* الأدلة الفلسفية والشرعية على الغريزة الدينية - نظرة الإسلام إلى الديانات السماوية السابقة
صفحة 1 من اصل 1
* الأدلة الفلسفية والشرعية على الغريزة الدينية - نظرة الإسلام إلى الديانات السماوية السابقة
الأدلة الفلسفية على الغريزة الدينية
من الأسس الأصلية في المنهج العلمي السليم: أن يعتمد على الاستقراء الذي يدفع إلى الاستنتاج، يفصل القول في ذلك د. محمد الزحيلي فيقول: ويستدل علماء الأديان والاجتماع والفلسفة على كون التدين فطرة بالاستقراء والاستنتاج؛ للكشف عن بواعث التدين الفطرية، وهذه البواعث هي:
1. إن نزعة التدين ظهرت من غريزة التطلع إلى الغيب ومحاولة معرفة الحقيقة الرابضة وراءه، وعدم الوقوف عند حدود الواقع الحسي، والعودة إلى التأمل في المسائل الأزلية: لم خلق الإنسان؟ ومن خلقه؟ ولم خلق الكون؟ ومتى؟ ومن خلقه؟ وما مبدأ الإنسان؟ وما غايته وهدفه؟ وإلى أين يسير؟ وما نهاية الكون؟ وما مصير الإنسان؟ وماذا بعد الموت؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تدفع الإنسان إلى الإيمان بالله، وإلى البحث والنظر والسعي والعلم والاكتشاف، وهذا التطلع والتأمل في هذه القضايا الغيبية كانت ولا زالت وستبقى الشغل الشاغل للإنسان؛ لأنه يريد الوصول إلى اليقين أمام مشكلات الكون الكبرى، مهما تقدمت به المدنية وتعددت الاكتشافات، وترقي العلم؛ لأن العلم عاجز قطعا عن الإجابة عن هذه الأسئلة، ومقيد بكشف نواميس الكون دون أن يغير منها شيئا، ومجاله محدد في النواحي المادية التي وضعت تحت حواسه، كما سنرى بعد قليل.
يقول ساتن هيلير: "هذا اللغز العظيم الذي يستحث عقولنا: ما العالم؟ ما الإنسان؟ من أين جاءا؟ من صنعهما؟ من يدبرهما؟ ما هدفهما؟ كيف بدءا؟ كيف ينتهيان؟ ما الحياة؟ ما الموت؟ ما القانون الذي يجب أن يقود عقولنا في أثناء عبورنا في هذه الدنيا؟ أي مستقبل ينتظرنا بعد هذه الحياة؟ هل يوجد شيء بعد هذه الحياة العابرة؟ وما علاقتنا بهذا الخلود؟ هذه الأسئلة لا توجد أمة ولا شعب ولا مجتمع، إلا وضع لها حلولا جيدة أو رديئة، مقبولة أو سخيفة، ثابتة أو متحولة".
2. العجز في الإنسان وحاجته إلى قوة جبارة تنقذه من المهالك وتعينه وقت الشدة، ويستغيث بها وقت الضيق، فتنجده وتخرجه من المآزق، وتقدم له العون عند الحاجة، وهذا العجز موجود في كل نفس، ويلمسه الإنسان في نفسه، ويسمعه من غيره. سأل رجل الإمام جعفر الصادق عن الله، فقال: ألم تركب البحر؟ قال: بلى. قال: فهل حدث لك مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة؟ قال: نعم، قال: وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة؟ قال: نعم. قال: فهل خطر في بالك وانقدح في نفسك أن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء؟ قال: نعم. قال: فذلك هو الله.
هذا الشعور النفسي بوجود المنقذ من الهلاك، والمنجي من الهم والغم والحزن والكرب، إما أن يبقى مع الإنسان فيكون مؤمنا، وإما أن يتنكر له، ويجحد هذا الفضل ويعرض عن ربه، فيكون كافرا وملحدا وضالا، وقد صور القرآن الكريم في آيات كثيرة ومواطن مختلفة، هذه النماذج من النفوس، قال صلى الله عليه وسلم: )
هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصيـن لـه الديـن لئـن أنجيتنـا مـن هـذه لنكونـن مـن الشاكريــن (22)
فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون (23)( (يونس)،
وقال صلى الله عليه وسلم: )وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا (67)( (الإسراء)،
وقال سبحانه وتعالى: )وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله( (الزمر: Cool،
وقال سبحانه وتعالى: )وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون (53)
ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون (54) ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون (55) ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون (56)((النحل)،
وقال سبحانه وتعالى: )قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين (63)( (الأنعام).
هذه الآيات الكريمة تكشف هذا الإحساس النفسي الباطني عن عجز الإنسان، وتذكر بعض الصور الدقيقة التي لا مهرب منها لكل فرد، من إقراره بالعجز، والتجائه إلى القوة الغيبية الخالقة المبدعة التي تتصرف بالكون؛ لتنقذه من المهالك، ويستنجد بها في أحلك الظروف للنجاة، ويعطي الوعود والعهود بالتوبة والإنابة والطاعة والخضوع، ثم لا يلبث أن ينسى حاله، وينقض وعده، ويتيه في غيه وضلاله إلا من رحم ربك، وأعمل عقله واحترم نفسه، وفكر في ماضيه وحاضره ومستقبله، فهو على العهد باق، وبالعقيدة والإيمان بالله ملتزم.
3. ومن دوافع الفطرة إلى التدين الإحساس بالخوف، والرهبة أمام هذا الكون العظيم وما يجري فيه، مما يحرك أحاسيس الإنسان ويوقظ مداركه، ويدفع عقله - بالغريزة والفطرة - ليبحث عن خالق الكون، فيأنس به، ويطمئن قلبه عنده، ويهدأ روعه وخوفه، ويأمن جانبه، ويعقد أواصر التقرب له، ثم يقدم الطاعة والعبادة لعظمته، وهذا هو الدين.
وقد لفت القرآن النظر في آيات متعددة إلى هذا الكون العظيم، وما فيه من أجرام ومشاهد ومخلوقات تستحق الوقوف أمامها، ويقف الإنسان عندها مشدوها عاجزا لا يملك حراكا ولا عطاء، بل جاءت بعض الآيات الكريمة تتحدى مظاهر الكون والطبيعة والإنسان على أن تخلق نفسها أو تخلق غيرها أو تملك النفع أو الضرر لنفسها أو لغيرها.
قال الله سبحانه وتعالى: )والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون (20) أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون (21) إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون (22)( (النحل).
وقال - سبحانه وتعالى - على لسان إبراهيم عليه السلام: )إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42)( (مريم).
وقال سبحانه وتعالى: )وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون (22) أأتخذ من دونه آلهة إن يـردن الرحمــن بضـر لا تغـن عنـي شفاعتهـم شيئـا ولا ينقـذون (23)( (يس).
وقال سبحانه وتعالى: )ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله( (يونس: 18).
وقال سبحانه وتعالى: )الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون (2) وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (3) وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (4)( (الرعد)،
وقال سبحانه وتعالى: )هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال (12) ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال (13)( (الرعد).
ويقول سبحانه وتعالى: )خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم (10) هذا خلق الله فأروني مـاذا خلـق الذيـن مـن دونـه بـل الظالمـون في ضـلال مبيــن (11)( (لقمان).
ويقول سبحانه وتعالى: )أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17)( (النحل)، )والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون (20)( (النحل(،
ويقول سبحانه وتعالى: )يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (3)( (فاطر).
ويقول - سبحانه وتعالى - متحديا البشر في الخلق والإعادة: )قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون (46)( (الأنعام).
الأدلة الفلسفية على الغريزة الدينية
ولنتأمل هذه المحاورة مع الكفار في قوله سبحانه وتعالى: )وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون (70) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون (71) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون (72)( (القصص)،
ويقول سبحانه وتعالى )الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا (2) واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا (3)( (الفرقان).
والآيات كثيرة في هذا الخصوص، ولا يقف الإنسان أمامها عاجزا فقط، وإنما يصاب بالرهبة والخوف والجمود والحيرة، لولا ثقته بالله وإيمانه به.
وقد يقول قائل: إن هذه الرهبة كانت في القديم، فأثارت نفس الإنسان البدائي، فاندفع إلى التدين ليأمن من خوف الطبيعة، والكون، واليوم لا نحس بذلك، ولا نلمسه في النفس الإنسانية، وبالتالي فلا حاجة للدين اليوم؟!
والجواب على ذلك: أن هذا الإحساس بالرهبة كان ولا يزال وسيبقى؛ لأنه نتيجة حتمية للعجز الذي يتركب منه الإنسان بفطرته وملكاته وإمكانيته، ولكن هذه الرهبة تغيرت بواعثها، ففيالقديم خاف الإنسان من خسوف القمر، وكسوف الشمس، وأصابته الرهبة من الرياح، والأعاصير، والعواصف، ووقف يرتجف من بعض الحيوانات المفترسة والوحوش الكاسرة، وخشي من القحط والجدب وقلة المطر، وجفاف الأنهار.
أما بواعث الرهبة اليوم فلم تقتصر على ما سبق، وإنما تتحقق في نفوس العلماء الذين واصلوا الليل بالنهار، كل في اختصاصه، ثم وصلوا إلى الطريق المسدود، ووقفت الوسائل، وعجز العلم أمام اللغز المحير، وأدرك كل عالم أن وراء ذلك قوة كاملة، وإرادة منظمة، وعظمة مطلقة، مثل تفجير الذرة، ومرض السرطان وبقية الأمراض المستعصية، ومعرفة تركيب العين، والسر في انسجام أعضاء الجسم، ولفظ الأعضاء الأجنبية عند نقل الكلية أو القلب..
والصبغيات في تكوين الجنين، والخلايا في المخ والدماغ، وعصب العين.
ونعود لنسأل: هل استطاعت الإنسانية والعلم أن يضعا حدا للزلازل والأعاصير التي تتحرك في جنوب شرق آسيا مثلا؟ وتزيل مدينة صناعية كاملة من وجه الأرض في الصين، ويذهب ضحيتها الملايين في ثوان معدودة؟ وهل استغنى البشر اليوم عن الأنهار الجارية والأمطار؟ وهل يغيب عن ذهن العاقل أخطار الجفاف وقلة الأمطار التي كانت تهدد أوربا بالأمس، وآسيا وإفريقيا اليوم وتنذرها بأفدح العواقب؟
وإذا استطاع العلم أن يكشف نظام أحد المخلوقات ويعرف كيفية عمله ويدرك سر تكوينه فإن هذا لا يغير من الحقيقة شيئا، ولا يفقد الفكرة قيمتها؛ لأن هذا الكائن المخلوق يسير على نسق لا يستطيع العلم تغييره ولا تبديله، مثل تكوين الأمطار وهطولها، مع العجز عن تغيير نظامها، وتبديل الأمطار الشتوية إلى صيفية، والموسمية إلى فصلية، ونقل الأمطار والطوفان من آسيا لتخفيف الجفاف في أوربا، أو بالعكس، كما اكتشف العلم تركيب الهواء، أو الماء، ولكن هل غير من تركيبه؟ وهل أوجد شيئا من العدم؟ وبذل البشر ملايين الملايين للوصول إلى القمر والمريخ، ولكن هل غيروا من نظامهما؟ وهل عدلوا من سيرهما ولو مثقال ذرة؟
وإذا كان بعض العابثين لا يشعرون بهذه الرهبة؛ لأنهم يقنعون أنفسهم بما قدمه العلم من تفسير لبعض الظواهر التي كانت تخيف الناس في السابق، مثل تفسير ظاهرة الخسوف، أو الكسوف، أو نزول المطر، أو حدوث البرق والرعد، أو دوران الشمس والقمر، ويقفون عند هذه التفسيرات الظاهرية ثم يضعون القفل على العقل، ويسدون الطريق أمامه في متابعة الحكمة، والغاية، والهدف، والسر في هذه الظواهر، والدقة في حدوثها والمحرك لها، فإن هؤلاء أشبه بالطفل الذي يقترب من النار، ولا يرهب حرها، ويرمي بنفسه على السيارة المسرعة ولا يدرك خطرها، ويعبث بسلك الكهرباء ولا يعقل سعيرها، ويلهو بكتب والده أو أدواته الطبية، والهندسية، وآلاته الحساسة، ولا يعرف قيمتها، أما العالم بكل ذلك فهو المقدر لكل شيء قدره، وهو الذي يحس بالرهبة والخوف أمام عظمة الله - سبحانه وتعالى - في خلقه وكونه، وصدق الله العظيم: )إنما يخشى الله من عباده العلماء( (فاطر: 28).
4. ومن الدوافع الفطرية للتدين الموت الذي يردع الأحياء ويهزهم إلى الأعماق، وينبه فيهم القوى المعطلة، والأجهزة المتجمدة، والإحساس المخدر، ويزيل من أمامهم الحجب، ويكشف لهم الطريق، ويذهب الغبش عن العين، فيصحو الإنسان لنفسه، ويتفكر في حياته، ويبحث عن الهدف من الحياة، ويستطلع ما بعد الموت، ويدرك تماما قيمة الحياة الآخرة، وتفاهة الدنيا، وأنها متاع قليل، وأن الكمال الحقيقي الذي يتفق مع تكريم الإنسان وتفضيله على سائر المخلوقات أن تكون نفسه وروحه باقية بعد الموت، ويدرك كذلك أن لها حياة أخرى بعد هذه الحياة يلتقي فيها الأحبة والخلان، وفيها يحاسب كل إنسان على عمله؛ لتتحقق العدالة المطلقة، فيلقى كل إنسان جزاء عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، يقول سفيان الثوري رضي الله عنه: "الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا".
ونلمس هذه الأحاسيس يوميا في الحياة من الملحدين والفاسقين والغافلين والمقصرين والعابثين، فإذا فاجأهم الموت بعزيز أو بقريب أو بحبيب نطقوا بالحق، وصحوا من النوم أو الغفلة، وصرحوا بالإيمان ولبوا نداء الفطرة، وبحثوا عن التدين، وأسرعوا إلى الطاعة والعبادة، وأنابوا إلى بارئهم، ومنهم من يستمر، ومنهم من ينقلب على عقبيه.
5. التأمل في نظام الكون وأجزائه والتفكر في المخلوقات، بدءا من الإنسان وتكوينه وأعضائه وأجهزته، وانتهاء بالنجوم والمجرات وطبقات الأرض، وكلما تقدم العلم وقف العقلاء مبهورين ومبهوتين من عظمة هذا الكون ونظامه الدقيق؛ ليقفوا بكل خشوع وإجلال وتذلل أمام القدرة الخالقة المكونة، وهذا انتقال من المخلوق إلى الخالق، ومن الطبيعة إلى مكونها وبارئها، ومن السبب إلى المسبب، ومن المصنوع إلى الصانع، مما يقتضيه العقل ويسوق إليه الفكر في أدق الأمور وأجلها، وأحقر الأشياء وأعظمها، وهو ما نطق به ذلك الأعرابي بفطرته السليمة، فقال: البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام يدل على السير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على اللطيف الخبير؟!
والقرآن الكريم عرض جولات كثيرة جدا مع هذا الباعث الفطري للتدين؛ ليحث العقل على التأمل بالكون، والتدبر في المخلوقات والبحث عن نظامها العجيب؛ ليغرس في نفسه الإيمان والعقيدة، من ذلك:
قوله سبحانه وتعالى: )وفي الأرض آيات للموقنين (20) وفي أنفسكـم أفـلا تبصـرون (21) وفي السمـاء رزقكـم ومـا توعــدون (22)( (الذاريات).
قوله سبحانه وتعالى: )أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (17) وإلى السماء كيف رفعت (18) وإلى الجبال كيف نصبت (19) وإلى الأرض كيف سطحت (20) فذكر إنما أنت مذكر (21)( (الغاشية).
قوله سبحانه وتعالى: )الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور (3) ثم ارجع البصـر كرتيـن ينقلـب إليـك البصـر خاسئا وهـو حسيـر (4)( (الملك).
قوله سبحانه وتعالى: )خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار (5) خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6)( (الزمر).
قوله سبحانه وتعالى: )الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولـم يكن لـه شريـك في الملك وخلـق كـل شيء فقـدره تقديـرا (2)( (الفرقان).
قوله سبحانه وتعالى: )وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون (33) وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون (34) ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون (35) سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (36) وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون (37) والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38) والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (40)( (يس).
ونستطيع القول إنه لا توجد سورة في القرآن الكريم - وخاصة السور المكية - إلا وفيها إشارة أو تصريح أو عرض كامل للنظر في الكون والتأمل في نظامه وإبداعه، لتحريك السمع والبصر والحواس والعقل للتفكير في خلق الله تعالى، ثم الوصول إلى الاعتراف والإقرار بالألوهية والربوبية.
هذه البواعث الخمسة: "التطلع إلى الغيب، والعجز، والإحساس بالرهبة والخوف، والموت، والتأمل في نظام الكون" هي التي يستدل بها العلماء على كون التدين فطرة في النفس، وقد عرضناها بأسلوبهم، ثم بينا ما يؤيدها ويدعمها من القرآن الكريم الذي حرص على تحريك الفطرة البشرية، والغرائز الإنسانية لإثبات العقيدة وتنمية الإيمان في النفوس.
الأدلة الشرعية على الغريزة الدينية
ويتابع د. محمد الزحيلي حديثه عن التدين وملازمته للفطرة مع وضوح الأدلة النقلية على ذلك فيقول: "ويمكننا أن نستدل على غريزة التدين في الإنسان، وأنها مفطورة في نفسه وتكوينه بالدليل النقلي الصريح المباشر من كتاب الله تعالى، في الآيات التي تحدثت عن خلق الإنسان وفطرته وجبلته، وما رافق ذلك من وجود الدين في النفس البشرية وذلك على التفصيل الآتي:
قال الله سبحانه وتعالى: )وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (30) وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32)( (البقرة)، ث
م يقول سبحانه وتعالى: )قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (38)( (البقرة).
قال الله سبحانه وتعالى: )قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عـدو فإمـا يأتينكـم منـي هـدى فمـن اتبـع هـداي فـلا يضـل ولا يشقــى (123) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (124)( (طه).
قال الله سبحانه وتعالى: )إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) فـإذا سويتـه ونفخـت فيـه مـن روحـي فقعـوا لــه ساجديــن (72)( (ص).
فالآيات السابقة تصرح في مجموعها بأن الإنسان خليفة الله عز وجل في أرضه، وأن الهداية والديانة، والإيمان، أمور رافقته منذ هبوطه إلى الأرض، كما تصرح بطبيعة الإنسان وأصل خلقه وجبلته، وأنه من طين، منفوخ فيه من روح الله تعالى، وأن الجسد لا ينفصل عن الروح، وأن كل محاولة للفصل، أو بذر الشقاق بينهما شذوذ وانحراف في السلوك، وعاهة في التكوين، كما أن كل عنصر له متطلبات، وقد خلقت له ميول للمحافظة عليه؛ فالطعام والشراب والجنس للمحافظة على الجسد، والتدين للمحافظة على الروح.
قال الله سبحانه وتعالى: )وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا( (الأعراف: 172). فهذه الآية صريحة في وجود التدين في النفس الإنسانية قبل وجودها وظهورها على ظهر البسيطة.
قال الله سبحانه وتعالى: )فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم( (الروم: 30). فالنفس أو الفطرة خلقها الله تعالى، وأودع فيها هذا الاتجاه إلى الخالق، والإنسان مهما ابتعد عن منهج الله، وجحد وجوده، وكفر بالدين، فإنه لن يستطيـع أن يغيـر فطرتــه: )لا تبديــل لخلــق الله( (الروم: 30)،
بدليل أنه لا يستطيع أن يحجب هذه الفطرة عما يجيش فيها عند الأزمات والأوقات الحرجة وأمام البواعث السابقة للتدين، وبدليل ما يجده الإنسان من الندم على الأفعال الذميمة، ومن وخز الضمير - إن بقي عنده ضمير ولم تفسده المفاتن والشياطين - وهذا ما قصده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الشريف: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»[13].
فالإنسان لا غنى له عن التدين؛ لأنه جزء من ذاته ونفسه وفطرته، ولذا يجيب أحد الفلاسفة الفرنسيين على سؤال: لماذا أنا متدين؟ فيقول: لأنني لم أحرك شفتي بهذا السؤال مرة إلا وأراني مسوقا للإجابة عليه بهذا الجواب: وهو: أنا متدين؛ لأنني لا أستطيع أن أكون خلاف ذلك؛ لأن التدين لازم معنوي من لوازم ذاتي.
ويقول الشيخ محمد عبده عن الشعور الديني: هذا الشعور العام بحياة بعد هذه الحياة، المنبعث في جميع الأنفس، عالمها وجاهلها، قديمها وحديثها، لا يمكن أن يعد ضلة عقلية أو نزعة وهمية، وإنما هو من الإلهامات التي اختص بها هذا النوع.. ذلك إلهام يكاد يزاحم البديهة في الجلاء، شعور بهيج بالأرواح التي تحس هـذا البقـاء الأبـدي، ومـا عسـى أن تكـون عليـه متـى وصلــت".ِ
نظرة الإسلام إلى الديانات السماوية السابقة
مُساهمة طارق فتحي في الإثنين 8 ديسمبر 2014 - 18:01
العالمُ قريةٌ صغيرة، هي مقولة انتشرت في القرن الماضي نتيجة تطوُّر وسائل الاتّصال والنّقل، وظهور الشَّبكة العنكبوتية، فأصبح من اليسير أن يلتقي المسلم بأهل الأديان الأخرى، فتَدور بطبيعة الحال نقاشاتٌ تكون في إطار التّبادل الثقافي، التي يستأثر الدين بحصّة الأسد فيها، فيحاول المسلم أن يُقنع اليهودي أو النّصراني ويوضّح له طبيعة الإسلام، وهذا لا يمرُّ دون الإجابة عن سؤالٍ جوهري يُطرح في ذهن المخالف: تُرى ما هي نظرة الإسلام إلينا معشر الديانات السماويّة ؟
إن المقصود بالأديان السماوية الشرائع الإلهية الحق التي نزلت بوحي من رب العالمين على الأنبياء والرسل الذين اصطفاهم الله لهداية المجتمعات البشرية، ودعوتها إلى إقرار وحدانية الله وعبادته دون سواه، وطاعته بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، من أجل تحقيق سعادة وخير الإنسان في حياته العاجلة والآجلة.
هذه الأديان السماوية تختلف عما عداها من المعتقدات والأضاليل الفاسدة التي ابتدعها الناس نتيجة إحساسهم بالضعف أمام بعض القوى الطبيعية كالسجود للنار، أو نتيجةً لسذاجة عقولهم، وبساطة تفكيرهم، كعبادة الأصنام والأحجار التي لا تضر ولا تنفع.
وحدة الأديان السماوية في المصدر والهدف
إن مصدر الأديان السماوية واحد وهو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي شرعها، وهو الذي أوحى بها إلى رسله وأمرهم بتلبيغها، وهو الذي كلّف الناس بالتزامها، والوقوف عند حدودها.
وتظهر الوحدة كاملة وجليّة في هذه الأديان بالنظر إلى أصولها التي قامت عليها. واعتمدها التشريع فيها، فقد قامت بالأساس على تخصيص العبادة لله وحده دون سواه . قال تعالى: {وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلا إيّاه} (الإسراء: 23)، وقامت على رعاية المصالح وجلب المنافع ودرء المفاسد بالنسبة لكل الأحوال وإن اختلفت، ولكل الأمم والعصور وإن تمايزت.
وثمة اتفاقٌ في الجملة على الجوانب الحياتيّة من المسائل المتعلّقة بالأخلاق والمعاملات والحدود، وإن كان هناك اختلافٌ بينها في المفاهيم والأشكال التي يتم بها إقرار هذه الأحوال، وذلك بالنظر إلى اختلاف ظروف كل أمةٍ واختلاف طبائعها وتنوّع عاداتها، وتباين مصالحها وحاجاتها، وهذا الاختلاف ليبلوها الله فيما آتاها، وليغريها بالتسابق إلى فعل الخير، والعمل الصالح لسعادة الناس في دينهم ودنياهم، قال تعالى: {لكلّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمّةً واحدةً ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} (المائدة 48).
إن اختلاف المناهج في التشريعات السماوية يراعي الطبيعة الإنسانية في مراحل نموها ودرجات وعيها، الشيء الذي جعل هذه التشريعات مرنةً ونائلةّ لقبول ورضا الأمم التي شرعت لها.
ومع وحدة الأديان السماوية في مصدرها وأصولها فهي كذلك واحدة في الهدف والغاية، وهذا الهدف نابعٌ من عمق الأصول التي اعتمدها، ويرجع بالتالي إلى وحدة العقيدة، والإيمان وخلوص العبادة له وحده لا شريك له، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56).
وقال سبحانه: {وما أمروا إلا ليبعدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة} (البيّنة: 5).
الإسلام والأديان السماوية السابقة: مصدق لما فيها
تتجلى نظرة الإسلام إلى الأديان السماوية السابقة في كونه يؤمن بها، ويقرر أنها وحي من السماء، ويصدّق ما جاء به هذا الوحي من تشريعات وأحكام، ويُلزم المسلمين جميعاً الإيمان بها وبالرسل الذين بلغوها. قال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} (البقرة: 285).
والإسلام انطلاقاً من هذا الإيمان الحق بجميع الديانات والرسل، ينظر إلى الديانة التوراتية وفق ما جاء في القرآن، قال تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء} (المائدة: 44) .
ونفس هذه النظرة ينظر بها الإسلام للديانة الإنجيلية ، قال سبحانه: {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين} (المائدة 46).
فالديانات الحقة يصدق بعضها بعضاً، والإسلام هو خاتمة الشرائع يصدق بكل ما سبقه منها، ويؤمن بما جاء فيها قبل أن تطالها يد التحريف، قال تعالى: { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه } ( المائدة 48).
الإسلام كاشف للتحريف الذي لحق بهالم تبق الديانات السابقة ربّانية كما نزل بها الوحي من السماء، بل تسرّب إليها كثيرٌ من التحريف والتشويه، ولحقها كثيرٌ من التغيير والتبديل الذي يتنافى مع حقيقتها وأصولها التي بنيت عليها، وقد وبّخ الله تعالى أهل الكتاب لما كفروا وحرّفوا فقال تعالى: { يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون * يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } ( آل عمران : 70 و 71).
وقد بيّن الله تعالى هذا التحريف وتنوّعاته فأصاب العقيدة والنبوة والتشريع والمعاملات، ففي العقيدة: ادعوا البنوّة لله كما قال تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنّى يؤكفون} (التوبة: 30) .
وفي الآية تصريح بأنهم قاموا بتقليد الوثنيين السابقين لهم، فالنَصارى أخذوا عن البوذية والكونفوشيوسية والزاردشتية وديانات الرومان السابقة، واليهودية المحرفة تأثرت بالهندوسية وديانات الآشوريين والبابليين والسومريين ، حيث أن الباحث يلحظ تشابهاتٍ كثيرةٍ بينها، بل إنهم نسبوا هذه البنوّة لأنفسهم، فقال تعالى: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق} (المائدة: 18) ومن هنا نشأت فكرة شعب الله المختار عند اليهود وفكرة الأبوة عند النصارى .
ومن تحريفات أهل الكتاب: اتخاذهم الأحبار والرهبان آلهة يعبدونهم فقال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} (التوبة 31).
ومن التحريف في العقيدة اتخاذ اليهود عجلاً له خوار، معبوداً من صنع السامري، كما في سورة طه الآيات: 87 و 88 .
ومن التحريف كذلك: إيمان النصارى بألوهية المسيح عليه السلام وبعقيدة الثالوث (الأب والإبن والروح القدس) وهي الأقانيم الثلاثة، قال الله تعالى:{يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} (النساء: 171).
أما النبوة فقد كذبوا بالأنبياء وقتلوا البعض منهم طغيانا وكفرا، كما في سورة البقرة الآيات:87 و88 و 89.
وبالنسبة للتحريف الذي لحق التشريع فقد أخبر القرآن أن أهل الكتاب قد حرفوا كتبهم، قال تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به} (المائدة 13).
مهيمن على ما فيها
إذا كان الكتاب المنزّل بوحي من الله على رسوله مصدقاً للكتب السابقة وكاشفاً للتحريف الذي حدث فيها، إنه كذلك مهيمن عليها، أي: رقيب عليها، وهو بهذه الهيمنة حاكم وأمين عليها، فما وافق منها أحكامه فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل، يحكم عليها كلها فهو بذلك أكملها وأشملها وأعظمها وأعلاها.
والهيمنة تقتضي أيضا أنه حافظٌ لما كان في الكتب السابقة، ، ومؤتمنٌ عليها، وشاهدٌ على ما فيها، قال سبحانه: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} (المائدة 48).
خاتم للرسالات ومتمم لها
إن رسالة الإسلام هي خاتمة الرسالات السماوية، فلقد انتهى إليها الاكتمال في التشريع والأحكام، وجاءت في وقتٍ وصل فيه الناس إلى غاية النضج والوعي الديني بالرسالات السابقة، فسايرت الناس في هذا النضج، وواكبتهم في تطورهم، وصلحت لمعاشهم ومعادهم، ودلّتهم على كل أبواب الخير والهداية. وأتمّت ما كان ناقصا، وأصلحت ما كان فاسداً، وأقامت ما كان معوجّاً؛ فكانت لذلك الرسالة الكاملة في مبناها ومعناها، الصالحة لكل زمان ومكان، العامة لكافة البشر أجمعين.
وكون الإسلام خاتماً للرسالات ومتمّماً لها، معناه أنه ناسخٌ لها، ويريد أن يجمع الناس قاطبةً على عقيدة واحدة، وشرعٍ واحد، وقبلةٍ واحدة؛ حتى يظهر الدين كلّه، وتكون العقبى له في النهاية، {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} (الصف: 9).
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار).
وكل الأديان السماوية تتّفق على وجوب الاعتقاد بالله وعبادته وحده، وترك كل معبود ٍسواه. والقرآن – كتاب هذه الأمة- يصدّق بمجموع هذه الأديان، ويهيمن عليها، ويفرض الإيمان بسائر الكتب والأنبياء السابقين دون تفريق أو استثناء، كما تشير بذلك آيات عديدة منها قول الله سبحانه: {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام} (آل عمران: 3-4).
وقال تعالى: {قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} (آل عمران 84).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي ، كمثل رجل بنى بيتا ، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية ، فجعل الناس يطوفون به ، ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة ؟ قال: فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين) متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
فالحديث النبوي الشريف يوضح أن خاتمة الرسالات هي رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصفها اللّبنة الأخيرة التي أكملت البناء وأتمته، فَهُم – صلوات الله وسلامه عليهم – سلسلة مباركة مختومة بالنبي محمد – صلى الله عليه وسلم -.
ولا غرابة في ذلك، والله سبحانه وتعالى هو الذي أكمل الإسلام وأتمّه ورضيه لنا ديناً: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة 3).
من الأسس الأصلية في المنهج العلمي السليم: أن يعتمد على الاستقراء الذي يدفع إلى الاستنتاج، يفصل القول في ذلك د. محمد الزحيلي فيقول: ويستدل علماء الأديان والاجتماع والفلسفة على كون التدين فطرة بالاستقراء والاستنتاج؛ للكشف عن بواعث التدين الفطرية، وهذه البواعث هي:
1. إن نزعة التدين ظهرت من غريزة التطلع إلى الغيب ومحاولة معرفة الحقيقة الرابضة وراءه، وعدم الوقوف عند حدود الواقع الحسي، والعودة إلى التأمل في المسائل الأزلية: لم خلق الإنسان؟ ومن خلقه؟ ولم خلق الكون؟ ومتى؟ ومن خلقه؟ وما مبدأ الإنسان؟ وما غايته وهدفه؟ وإلى أين يسير؟ وما نهاية الكون؟ وما مصير الإنسان؟ وماذا بعد الموت؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تدفع الإنسان إلى الإيمان بالله، وإلى البحث والنظر والسعي والعلم والاكتشاف، وهذا التطلع والتأمل في هذه القضايا الغيبية كانت ولا زالت وستبقى الشغل الشاغل للإنسان؛ لأنه يريد الوصول إلى اليقين أمام مشكلات الكون الكبرى، مهما تقدمت به المدنية وتعددت الاكتشافات، وترقي العلم؛ لأن العلم عاجز قطعا عن الإجابة عن هذه الأسئلة، ومقيد بكشف نواميس الكون دون أن يغير منها شيئا، ومجاله محدد في النواحي المادية التي وضعت تحت حواسه، كما سنرى بعد قليل.
يقول ساتن هيلير: "هذا اللغز العظيم الذي يستحث عقولنا: ما العالم؟ ما الإنسان؟ من أين جاءا؟ من صنعهما؟ من يدبرهما؟ ما هدفهما؟ كيف بدءا؟ كيف ينتهيان؟ ما الحياة؟ ما الموت؟ ما القانون الذي يجب أن يقود عقولنا في أثناء عبورنا في هذه الدنيا؟ أي مستقبل ينتظرنا بعد هذه الحياة؟ هل يوجد شيء بعد هذه الحياة العابرة؟ وما علاقتنا بهذا الخلود؟ هذه الأسئلة لا توجد أمة ولا شعب ولا مجتمع، إلا وضع لها حلولا جيدة أو رديئة، مقبولة أو سخيفة، ثابتة أو متحولة".
2. العجز في الإنسان وحاجته إلى قوة جبارة تنقذه من المهالك وتعينه وقت الشدة، ويستغيث بها وقت الضيق، فتنجده وتخرجه من المآزق، وتقدم له العون عند الحاجة، وهذا العجز موجود في كل نفس، ويلمسه الإنسان في نفسه، ويسمعه من غيره. سأل رجل الإمام جعفر الصادق عن الله، فقال: ألم تركب البحر؟ قال: بلى. قال: فهل حدث لك مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة؟ قال: نعم، قال: وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة؟ قال: نعم. قال: فهل خطر في بالك وانقدح في نفسك أن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء؟ قال: نعم. قال: فذلك هو الله.
هذا الشعور النفسي بوجود المنقذ من الهلاك، والمنجي من الهم والغم والحزن والكرب، إما أن يبقى مع الإنسان فيكون مؤمنا، وإما أن يتنكر له، ويجحد هذا الفضل ويعرض عن ربه، فيكون كافرا وملحدا وضالا، وقد صور القرآن الكريم في آيات كثيرة ومواطن مختلفة، هذه النماذج من النفوس، قال صلى الله عليه وسلم: )
هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصيـن لـه الديـن لئـن أنجيتنـا مـن هـذه لنكونـن مـن الشاكريــن (22)
فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون (23)( (يونس)،
وقال صلى الله عليه وسلم: )وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا (67)( (الإسراء)،
وقال سبحانه وتعالى: )وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله( (الزمر: Cool،
وقال سبحانه وتعالى: )وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون (53)
ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون (54) ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون (55) ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون (56)((النحل)،
وقال سبحانه وتعالى: )قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين (63)( (الأنعام).
هذه الآيات الكريمة تكشف هذا الإحساس النفسي الباطني عن عجز الإنسان، وتذكر بعض الصور الدقيقة التي لا مهرب منها لكل فرد، من إقراره بالعجز، والتجائه إلى القوة الغيبية الخالقة المبدعة التي تتصرف بالكون؛ لتنقذه من المهالك، ويستنجد بها في أحلك الظروف للنجاة، ويعطي الوعود والعهود بالتوبة والإنابة والطاعة والخضوع، ثم لا يلبث أن ينسى حاله، وينقض وعده، ويتيه في غيه وضلاله إلا من رحم ربك، وأعمل عقله واحترم نفسه، وفكر في ماضيه وحاضره ومستقبله، فهو على العهد باق، وبالعقيدة والإيمان بالله ملتزم.
3. ومن دوافع الفطرة إلى التدين الإحساس بالخوف، والرهبة أمام هذا الكون العظيم وما يجري فيه، مما يحرك أحاسيس الإنسان ويوقظ مداركه، ويدفع عقله - بالغريزة والفطرة - ليبحث عن خالق الكون، فيأنس به، ويطمئن قلبه عنده، ويهدأ روعه وخوفه، ويأمن جانبه، ويعقد أواصر التقرب له، ثم يقدم الطاعة والعبادة لعظمته، وهذا هو الدين.
وقد لفت القرآن النظر في آيات متعددة إلى هذا الكون العظيم، وما فيه من أجرام ومشاهد ومخلوقات تستحق الوقوف أمامها، ويقف الإنسان عندها مشدوها عاجزا لا يملك حراكا ولا عطاء، بل جاءت بعض الآيات الكريمة تتحدى مظاهر الكون والطبيعة والإنسان على أن تخلق نفسها أو تخلق غيرها أو تملك النفع أو الضرر لنفسها أو لغيرها.
قال الله سبحانه وتعالى: )والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون (20) أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون (21) إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون (22)( (النحل).
وقال - سبحانه وتعالى - على لسان إبراهيم عليه السلام: )إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42)( (مريم).
وقال سبحانه وتعالى: )وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون (22) أأتخذ من دونه آلهة إن يـردن الرحمــن بضـر لا تغـن عنـي شفاعتهـم شيئـا ولا ينقـذون (23)( (يس).
وقال سبحانه وتعالى: )ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله( (يونس: 18).
وقال سبحانه وتعالى: )الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون (2) وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (3) وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (4)( (الرعد)،
وقال سبحانه وتعالى: )هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال (12) ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال (13)( (الرعد).
ويقول سبحانه وتعالى: )خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم (10) هذا خلق الله فأروني مـاذا خلـق الذيـن مـن دونـه بـل الظالمـون في ضـلال مبيــن (11)( (لقمان).
ويقول سبحانه وتعالى: )أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17)( (النحل)، )والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون (20)( (النحل(،
ويقول سبحانه وتعالى: )يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (3)( (فاطر).
ويقول - سبحانه وتعالى - متحديا البشر في الخلق والإعادة: )قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون (46)( (الأنعام).
الأدلة الفلسفية على الغريزة الدينية
ولنتأمل هذه المحاورة مع الكفار في قوله سبحانه وتعالى: )وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون (70) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون (71) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون (72)( (القصص)،
ويقول سبحانه وتعالى )الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا (2) واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا (3)( (الفرقان).
والآيات كثيرة في هذا الخصوص، ولا يقف الإنسان أمامها عاجزا فقط، وإنما يصاب بالرهبة والخوف والجمود والحيرة، لولا ثقته بالله وإيمانه به.
وقد يقول قائل: إن هذه الرهبة كانت في القديم، فأثارت نفس الإنسان البدائي، فاندفع إلى التدين ليأمن من خوف الطبيعة، والكون، واليوم لا نحس بذلك، ولا نلمسه في النفس الإنسانية، وبالتالي فلا حاجة للدين اليوم؟!
والجواب على ذلك: أن هذا الإحساس بالرهبة كان ولا يزال وسيبقى؛ لأنه نتيجة حتمية للعجز الذي يتركب منه الإنسان بفطرته وملكاته وإمكانيته، ولكن هذه الرهبة تغيرت بواعثها، ففيالقديم خاف الإنسان من خسوف القمر، وكسوف الشمس، وأصابته الرهبة من الرياح، والأعاصير، والعواصف، ووقف يرتجف من بعض الحيوانات المفترسة والوحوش الكاسرة، وخشي من القحط والجدب وقلة المطر، وجفاف الأنهار.
أما بواعث الرهبة اليوم فلم تقتصر على ما سبق، وإنما تتحقق في نفوس العلماء الذين واصلوا الليل بالنهار، كل في اختصاصه، ثم وصلوا إلى الطريق المسدود، ووقفت الوسائل، وعجز العلم أمام اللغز المحير، وأدرك كل عالم أن وراء ذلك قوة كاملة، وإرادة منظمة، وعظمة مطلقة، مثل تفجير الذرة، ومرض السرطان وبقية الأمراض المستعصية، ومعرفة تركيب العين، والسر في انسجام أعضاء الجسم، ولفظ الأعضاء الأجنبية عند نقل الكلية أو القلب..
والصبغيات في تكوين الجنين، والخلايا في المخ والدماغ، وعصب العين.
ونعود لنسأل: هل استطاعت الإنسانية والعلم أن يضعا حدا للزلازل والأعاصير التي تتحرك في جنوب شرق آسيا مثلا؟ وتزيل مدينة صناعية كاملة من وجه الأرض في الصين، ويذهب ضحيتها الملايين في ثوان معدودة؟ وهل استغنى البشر اليوم عن الأنهار الجارية والأمطار؟ وهل يغيب عن ذهن العاقل أخطار الجفاف وقلة الأمطار التي كانت تهدد أوربا بالأمس، وآسيا وإفريقيا اليوم وتنذرها بأفدح العواقب؟
وإذا استطاع العلم أن يكشف نظام أحد المخلوقات ويعرف كيفية عمله ويدرك سر تكوينه فإن هذا لا يغير من الحقيقة شيئا، ولا يفقد الفكرة قيمتها؛ لأن هذا الكائن المخلوق يسير على نسق لا يستطيع العلم تغييره ولا تبديله، مثل تكوين الأمطار وهطولها، مع العجز عن تغيير نظامها، وتبديل الأمطار الشتوية إلى صيفية، والموسمية إلى فصلية، ونقل الأمطار والطوفان من آسيا لتخفيف الجفاف في أوربا، أو بالعكس، كما اكتشف العلم تركيب الهواء، أو الماء، ولكن هل غير من تركيبه؟ وهل أوجد شيئا من العدم؟ وبذل البشر ملايين الملايين للوصول إلى القمر والمريخ، ولكن هل غيروا من نظامهما؟ وهل عدلوا من سيرهما ولو مثقال ذرة؟
وإذا كان بعض العابثين لا يشعرون بهذه الرهبة؛ لأنهم يقنعون أنفسهم بما قدمه العلم من تفسير لبعض الظواهر التي كانت تخيف الناس في السابق، مثل تفسير ظاهرة الخسوف، أو الكسوف، أو نزول المطر، أو حدوث البرق والرعد، أو دوران الشمس والقمر، ويقفون عند هذه التفسيرات الظاهرية ثم يضعون القفل على العقل، ويسدون الطريق أمامه في متابعة الحكمة، والغاية، والهدف، والسر في هذه الظواهر، والدقة في حدوثها والمحرك لها، فإن هؤلاء أشبه بالطفل الذي يقترب من النار، ولا يرهب حرها، ويرمي بنفسه على السيارة المسرعة ولا يدرك خطرها، ويعبث بسلك الكهرباء ولا يعقل سعيرها، ويلهو بكتب والده أو أدواته الطبية، والهندسية، وآلاته الحساسة، ولا يعرف قيمتها، أما العالم بكل ذلك فهو المقدر لكل شيء قدره، وهو الذي يحس بالرهبة والخوف أمام عظمة الله - سبحانه وتعالى - في خلقه وكونه، وصدق الله العظيم: )إنما يخشى الله من عباده العلماء( (فاطر: 28).
4. ومن الدوافع الفطرية للتدين الموت الذي يردع الأحياء ويهزهم إلى الأعماق، وينبه فيهم القوى المعطلة، والأجهزة المتجمدة، والإحساس المخدر، ويزيل من أمامهم الحجب، ويكشف لهم الطريق، ويذهب الغبش عن العين، فيصحو الإنسان لنفسه، ويتفكر في حياته، ويبحث عن الهدف من الحياة، ويستطلع ما بعد الموت، ويدرك تماما قيمة الحياة الآخرة، وتفاهة الدنيا، وأنها متاع قليل، وأن الكمال الحقيقي الذي يتفق مع تكريم الإنسان وتفضيله على سائر المخلوقات أن تكون نفسه وروحه باقية بعد الموت، ويدرك كذلك أن لها حياة أخرى بعد هذه الحياة يلتقي فيها الأحبة والخلان، وفيها يحاسب كل إنسان على عمله؛ لتتحقق العدالة المطلقة، فيلقى كل إنسان جزاء عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، يقول سفيان الثوري رضي الله عنه: "الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا".
ونلمس هذه الأحاسيس يوميا في الحياة من الملحدين والفاسقين والغافلين والمقصرين والعابثين، فإذا فاجأهم الموت بعزيز أو بقريب أو بحبيب نطقوا بالحق، وصحوا من النوم أو الغفلة، وصرحوا بالإيمان ولبوا نداء الفطرة، وبحثوا عن التدين، وأسرعوا إلى الطاعة والعبادة، وأنابوا إلى بارئهم، ومنهم من يستمر، ومنهم من ينقلب على عقبيه.
5. التأمل في نظام الكون وأجزائه والتفكر في المخلوقات، بدءا من الإنسان وتكوينه وأعضائه وأجهزته، وانتهاء بالنجوم والمجرات وطبقات الأرض، وكلما تقدم العلم وقف العقلاء مبهورين ومبهوتين من عظمة هذا الكون ونظامه الدقيق؛ ليقفوا بكل خشوع وإجلال وتذلل أمام القدرة الخالقة المكونة، وهذا انتقال من المخلوق إلى الخالق، ومن الطبيعة إلى مكونها وبارئها، ومن السبب إلى المسبب، ومن المصنوع إلى الصانع، مما يقتضيه العقل ويسوق إليه الفكر في أدق الأمور وأجلها، وأحقر الأشياء وأعظمها، وهو ما نطق به ذلك الأعرابي بفطرته السليمة، فقال: البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام يدل على السير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على اللطيف الخبير؟!
والقرآن الكريم عرض جولات كثيرة جدا مع هذا الباعث الفطري للتدين؛ ليحث العقل على التأمل بالكون، والتدبر في المخلوقات والبحث عن نظامها العجيب؛ ليغرس في نفسه الإيمان والعقيدة، من ذلك:
قوله سبحانه وتعالى: )وفي الأرض آيات للموقنين (20) وفي أنفسكـم أفـلا تبصـرون (21) وفي السمـاء رزقكـم ومـا توعــدون (22)( (الذاريات).
قوله سبحانه وتعالى: )أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (17) وإلى السماء كيف رفعت (18) وإلى الجبال كيف نصبت (19) وإلى الأرض كيف سطحت (20) فذكر إنما أنت مذكر (21)( (الغاشية).
قوله سبحانه وتعالى: )الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور (3) ثم ارجع البصـر كرتيـن ينقلـب إليـك البصـر خاسئا وهـو حسيـر (4)( (الملك).
قوله سبحانه وتعالى: )خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار (5) خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6)( (الزمر).
قوله سبحانه وتعالى: )الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولـم يكن لـه شريـك في الملك وخلـق كـل شيء فقـدره تقديـرا (2)( (الفرقان).
قوله سبحانه وتعالى: )وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون (33) وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون (34) ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون (35) سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (36) وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون (37) والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38) والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (40)( (يس).
ونستطيع القول إنه لا توجد سورة في القرآن الكريم - وخاصة السور المكية - إلا وفيها إشارة أو تصريح أو عرض كامل للنظر في الكون والتأمل في نظامه وإبداعه، لتحريك السمع والبصر والحواس والعقل للتفكير في خلق الله تعالى، ثم الوصول إلى الاعتراف والإقرار بالألوهية والربوبية.
هذه البواعث الخمسة: "التطلع إلى الغيب، والعجز، والإحساس بالرهبة والخوف، والموت، والتأمل في نظام الكون" هي التي يستدل بها العلماء على كون التدين فطرة في النفس، وقد عرضناها بأسلوبهم، ثم بينا ما يؤيدها ويدعمها من القرآن الكريم الذي حرص على تحريك الفطرة البشرية، والغرائز الإنسانية لإثبات العقيدة وتنمية الإيمان في النفوس.
الأدلة الشرعية على الغريزة الدينية
ويتابع د. محمد الزحيلي حديثه عن التدين وملازمته للفطرة مع وضوح الأدلة النقلية على ذلك فيقول: "ويمكننا أن نستدل على غريزة التدين في الإنسان، وأنها مفطورة في نفسه وتكوينه بالدليل النقلي الصريح المباشر من كتاب الله تعالى، في الآيات التي تحدثت عن خلق الإنسان وفطرته وجبلته، وما رافق ذلك من وجود الدين في النفس البشرية وذلك على التفصيل الآتي:
قال الله سبحانه وتعالى: )وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (30) وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32)( (البقرة)، ث
م يقول سبحانه وتعالى: )قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (38)( (البقرة).
قال الله سبحانه وتعالى: )قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عـدو فإمـا يأتينكـم منـي هـدى فمـن اتبـع هـداي فـلا يضـل ولا يشقــى (123) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (124)( (طه).
قال الله سبحانه وتعالى: )إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) فـإذا سويتـه ونفخـت فيـه مـن روحـي فقعـوا لــه ساجديــن (72)( (ص).
فالآيات السابقة تصرح في مجموعها بأن الإنسان خليفة الله عز وجل في أرضه، وأن الهداية والديانة، والإيمان، أمور رافقته منذ هبوطه إلى الأرض، كما تصرح بطبيعة الإنسان وأصل خلقه وجبلته، وأنه من طين، منفوخ فيه من روح الله تعالى، وأن الجسد لا ينفصل عن الروح، وأن كل محاولة للفصل، أو بذر الشقاق بينهما شذوذ وانحراف في السلوك، وعاهة في التكوين، كما أن كل عنصر له متطلبات، وقد خلقت له ميول للمحافظة عليه؛ فالطعام والشراب والجنس للمحافظة على الجسد، والتدين للمحافظة على الروح.
قال الله سبحانه وتعالى: )وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا( (الأعراف: 172). فهذه الآية صريحة في وجود التدين في النفس الإنسانية قبل وجودها وظهورها على ظهر البسيطة.
قال الله سبحانه وتعالى: )فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم( (الروم: 30). فالنفس أو الفطرة خلقها الله تعالى، وأودع فيها هذا الاتجاه إلى الخالق، والإنسان مهما ابتعد عن منهج الله، وجحد وجوده، وكفر بالدين، فإنه لن يستطيـع أن يغيـر فطرتــه: )لا تبديــل لخلــق الله( (الروم: 30)،
بدليل أنه لا يستطيع أن يحجب هذه الفطرة عما يجيش فيها عند الأزمات والأوقات الحرجة وأمام البواعث السابقة للتدين، وبدليل ما يجده الإنسان من الندم على الأفعال الذميمة، ومن وخز الضمير - إن بقي عنده ضمير ولم تفسده المفاتن والشياطين - وهذا ما قصده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الشريف: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»[13].
فالإنسان لا غنى له عن التدين؛ لأنه جزء من ذاته ونفسه وفطرته، ولذا يجيب أحد الفلاسفة الفرنسيين على سؤال: لماذا أنا متدين؟ فيقول: لأنني لم أحرك شفتي بهذا السؤال مرة إلا وأراني مسوقا للإجابة عليه بهذا الجواب: وهو: أنا متدين؛ لأنني لا أستطيع أن أكون خلاف ذلك؛ لأن التدين لازم معنوي من لوازم ذاتي.
ويقول الشيخ محمد عبده عن الشعور الديني: هذا الشعور العام بحياة بعد هذه الحياة، المنبعث في جميع الأنفس، عالمها وجاهلها، قديمها وحديثها، لا يمكن أن يعد ضلة عقلية أو نزعة وهمية، وإنما هو من الإلهامات التي اختص بها هذا النوع.. ذلك إلهام يكاد يزاحم البديهة في الجلاء، شعور بهيج بالأرواح التي تحس هـذا البقـاء الأبـدي، ومـا عسـى أن تكـون عليـه متـى وصلــت".ِ
نظرة الإسلام إلى الديانات السماوية السابقة
مُساهمة طارق فتحي في الإثنين 8 ديسمبر 2014 - 18:01
العالمُ قريةٌ صغيرة، هي مقولة انتشرت في القرن الماضي نتيجة تطوُّر وسائل الاتّصال والنّقل، وظهور الشَّبكة العنكبوتية، فأصبح من اليسير أن يلتقي المسلم بأهل الأديان الأخرى، فتَدور بطبيعة الحال نقاشاتٌ تكون في إطار التّبادل الثقافي، التي يستأثر الدين بحصّة الأسد فيها، فيحاول المسلم أن يُقنع اليهودي أو النّصراني ويوضّح له طبيعة الإسلام، وهذا لا يمرُّ دون الإجابة عن سؤالٍ جوهري يُطرح في ذهن المخالف: تُرى ما هي نظرة الإسلام إلينا معشر الديانات السماويّة ؟
إن المقصود بالأديان السماوية الشرائع الإلهية الحق التي نزلت بوحي من رب العالمين على الأنبياء والرسل الذين اصطفاهم الله لهداية المجتمعات البشرية، ودعوتها إلى إقرار وحدانية الله وعبادته دون سواه، وطاعته بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، من أجل تحقيق سعادة وخير الإنسان في حياته العاجلة والآجلة.
هذه الأديان السماوية تختلف عما عداها من المعتقدات والأضاليل الفاسدة التي ابتدعها الناس نتيجة إحساسهم بالضعف أمام بعض القوى الطبيعية كالسجود للنار، أو نتيجةً لسذاجة عقولهم، وبساطة تفكيرهم، كعبادة الأصنام والأحجار التي لا تضر ولا تنفع.
وحدة الأديان السماوية في المصدر والهدف
إن مصدر الأديان السماوية واحد وهو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي شرعها، وهو الذي أوحى بها إلى رسله وأمرهم بتلبيغها، وهو الذي كلّف الناس بالتزامها، والوقوف عند حدودها.
وتظهر الوحدة كاملة وجليّة في هذه الأديان بالنظر إلى أصولها التي قامت عليها. واعتمدها التشريع فيها، فقد قامت بالأساس على تخصيص العبادة لله وحده دون سواه . قال تعالى: {وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلا إيّاه} (الإسراء: 23)، وقامت على رعاية المصالح وجلب المنافع ودرء المفاسد بالنسبة لكل الأحوال وإن اختلفت، ولكل الأمم والعصور وإن تمايزت.
وثمة اتفاقٌ في الجملة على الجوانب الحياتيّة من المسائل المتعلّقة بالأخلاق والمعاملات والحدود، وإن كان هناك اختلافٌ بينها في المفاهيم والأشكال التي يتم بها إقرار هذه الأحوال، وذلك بالنظر إلى اختلاف ظروف كل أمةٍ واختلاف طبائعها وتنوّع عاداتها، وتباين مصالحها وحاجاتها، وهذا الاختلاف ليبلوها الله فيما آتاها، وليغريها بالتسابق إلى فعل الخير، والعمل الصالح لسعادة الناس في دينهم ودنياهم، قال تعالى: {لكلّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمّةً واحدةً ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} (المائدة 48).
إن اختلاف المناهج في التشريعات السماوية يراعي الطبيعة الإنسانية في مراحل نموها ودرجات وعيها، الشيء الذي جعل هذه التشريعات مرنةً ونائلةّ لقبول ورضا الأمم التي شرعت لها.
ومع وحدة الأديان السماوية في مصدرها وأصولها فهي كذلك واحدة في الهدف والغاية، وهذا الهدف نابعٌ من عمق الأصول التي اعتمدها، ويرجع بالتالي إلى وحدة العقيدة، والإيمان وخلوص العبادة له وحده لا شريك له، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56).
وقال سبحانه: {وما أمروا إلا ليبعدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة} (البيّنة: 5).
الإسلام والأديان السماوية السابقة: مصدق لما فيها
تتجلى نظرة الإسلام إلى الأديان السماوية السابقة في كونه يؤمن بها، ويقرر أنها وحي من السماء، ويصدّق ما جاء به هذا الوحي من تشريعات وأحكام، ويُلزم المسلمين جميعاً الإيمان بها وبالرسل الذين بلغوها. قال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} (البقرة: 285).
والإسلام انطلاقاً من هذا الإيمان الحق بجميع الديانات والرسل، ينظر إلى الديانة التوراتية وفق ما جاء في القرآن، قال تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء} (المائدة: 44) .
ونفس هذه النظرة ينظر بها الإسلام للديانة الإنجيلية ، قال سبحانه: {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين} (المائدة 46).
فالديانات الحقة يصدق بعضها بعضاً، والإسلام هو خاتمة الشرائع يصدق بكل ما سبقه منها، ويؤمن بما جاء فيها قبل أن تطالها يد التحريف، قال تعالى: { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه } ( المائدة 48).
الإسلام كاشف للتحريف الذي لحق بهالم تبق الديانات السابقة ربّانية كما نزل بها الوحي من السماء، بل تسرّب إليها كثيرٌ من التحريف والتشويه، ولحقها كثيرٌ من التغيير والتبديل الذي يتنافى مع حقيقتها وأصولها التي بنيت عليها، وقد وبّخ الله تعالى أهل الكتاب لما كفروا وحرّفوا فقال تعالى: { يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون * يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } ( آل عمران : 70 و 71).
وقد بيّن الله تعالى هذا التحريف وتنوّعاته فأصاب العقيدة والنبوة والتشريع والمعاملات، ففي العقيدة: ادعوا البنوّة لله كما قال تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنّى يؤكفون} (التوبة: 30) .
وفي الآية تصريح بأنهم قاموا بتقليد الوثنيين السابقين لهم، فالنَصارى أخذوا عن البوذية والكونفوشيوسية والزاردشتية وديانات الرومان السابقة، واليهودية المحرفة تأثرت بالهندوسية وديانات الآشوريين والبابليين والسومريين ، حيث أن الباحث يلحظ تشابهاتٍ كثيرةٍ بينها، بل إنهم نسبوا هذه البنوّة لأنفسهم، فقال تعالى: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق} (المائدة: 18) ومن هنا نشأت فكرة شعب الله المختار عند اليهود وفكرة الأبوة عند النصارى .
ومن تحريفات أهل الكتاب: اتخاذهم الأحبار والرهبان آلهة يعبدونهم فقال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} (التوبة 31).
ومن التحريف في العقيدة اتخاذ اليهود عجلاً له خوار، معبوداً من صنع السامري، كما في سورة طه الآيات: 87 و 88 .
ومن التحريف كذلك: إيمان النصارى بألوهية المسيح عليه السلام وبعقيدة الثالوث (الأب والإبن والروح القدس) وهي الأقانيم الثلاثة، قال الله تعالى:{يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} (النساء: 171).
أما النبوة فقد كذبوا بالأنبياء وقتلوا البعض منهم طغيانا وكفرا، كما في سورة البقرة الآيات:87 و88 و 89.
وبالنسبة للتحريف الذي لحق التشريع فقد أخبر القرآن أن أهل الكتاب قد حرفوا كتبهم، قال تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به} (المائدة 13).
مهيمن على ما فيها
إذا كان الكتاب المنزّل بوحي من الله على رسوله مصدقاً للكتب السابقة وكاشفاً للتحريف الذي حدث فيها، إنه كذلك مهيمن عليها، أي: رقيب عليها، وهو بهذه الهيمنة حاكم وأمين عليها، فما وافق منها أحكامه فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل، يحكم عليها كلها فهو بذلك أكملها وأشملها وأعظمها وأعلاها.
والهيمنة تقتضي أيضا أنه حافظٌ لما كان في الكتب السابقة، ، ومؤتمنٌ عليها، وشاهدٌ على ما فيها، قال سبحانه: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} (المائدة 48).
خاتم للرسالات ومتمم لها
إن رسالة الإسلام هي خاتمة الرسالات السماوية، فلقد انتهى إليها الاكتمال في التشريع والأحكام، وجاءت في وقتٍ وصل فيه الناس إلى غاية النضج والوعي الديني بالرسالات السابقة، فسايرت الناس في هذا النضج، وواكبتهم في تطورهم، وصلحت لمعاشهم ومعادهم، ودلّتهم على كل أبواب الخير والهداية. وأتمّت ما كان ناقصا، وأصلحت ما كان فاسداً، وأقامت ما كان معوجّاً؛ فكانت لذلك الرسالة الكاملة في مبناها ومعناها، الصالحة لكل زمان ومكان، العامة لكافة البشر أجمعين.
وكون الإسلام خاتماً للرسالات ومتمّماً لها، معناه أنه ناسخٌ لها، ويريد أن يجمع الناس قاطبةً على عقيدة واحدة، وشرعٍ واحد، وقبلةٍ واحدة؛ حتى يظهر الدين كلّه، وتكون العقبى له في النهاية، {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} (الصف: 9).
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار).
وكل الأديان السماوية تتّفق على وجوب الاعتقاد بالله وعبادته وحده، وترك كل معبود ٍسواه. والقرآن – كتاب هذه الأمة- يصدّق بمجموع هذه الأديان، ويهيمن عليها، ويفرض الإيمان بسائر الكتب والأنبياء السابقين دون تفريق أو استثناء، كما تشير بذلك آيات عديدة منها قول الله سبحانه: {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام} (آل عمران: 3-4).
وقال تعالى: {قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} (آل عمران 84).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي ، كمثل رجل بنى بيتا ، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية ، فجعل الناس يطوفون به ، ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة ؟ قال: فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين) متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
فالحديث النبوي الشريف يوضح أن خاتمة الرسالات هي رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصفها اللّبنة الأخيرة التي أكملت البناء وأتمته، فَهُم – صلوات الله وسلامه عليهم – سلسلة مباركة مختومة بالنبي محمد – صلى الله عليه وسلم -.
ولا غرابة في ذلك، والله سبحانه وتعالى هو الذي أكمل الإسلام وأتمّه ورضيه لنا ديناً: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة 3).
مواضيع مماثلة
» الديانات السماوية
» تراتيب الاديان السماوية وغير السماوية
» * مآخذ أعداء الإسلام بشأن المرأة: : الطلاق في الإسلام:
» * منزلة العلماء في الإسلام - أنواع العلوم في الإسلام
» * الوسائل الكونية والشرعية
» تراتيب الاديان السماوية وغير السماوية
» * مآخذ أعداء الإسلام بشأن المرأة: : الطلاق في الإسلام:
» * منزلة العلماء في الإسلام - أنواع العلوم في الإسلام
» * الوسائل الكونية والشرعية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى