث«خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم...»، فيقول: ومقتضى هذا الحديث أن يكون الصحابة أفضل من التابعين، والتابعون أفضل من أتباع التابعين، لكن هل هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد؟ وفي المسألة تفصيل؛ فالجمهور نحا إلى الثاني (الأفراد)، والأول (المجموع) قول ابن عبد البر، والذي يظهر: أن من قاتل مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو في زمانه بأمره، أو أنفق شيئا من ماله بسببه، لا يعدله في الفضل أحد كائنا من كان، وأما من لم يقع له ذلك فهو محل البحث، والأصل في ذلك قوله تعالى: )لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا( (الحديد: ١٠).
واحتج ابن عبد البر بحديث: «مثل أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره»، وهو حديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة... وقد أجاب النووي بما حاصله: أن المراد من يشتبه عليه الحال في ذلك من أهل الزمان الذين يدركون عيسى ابن مريم -عليه السلام-، ويرون في زمانه من الخير والبركة، وانتظام كلمة الإسلام، ودحض كلمة الكفر، فيشتبه الحال على من شاهد ذلك أي الزمانين خير، وهذا الاشتباه مندفع بصريح قوله صلى الله عليه وسلم:«خير القرون قرني...»، وروى أحمد، والدارمي، والطبراني من حديث أبي جمعة قال: «قال أبو عبيدة: يا رسول الله، أأحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك! قال: قوم يكونون من بعدكم، يؤمنون بي ولم يروني»[13]، وإسناده حسن، وقد صححه الحاكم. واحتج أيضا بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم؛ لكثرة الكفار حينئذ، وصبرهم على أذاهم، وتمسكهم بدينهم، قال: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به، وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن كانوا أيضا عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان، كما زكت أعمال أولئك. ويشهد له ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رفعه: «بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء»[14] وقد تعقب كلام ابن عبد البر بأن مقتضى كلامه أن يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من يكون أفضل من بعض الصحابة، وبذلك صرح القرطبي، لكن كلام ابن عبد البر ليس على الإطلاق في حق جميع الصحابة، فإنه صرح في كلامه باستثناء أهل بدر والحديبية. نعم والذي ذهب إليه الجمهور: أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، لمشاهدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأما من اتفق له الذب عنه، والسبق إليه بالهجرة أو النصرة، وضبط الشرع المتلقى عنه وتبليغه لمن بعده، فإنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده؛ لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة إلا وللذي سبق بها مثل أجر من عمل بها من بعده، فظهر فضلهم. ومحصل النزاع يتمحض فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة كما تقدم، فإن جمع بين مختلف الأحاديث المذكورة كان متجها على أن حديث: «للعامل منهم أجر خمسين منكم» لا يدل على أفضلية غير الصحابة على الصحابة؛ لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة، وأيضا فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل، فأما ما فاز به من شاهد النبي - صلى الله عليه وسلم- من زيادة فضيلة المشاهدة، فلا يعدله فيها أحد، فبهذه الطريق يمكن تأويل الأحاديث المتقدمة"[15].
ويؤكد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في شرحه حديث «بدأ الإسلام غريبا» يقول: إنه - أي الإسلام - في أمكنة وأزمنة يعود غريبا بينهم، ثم يظهر كما كان في أول الأمر غريبا ثم ظهر، ولهذا قال:«سيعود غريبا كما بدأ»، وهو لما بدأ كان غريبا لا يعرف، ثم ظهر وعرف، فكذلك يعود حتى لا يعرف، ثم يظهر ويعرف، فيقل من يعرفه في أثناء الأمر كما قل من يعرفه أولا، ويحتمل أنه في آخر الدنيا لا يبقى مسلما إلا قليل، وهذا إنما يكون بعد الدجال ويأجوج ومأجوج عند قرب الساعة، وحينئذ يبعث الله ريحا تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ثم تقوم الساعة، وأما قبل ذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة»[16]، وهذا الحديث في الصحيحين ومثله من عدة أوجه، فقد أخبر الصادق المصدوق أنه لا تزال طائفة ممتنعة من أمته على الحق أعزاء لا يضرهم المخالف، ولا خلاف الخاذل، فأما بقاء الإسلام غريبا ذليلا في الأرض كلها قبل الساعة فلا يكون هذا، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ثم يعود غريبا كما بدأ» أعظم"[17].
وقد ذهب ابن القيم - رحمه الله - إلى أن هذه الغربة لا تعني الوحشة، ولكنها تعني العزة والكرامة، فيقول: "الغربة ثلاثة أنواع: غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق، وهي الغربة التي مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أهلها، وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، وأن أهله يصيرون غرباء، وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون قوم، ولكن أهل هذه الغربة هم أهل الله حقا، فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسوله - صلى الله عليه وسلم- ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم، فإذا انطلق الناس يوم القيامة مع آلهتهم بقوا في مكانهم، فيقال لهم: ألا تنطلقون حيث انطلق الناس؟ فيقولون: فارقنا الناس، ونحن أحوج إليهم منا اليوم، وإنا ننتظر ربنا الذي كنا نعبده.
فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها، بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا؛ فوليه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم- والذين آمنوا، وإن عاداه أكثر الناس وجفوه"[18].
وبهذا يتبين مما سبق أن هذه الأحاديث لا تعارض بينها ألبتة، ولكن يوضح بعضها بعضا، والخير موجود في الأمة إلى قيام الساعة رغم أنف المخالفين والمعاندين.
ثانيا. دلالة الشرع على أن المستقبل للإسلام والانتصار له:
لقد بشرنا الله -عز وجل- بأن المستقبل للإسلام، قال تعالى: )هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (9)( ]الصف [، فالآية تبشرنا بأن المستقبل للإسلام؛ لسيطرته وظهوره، وحكمه على الأديان كلها وهيمنته عليها، وقد يظن بعض الناس أن ذلك قد تحقق في عهده - صلى الله عليه وسلم- وعهد الخلفاء الراشدين والملوك الصالحين، وليس كذلك، فالذي تحقق إنما هو جزء من هذا الوعد الصادق، وقد وردت أحاديث توضح مبلغ ظهور الإسلام ومدى انتشاره بحيث لا يدع مجالا للشك في أن المستقبل للإسلام بإذن الله وتوفيقه، وها نحن نسوق ما تيسر من هذه الأحاديث عسى أن تكون سببا لشحذ العاملين للإسلام، وحجة على اليائسين المتواكلين. قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها»[19]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزا يعز به الله الإسلام، وذلا يذل به الكفر»[20]، وقال، صلى الله عليه وسلم:«تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت»[21].
ومن البعيد حمل الحديث على عمر بن عبد العزيز؛ لأن خلافته كانت قريبة العهد بالخلافة الراشدة، ولم تكن بعد ملكين؛ ملك عاض، وملك جبري[22].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية تعليقا على حديث «بدأ الإسلام غريبا...»: "إن هذا الحديث لا يقتضي أنه إذا صار المسلم غريبا أن المتمسك يكون في شر، بل هو أسعد الناس، كما قال في تمام الحديث: «فطوبى للغرباء»، وطوبى من الطيب، قال تعالى: )طوبى لهم وحسن مآب (29)( (الرعد: ٢٩)، فإنه يكون من جنس السابقين الأولين الذين اتبعوه لما كان غريبا وهم أسعد الناس"[23].
وقد علق الشيخ الألباني على الأحاديث التي تدل على غلبة الإسلام في آخر الزمان بعد ذكره حديث: «لا يأتي زمان...» قائلا: فهذا الحديث ينبغي أن يفهم في ضوء الأحاديث التي تدل على أن الغلبة للإسلام مثل أحاديث المهدي، ونزول عيسى -عليه السلام- فإنها تدل على أن هذا الحديث ليس على عمومه، بل هو من العام المخصوص، فلا يجوز إفهام الناس أنه على عمومه فيقعوا في اليأس الذي لا يصح أن يتصف به المؤمن، قال تعالى: )إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون (87)( (يوسف:٨٧) [24].
وقال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: إن حديث «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء»[25] لا يفهم منه أن الإسلام سينكمش ويضعف، وأن على من يسمع هذا الحديث أن يهادن الإثم، ويداهن الجائرين، ويستكين للأفول الذي لا محيص عنه! وإيراد الحديث وفهمه على هذا النحو مرض شائع قديم. ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى صلاح الدين الأيوبي ما فكر في استرداد بيت المقدس من الصليبيين القدامى! ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى سيف الدين قطز ما نهض إلى دحر التتار في "عين جالوت"! ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى زعماء الفكر الإسلامي في عصرنا الحاضر ابتداء من جمال الدين الأفغاني إلى الشهداء والأحياء من حملة اللواء السامق ما فكروا أن يخطوا حرفا أو يكتبوا سطرا!
وقلت في نفسي: أيكون الإسلام غريبا وأتباعه الذين ينتسبون إليه يبلغون وفق الإحصاءات الأخيرة ثمانمائة مليون نفس؟!
يا للخذلان والعار!
الواقع أن هذا الحديث وأشباهه يشير إلى الأزمات التي سوف يواجهها الحق في مسيرته الطويلة، فإن الباطل لن تلين بسهولة قناته، بل ربما وصل في جرأته على الإيمان أن يقتحم حدوده ويهدد حقيقته، ويحاول الإجهاز عليه!
وعندما تنجلي الظلماء عن رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ويقاومون الضلال بجلد، ولا يستوحشون من جو الفتنة الذي يعيشون فيه، ولا يتخاذلون للغربة الروحية والفكرية التي يعانونها، ولا يزالون يؤدون ما عليهم لله حتى تنقشع الغمة، ويخرج الإسلام من محنته مكتمل الصفحة، بل لعله يستأنف زحفه الطهور فيضم إلى أرضه أرضا، وإلى رجاله رجالا.
وذلك ما وقع خلال أعصار مضت، وذلك ما سيقع خلال أعصار تجييء، وهذا ما ينطق به حديث الغربة الآنف، فقد جاء في بعض رواياته: «طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي»، فليست الغربة موقفا سلبيا عاجزا، إنها جهاد قائم دائم حتى تتغير الظروف الرديئة ويلقى الدين حظوظا أفضل.
وليس الغرباء هم التافهون من مسلمي زماننا، بل هم الرجال الذين رفضوا الهزائم النازلة، وتوكلوا على الله في مدافعتها حتى تلاشت![27].
وبناء على هذا لا داعي لليأس؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- القائل حديث: «لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه»هو نفسه الذي قال حديث: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»[28].
فأخبر أن الأمة يتجدد لها الدين على رأس كل مائة سنة، وتتحسن الأمور والأوضاع والأحوال، لكن في الإجمال لا شك أن الأمة تسير في طريق تنازلي إجمالا.
لكن قد يكون في الأمة زمن أحسن مما قبله كما هو الحال بالنسبة لعصور المجاهدين - مثلا - الإمام محمد بن عبد الوهاب الذي جاء إلى بلاد نجد وهم يعبدون الأصنام والأوثان، وبينهم من الحروب والتطاحن ما هو معروف في تاريخ نجد، فدعاهم وجمعهم على كلمة الإخلاص، ووحد الله تعالى قلوبهم به بعدما وحد عقائدهم، ووفقه الله تعالى لأن يقيم دعوة راسخة قوية صلبة على مر العصور.
إذا ليس الأمر مطردا، وعلى هذه الصورة يحمل حديث: «أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره»[29]، والمقصود أن آخر الأمة أقل في الخير والقوة حتى لا يلتبس على الناس أهو خير أم أوله، وإلا ففضل الأولين مشهود لا يشك فيه أحد، فالذي قال هذا هو الذي قال ذاك، فلماذا تؤخذ الأحاديث التي فيها يأس، وتترك الأحاديث التي فيها الأمل؟![30].
وعليه، فهذا الحديث ينبغي أن يفهم في ضوء الأحاديث التي تدل على أن الغلبة للإسلام، كأحاديث المهدي، ونزول عيسى -عليه السلام-، فإنها تدل على أن هذا الحديث ليس على عمومه، بل هو من العام المخصوص، فلا يجوز إفهام الناس أنه على عمومه؛ فيقعوا في اليأس الذي لا يصح أن يتصف به المؤمن، قال تعالى: )إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون (87)( (يوسف: ٨٧)"[31].
وأما قولهم: إن حديث «لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه» فيه دعوة للسكوت عن الظلم ورده، نقول ردا عليهم:
قال الشيخ الغزالي - رحمه الله - تعليقا على هذا الحديث: والواقع أن أنسا - رضي الله عنه- كان يقصد بحديثه منع الخروج المسلح على الدولة بالطريقة التي شاعت في عهده، ومن بعده، فمزقت شمل الأمة، وألحقت بأهله خسائر جسيمة، ولم تنل بأي أذى يذكر.
وأنس بن مالك - راوي الحديث - أشرف دينا من أن يمالئ الحجاج أو يقبل مظالمه، ولكنه أرحم بالأمة من أن يزج بأتقيائها وشجعانها في مغامرات فردية تأتي عليهم، ويبقى الحجاج بعدها راسخا مكينا!
وتصبيره الناس حتى يلقوا ربهم - أي حتى ينتهوا هم - لا يعني أن الظلم سوف يبقى إلى قيام الساعة، وأن الاستكانة الظالمة سنة ماضية إلى الأبد.
إن هذا الظاهر باطل يقينا، والقضية المحددة التي أفتى بها أنس - رضي الله عنه- لا يجوز أن تتحول إلى مبدأ قانوني يحكم الأجيال كلها[32].
وقد بين الشيخ القرضاوي مفهومه على النحو الآتي:
أولا: أن القائل: "اصبروا" هو أنس - رضي الله عنه- فليس هو من الحديث المرفوع، وإنما استنبطه منه، وكل واحد يؤخذ من كلامه ويترك عدا المعصوم صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: أن أنسا لم يأمرهم بالرضا بالظلم والفساد، وإنما أمرهم بالصبر، وفرق كبير بين الأمرين، فإن الرضا بالكفر كفر، وبالمنكر منكر، أما الصبر، فقلما يستغني عنه أحد، وقد يصبر المرء على الشيء وهو كاره له، ساع في تغييره.
ثالثا: أن من لا يملك القدرة على مقاومة الظلم والجبروت ليس له إلا أن يعتصم بالصبر والأناة، مجتهدا أن يعد العدة، ويتخذ الأسباب، معتضدا بكل من يحمل فكرته، منتهزا الفرصة المواتية ليواجه قوة الباطل بقوة الحق، وأنصار الظلم بأنصار العدل.
وقد صبر النبي - صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر عاما في مكة على الأصنام وعبادها، فكان يصلي في المسجد الحرام، ويطوف بالكعبة وفيها وحولها ثلاثمائة وستون صنما، بل طاف بالبيت في السنة السابعة من الهجرة مع أصحابه في عمرة القضاء، وهو يراها لا يمسها حتى أتى الوقت المناسب يوم الفتح الأعظم؛ ففتح مكة وحطمها.
ولهذا قرر علماؤنا أن إزالة المنكر إذا ترتب عليها منكر أكبر منه وجب السكوت عنه حتى تتغير الأحوال.
وعلى هذا ينبغي ألا يفهم من الوصية بالصبر الاستسلام المطلق للظلم والطغيان، بل الانتظار والترقب حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين.
رابعا: أن الصبر لا يمنع من قول كلمة الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمام الطغاة المتألهين، وإن لم تكن واجبة على من يخاف على نفسه أو أهله أو من حوله، فقد جاء في الحديث: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»[33]، وجاء أيضا: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» [34][35].
من خلال ما سبق يتبين أن الأحاديث يجب أن يجمع بينها لتكون هناك نظرة عامة وسطى متكاملة في أي قضية من القضايا - وهذا ليس تكلفا، إنما هو متحقق - وعلى هذا يكون الحديث الوارد بشأن وقوع الشر في الأمة مخصوصا وليس عاما، وذلك بما جاء بشأن الغلبة للإسلام وتمكنه في آخر الزمان حتى لا يقع الناس في اليأس والإحباط من التغيير؛ استنادا على ما ورد بأنهم أفضل ممن سيأتي بعدهم.
الخلاصة:
· إن الأحاديث الواردة في خيرية زمان الأمة أوله وآخره، والتي نفى الطاعنون صحتها نتيجة فهمهم الخاطئ لما ترمي إليه - أحاديث صحيحة؛ لأن هذه الأحاديث رويت في أصح كتب السنة، كالبخاري ومسلم، وكتب السنن والمسانيد والمصنفات، وصححها علماء الأمة قديما وحديثا.
· لا شك أن قرن الصحابة -رضي الله عنهم- هو أفضل القرون على الإطلاق؛ لورود الأحاديث التي تدل على ذلك؛ ولكونهم صاحبوا النبي - صلى الله عليه وسلم- وجاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم، ففضيلة الصحبة لا يقارنها شيء، وليس معنى ذلك نزع الخيرية من الأمة مطلقا؛ فالتفضيل لا يعني نزع الخيرية من الباقين؛ لأنهما اشتركا في صفة واحدة، وإن زاد بعضها على الآخر.
· إن الشر المذكور في حديث:«لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه» ليس على عمومه وإطلاقه؛ لأنه من قبيل العام المخصوص، كما أشار إلى ذلك الشيخ الألباني؛ لأن الله -عز وجل- قيض لهذه الأمة من يجدد لها دينها، ويردها إلى الصواب.
· إن الخيرية موجودة في هذه الأمة إلى أن تقوم الساعة؛ لأن الله -عز وجل- قال: )كنتم خير أمة أخرجت للناس( (آل عمران: ١١٠) ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: «فطوبى للغرباء»، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أو آخره»، وهذا يدل على أن الخير في الأمة إلى قيام الساعة، طالما أن هناك أمرا بمعروف، ونهيا عن منكر، فغربة الإسلام في آخر الزمان كغربته في أول دعوته، وهذا يذكر بأن الخير موجود، وإن كان الصحابة أقل عددا من غيرهم.
· لقد دلت أحاديث كثيرة على أن المستقبل للإسلام، كقوله صلى الله عليه وسلم: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار...»، وقوله - صلى الله عليه وسلم- أيضا: «تكون النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله...»، وغيرها من الأحاديث الأخرى، كأحاديث المهدي المنتظر، وأحاديث نزول عيسىعليه السلام.
· لا داعي لليأس والإحباط؛ لأن الأمة كم مرت بفترات ركود واضمحلال، ثم بعث الله فيها من يجدد لها أمر دينها؛ فقامت من غفلتها، والتاريخ خير شاهد على ذلك.
· لقد دعا الدين الإسلامي إلى ضرورة الوقوف في وجه الطغاة والظالمين، قال تعالى: )ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار( (هود: ١١٣)، وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»، فليس معنى الصبر في الحديث الخضوع والاستسلام، ولكن معناه الترقب والانتظار لفرج الله عز وجل.
يزعم بعض المتوهمين أن أحاديث الخيرية بين أول زمان الأمة وآخره غير صحيحة؛ لأنها متعارضة، ويستدلون على ذلك بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه»، وقوله: «خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم...» يتعارضان مع قوله، صلى الله عليه وسلم: «مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أو آخره»، وقوله، صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء...»، بالإضافة إلى أن هذه الأحاديث تصيب كل من يحاول الإصلاح وإعادة بناء الأمة كما كانت في سالف عهدها بشتى ألوان اليأس والإحباط؛ لأنها تدل على أن الأمة تسير من السيء إلى الأسوأ، وهذا مخالف لتعاليم الدين الإسلامي الذي يدعو إلى الوقوف في وجه الظلم ورد العدوان.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن ثبوت صحة الأحاديث الواردة في خيرية زمان أمة الإسلام أوله وآخره - لينفي التعارض المتوهم بينها؛ لأنه لا تعارض بين الصحيح، والشر المذكور في الحديث ليس على عمومه وإطلاقه؛ فقرن الصحابة -رضي الله عنهم- وإن كان أفضل القرون، إلا أنه لا يدل على نزع الخيرية من آخر الزمان؛ لأن الخيرية بالنسبة للمجموع لا للأفراد، ويدل على ذلك ما يكون من خير ورفعة لراية الإسلام، وذلك بخروج المهدي ونزول عيسى -عليه السلام- آخر الزمان.
2) في السنة أحاديث كثيرة تؤكد أن المستقبل للإسلام، ولا داعي لاتهام تلك الأحاديث التي معنا بأنها تثير الإحباط واليأس في قلوب الناس؛ لأنه يجب الجمع بين الأحاديث؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال في حديث له: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين بالحق لا يضرهم من خذلهم أو ناوأهم حتى قيام الساعة»، كما أنها لا تدعو إلى السكوت عن الظلم ورده؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قال في حديث آخر: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر».
أولا. صحة الأحاديث تنفي تعارضها، وبالجمع بينها وبين أحاديث أخرى يكون الخير في الأمة إلى قيام الساعة:
إن هذه الأحاديث المتوهم عدم صحتها بحجة أنها تدعو إلى اليأس والإحباط إنما هي أحاديث صحيحة وردت في كتب السنة الصحيحة؛ فحديث: «لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه» حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري - رحمه الله - في صحيحه [1]، وقد أخرجه أيضا الإمام الترمذي في سننه [2].
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم-: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم...»، فهذا أيضا حديث صحيح في أعلى درجات الصحة؛ لأنه مروي في الصحيحين: البخاري ومسلم [3]، وأخرجه - أيضا - الإمام الترمذي في سننه[4].
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره»، فقد أخرجه الترمذي في سننه[5]. وكذلك الإمام أحمد في مسنده[6].
وأما حديث: «بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء»، فقد أخرجه الإمام مسلم في صحيحه[7]، وأخرجه ابن ماجه في سننه[8].
وعليه، فهذه الأحاديث صحيحة، وطالما أنها صحيحة، فلا تعارض بينها، يقول الحافظ ابن حجر معلقا على حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه- حين شكى إليه الناس ما يلقون من الحجاج - وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه»، "قال ابن بطال: هذا الخبر من أعلام النبوة؛ لإخباره - صلى الله عليه وسلم- بفساد الأحوال، وذلك من الغيب الذي لا يعلم بالرأي، وإنما يعلم بالوحي. ثم يقول ابن حجر: وقد استشكل هذا الإطلاق مع أن بعض الأزمنة تكون في الشر دون التي قبلها، ولو لم يكن في ذلك إلا زمن عمر بن عبد العزيز، وهو بعد زمن الحجاج بيسير، وقد اشتهر الخبر الذي كان في زمن عمر بن عبد العزيز، بل لو قيل: إن الشر اضمحل في زمانه لما كان بعيدا، فضلا عن أن يكون شرا من الزمن الذي قبله، وقد حمله الحسن البصري على الأكثر الأغلب، فسئل عن وجود عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج، فقال: لا بد للناس من تنفيس.
وأجاب بعضهم: أن المراد بالتفضيل تفضيل مجموع العصر على مجموع العصر، فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء، وفي عصر عمر بن عبد العزيز انقرضوا، والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «خير القرون قرني»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون»[9]، ثم وجدت عن عبد الله بن مسعود التصريح بالمراد، وهو أولى بالاتباع، فأخرج يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة عن زيد بن وهب قال: سمعت عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يقول: «لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه، ولا مالا يفيده، ولكن لا يأتـي عليكم يوم إلا وهو أقل علما من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس، فلا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون».
ومن طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود إلى قوله: "شر منه" قال: «فأصابتنا سنة خصب، فقال: ليس ذلك أعني، إنما أعني ذهاب العلماء»، ومن طريق الشعبي عن مسروق عنه قال: «لا يأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما كان قبله، أما إني لا أعني أميرا خيرا من أمير، ولا عاما خيرا من عام، ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون، ثم لا تجدون منهم خلفا، ويجيء قوم يفتون برأيهم»، وفي لفظ عنه من هذا الوجه: «وما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها، ولكن بذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه»، وأخرج الدارمي الأول من طريق الشعبي بلفظ «لست أعني عاما أخصب من عام» والباقي مثله وزاد: "وخياركم" قبل قوله: "وفقهاؤكم"، واستشكلوا أيضا زمان عيسى ابن مريم بعد زمان الدجال، وأجاب الكرماني بأن المراد الزمان الذي يكون بعد عيسى، أو المراد: جنس الزمان الذي فيه الأمراء، وإلا فمعلوم من الدين بالضرورة أن زمان النبي المعصوم لا شر فيه. قلت: ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة ما قبل وجود العلامات العظام كالدجال وما بعده، ويكون المراد بالأزمنة المتفاضلة في الشر من زمن الحجاج فما بعده إلى زمن الدجال، وأما زمن عيسى -عليه السلام- فله حكم مستأنف.
ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة المذكورة أزمنة الصحابة بناء على أنهم هم المخاطبون بذلك فيختص بهم، فأما من بعدهم فلم يقصد في الخبر المذكور، لكن الصحابي فهم التعميم، فلذلك أجاب من شكى إليه الحجاج بذلك وأمرهم بالصبر، وهم أو جلهم من التابعين.
واستدل ابن حبان في صحيحه بأن حديث أنس ليس على عمومه، وقد استدل على ذلك بالأحاديث الواردة في المهدي، وأنه يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا"[10].
ومن تتبع أحوال هذه الأمة وجد الأمر كذلك، لكن يجب أن نعرف الفرق بين الجملة والأفراد، فحديث أنس - ضي الله عنه- حديث صحيح سندا ومتنا، فالمتن ليس فيه شذوذ، والسند في البخاري، والمراد به من حيث الجملة؛ ولذلك يوجد في أتباع التابعين من هو خير من التابعين، فلا تيأسوا فتقولوا: إذن، لا يمكن أن يوجد في زماننا هذا من سبق، لكننا نقول: إن مثل هذا الحديث يراد به الجملة، وإذا شئتم أن يتضح الأمر، فانظروا إلى جنس الرجال وجنس النساء، أيهما خير؟ والجواب جنس الرجال خير، قال تعالى: )وللرجال عليهن درجة( (البقرة:٢٢٨)، ولكن يوجد في النساء من هي خير من كثير من الرجال، فيجب أن نفرق بين الجملة والأفراد، فإذا نظرنا إلى مجموع القرن كله نجد أن ما بعد القرن شر منه، لا باعتبار الأفراد، ولا باعتبار مكان دون مكان، فقد تكون أمة في الجهات، يرتفع فيها من حسن على أحسن، كما لو نشأ فيها علماء نفع الله بهم. وقد يقال: إن هذا الحديث بناء على الأغلب، فما وقع من خير بعد الشر ولو كان عاما، فإنه يكون مخصصا لهذا الحديث[11].
وفي ضوء فهم الحديث على هذا النحو؛ فليس ثمة تعارض بينه وبين حديث «مثل أمتي كالمطر...»، "قال التوربشتي: لا يحمل هذا الحديث على التردد في فضل الأول على الآخر، فإن القرون الأول هم المفضلون على سائر القرون من غير شبهة، ثم الذين يلونهم، وفي الرابع اشتباه من قبل الراوي، وإنما المراد بهم نفعهم في بث الشريعة، والذب عن الحقيقة، قال القاضي: نفى تعلق العلم بتفاوت طبقات الأمة في الخيرية، وأراد نفي التفاوت، كما قال: )قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض( (يونس: ١٨)؛ أي: بما ليس فيهن كأنه قال: لو كان لعلم؛ لأنه أمر لا يخفى، ولكن لا يعلم؛ لاختصاص كل طبقة منهم بخاصية وفضيلة توجب خيريتها، كما أن كل نوبة من نوب المطر لها فائدة في النشو والنماء لا يمكنك إنكارها والحكم بعدم نفعها، فإن الأولين آمنوا بما شاهدوا من المعجزات، وتلقوا دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم- بالإجابة والإيمان، والآخرين آمنوا بالغيب، لما تواتر عندهم من الآيات، واتبعوا من قبلهم بالإحسان، وكما أن المتقدمين اجتهدوا في التأسيس والتمهيد، فالمتأخرون بذلوا وسعهم في التلخيص والتجريد، وصرفوا عمرهم في التقرير والتأكيد، فكل ذنبهم مغفور، وسعيهم مشكور، وأجرهم موفور.
قال الطيبي: وتمثيل الأمة بالمطر إنما يكون بالهدى والعلم، كما أن تمثيله - صلى الله عليه وسلم- الغيث بالهدى والعلم، فتختص هذه الأمة المشبهة بالمطر بالعلماء الكاملين منهم المكملين لغيرهم، فيستدعي هذا التفسير أن يراد بالخير النفع، فلا يلزم من هذا المساواة في الأفضلية، ولو ذهب إلى الخيرية، فالمراد: وصف الأمة قاطبة سابقها ولاحقها، وأولها وآخرها بالخير، وأنها ملتحمة بعضها مع بعض مرصوصة بالبنيان مفرغة كالحلقة التي لا يدرى أين طرفاها...
فالحاصل: أن الأمة مرتبط بعضها مع بعض في الخيرية بحيث أبهم أمرها فيها، وارتفع التمييز بينها، وإن كان بعضها أفضل من بعض في نفس الأمر، وهو قريب من سوق المعلوم مساق غيره،
ومن المعلوم جليا أن يوم بداءة العمر أفضل من يوم يأسه، لكن البدء لما لم يكن يكمل ويستتب إلا باليأس أشكل عليه الأمر فقال ما قال، وكذا أمر المطر والأمة[12].
ويعلق ابن حجر على حديث«خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم...»، فيقول: ومقتضى هذا الحديث أن يكون الصحابة أفضل من التابعين، والتابعون أفضل من أتباع التابعين، لكن هل هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد؟ وفي المسألة تفصيل؛ فالجمهور نحا إلى الثاني (الأفراد)، والأول (المجموع) قول ابن عبد البر، والذي يظهر: أن من قاتل مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو في زمانه بأمره، أو أنفق شيئا من ماله بسببه، لا يعدله في الفضل أحد كائنا من كان، وأما من لم يقع له ذلك فهو محل البحث، والأصل في ذلك قوله تعالى: )لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا( (الحديد: ١٠).
واحتج ابن عبد البر بحديث: «مثل أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره»، وهو حديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة... وقد أجاب النووي بما حاصله: أن المراد من يشتبه عليه الحال في ذلك من أهل الزمان الذين يدركون عيسى ابن مريم -عليه السلام-، ويرون في زمانه من الخير والبركة، وانتظام كلمة الإسلام، ودحض كلمة الكفر، فيشتبه الحال على من شاهد ذلك أي الزمانين خير، وهذا الاشتباه مندفع بصريح قوله صلى الله عليه وسلم:«خير القرون قرني...»، وروى أحمد، والدارمي، والطبراني من حديث أبي جمعة قال: «قال أبو عبيدة: يا رسول الله، أأحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك! قال: قوم يكونون من بعدكم، يؤمنون بي ولم يروني»[13]، وإسناده حسن، وقد صححه الحاكم. واحتج أيضا بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم؛ لكثرة الكفار حينئذ، وصبرهم على أذاهم، وتمسكهم بدينهم، قال: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به، وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن كانوا أيضا عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان، كما زكت أعمال أولئك. ويشهد له ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رفعه: «بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء»[14] وقد تعقب كلام ابن عبد البر بأن مقتضى كلامه أن يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من يكون أفضل من بعض الصحابة، وبذلك صرح القرطبي، لكن كلام ابن عبد البر ليس على الإطلاق في حق جميع الصحابة، فإنه صرح في كلامه باستثناء أهل بدر والحديبية. نعم والذي ذهب إليه الجمهور: أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، لمشاهدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأما من اتفق له الذب عنه، والسبق إليه بالهجرة أو النصرة، وضبط الشرع المتلقى عنه وتبليغه لمن بعده، فإنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده؛ لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة إلا وللذي سبق بها مثل أجر من عمل بها من بعده، فظهر فضلهم. ومحصل النزاع يتمحض فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة كما تقدم، فإن جمع بين مختلف الأحاديث المذكورة كان متجها على أن حديث: «للعامل منهم أجر خمسين منكم» لا يدل على أفضلية غير الصحابة على الصحابة؛ لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة، وأيضا فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل، فأما ما فاز به من شاهد النبي - صلى الله عليه وسلم- من زيادة فضيلة المشاهدة، فلا يعدله فيها أحد، فبهذه الطريق يمكن تأويل الأحاديث المتقدمة"[15].
ويؤكد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في شرحه حديث «بدأ الإسلام غريبا» يقول: إنه - أي الإسلام - في أمكنة وأزمنة يعود غريبا بينهم، ثم يظهر كما كان في أول الأمر غريبا ثم ظهر، ولهذا قال:«سيعود غريبا كما بدأ»، وهو لما بدأ كان غريبا لا يعرف، ثم ظهر وعرف، فكذلك يعود حتى لا يعرف، ثم يظهر ويعرف، فيقل من يعرفه في أثناء الأمر كما قل من يعرفه أولا، ويحتمل أنه في آخر الدنيا لا يبقى مسلما إلا قليل، وهذا إنما يكون بعد الدجال ويأجوج ومأجوج عند قرب الساعة، وحينئذ يبعث الله ريحا تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ثم تقوم الساعة، وأما قبل ذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة»[16]، وهذا الحديث في الصحيحين ومثله من عدة أوجه، فقد أخبر الصادق المصدوق أنه لا تزال طائفة ممتنعة من أمته على الحق أعزاء لا يضرهم المخالف، ولا خلاف الخاذل، فأما بقاء الإسلام غريبا ذليلا في الأرض كلها قبل الساعة فلا يكون هذا، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ثم يعود غريبا كما بدأ» أعظم"[17].
وقد ذهب ابن القيم - رحمه الله - إلى أن هذه الغربة لا تعني الوحشة، ولكنها تعني العزة والكرامة، فيقول: "الغربة ثلاثة أنواع: غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق، وهي الغربة التي مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أهلها، وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، وأن أهله يصيرون غرباء، وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون قوم، ولكن أهل هذه الغربة هم أهل الله حقا، فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسوله - صلى الله عليه وسلم- ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم، فإذا انطلق الناس يوم القيامة مع آلهتهم بقوا في مكانهم، فيقال لهم: ألا تنطلقون حيث انطلق الناس؟ فيقولون: فارقنا الناس، ونحن أحوج إليهم منا اليوم، وإنا ننتظر ربنا الذي كنا نعبده.
فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها، بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا؛ فوليه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم- والذين آمنوا، وإن عاداه أكثر الناس وجفوه"[18].
وبهذا يتبين مما سبق أن هذه الأحاديث لا تعارض بينها ألبتة، ولكن يوضح بعضها بعضا، والخير موجود في الأمة إلى قيام الساعة رغم أنف المخالفين والمعاندين.
ثانيا. دلالة الشرع على أن المستقبل للإسلام والانتصار له:
لقد بشرنا الله -عز وجل- بأن المستقبل للإسلام، قال تعالى: )هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (9)( ]الصف [، فالآية تبشرنا بأن المستقبل للإسلام؛ لسيطرته وظهوره، وحكمه على الأديان كلها وهيمنته عليها، وقد يظن بعض الناس أن ذلك قد تحقق في عهده - صلى الله عليه وسلم- وعهد الخلفاء الراشدين والملوك الصالحين، وليس كذلك، فالذي تحقق إنما هو جزء من هذا الوعد الصادق، وقد وردت أحاديث توضح مبلغ ظهور الإسلام ومدى انتشاره بحيث لا يدع مجالا للشك في أن المستقبل للإسلام بإذن الله وتوفيقه، وها نحن نسوق ما تيسر من هذه الأحاديث عسى أن تكون سببا لشحذ العاملين للإسلام، وحجة على اليائسين المتواكلين. قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها»[19]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزا يعز به الله الإسلام، وذلا يذل به الكفر»[20]، وقال، صلى الله عليه وسلم:«تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت»[21].
ومن البعيد حمل الحديث على عمر بن عبد العزيز؛ لأن خلافته كانت قريبة العهد بالخلافة الراشدة، ولم تكن بعد ملكين؛ ملك عاض، وملك جبري[22].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية تعليقا على حديث «بدأ الإسلام غريبا...»: "إن هذا الحديث لا يقتضي أنه إذا صار المسلم غريبا أن المتمسك يكون في شر، بل هو أسعد الناس، كما قال في تمام الحديث: «فطوبى للغرباء»، وطوبى من الطيب، قال تعالى: )طوبى لهم وحسن مآب (29)( (الرعد: ٢٩)، فإنه يكون من جنس السابقين الأولين الذين اتبعوه لما كان غريبا وهم أسعد الناس"[23].
وقد علق الشيخ الألباني على الأحاديث التي تدل على غلبة الإسلام في آخر الزمان بعد ذكره حديث: «لا يأتي زمان...» قائلا: فهذا الحديث ينبغي أن يفهم في ضوء الأحاديث التي تدل على أن الغلبة للإسلام مثل أحاديث المهدي، ونزول عيسى -عليه السلام- فإنها تدل على أن هذا الحديث ليس على عمومه، بل هو من العام المخصوص، فلا يجوز إفهام الناس أنه على عمومه فيقعوا في اليأس الذي لا يصح أن يتصف به المؤمن، قال تعالى: )إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون (87)( (يوسف:٨٧) [24].
وقال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: إن حديث «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء»[25] لا يفهم منه أن الإسلام سينكمش ويضعف، وأن على من يسمع هذا الحديث أن يهادن الإثم، ويداهن الجائرين، ويستكين للأفول الذي لا محيص عنه! وإيراد الحديث وفهمه على هذا النحو مرض شائع قديم. ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى صلاح الدين الأيوبي ما فكر في استرداد بيت المقدس من الصليبيين القدامى! ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى سيف الدين قطز ما نهض إلى دحر التتار في "عين جالوت"! ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى زعماء الفكر الإسلامي في عصرنا الحاضر ابتداء من جمال الدين الأفغاني إلى الشهداء والأحياء من حملة اللواء السامق ما فكروا أن يخطوا حرفا أو يكتبوا سطرا!
وقلت في نفسي: أيكون الإسلام غريبا وأتباعه الذين ينتسبون إليه يبلغون وفق الإحصاءات الأخيرة ثمانمائة مليون نفس؟!
يا للخذلان والعار!
الواقع أن هذا الحديث وأشباهه يشير إلى الأزمات التي سوف يواجهها الحق في مسيرته الطويلة، فإن الباطل لن تلين بسهولة قناته، بل ربما وصل في جرأته على الإيمان أن يقتحم حدوده ويهدد حقيقته، ويحاول الإجهاز عليه!
وعندما تنجلي الظلماء عن رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ويقاومون الضلال بجلد، ولا يستوحشون من جو الفتنة الذي يعيشون فيه، ولا يتخاذلون للغربة الروحية والفكرية التي يعانونها، ولا يزالون يؤدون ما عليهم لله حتى تنقشع الغمة، ويخرج الإسلام من محنته مكتمل الصفحة، بل لعله يستأنف زحفه الطهور فيضم إلى أرضه أرضا، وإلى رجاله رجالا.
وذلك ما وقع خلال أعصار مضت، وذلك ما سيقع خلال أعصار تجييء، وهذا ما ينطق به حديث الغربة الآنف، فقد جاء في بعض رواياته: «طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي»، فليست الغربة موقفا سلبيا عاجزا، إنها جهاد قائم دائم حتى تتغير الظروف الرديئة ويلقى الدين حظوظا أفضل.
وليس الغرباء هم التافهون من مسلمي زماننا، بل هم الرجال الذين رفضوا الهزائم النازلة، وتوكلوا على الله في مدافعتها حتى تلاشت![27].
وبناء على هذا لا داعي لليأس؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- القائل حديث: «لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه»هو نفسه الذي قال حديث: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»[28].
فأخبر أن الأمة يتجدد لها الدين على رأس كل مائة سنة، وتتحسن الأمور والأوضاع والأحوال، لكن في الإجمال لا شك أن الأمة تسير في طريق تنازلي إجمالا.
لكن قد يكون في الأمة زمن أحسن مما قبله كما هو الحال بالنسبة لعصور المجاهدين - مثلا - الإمام محمد بن عبد الوهاب الذي جاء إلى بلاد نجد وهم يعبدون الأصنام والأوثان، وبينهم من الحروب والتطاحن ما هو معروف في تاريخ نجد، فدعاهم وجمعهم على كلمة الإخلاص، ووحد الله تعالى قلوبهم به بعدما وحد عقائدهم، ووفقه الله تعالى لأن يقيم دعوة راسخة قوية صلبة على مر العصور.
إذا ليس الأمر مطردا، وعلى هذه الصورة يحمل حديث: «أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره»[29]، والمقصود أن آخر الأمة أقل في الخير والقوة حتى لا يلتبس على الناس أهو خير أم أوله، وإلا ففضل الأولين مشهود لا يشك فيه أحد، فالذي قال هذا هو الذي قال ذاك، فلماذا تؤخذ الأحاديث التي فيها يأس، وتترك الأحاديث التي فيها الأمل؟![30].
وعليه، فهذا الحديث ينبغي أن يفهم في ضوء الأحاديث التي تدل على أن الغلبة للإسلام، كأحاديث المهدي، ونزول عيسى -عليه السلام-، فإنها تدل على أن هذا الحديث ليس على عمومه، بل هو من العام المخصوص، فلا يجوز إفهام الناس أنه على عمومه؛ فيقعوا في اليأس الذي لا يصح أن يتصف به المؤمن، قال تعالى: )إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون (87)( (يوسف: ٨٧)"[31].
وأما قولهم: إن حديث «لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه» فيه دعوة للسكوت عن الظلم ورده، نقول ردا عليهم:
قال الشيخ الغزالي - رحمه الله - تعليقا على هذا الحديث: والواقع أن أنسا - رضي الله عنه- كان يقصد بحديثه منع الخروج المسلح على الدولة بالطريقة التي شاعت في عهده، ومن بعده، فمزقت شمل الأمة، وألحقت بأهله خسائر جسيمة، ولم تنل بأي أذى يذكر.
وأنس بن مالك - راوي الحديث - أشرف دينا من أن يمالئ الحجاج أو يقبل مظالمه، ولكنه أرحم بالأمة من أن يزج بأتقيائها وشجعانها في مغامرات فردية تأتي عليهم، ويبقى الحجاج بعدها راسخا مكينا!
وتصبيره الناس حتى يلقوا ربهم - أي حتى ينتهوا هم - لا يعني أن الظلم سوف يبقى إلى قيام الساعة، وأن الاستكانة الظالمة سنة ماضية إلى الأبد.
إن هذا الظاهر باطل يقينا، والقضية المحددة التي أفتى بها أنس - رضي الله عنه- لا يجوز أن تتحول إلى مبدأ قانوني يحكم الأجيال كلها[32].
وقد بين الشيخ القرضاوي مفهومه على النحو الآتي:
أولا: أن القائل: "اصبروا" هو أنس - رضي الله عنه- فليس هو من الحديث المرفوع، وإنما استنبطه منه، وكل واحد يؤخذ من كلامه ويترك عدا المعصوم صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: أن أنسا لم يأمرهم بالرضا بالظلم والفساد، وإنما أمرهم بالصبر، وفرق كبير بين الأمرين، فإن الرضا بالكفر كفر، وبالمنكر منكر، أما الصبر، فقلما يستغني عنه أحد، وقد يصبر المرء على الشيء وهو كاره له، ساع في تغييره.
ثالثا: أن من لا يملك القدرة على مقاومة الظلم والجبروت ليس له إلا أن يعتصم بالصبر والأناة، مجتهدا أن يعد العدة، ويتخذ الأسباب، معتضدا بكل من يحمل فكرته، منتهزا الفرصة المواتية ليواجه قوة الباطل بقوة الحق، وأنصار الظلم بأنصار العدل.
وقد صبر النبي - صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر عاما في مكة على الأصنام وعبادها، فكان يصلي في المسجد الحرام، ويطوف بالكعبة وفيها وحولها ثلاثمائة وستون صنما، بل طاف بالبيت في السنة السابعة من الهجرة مع أصحابه في عمرة القضاء، وهو يراها لا يمسها حتى أتى الوقت المناسب يوم الفتح الأعظم؛ ففتح مكة وحطمها.
ولهذا قرر علماؤنا أن إزالة المنكر إذا ترتب عليها منكر أكبر منه وجب السكوت عنه حتى تتغير الأحوال.
وعلى هذا ينبغي ألا يفهم من الوصية بالصبر الاستسلام المطلق للظلم والطغيان، بل الانتظار والترقب حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين.
رابعا: أن الصبر لا يمنع من قول كلمة الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمام الطغاة المتألهين، وإن لم تكن واجبة على من يخاف على نفسه أو أهله أو من حوله، فقد جاء في الحديث: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»[33]، وجاء أيضا: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» [34][35].
من خلال ما سبق يتبين أن الأحاديث يجب أن يجمع بينها لتكون هناك نظرة عامة وسطى متكاملة في أي قضية من القضايا - وهذا ليس تكلفا، إنما هو متحقق - وعلى هذا يكون الحديث الوارد بشأن وقوع الشر في الأمة مخصوصا وليس عاما، وذلك بما جاء بشأن الغلبة للإسلام وتمكنه في آخر الزمان حتى لا يقع الناس في اليأس والإحباط من التغيير؛ استنادا على ما ورد بأنهم أفضل ممن سيأتي بعدهم.
الخلاصة:
· إن الأحاديث الواردة في خيرية زمان الأمة أوله وآخره، والتي نفى الطاعنون صحتها نتيجة فهمهم الخاطئ لما ترمي إليه - أحاديث صحيحة؛ لأن هذه الأحاديث رويت في أصح كتب السنة، كالبخاري ومسلم، وكتب السنن والمسانيد والمصنفات، وصححها علماء الأمة قديما وحديثا.
· لا شك أن قرن الصحابة -رضي الله عنهم- هو أفضل القرون على الإطلاق؛ لورود الأحاديث التي تدل على ذلك؛ ولكونهم صاحبوا النبي - صلى الله عليه وسلم- وجاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم، ففضيلة الصحبة لا يقارنها شيء، وليس معنى ذلك نزع الخيرية من الأمة مطلقا؛ فالتفضيل لا يعني نزع الخيرية من الباقين؛ لأنهما اشتركا في صفة واحدة، وإن زاد بعضها على الآخر.
· إن الشر المذكور في حديث:«لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه» ليس على عمومه وإطلاقه؛ لأنه من قبيل العام المخصوص، كما أشار إلى ذلك الشيخ الألباني؛ لأن الله -عز وجل- قيض لهذه الأمة من يجدد لها دينها، ويردها إلى الصواب.
· إن الخيرية موجودة في هذه الأمة إلى أن تقوم الساعة؛ لأن الله -عز وجل- قال: )كنتم خير أمة أخرجت للناس( (آل عمران: ١١٠) ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: «فطوبى للغرباء»، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أو آخره»، وهذا يدل على أن الخير في الأمة إلى قيام الساعة، طالما أن هناك أمرا بمعروف، ونهيا عن منكر، فغربة الإسلام في آخر الزمان كغربته في أول دعوته، وهذا يذكر بأن الخير موجود، وإن كان الصحابة أقل عددا من غيرهم.
· لقد دلت أحاديث كثيرة على أن المستقبل للإسلام، كقوله صلى الله عليه وسلم: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار...»، وقوله - صلى الله عليه وسلم- أيضا: «تكون النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله...»، وغيرها من الأحاديث الأخرى، كأحاديث المهدي المنتظر، وأحاديث نزول عيسىعليه السلام.
· لا داعي لليأس والإحباط؛ لأن الأمة كم مرت بفترات ركود واضمحلال، ثم بعث الله فيها من يجدد لها أمر دينها؛ فقامت من غفلتها، والتاريخ خير شاهد على ذلك.
· لقد دعا الدين الإسلامي إلى ضرورة الوقوف في وجه الطغاة والظالمين، قال تعالى: )ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار( (هود: ١١٣)، وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»، فليس معنى الصبر في الحديث الخضوع والاستسلام، ولكن معناه الترقب والانتظار لفرج الله عز وجل.
مواضيع مماثلة
» * إنكار أحاديث بدء الوحي
» * دعوى تعارض الأحاديث في حكم مرتكبي الكبائر وعصاة الموحدين ومصيرهم
» * دعوى تعارض حديث "إذا أنا مت فأحرقوني" - أثر الإيمان بالقيم الأخلاقية على الدول الأوربية
» * إنكار حديث "فضل عائشة على النساء - دعوى تعارض زيادة العمر ورد القضاء مع القرآن
» * إنكار أحاديث الشفاعة
» * دعوى تعارض الأحاديث في حكم مرتكبي الكبائر وعصاة الموحدين ومصيرهم
» * دعوى تعارض حديث "إذا أنا مت فأحرقوني" - أثر الإيمان بالقيم الأخلاقية على الدول الأوربية
» * إنكار حديث "فضل عائشة على النساء - دعوى تعارض زيادة العمر ورد القضاء مع القرآن
» * إنكار أحاديث الشفاعة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى