* الفكر التفكيكي ورفضه - الصدق اساس الاستقامة - اسماءبنت ابي بكر
صفحة 1 من اصل 1
* الفكر التفكيكي ورفضه - الصدق اساس الاستقامة - اسماءبنت ابي بكر
( ما أنا بطارد الذين آمنوا )
الفكر التفكيكي ورفضه
اعداد : طارق فتحي
(الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) 1. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له ونشهد أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله ورسوله جاء بالهدى ودين الحق ليكون للعالمين نذيرا.
عباد الله (اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)2 ، أما بعد فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن من كلامه تعالى قوله حكاية عن قوم نوح: (ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجريَ إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون * ويا قومي من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون)3.
نمضي اليوم مع شيخ الأنبياء نوح عليه السلام في درس من دروس الدعوة القرآنية وهو رفض منطلقات وفكر التفكيك.
ما هو فكر التفكيك؟ البعض لشدة ولعه بهوىً يعيشه أو فكرة تملأ عليه حياته لا ينتبه إلى حقائق ما يعيشه الناس من منظومات إيمانية أو اجتماعية أو نفسية ؛ تشكل لهم منهجاً متوازناً يمدهم بعوامل الاستقرار والحيوية والثبات ، ولو كانت فيها بعض نقاط الضعف ، ويأتي من لا يقدم منظومة متوازنة بل طفرات لا تأخذ بالحسبان توازنات الناس فيقع في إشكالات كثيرة إن كان صادقاً فكيف إن لابست الأمر منعطفات نفسية لا تُعلم نهاياتها ، أو مطامع حياتية عاجلة.
ونوح عليه السلام ينبه قومه إلى حقيقة الدعوة الربانية (ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله) ، فالحرص على الدنيا والتطاحن العنيد لاكتساب المواقع فيها وحيازتها يفتح جبهات هائلة من المكابرة والعناد والتشبث ، أما عندما يتجرد الداعية عن فتاتها الذي ينبهر به عشاقها فإن كلامه وسعيه يأخذ بعداً آخر ، ولذا وجدنا في حياة الأمة المسلمة أن من وثقت الأمة بعقيدته وإخلاصه وتجرده لنصحها لقي منها القبول وحاز المرجعية رغم ما يكون (ربما) قد وقع فيه من أخطاء تفرضها الطبيعة البشرية ، وأما من شعرت الأمة (وللأمة مشاعر شديدة الحساسية جداً تُجاه هذه الأمور) ؛ من شعرت الأمة أن من وراء كلامه قصداً لا يتوافق مع منظومتها الاعتقادية والشعورية والاجتماعية فإنها تلفظه ولو كان في كلامه بعض الصواب.
خذوا مثالاً عن ذلك (قراءاتٍ معاصرة مخربة) ما ضمها كتاب واحد بل هي جيوش هجمة تغريبية طاحنة تحاول الزلزلة والتحطيم في وقت الحرب الشرسة على الإسلام ؛ تلك القراءات ساقطة عند الأمة ولو كان في بعض منها الصواب لسبب واحد: أن الأمة لا تثق بأصحابها ولا تحفظ لهم سابقةً في الدفاع عن الإسلام ولا تعرف لهم جهداً مشكوراً مجرداً سالفاً يذود عن الأمة.
إن قانون الدعوة الأول (إن أجري إلا على الله) إن لم يكن متحققاً بالكلية فسوف ينفر الناس من صاحب الدعوة كائناً ما كانت العبارات من الصواب التي تخرج من فمه ، فكيف إن كان الأمر لا قيد له ولا ضابط.
الفكر التفكيكي الذي يقلقل ولا يبني وضعت أسس نسفه في منطلقات الأنبياء عليهم السلام ، (وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون)5 ؛ أهل الإيمان وعقيدتهم ومنظومتهم الاجتماعية والفكرية والنفسية هي صاحبة السيادة والأولوية.
المشكلة أيها الأخوة في كيفية التعامل مع ما يخطر ببالنا أنه بحاجة إلى فهم جديد ؛ الفقيه المسلم ... الداعية المسلم ... المفكر المسلم الذي مبدأه : (إن أجري على الله) دون أن يكون الهدف إرضاء أمير ولا وزير ولا غني ولا فقير ولا جماعة ولا حزب ينظر إلى ما يطرأ في الأمة من مشكلات فيقرر أن الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة هي الإطار الذي يتحرك من خلاله ؛ فإذا أتت ضرورات تزحزح حكماً من الأحكام الاجتهادية عما هو مستقر عليه ، نُظر فإن كان الكتاب والسنة يتسعان لرأي جديد أو قديم يُجَدَّدُ لا يخالف مقاصدهما ، لم يكن هناك غضاضة في تبنيه والتزامه ، ومثال ذلك : إلزامية الشورى فكثرة من فقهاء المسلمين يرون أن الشورى غير ملزمة للأمير ، ولكن إذا وجد الفقيه أن مقاصد الشريعة وتجارب التاريخ وعبر الأمم وما مرت به الأمة المسلمة من نكبات بينت بجلاء أن هذا الأمر سبَّبَ استبدادية في الرأي وتلاعباً بالشعوب وزجاً بالطاقات في غير موضعها فوصل إلى نتيجة تقول بإلزامية الشورى ؛ فهذا الأمر ظاهر الحكمة ، ولا يخرج عن الكتاب والسنة ، وقد نقل القاسمي عن الإمام الرازي أن من وجوه مشاورة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه أن المشاورة لا لأجل أنه محتاج إليهم ، ولكن لأجل أنه إذا شاورهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصح في تلك الواقعة فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها ، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات، وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد ؛ انتهى. فإذا كان هذا الحال مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكيف بمن دونه.
العلَّامة المودودي شديد التبني لفكرة عدم إلزامية الشورى فلما رأى ما سببته من كوارث في بعض الأحيان على الشعوب المسلمة أو الجماعات الإسلامية التي تريد أن تحارب الاستبداد وبنيتها الهيكلية قائمة على طريقة استبدادية ؛ لما رأى ذلك رجع عن رأيه إلى القول بإلزامية الشورى للأمير.
المهم أن هذا الأمر في سعة وتُتقصدُ فيه مصلحة المسلمين ، ولكن هناك أموراً أخرى لا يجوز تجاوزها ولا القفز عليها بحال من الأحوال ؛ خذوا مثالاً عن ذلك موضوع الربا الذي لم يأت في كل كتاب الله تحذير شديد مثلما أتى فيه (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون)6، والذي يأتي ويفتي الناس بحل الربا أو معاملاته فإنما يوقع الأمة في إشكال خطير أوله إخراجها من كنف الله ورحمته وعنايته (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم)7، وكما تحصل الخشية بالخوف على النفس من القتل والتخطف من الأرض تحصل الخشية من التدهور الاقتصادي والتخطف من عالم الأموال فيردنا الله إلى الاعتماد عليه الثقة بشريعته وما اختاره لنا سبحانه.
ثانياً: تربية النفسية الأنانية الضيقة التي لا تنظر إلا إلى المنفعة القريبة وتغفل عن العاقبة المريعة ، وحقيقةً فإن النظام الربوي هو أبشع ما ابتليت به البشرية في أطوارها الاقتصادية وكل الباحثين الاقتصاديين يعلمون أن النظام الربوي العالمي قد دمر الدول النامية لصالح الدول الصناعية ، بل إن هناك صناعةً مخيفةً اسمها صناعة الجوع وصناعة الكوارث الاقتصادية تمتلكها الدول الكبرى وتمتص دماء الشعوب المستضعفة التي باتت كالعبد الذليل تقبل الضغوط السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية بسبب أنها مربوطة بشكل محكم بشبكة عنكبوت اقتصادي مرعب هو الدول الصناعية الكبرى التي تتحكم بالعالم عن طريق النظام الربوي.
ثالثاً: قبول النظام الربوي يدمر الاحتياطي الاستراتيجي من الفطرة البشرية ويدمر البعد الإنساني فيها فالإسلام لا يرضى أن يكون مصاص دماء لأحد وكل أمة تقبل الربا فإنما تعلن انسحابها من التواصل الإنساني الذي يقوضه نظام الربا يما ينشؤه في النفوس من عشق المال والترف والاستغلال والأثرة والأنانية والجشع.
رابعاً: التنازل النفسي عن تحريم الربا يماثل تماماً أمة أعلنت الاستسلام المادي والمعنوي في وجه عدوها ؛ بدل حشد كل طاقاتها لمواجهته والخلاص منه ؛ لذا فالربا يبقى حراماً إلى يوم الدين ، ومهما اشتدت الظروف الاقتصادية ، ومهما حاصرت القوى الاستكبارية العالمية الشعوب الضعيفة فإن الربا يبقى في حس الإنسان المسلم حاكماً كان أو وزيراً أو مسؤولاً اقتصادياً أو مواطناً عادياً ؛ يبقى حراماً وإن تعامل معه وفيه ، وتسألون ما الفرق مادام الضغط قد أدى إلى القبول العملي بالتعامل! والفرق هائل ... من أن يُحتل قلبك بحرام تفقد معه الصلة مع الله تعالى وتدمر مقومات الأمة المسلمة المادية والمعنوية وبين أن يكون الحرام الذي يلابسك إنما هو ضرورة قاهرة على صعيد أمة أو مؤسسة أو فرد ؛ وفي القلب نفور شديد منه ، والعلاقة معه كمثل قطرات ماء فوق شمع بارد لا تقدر على الامتزاج فيه أبداً مهما مكثت فوقه ، وهزة واحدة تزيلها. أترى لو أن عدواً خبيثاً مثل بني صهيون أو الصرب احتل دياركم وخرَّبَ مساجدكم واغتصب نساءكم وأيتم أطفالكم ؛ ثم قهركم بسلاحه وقوته ؛ أكنتم ترضون بذلك في أعماق قلوبكم أم أن جذوة المقاومة والرفض والبغض العارم والإعداد ليوم الخلاص تتقد وتتقد حتى إذا نادى المنادي أن يا خيلَ الله اركبي نفرتم جميعاً ؛ فامتزجت دماءكم سيلاً أحمر قانياً يغسل عاركم ولا يبالي بغالٍ ولا نفيس من أجل الخلاص ، وكذلك الاحتلال الاقتصادي للأمة المسلمة لا يجوز أن يذيقها طعم النوم أو السبات الحضاري ؛ لأن في أعماق النفس هدير إيماني لا يقبل بسوى شرع الله بديلاً ؛ حربه ليست في جزئيات صغيرة بل مع نظام عالمي أخطبوطي وجوده إثم من الأثام التي لا تستريح البشرية المنكودة إلا بإزالته.
وعندما يأتي من يتحدث عن ضرورات تحيط بالحياة ؛ قلنا له ما دامت شريعة الإسلام هي شريعة الله الحق فهي لا تغفل ضرورات الناس الفعلية ، وكلكم تعلمون القاعدة الشرعية الضرورات تبيح المحظورات التي تأتي أخت لها لتقول الضرورة تقدر بقدرها وما في تاريخ الفقه الإسلامي سد أبداً في وجه حاجة حقيقية للأمة ؛ أما الحاجات النفسية والأهواء الخاصة والأصابع الخفية لفكر رأسمالي أو ماركسي تغريبي أو تهويدي ، تفريغي أو تحطيمي، فليس مسموحاً لها بحال أن تأخذ مكاناً في رحاب الفقه الإسلامي ، ومقولات التجديد المزعوم إن كان القصد منها استنباط الأحكام الشرعية لمستجدات الأمور أو مراجعة بعض الاجتهادات التي تتغير بتغير الزمان والمكان والمجتمعات في ضوء الكتاب والسنة والصحيحة فهذا مما لا لبس فيه بل هو واجب شرعي تأثم الأمة إن لم يقم أحد به ؛ أما إن كان القصد هو الإتيان في كل يوم بما لا يُعقل ولا يُفهم فهو مرفوض وإن أتى به حملة الأسفار! كمن زعموا أن المرأة يجب أن تتحرر ، وقلنا: كلام عام يتحمل الخير والشر فقيدوه وخصصوه حتى نفهمه ؛ فقالوا: ما بين الفخذين عورة والفخذان ليسا بعورة ، و(إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ، إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)8.
ومن قالوا أن الفقه جَمُدَ وجَمَّدَ الأمة! قلنا لهم: لكل زمن أهله ومجتهدوه فأرونا آلات الاجتهاد عندكم فلفقوا لنا لا فقهاً أعوج أعرج فقط بل أتوا بسم قاءه تغريبيون خبثاء ؛ يريدون تحطيم كل ما وثقت به الأمة ، يريدون نسف أصول الشافعي ومقاصد الشاطبي وتحريرات ابن حجر وفقه النووي ومباحث الغزالي بل يريدون نسف الإسلام كله ؛ تحت شعار البحث والعلم والمعرفة والاجتهاد التي لا تعرف لها ضابطاً ولا رابطاً ؛ بل هي عموميات إن بحثت عن مدلولاتها التفصيلية وجدت النتيجة تخريباً وتحطيماً وتفريغاً للأمة.
والمشكلة أن هؤلاء يتذرعون بأعظم نعم الله ؛ بالعقل ، والعقل شيء نسبي ؛ فكل شخص له عقل فأي عقل هو الضابط؟ أهي عقول شيوعية أم وجودية رأسمالية أم صهيونية خبيثة تسلل تحت ألف غطاء وقناع لتحطم الأمة وتنسف فيها كل مقومات الوجود والثبات ؛ أم هو العقل الذي تذرع به المعتزلة غفر الله لهم فاضطهدوا الإمام أحمد بما لا يفهمه العقل حتى اليوم فأضاعوا بعض ما كان عندهم من صواب فنبذتهم الأمة في وجدانها وإن كانوا أصحاب جهد كبير، ويأتيك اليوم من ينسب نفسه إلى فكر المعتزلة والبحث الحر والعقل وما هو يصلح بأن يكون نعلاً في أرجلهم ؛ فالمعتزلة كانوا أصحاب منهج متكامل ولو شذ فيهم من شذ وكانوا أصحاب شكيمة هائلة صدت عن الإسلام غاراتٍ شعواء من أمم وحضارات تصدت للإسلام.
فماذا فعل ثرثارو اليوم؟ إن الشهوات لا تتناهى ، وقد يخيل للإنسان إذا فكر من دون اهتداء بأن المصلحة في الأمر الفلاني فإذا عرف مراد الله تبين له أنه كان في ضلال بعيد ، ولم يكن الإسلام يوماً شقاءً للحياة ، بل الحياة هي التي شقيت لما ابتعدت عن الإسلام وليس الحل بتدجين الإسلام ولا تكسير أضلاعه ولا تطويعه كما يهوى المنحرفون بل الحل بأن تطوع الحياة كلها لتسير في ظلال الإسلام وهديه وشريعته.
البعض يريدون باختصار إسلاماً بلا التزام ، أي إفقاد الإسلام كل عوامل وجوده ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول في الحديث الصحيح: (لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين)9، وعلى نهج شيخ الأنبياء نوح عليه السلام نقول: ويا قوم لا نسألكم عليه مالاً إن أجرنا إلا على الله ، وما نحن بالذين نترك معاقد أهل الإيمان ومواطن قوتهم ، وما نحن بالذين نطرد الإسلام عقيدة وشريعة ونظاماً لنحل محله أفكار التغريب والتهويد ، ويا قوم من ينصرنا من دون الله إن فكَّكنا عقيدتنا وأضعفنا شريعتنا ودمرنا جذورنا وأصولنا ؛ قولوا لي بالله عليكم ما الذي يصد عنا أحقاد المتكالبين وتآمر يهود ومكر الشرق والغرب وينسف أحلام بني صهيون ؛ أفلا تذكرون؟ من عمل صالح فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون.
الصدق أساس الاستقامة
إنَّ الحمد لله أحمده و أستعينه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا ؛ من يهده الله فلا مضل له و من يضلُل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبد الله و رسوله جاء للعالمين بشيراً و نذيراً ..
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون)1.
أما بعد فإن أصدق الكلام كلام الله و خير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه و آله و سلم ، و شرَّ الأمور محدثاتها و كلَّ محدثةٍ بدعة و كلَّ بدعةٍ ضلالة و كلَّ ضلالة في النار.
و إن من كلام ربنا عز و جل قوله : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين)2. قال الإمام ابن القيم في مدارجه : الصدق هو منزل القوم الأعظم الذي فيه تنشأ جميع منازل السالكين و الطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان ، و سكان الجنان من أهل النيران و هو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شئ إلا قطعه و لا واجه باطلاً إلا أرداه و صرعه ، من صال به لم تُرَد صولته و من نطق به علت على الخصوم كلمته ، فهو روح الأعمال و محك الأحوال و الحامل على اقتحام الأهوال و الباب الذي دخل منه الواصلون على ذي الجلال و هو أساس بناء الدين و عمود فسطاط اليقين و درجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين و من مساكنهم في الجنات تجري العيون و الأنهار إلى مساكن الصديقين كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار متصل و معين.
قال تعالى : (ومن يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حَسُنَ أولئك رفيقا)3. الإيمان أساسه الصدق و النفاق أساسه الكذب فلا يجتمعان. الغافل يتخيل الصدق كما يهوى و إنما الصدق استقامة في الأقوال و الأفعال و الأحوال فلا ينال درجة الصديقية كاذبٌ أبداً لا في قوله و لا في عمله و لا في حاله ، و في الصحيحين من حديث بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (إنَّ الصدق يهدي إلى البر و إن البرَّ يهدي إلى الجنة و إن الرجل ليصدُقَ حتى يكون صدِّيقاً ، و إن الكذب يهدي إلى الفجور و إن الفجور يهدي إلى النار و إن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)4 ، و في حياتنا أيها الناس آفة تحتاج إلى علاج انتبه لها الإمام الغزالي قديماً فقال ما نسوقه بتصرف : ربما جاهد المريد نفسه حتى ترك الفواحش و المعاصي ثم ظن أنه قد هذب خلقه و استغنى عن المجاهدة و ليس كذلك ، فإنَّ حسن الخلق هو مجموع صفات المؤمنين التي ذكرها الله في كتابه فمن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على الآيات فوجود جميع هذه الصفات علامة حسن الخلق و فقد جميعها علامة سوء الخلق و وجود بعضها دون البعض يدل على البعض دون البعض فليشتغل بحفظ ما وجده و تحصيل ما فقده. هذا عن الخلق الحسن عموماً ؛ فإذا انتقلنا إلى موضوع الصدق وجدنا أن الله تعالى بَيَنَ مراده لما قال :
(ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين و آتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب و أقام الصلاة و آتى الزكاة و الموفون بعهدهم إذا عاهدوا و الصابرين في البأساء و الضراء و حين البأس أولئك الذين صدقوا و أولئك هم المتقون)5 ؛ فليس الصدق شيئاً يفهمه الواحد منا كما يهوى ، وإن العلة التي فينا هي فوات فقه شروط الصدق و أنها تلزم مجتمعة و أن الخلل في واحد منها ينسف الصدق كله فلا يكون عند المؤمن كذب أبداً ؛ فإن رأيت صائماً مصلياً ثم بعد ذلك يغش ، أو رأيت مبسملاً محوقلاً ثم بعد ذلك يسرق أو رأيت خافضَ رأسه و رافعه في المسجد ثم هو عن التحاكم إلى شرع الله معرض أو وجدت حاشر نفسه مع أهل التقوى فإذا خطبت ابنته إلى صاحب دين و خلق أبى ليزوجها نخاسة إلى صاحب مال ، و إن وجدت موسوساً في الوضوء أو الصلاة ثم يرمي الأوساخ من سيارته في الطريق أو من نافذة بيته إلى الشارع ، أو إن رأيت من يكلمك عن الدولة الإسلامية باجتهاد محدود ضيق و كل صدره غيظ لمن لا يشاركه رأيه ، وإن رأيت متخمرة بحجاب يغطي جسمها و نَتْن الغيبة يفوح منها ، أو رأيت مُحبة لله و لرسوله ثم بعد ذلك لا تكون إلا أداة شيطان تبرجاً و عُرياً ، وإن رأيت من يحب الإسلام سيرة و تاريخاً و كتباً و سطوراً ثم لا يفهمه نظاماً و شريعة و عقيدة و دستوراً ، وإن رأيت غارقاً في عالم الشهادة مبتوت الصلة مع عالم الغيب عقيدة و فكراً و شهوداً ، و إن رأيت من يفيض المال من بين يديه لأثاث و طعام و كساء و حذاء و في أهله أو جيرانه أو إخوانه من لا يملك نقيراً أو قطميراً ، و إذا رأيت من يزعم أنه أخوك و ثمن مسبحة يطقطق بها تساوي أكثر من كل ثيابك ، أو من لا يذكر أنه أخوك إلا إذا احتاجك فإن لم يحصل نسيك ولم يتفقدك أبداً ، و إن وجدت من يقول و لا يفعل و يعد و لا يفي و إن ابتليت بمن يفتح عليك لساناً مثل الرشاش عن ضرورة التكلم بالحق فإن تكلمت به انصرف عنك مثل قط الحارة الجبان ، و إن وجدت طالباً للجنة من دون عمل و طالباً لثبات الحق من دون بذل و مجاهداً من دون صبر ، و إن وجدت كثير نقد و كثير غمز لأهل العلم و الفضل فإن طلبت منه يد عون حملق فيك كأنما غشيه الموت ثم أرسل من يُسمعك قوله : ما دَخَلنا !!! و إذا سمعت بداعية إلى الله رصيده من حب تكفير الناس أعظم من رصيده في الشفقة عليهم وحب هدايتهم ، و إن وجدت داعية إلى الله لا يلبس إلا حذاءً ثمنه يساوي مرتب ثلاثة موظفين ، و أخرى تدرس تلميذاتها أن الموسيقا حرام و في بيتها تمرح بناتها بين ألف إيقاع و لحن فإن سألوها عن الحكم قالت: حتى لا تتعقد البنات المسكينات ، و كأن تعقيد بنات الناس حلال و تعقيد بناتها حرام ، و إذا وجدت مَن مفاخر عائلته أعظم عنده من الدين و شعائر آبائه أهم من كل ما قال السلف والخلف ، و إن رأيت من لا يفهم الدين إلا محاريباً و أذكاراً و أوراداً و آخر لا يفهمه إلا قتالاً و طعاناً و إذا رأيت في المدينة ألف مسجد فاخر و في ألف قرية لا يوجد مسجد متواضع ؛ إذا رأيت كل ذلك فاعلم أنه من مظاهر الخلل الشديد و الصدق بعيد عن أصحابها و ليس أمراً أدعيه بل هو قول الله تعالى : (ليس البرَّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب و لكن البرَّ من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين و آتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب و أقام الصلاة و آتى الزكاة و الموفون بعدهم إذا عاهدوا و الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)6.
و قد ذكر الإمام القاسمي أن من قام بكل ذلك فأولئك الذين صدقوا في إيمانهم لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال و الأفعال فلم تغيِّرهم الأحوال و لم تزلزلهم الأهوال ، و فيه إشعار بأن من لم يفعل أفعالهم لم يصدق في دعواه الإيمان . وقد أمر الله تعالى رسوله أن يسأله أن يجعل مدخله و مخرجه على الصدق فقال تعالى : (وقل ربِّ أدخلني مُدخل صدق و أخرجني مُخرج صدق و اجعل لي من لدنك سلطاناً نصيرا)7.
الغافل يستصعب الصدق و تميل نفسه مع الهوى و تغلبه الشهوة فيكذب و يظن في ذلك قدوم الخير و المصلحة كالأحمق الذي أشعل النار يوما في بيته فسر بضيائها ثم انتشرت فأحرقت البيت بصاحبه ، و كذا صاحب الكذب و الانحراف ؛ خذ الراشي مثلاً : يظن أنه بالرشوة يأخذ حقه و أوله أخذ حق ثم تعسير ثم زيادة تسعيرة الرشوة ثم رشاةٌ أعظم منه يطيحون به من الطريق فإما أن يدفع أكثر لينافسهم أو يعود إلى ما بدأ فيه ، و خذ المرتشي: يظنُّ في هذا زيادة مالٍ عنده و أول الأمر ظاهره كذلك فإذا انتشرت نار الرشوة أصبح هو مضطراً إلى رشوة الباقين فيما ليس تحت نفوذه ، و لم يعد للمال قيمة و نزعت البركة منه .. فهو حرام و كل مال نبتَ من سحت فالنار أولى به ، و هذا المرتشي يعيش في الدنيا ملعوناً حقيراً و في الآخرة بما أعد الله لمثله من العصاة! فأي خير في مثل هذا و قد لُعن الراشي و المرتشي في الصحيح من حديث النبي صلى الله عليه و آله و سلم : (لعن الله الراشي و المرتشي و الرائش الذي يمشي بينهما)8 ، وكذلك الأمر في كل مفاسد الحياة يظن الإنسان الربح في أولها و عاقبتها خراب و دمار! هذا الربا يدافع عنه أهل الباطل و هو الكبيرة الوحيدة التي توعد الله عليها بما لم يتوعد به أصحاب أي ذنب آخر ؛ فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله و رسوله و إن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون و لا تُظلمون)9 ، والكاذب على نفسه تسره قروش الربا فينطلق في الأرض مختالاً فخوراً و لو فطن لعلم أن السياسة في العالم قائمة بجملتها على الاقتصاد ، والاقتصاد العالمي قائم على الربا الذي حطم الشعوب وما سوء التوزيع في الأرض و المجاعات المصطنعة و موت عشرات الألوف من الأطفال كل يوم ، و ما اختلال اقتصاد الدول الضعيفة و ما الاحتكارات الرأسمالية و ما الحروب و ما النهب لدول العالم الثالث إلا بسبب سيطرة نظام ربوي يحيل الأرض قاعاً صفصفا و يكدس المال في أيدي شركات الدول الصناعية الكبرى. ذاك مثال ولدينا مثال آخر في جانب آخر: اغتيال الأشجار ، أسمعتم بهذا؟ إن شهوة البناء تتملك البعض و لا قانون يطالهم فيخرجون بوجائب البناء تغطي الأرصفة وإذا نظرت فسترى بوضوح أنه لا يمكن لشجرة أن تنمو تحت سقف إسمنتي مثل النار حرارة ؛ يحجب الضوء و الشمس ، وإن نَمَت الأشجار اصطدمت به ثم يتوقف نموها فتموت. ما الذي يدفع هذا الجشع إلى ذلك إلا الطمع و شهوة المال و لا يدري فاعل ذلك أنه عندما يحرم من الأشجار ستنقلب حياته جحيماً و لو لم يدر فالطقس يزداد حرارة و الوضع النفسي يتأزم و القلق و التوتر يزداد ، والإحساس بالكآبة و الضيق يتولد عند الناس فيقابلهم مغتال الأشجار فيكونون له مثل الجحيم ضيقاً و توتراً و خصاماً و نزاعاً ، وإن كان هو قد اغتال الأشجار ثم سكن في فيللا فارهة حولها مسبح رائع و أشجار كثيرة إلا أنه لا بد أن يدفع الضريبة! والسبب في ذلك أن قوانين الأرض كلها قاصرة ضئيلة مهما حاولت جهدها ، ووحده شرع الله يضمن توازن الحياة حتى في أدق الأمور التي لا تخطر ببالنا ، و كلنا يعلم الحديث الشريف: (الإيمان بضع و سبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله و أدناها إماطة الأذى عن الطريق و الحياء شعبة من الإيمان)10.
مناهج الأرض مهما اهتمت بإماطة الأذى عن الطريق تبقى قاصرة لا تفي بمتطلبات الآفاق الإيمانية لتقول أن الوجائب التي تقتل الأشجار من أذى الطريق الذي تدخل إزالته في شعب الإيمان و مناهج الأرض قديماً و حديثاً ما بلغت و لا تبلغ من الرقي أن تصل إلى آفاق الإسلام و النبي صلى الله عليه و آله وسلم يقول:
(ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كانت له صدقة)11.
بل إن زرع الشجرة مطلب نبوي رشيد جاء في الحديث الصحيح: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)12، وتبلغ الآفاق بعداً إيمانيا ً حضارياً مذهلاً في حديث المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم إذ يقول : (لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس)13.
و ما بين شهادة لا إله إلا الله و إماطة الأذى عن الطريق و زرع الأشجار و غرس الفسائل إذا قامت الساعة أفق حضاري عظيم عاشه المسلمون فما قامت في وجههم عقيدة منحرفة و لا مذهب باطل و ما كان ذلك إلا بالصدق و الاستمرار عليه و هذا بيت القصيد ؛ فالإنسان مغرور فرداً كان أم جماعة و الصدق ينجيه فرداً كان أم جماعة الصدق ظاهرُ أوله شدة ، وأوله و نهايته خير ، والكذب ظاهر أوله رحمة و أوله و آخره شقاء و الصدق يفضح الكذب و الحق يدمر الباطل ، مجرد التزامك بالحق هو نسف للباطل ، إنسان واحد لا يرتشي يفضح كل مرتش في الأمة ؛ إنسان واحد يتكلم بالحق يفضح كل دجال و منافق ، إنسان واحد لا يسرق يفضح كل سارق ؛ هذه معادلات إيمانية ، وعلى الإنسان أن يبذل ما يستطيعه ؛ ما تستطيعه اعمل له ، عليك بالصدق و الاستمرار به حتى تلقى الله عز و جل ؛ الصدق ينسف الباطل و لو لم تتحرش بالباطل فإنه ينهار و يتفتت لأنه أكذوبة ووهم نعيشه بما نجعل له في قلوبنا ؛ فمن علم ذلك انهارت عنده صورة الباطل و رأى ذلك ببصيرته قبل أن يراه ببصره ، ونضرب لذلك مثالا كلكم يعلمه : الشيوعية في الاتحاد السوفييتي ملأت الدنيا صراخاً و عجيجاً ، سفكت الدماء وذبحت ، قامت بثورات رهيبة ، وماذا بعد؟ لقد انهارت!! لأنها قائمة على باطل وكان أهل الإيمان منذ أيامها الأولى يقولون ستسقط ، وسقطت ، والرأسمالية اليوم ستسقط لأنها لا تقوم على توازن رباني ؛ الأنظمة الفاسدة لا بد أن تنهار و لكنكم قوم تستعجلون ؛ أعمارنا قصيرة أيها الإخوة .. أسمعتم بقصة الغلام المؤمن التي جاءت في الصحيح ؛ الغلام المؤمن كان يعيش في جوٍ فيه عبودية لغير الله ، حاولوا قتله مراراً فما استطاعوا ، بصدقه قلب الأمور على أصحابها و هو غلام!
و هذه أشد شعوب الأرض همجية و سفكاً للدماء المغول و التتار ؛ هزموا المسلمين عسكرياً و هزمهم المسلمون حضارة و عقيدة ؛ شريعة و فكراً ؛ ثقافة و فنا ، وكل ذلك كان من الصدق الذي هو معجزة هذه العقيدة ؛ حملها القرآن إلى البشرية و عانقتها نفوس السابقين فسعدوا في الدنيا و يوم القيامة يقال لهم : (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم و رضوا عنه ذلك الفوز العظيم)14. وأستغفر الله.
اسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما
الحمد لله (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظُلموا لنُبوِّئَنَّهُم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون)1 ؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (فذلكم الله ربكم الحقُّ فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنَّى تُصرفون)2، ونشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله ورسوله (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون)3، يا أيها الناس اتقوا ربكم (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم)4.
أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن من كلامه تعالى قوله : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تَوَلَّوا عنه وأنتم تسمعون)5.
والالتزام بطاعة الله ورسوله في الأسرة المسلمة آفاقه لا تحد ودروبه لا تتناهى ؛ ومن كان يظن بنفسه الريادة فليقس نفسه على امرأة مؤمنة والتزامها منذ كانت في بيت أبيها ومروراً بحياتها زوجة وفية إلى أن ودعت فلذة كبدها مصلوباً في سبيل الله ثم موتها بعده بأسابيع ، ومما يطالعنا في حياتها المشرقة بالإيمان أن أباها رضي الله عنه طلب الصحبة في الهجرة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم واحتمل كل ماله معه ليبذله بين يدي النبي الكريم ؛ لأن شعاره كان دائماً إذا سُئِل ماذا أبقيت لعيالك أن يقول: (أبقيت لهم الله ورسوله) ، ودخل جدها وما كان وقتها قد أسلم وهو كفيف فقال لها: (ما أرى أباكم إلا قد فجعكم بماله كما فجعكم بنفسه)! ومارضيت الصحابية العظيمة أن يظن أحد أن مسلماً يضيع عياله ؛ كيف وهو إنما يحفظهم بحفظ الله ، وأخذت أحجاراً وضعت فوقها ثوباً ليتحسسه الشيخ فقال: لا بأس إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن.
الناس تظن لغفلتها أن الحفظ يكون بالمال ، والله خير الحافظين ، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يا عائشة لو شئت لسارت معي جبال الذهب..)6.
ونعود إلى الصحابية الكريمة وما سبقها إلى الدخول في دين الله إلا سبعة عشر نفراً.
وقت الهجرة الشريفة وقريش تتربص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وشعاب مكة الصخرية القاتمة تخلع قلوب أشد الرجال شجاعة ؛ في ذلك الوقت حبس التاريخ أنفاسه يرقب خطوات المصطفى وصاحبه يغادران مكة ؛ ومستقبل الرسالة والدعوة بين يديهما محفوف بعناية الله ؛ في تلك اللحظات العصيبة لم يكن في كل مكة من يعرف سر الحركة إلا رجل وامرأة ؛ أما الرجل فكان علي رضي الله عنه ، وأما المرأة فهي الصحابية العظيمة التي نتحدث عنها ؛ وأحست قريش بالأمر فجاء أبو جهل فطرق الباب ففتحت له وهي حامل يريدها أن تُقِرَّ له بما تعرف فأبت إباء الإيمان العنيد ؛ فما كان من أبي جهل إلا أن ضربها وصفعها صفعة دوت في شعاب مكة ، وهكذا يفعل الأنذال والجبناء في كل وقت وحين ؛ ينتظرون غيبة الرجال فيصولون ويجولون ويعتدون على النساء ... سنة الجاهلية الدائمة من يهود بني قينقاع إلى بني صهيون في أرض الإسراء والمعراج وانتهاء بالصرب الكفرة في البوسنة ؛ يستأسدون على الأطفال والشيوخ والنساء ، بعدما ذبحوا الشباب وأعدموا الرجال ؛ وضمنوا سكوت حكام الأرض وخَرَسَ بل تآمر وكر الصليبية الدولية والصهيونية العالمية : مجلس الإرهاب العالمي للشعوب المسلمة ، وهيئة الأمم المتحدة على ظلم أمة لا إله إلا الله.
وما خافت الصحابية الكريمة من صفعة طاغوت كفور ، ولولا أن مهمة عظيمة كانت تنتظرها لا تريد أن تؤخرها لأرت ذلك الكفور من عزة إيمانها وصلابة عقيدتها بل من قوة بأسها ما كان كفيلاً أن يذهله ويلجمه لكنها صبرت وكذلك المؤمن يصبر لا ضعفاً ؛ بل انتظارا أن يبلغ الكتاب أجله ؛ يأخذ فقه ذلك من قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)7، وذكر بعض المفسرين أن دلالة الآية أنه لا يجوز لكم يا مؤمنون أن تُغلبوا لكون عدوكم أشدَّ منكم صبراً.
وذهب أبو جهل فخرجت الصحابية المجاهدة تحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الزاد والطعام ؛ تمشي فوق الرمال الملتهبة أو في ظلمة الليل البهيم ، وجو مكة في غاية التوتر من إرهاب قريش لأهل الإيمان وفتنتهم والكيد لهم ، والرعب والخوف يخلعان قلوب الشجعان ؛ لكنها لم تبال بكل ذلك.
كان شذى الإيمان يقودها ، ونفحات النبوة تنير الطريق ؛ كانت ترى ببصيرتها طلوع فجر الإسلام ودولته الفتية وأرض الإيمان والخير والنور ، وكأن كل الكون من حولها ينشد:
أرض الإيمان أيا حُلماً بوصفك أضنيت القلما
أحياكِ سعيداً مبتسماً في قلبي وَضـَّاءُ النفس
وتنبعث مخاوف الطريق فإذا بنداوة الإيمان تبددها ؛ كيف لا والمصطفى الهادي صلى الله عليه وآله وسلم يفقه أصحابه: (ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان وطعمه : أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما ، وأن يحبَّ في الله ويُبغض في الله ، وأن توقد نار عظيمة فيقع فيها أحبُّ إليه من أن يشرك بالله شيئاً)8.
وعندما كانت تعد الطعام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه إذا بما تَرْبِطُ به الزاد يتمزق فأخذت خمارها فشقته نصفين ، واحداً منه للزاد وآخر تمنطقت به ، فكان لقباً لها وعرفت به ؛ فهي ذات النطاقين كما سماها الهادي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ إنها أسماء رضي الله عنها بنت خير الأصحاب بعد محمد صلى الله على محمد وآل محمد وصحب محمد ومن تبع محمداً إلى يوم الدين.
كانت أسماء من أنبل النساء وأوفرهن عقلاً بل أوفاهن وفاء وأيسرهن عيشاً ؛ ما بطرت ولا تكبرت وما أصخت سمعها يوماً لمناد من أهل الجاهلية في قليل ولا كثير. نشأت في بيت تتضوع منه طيوب الإيمان ؛ بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه ؛ أما زوجها فكان حواري رسول الله وأول من سل سيفاً في سبيل الله ؛ رائد الجهاد وأحد العشرة المبشرين بالجنة ابن (صفية) الصحابية المجاهدة الشجاعة عمة النبيصلى الله عليه وآله وسلم.
هاجرت أسماء رضي الله عنها وهي حامل وفي قُباء وضعت مولودها وهو أول مولود يولد في دولة الإسلام ، وسمته عبد الله فخرج مجاهداً أبياً من أسرة صدق وجهاد ، وعاشت أسماء في المدينة مع زوجها ما تأففت يوماً وما ضجرت ، وصبرت صبراً عجيباً في سبيل العقيدة والدين ولو كانت واحدة أخرى لملأت الدنيا صراخاً وشكاية ، ولخرج حب الدنيا من قلبها إلى لسانها ، ولأهلكت وأتعبت زوجها كل يوم وهي تقول له : أبنت رجل مثل أبي بكر تعيش في مثل هذه الظروف ، وفي أقل الأحوال تجعل حياته جحيماً لا يطاق حتى تتعبه فيركب الصعب والذلول لإرضاء شهواتها ونزواتها.
ما كانت أسماء هكذا ؛ أسماء بنت الصديق ؛ أسماء المؤتمنة على سر الهجرة ؛ أسماء أخت الجهاد والإقدام والبطولة والفداء ؛ أسماء صاحبة فكر الدولة والدعوة والأمة والحضارة.
ما كانت يوماً تحس أنها تحمل العقيدة لأن زوجها أو أباها يحملانها ؛ كانت العقيدة إيماناً يتدفق من قلبها المُلَوَّع من جاهلية الأرض التي آن لها أن توئد لترفع راية التوحيد.
وفي يوم من الأيام أتتها أمها وكانت مشركة ، وهشت أسماء لأمها ، ومن لا يلقى بنفسه في أحضان أمه إذا رآها بعد طول فراق ويفتح قلبه ويدع دموعه تحكي ما في قلبه ، وتراخت ذراعا أسماء ووقفت الكلمات على لسانها ؛ فالعقيدة فوق كل شيء ، وأرسلت بأختها عائشة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن اسأليه: أأصل أمي وهي مشركة؟ لقد خشيت أن يخدش التزامها ، أما قال تعالى (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حاد اللهَ ورسولَه ...)9، وعادت عائشة بالجواب أن صِلي أمك وأكرميها.
إن العقيدة في نفس المؤمن فوق كل شيء ولكن الإسلام ما كان يوماً قطاعاً للأرحام بل وصَّالاً لها ولقد كانت قريش تؤذي المؤمنين في مكة وتسومهم العذاب ثم قويت شوكة المسلمين وأصبحت لهم دولتهم ، وأصابت قريشاً مجاعة ؛ فما كان من نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن بعث لهم ما يعينهم في مجاعتهم ، وصدق تعالى إذ يقول: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)10.
ووراء المعلم الهادي مشت الأمة فسعدت وعاشت في سكينة وبر وتراحم وخير.
فهمت أسماء رضي الله عنها التوازن والشمول في العقيدة فأعطت كلاً حقه ؛ وقت الرحمة تلزمه الرحمة ، ووقت البأس يلزمه البأس ، ومن أوقات البأس فتنة وقعت في أيام سعيد بن العاص واضطرب حبل الأمن فيها ، فكان على جنب أسماء خنجر دافعت به عن نفسها وبيتها ، وأدبت كل معتد فجور ؛ أما في اليرموك ، وما أدراك ما اليرموك؟ فقد صُمَّتِ الآذان من صوت تكسر السيوف وتقصف الدروع ، وكانت كتائب الموت تغير مثل الصواعق الهائلة وقد أصبحت الأرض لزجة لكثرة ما سقيت من الدماء ، وانتصبت أسماء مثل لبوءة ضارية فشاركت في القتال تدافع عن دينها وعقيدتها ، أما قال تعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) 11.
كانت حياة أسماء كلُّها جهاداً في سبيل الله ، واحتملت كل ذلك ، وصبرت صبراً قليلٌ من يحتمله ، وزوجها كان من أفقر الناس ، هاجر ولا مال له ولا عقار ؛ ما كان له إلا فرس كانت أسماء تعلفه وتسير تجمع النوى من الأرض وتدقها وكانت في غاية التفهم لنفسية زوجها ؛ رآها عليه الصلاة والسلام وقد حملت النوى فأشفق عليها وأناخ راحلته لتركب فتذكرت غيرة الزبير فأبت واستحيت من الرجال! ما رضيت أن تركب مع رسول الله الطاهر المطهر المعصوم خشية أن لا يعجب زوجها ذلك ؛ فقال الزبير: والله لحملك النوى أشد علي من ركوبك معه. وصبرت أسماء وصبر زوجها ثم أخذ يعمل ويتاجر كما فعل الصحابة الذين قدموا ولا شيء معهم ففتح الله عليهم ورزقهم من الخيرات.
صبرت أسماء ، ولمَّا مات زوجها كانت تركته من التجارة خمسة ملايين ومائتي ألف درهم ما جمعها من حرام ولا نفوذ ولا جاه وما قعدت به عن علم ولا جهاد ، بل علَّم الدنيا أن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم رجال مال وتقى ، أشداء في النهار رهبان رقاق في الليل ؛ فلقد تعلموا من نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم أن (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير..)12، ورغم كل المال الذي فاض فما بطر الزبير ولا أسماء وكان له ألف خادم يعملون لحسابه ، ولكنه كان ينفق باليمين والشمال ، وما جبيت من الزبير زكاة قط! ما كان يجمع ليدخر بل يجمع وينفق ، لأن عقيدته : (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خُلَّةٌ ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون)13.
وعاشت أسماء مائة عامٍ ما سقط لها سنٌّ ولم يُنكر لها عقل ؛ وفي آخر عمرها كانت البيعة الشرعية معقودة لابنها عبد الله بن الزبير رضي الله عنه في الحجاز وفارس وخراسان ثم انقادت له مصر ؛ واجتمع المسلمون عليه إلا أمراء في الشام كانوا أدهى منه وأعلم بالسياسة ؛ فحركوا العوام وبطشوا حتى تقلص ملكه ثم حاصروه في بيت الله الحرام ، فتحصن بالبيت فنصبوا المنجنيق ينهال بالصخور وعُرض عليه الفرار فأبى وما رضي أن تختم حياته الحافلة بالجهاد بموقف جبان , وذهب عبد الله يستشير أمه أسماء ... العجوز ذات المائة عامٍ ؛ كفيفة البصر! وقال لها: يا أم قد خذلني الناس حتى أهلي وولدي ولم يبق لي أمل والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا فبماذا تشيرين؟ ووقف قلب الأم يوازن الأمور مع البيعة الشرعية والحق الواضح وكادت تغلبها عاطفتها وتذكرت ولادته في قباء ومرت بها أطياف الجاهلية وبقايا الطواغيت المتفرعنين وتفجرت في قلبها معاني الثبات على المبدأ والصبر على المحنة ؛ الموت أشرف من أن تدفع الأمة بشرعيتها إلى الظالمين.
إن الظالم يستطيع أن يسيطر ولكنه لا يستطيع أن يكون شرعي الحكم مهما طال به الزمن والأمة الغافلة فقط هي التي تستسلم ؛ أما أمة العقيدة فلا تنحني.
مر كل ذلك بأسماء وخرج القرار الحاسم: (لا يُتَلاعَبنَّ بك ... عشت كريماً فمت كريماً) لقد حكمت على ابنها بالإعدام ، وبيد من؟ يد الحجاج ؛ كانت تنتزع مع كل حرف من قرارها قطعة من روحها ، لقد حكمت على نفسها أيضاً بالإعدام.
وضمت الأم العمياء إليها ابنها ... والابن يبقى ابناً مهما كَبُرَ سناً أو مركزاً ... ضمته تتحسسه وتشمه وتمده بدفء الأمومة ، وخرج الفارس العظيم بعد وداع أمه الوداع الأخير ، فلما لم تعد تسمع خطواته ...خرجت دموع الأم غزيرة بعد تجلد فسالت على وجناتها.
وصُلب صحابي رسول الله في أمة سكرت برغبة المال أو رهبة السيف أو بريق التاج ، وخرجت أسماء تتحسس ابنها المصلوب ثم قالت : أما آن لهذا الفارس أن يترجل ؛ فقال لها الظالم الذي صلبه : المنافق! قالت: والله ما كان منافقاً وقد كان صواماً قواماً ؛ وردت عليه رداً بليغاً.
ما عاشت أسماء بعد ابنها إلا عشرين يوماً ؛ بعدما خطت لكل مسلم ومسلمة درب البطولة وعلمت الأسرة المسلمة كيف تحمل العقيدة وتصبر على البلاء وتشكر في السراء والضراء ، وصدق النبي الهادي صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول: (لا تسبوا أصحابي ؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نَصيفه)14، وأجمع علماء الأمة على أن من وقع في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو زنديق. اللهم اجعلنا ممن يحب نبيك المختار وأصحابه الأخيار وآله الأطهار.
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون.
الفكر التفكيكي ورفضه
اعداد : طارق فتحي
(الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) 1. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له ونشهد أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله ورسوله جاء بالهدى ودين الحق ليكون للعالمين نذيرا.
عباد الله (اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)2 ، أما بعد فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن من كلامه تعالى قوله حكاية عن قوم نوح: (ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجريَ إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون * ويا قومي من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون)3.
نمضي اليوم مع شيخ الأنبياء نوح عليه السلام في درس من دروس الدعوة القرآنية وهو رفض منطلقات وفكر التفكيك.
ما هو فكر التفكيك؟ البعض لشدة ولعه بهوىً يعيشه أو فكرة تملأ عليه حياته لا ينتبه إلى حقائق ما يعيشه الناس من منظومات إيمانية أو اجتماعية أو نفسية ؛ تشكل لهم منهجاً متوازناً يمدهم بعوامل الاستقرار والحيوية والثبات ، ولو كانت فيها بعض نقاط الضعف ، ويأتي من لا يقدم منظومة متوازنة بل طفرات لا تأخذ بالحسبان توازنات الناس فيقع في إشكالات كثيرة إن كان صادقاً فكيف إن لابست الأمر منعطفات نفسية لا تُعلم نهاياتها ، أو مطامع حياتية عاجلة.
ونوح عليه السلام ينبه قومه إلى حقيقة الدعوة الربانية (ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله) ، فالحرص على الدنيا والتطاحن العنيد لاكتساب المواقع فيها وحيازتها يفتح جبهات هائلة من المكابرة والعناد والتشبث ، أما عندما يتجرد الداعية عن فتاتها الذي ينبهر به عشاقها فإن كلامه وسعيه يأخذ بعداً آخر ، ولذا وجدنا في حياة الأمة المسلمة أن من وثقت الأمة بعقيدته وإخلاصه وتجرده لنصحها لقي منها القبول وحاز المرجعية رغم ما يكون (ربما) قد وقع فيه من أخطاء تفرضها الطبيعة البشرية ، وأما من شعرت الأمة (وللأمة مشاعر شديدة الحساسية جداً تُجاه هذه الأمور) ؛ من شعرت الأمة أن من وراء كلامه قصداً لا يتوافق مع منظومتها الاعتقادية والشعورية والاجتماعية فإنها تلفظه ولو كان في كلامه بعض الصواب.
خذوا مثالاً عن ذلك (قراءاتٍ معاصرة مخربة) ما ضمها كتاب واحد بل هي جيوش هجمة تغريبية طاحنة تحاول الزلزلة والتحطيم في وقت الحرب الشرسة على الإسلام ؛ تلك القراءات ساقطة عند الأمة ولو كان في بعض منها الصواب لسبب واحد: أن الأمة لا تثق بأصحابها ولا تحفظ لهم سابقةً في الدفاع عن الإسلام ولا تعرف لهم جهداً مشكوراً مجرداً سالفاً يذود عن الأمة.
إن قانون الدعوة الأول (إن أجري إلا على الله) إن لم يكن متحققاً بالكلية فسوف ينفر الناس من صاحب الدعوة كائناً ما كانت العبارات من الصواب التي تخرج من فمه ، فكيف إن كان الأمر لا قيد له ولا ضابط.
الفكر التفكيكي الذي يقلقل ولا يبني وضعت أسس نسفه في منطلقات الأنبياء عليهم السلام ، (وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون)5 ؛ أهل الإيمان وعقيدتهم ومنظومتهم الاجتماعية والفكرية والنفسية هي صاحبة السيادة والأولوية.
المشكلة أيها الأخوة في كيفية التعامل مع ما يخطر ببالنا أنه بحاجة إلى فهم جديد ؛ الفقيه المسلم ... الداعية المسلم ... المفكر المسلم الذي مبدأه : (إن أجري على الله) دون أن يكون الهدف إرضاء أمير ولا وزير ولا غني ولا فقير ولا جماعة ولا حزب ينظر إلى ما يطرأ في الأمة من مشكلات فيقرر أن الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة هي الإطار الذي يتحرك من خلاله ؛ فإذا أتت ضرورات تزحزح حكماً من الأحكام الاجتهادية عما هو مستقر عليه ، نُظر فإن كان الكتاب والسنة يتسعان لرأي جديد أو قديم يُجَدَّدُ لا يخالف مقاصدهما ، لم يكن هناك غضاضة في تبنيه والتزامه ، ومثال ذلك : إلزامية الشورى فكثرة من فقهاء المسلمين يرون أن الشورى غير ملزمة للأمير ، ولكن إذا وجد الفقيه أن مقاصد الشريعة وتجارب التاريخ وعبر الأمم وما مرت به الأمة المسلمة من نكبات بينت بجلاء أن هذا الأمر سبَّبَ استبدادية في الرأي وتلاعباً بالشعوب وزجاً بالطاقات في غير موضعها فوصل إلى نتيجة تقول بإلزامية الشورى ؛ فهذا الأمر ظاهر الحكمة ، ولا يخرج عن الكتاب والسنة ، وقد نقل القاسمي عن الإمام الرازي أن من وجوه مشاورة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه أن المشاورة لا لأجل أنه محتاج إليهم ، ولكن لأجل أنه إذا شاورهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصح في تلك الواقعة فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها ، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات، وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد ؛ انتهى. فإذا كان هذا الحال مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكيف بمن دونه.
العلَّامة المودودي شديد التبني لفكرة عدم إلزامية الشورى فلما رأى ما سببته من كوارث في بعض الأحيان على الشعوب المسلمة أو الجماعات الإسلامية التي تريد أن تحارب الاستبداد وبنيتها الهيكلية قائمة على طريقة استبدادية ؛ لما رأى ذلك رجع عن رأيه إلى القول بإلزامية الشورى للأمير.
المهم أن هذا الأمر في سعة وتُتقصدُ فيه مصلحة المسلمين ، ولكن هناك أموراً أخرى لا يجوز تجاوزها ولا القفز عليها بحال من الأحوال ؛ خذوا مثالاً عن ذلك موضوع الربا الذي لم يأت في كل كتاب الله تحذير شديد مثلما أتى فيه (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون)6، والذي يأتي ويفتي الناس بحل الربا أو معاملاته فإنما يوقع الأمة في إشكال خطير أوله إخراجها من كنف الله ورحمته وعنايته (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم)7، وكما تحصل الخشية بالخوف على النفس من القتل والتخطف من الأرض تحصل الخشية من التدهور الاقتصادي والتخطف من عالم الأموال فيردنا الله إلى الاعتماد عليه الثقة بشريعته وما اختاره لنا سبحانه.
ثانياً: تربية النفسية الأنانية الضيقة التي لا تنظر إلا إلى المنفعة القريبة وتغفل عن العاقبة المريعة ، وحقيقةً فإن النظام الربوي هو أبشع ما ابتليت به البشرية في أطوارها الاقتصادية وكل الباحثين الاقتصاديين يعلمون أن النظام الربوي العالمي قد دمر الدول النامية لصالح الدول الصناعية ، بل إن هناك صناعةً مخيفةً اسمها صناعة الجوع وصناعة الكوارث الاقتصادية تمتلكها الدول الكبرى وتمتص دماء الشعوب المستضعفة التي باتت كالعبد الذليل تقبل الضغوط السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية بسبب أنها مربوطة بشكل محكم بشبكة عنكبوت اقتصادي مرعب هو الدول الصناعية الكبرى التي تتحكم بالعالم عن طريق النظام الربوي.
ثالثاً: قبول النظام الربوي يدمر الاحتياطي الاستراتيجي من الفطرة البشرية ويدمر البعد الإنساني فيها فالإسلام لا يرضى أن يكون مصاص دماء لأحد وكل أمة تقبل الربا فإنما تعلن انسحابها من التواصل الإنساني الذي يقوضه نظام الربا يما ينشؤه في النفوس من عشق المال والترف والاستغلال والأثرة والأنانية والجشع.
رابعاً: التنازل النفسي عن تحريم الربا يماثل تماماً أمة أعلنت الاستسلام المادي والمعنوي في وجه عدوها ؛ بدل حشد كل طاقاتها لمواجهته والخلاص منه ؛ لذا فالربا يبقى حراماً إلى يوم الدين ، ومهما اشتدت الظروف الاقتصادية ، ومهما حاصرت القوى الاستكبارية العالمية الشعوب الضعيفة فإن الربا يبقى في حس الإنسان المسلم حاكماً كان أو وزيراً أو مسؤولاً اقتصادياً أو مواطناً عادياً ؛ يبقى حراماً وإن تعامل معه وفيه ، وتسألون ما الفرق مادام الضغط قد أدى إلى القبول العملي بالتعامل! والفرق هائل ... من أن يُحتل قلبك بحرام تفقد معه الصلة مع الله تعالى وتدمر مقومات الأمة المسلمة المادية والمعنوية وبين أن يكون الحرام الذي يلابسك إنما هو ضرورة قاهرة على صعيد أمة أو مؤسسة أو فرد ؛ وفي القلب نفور شديد منه ، والعلاقة معه كمثل قطرات ماء فوق شمع بارد لا تقدر على الامتزاج فيه أبداً مهما مكثت فوقه ، وهزة واحدة تزيلها. أترى لو أن عدواً خبيثاً مثل بني صهيون أو الصرب احتل دياركم وخرَّبَ مساجدكم واغتصب نساءكم وأيتم أطفالكم ؛ ثم قهركم بسلاحه وقوته ؛ أكنتم ترضون بذلك في أعماق قلوبكم أم أن جذوة المقاومة والرفض والبغض العارم والإعداد ليوم الخلاص تتقد وتتقد حتى إذا نادى المنادي أن يا خيلَ الله اركبي نفرتم جميعاً ؛ فامتزجت دماءكم سيلاً أحمر قانياً يغسل عاركم ولا يبالي بغالٍ ولا نفيس من أجل الخلاص ، وكذلك الاحتلال الاقتصادي للأمة المسلمة لا يجوز أن يذيقها طعم النوم أو السبات الحضاري ؛ لأن في أعماق النفس هدير إيماني لا يقبل بسوى شرع الله بديلاً ؛ حربه ليست في جزئيات صغيرة بل مع نظام عالمي أخطبوطي وجوده إثم من الأثام التي لا تستريح البشرية المنكودة إلا بإزالته.
وعندما يأتي من يتحدث عن ضرورات تحيط بالحياة ؛ قلنا له ما دامت شريعة الإسلام هي شريعة الله الحق فهي لا تغفل ضرورات الناس الفعلية ، وكلكم تعلمون القاعدة الشرعية الضرورات تبيح المحظورات التي تأتي أخت لها لتقول الضرورة تقدر بقدرها وما في تاريخ الفقه الإسلامي سد أبداً في وجه حاجة حقيقية للأمة ؛ أما الحاجات النفسية والأهواء الخاصة والأصابع الخفية لفكر رأسمالي أو ماركسي تغريبي أو تهويدي ، تفريغي أو تحطيمي، فليس مسموحاً لها بحال أن تأخذ مكاناً في رحاب الفقه الإسلامي ، ومقولات التجديد المزعوم إن كان القصد منها استنباط الأحكام الشرعية لمستجدات الأمور أو مراجعة بعض الاجتهادات التي تتغير بتغير الزمان والمكان والمجتمعات في ضوء الكتاب والسنة والصحيحة فهذا مما لا لبس فيه بل هو واجب شرعي تأثم الأمة إن لم يقم أحد به ؛ أما إن كان القصد هو الإتيان في كل يوم بما لا يُعقل ولا يُفهم فهو مرفوض وإن أتى به حملة الأسفار! كمن زعموا أن المرأة يجب أن تتحرر ، وقلنا: كلام عام يتحمل الخير والشر فقيدوه وخصصوه حتى نفهمه ؛ فقالوا: ما بين الفخذين عورة والفخذان ليسا بعورة ، و(إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ، إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)8.
ومن قالوا أن الفقه جَمُدَ وجَمَّدَ الأمة! قلنا لهم: لكل زمن أهله ومجتهدوه فأرونا آلات الاجتهاد عندكم فلفقوا لنا لا فقهاً أعوج أعرج فقط بل أتوا بسم قاءه تغريبيون خبثاء ؛ يريدون تحطيم كل ما وثقت به الأمة ، يريدون نسف أصول الشافعي ومقاصد الشاطبي وتحريرات ابن حجر وفقه النووي ومباحث الغزالي بل يريدون نسف الإسلام كله ؛ تحت شعار البحث والعلم والمعرفة والاجتهاد التي لا تعرف لها ضابطاً ولا رابطاً ؛ بل هي عموميات إن بحثت عن مدلولاتها التفصيلية وجدت النتيجة تخريباً وتحطيماً وتفريغاً للأمة.
والمشكلة أن هؤلاء يتذرعون بأعظم نعم الله ؛ بالعقل ، والعقل شيء نسبي ؛ فكل شخص له عقل فأي عقل هو الضابط؟ أهي عقول شيوعية أم وجودية رأسمالية أم صهيونية خبيثة تسلل تحت ألف غطاء وقناع لتحطم الأمة وتنسف فيها كل مقومات الوجود والثبات ؛ أم هو العقل الذي تذرع به المعتزلة غفر الله لهم فاضطهدوا الإمام أحمد بما لا يفهمه العقل حتى اليوم فأضاعوا بعض ما كان عندهم من صواب فنبذتهم الأمة في وجدانها وإن كانوا أصحاب جهد كبير، ويأتيك اليوم من ينسب نفسه إلى فكر المعتزلة والبحث الحر والعقل وما هو يصلح بأن يكون نعلاً في أرجلهم ؛ فالمعتزلة كانوا أصحاب منهج متكامل ولو شذ فيهم من شذ وكانوا أصحاب شكيمة هائلة صدت عن الإسلام غاراتٍ شعواء من أمم وحضارات تصدت للإسلام.
فماذا فعل ثرثارو اليوم؟ إن الشهوات لا تتناهى ، وقد يخيل للإنسان إذا فكر من دون اهتداء بأن المصلحة في الأمر الفلاني فإذا عرف مراد الله تبين له أنه كان في ضلال بعيد ، ولم يكن الإسلام يوماً شقاءً للحياة ، بل الحياة هي التي شقيت لما ابتعدت عن الإسلام وليس الحل بتدجين الإسلام ولا تكسير أضلاعه ولا تطويعه كما يهوى المنحرفون بل الحل بأن تطوع الحياة كلها لتسير في ظلال الإسلام وهديه وشريعته.
البعض يريدون باختصار إسلاماً بلا التزام ، أي إفقاد الإسلام كل عوامل وجوده ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول في الحديث الصحيح: (لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين)9، وعلى نهج شيخ الأنبياء نوح عليه السلام نقول: ويا قوم لا نسألكم عليه مالاً إن أجرنا إلا على الله ، وما نحن بالذين نترك معاقد أهل الإيمان ومواطن قوتهم ، وما نحن بالذين نطرد الإسلام عقيدة وشريعة ونظاماً لنحل محله أفكار التغريب والتهويد ، ويا قوم من ينصرنا من دون الله إن فكَّكنا عقيدتنا وأضعفنا شريعتنا ودمرنا جذورنا وأصولنا ؛ قولوا لي بالله عليكم ما الذي يصد عنا أحقاد المتكالبين وتآمر يهود ومكر الشرق والغرب وينسف أحلام بني صهيون ؛ أفلا تذكرون؟ من عمل صالح فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون.
الصدق أساس الاستقامة
إنَّ الحمد لله أحمده و أستعينه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا ؛ من يهده الله فلا مضل له و من يضلُل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبد الله و رسوله جاء للعالمين بشيراً و نذيراً ..
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون)1.
أما بعد فإن أصدق الكلام كلام الله و خير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه و آله و سلم ، و شرَّ الأمور محدثاتها و كلَّ محدثةٍ بدعة و كلَّ بدعةٍ ضلالة و كلَّ ضلالة في النار.
و إن من كلام ربنا عز و جل قوله : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين)2. قال الإمام ابن القيم في مدارجه : الصدق هو منزل القوم الأعظم الذي فيه تنشأ جميع منازل السالكين و الطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان ، و سكان الجنان من أهل النيران و هو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شئ إلا قطعه و لا واجه باطلاً إلا أرداه و صرعه ، من صال به لم تُرَد صولته و من نطق به علت على الخصوم كلمته ، فهو روح الأعمال و محك الأحوال و الحامل على اقتحام الأهوال و الباب الذي دخل منه الواصلون على ذي الجلال و هو أساس بناء الدين و عمود فسطاط اليقين و درجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين و من مساكنهم في الجنات تجري العيون و الأنهار إلى مساكن الصديقين كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار متصل و معين.
قال تعالى : (ومن يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حَسُنَ أولئك رفيقا)3. الإيمان أساسه الصدق و النفاق أساسه الكذب فلا يجتمعان. الغافل يتخيل الصدق كما يهوى و إنما الصدق استقامة في الأقوال و الأفعال و الأحوال فلا ينال درجة الصديقية كاذبٌ أبداً لا في قوله و لا في عمله و لا في حاله ، و في الصحيحين من حديث بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (إنَّ الصدق يهدي إلى البر و إن البرَّ يهدي إلى الجنة و إن الرجل ليصدُقَ حتى يكون صدِّيقاً ، و إن الكذب يهدي إلى الفجور و إن الفجور يهدي إلى النار و إن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)4 ، و في حياتنا أيها الناس آفة تحتاج إلى علاج انتبه لها الإمام الغزالي قديماً فقال ما نسوقه بتصرف : ربما جاهد المريد نفسه حتى ترك الفواحش و المعاصي ثم ظن أنه قد هذب خلقه و استغنى عن المجاهدة و ليس كذلك ، فإنَّ حسن الخلق هو مجموع صفات المؤمنين التي ذكرها الله في كتابه فمن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على الآيات فوجود جميع هذه الصفات علامة حسن الخلق و فقد جميعها علامة سوء الخلق و وجود بعضها دون البعض يدل على البعض دون البعض فليشتغل بحفظ ما وجده و تحصيل ما فقده. هذا عن الخلق الحسن عموماً ؛ فإذا انتقلنا إلى موضوع الصدق وجدنا أن الله تعالى بَيَنَ مراده لما قال :
(ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين و آتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب و أقام الصلاة و آتى الزكاة و الموفون بعهدهم إذا عاهدوا و الصابرين في البأساء و الضراء و حين البأس أولئك الذين صدقوا و أولئك هم المتقون)5 ؛ فليس الصدق شيئاً يفهمه الواحد منا كما يهوى ، وإن العلة التي فينا هي فوات فقه شروط الصدق و أنها تلزم مجتمعة و أن الخلل في واحد منها ينسف الصدق كله فلا يكون عند المؤمن كذب أبداً ؛ فإن رأيت صائماً مصلياً ثم بعد ذلك يغش ، أو رأيت مبسملاً محوقلاً ثم بعد ذلك يسرق أو رأيت خافضَ رأسه و رافعه في المسجد ثم هو عن التحاكم إلى شرع الله معرض أو وجدت حاشر نفسه مع أهل التقوى فإذا خطبت ابنته إلى صاحب دين و خلق أبى ليزوجها نخاسة إلى صاحب مال ، و إن وجدت موسوساً في الوضوء أو الصلاة ثم يرمي الأوساخ من سيارته في الطريق أو من نافذة بيته إلى الشارع ، أو إن رأيت من يكلمك عن الدولة الإسلامية باجتهاد محدود ضيق و كل صدره غيظ لمن لا يشاركه رأيه ، وإن رأيت متخمرة بحجاب يغطي جسمها و نَتْن الغيبة يفوح منها ، أو رأيت مُحبة لله و لرسوله ثم بعد ذلك لا تكون إلا أداة شيطان تبرجاً و عُرياً ، وإن رأيت من يحب الإسلام سيرة و تاريخاً و كتباً و سطوراً ثم لا يفهمه نظاماً و شريعة و عقيدة و دستوراً ، وإن رأيت غارقاً في عالم الشهادة مبتوت الصلة مع عالم الغيب عقيدة و فكراً و شهوداً ، و إن رأيت من يفيض المال من بين يديه لأثاث و طعام و كساء و حذاء و في أهله أو جيرانه أو إخوانه من لا يملك نقيراً أو قطميراً ، و إذا رأيت من يزعم أنه أخوك و ثمن مسبحة يطقطق بها تساوي أكثر من كل ثيابك ، أو من لا يذكر أنه أخوك إلا إذا احتاجك فإن لم يحصل نسيك ولم يتفقدك أبداً ، و إن وجدت من يقول و لا يفعل و يعد و لا يفي و إن ابتليت بمن يفتح عليك لساناً مثل الرشاش عن ضرورة التكلم بالحق فإن تكلمت به انصرف عنك مثل قط الحارة الجبان ، و إن وجدت طالباً للجنة من دون عمل و طالباً لثبات الحق من دون بذل و مجاهداً من دون صبر ، و إن وجدت كثير نقد و كثير غمز لأهل العلم و الفضل فإن طلبت منه يد عون حملق فيك كأنما غشيه الموت ثم أرسل من يُسمعك قوله : ما دَخَلنا !!! و إذا سمعت بداعية إلى الله رصيده من حب تكفير الناس أعظم من رصيده في الشفقة عليهم وحب هدايتهم ، و إن وجدت داعية إلى الله لا يلبس إلا حذاءً ثمنه يساوي مرتب ثلاثة موظفين ، و أخرى تدرس تلميذاتها أن الموسيقا حرام و في بيتها تمرح بناتها بين ألف إيقاع و لحن فإن سألوها عن الحكم قالت: حتى لا تتعقد البنات المسكينات ، و كأن تعقيد بنات الناس حلال و تعقيد بناتها حرام ، و إذا وجدت مَن مفاخر عائلته أعظم عنده من الدين و شعائر آبائه أهم من كل ما قال السلف والخلف ، و إن رأيت من لا يفهم الدين إلا محاريباً و أذكاراً و أوراداً و آخر لا يفهمه إلا قتالاً و طعاناً و إذا رأيت في المدينة ألف مسجد فاخر و في ألف قرية لا يوجد مسجد متواضع ؛ إذا رأيت كل ذلك فاعلم أنه من مظاهر الخلل الشديد و الصدق بعيد عن أصحابها و ليس أمراً أدعيه بل هو قول الله تعالى : (ليس البرَّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب و لكن البرَّ من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين و آتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب و أقام الصلاة و آتى الزكاة و الموفون بعدهم إذا عاهدوا و الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)6.
و قد ذكر الإمام القاسمي أن من قام بكل ذلك فأولئك الذين صدقوا في إيمانهم لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال و الأفعال فلم تغيِّرهم الأحوال و لم تزلزلهم الأهوال ، و فيه إشعار بأن من لم يفعل أفعالهم لم يصدق في دعواه الإيمان . وقد أمر الله تعالى رسوله أن يسأله أن يجعل مدخله و مخرجه على الصدق فقال تعالى : (وقل ربِّ أدخلني مُدخل صدق و أخرجني مُخرج صدق و اجعل لي من لدنك سلطاناً نصيرا)7.
الغافل يستصعب الصدق و تميل نفسه مع الهوى و تغلبه الشهوة فيكذب و يظن في ذلك قدوم الخير و المصلحة كالأحمق الذي أشعل النار يوما في بيته فسر بضيائها ثم انتشرت فأحرقت البيت بصاحبه ، و كذا صاحب الكذب و الانحراف ؛ خذ الراشي مثلاً : يظن أنه بالرشوة يأخذ حقه و أوله أخذ حق ثم تعسير ثم زيادة تسعيرة الرشوة ثم رشاةٌ أعظم منه يطيحون به من الطريق فإما أن يدفع أكثر لينافسهم أو يعود إلى ما بدأ فيه ، و خذ المرتشي: يظنُّ في هذا زيادة مالٍ عنده و أول الأمر ظاهره كذلك فإذا انتشرت نار الرشوة أصبح هو مضطراً إلى رشوة الباقين فيما ليس تحت نفوذه ، و لم يعد للمال قيمة و نزعت البركة منه .. فهو حرام و كل مال نبتَ من سحت فالنار أولى به ، و هذا المرتشي يعيش في الدنيا ملعوناً حقيراً و في الآخرة بما أعد الله لمثله من العصاة! فأي خير في مثل هذا و قد لُعن الراشي و المرتشي في الصحيح من حديث النبي صلى الله عليه و آله و سلم : (لعن الله الراشي و المرتشي و الرائش الذي يمشي بينهما)8 ، وكذلك الأمر في كل مفاسد الحياة يظن الإنسان الربح في أولها و عاقبتها خراب و دمار! هذا الربا يدافع عنه أهل الباطل و هو الكبيرة الوحيدة التي توعد الله عليها بما لم يتوعد به أصحاب أي ذنب آخر ؛ فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله و رسوله و إن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون و لا تُظلمون)9 ، والكاذب على نفسه تسره قروش الربا فينطلق في الأرض مختالاً فخوراً و لو فطن لعلم أن السياسة في العالم قائمة بجملتها على الاقتصاد ، والاقتصاد العالمي قائم على الربا الذي حطم الشعوب وما سوء التوزيع في الأرض و المجاعات المصطنعة و موت عشرات الألوف من الأطفال كل يوم ، و ما اختلال اقتصاد الدول الضعيفة و ما الاحتكارات الرأسمالية و ما الحروب و ما النهب لدول العالم الثالث إلا بسبب سيطرة نظام ربوي يحيل الأرض قاعاً صفصفا و يكدس المال في أيدي شركات الدول الصناعية الكبرى. ذاك مثال ولدينا مثال آخر في جانب آخر: اغتيال الأشجار ، أسمعتم بهذا؟ إن شهوة البناء تتملك البعض و لا قانون يطالهم فيخرجون بوجائب البناء تغطي الأرصفة وإذا نظرت فسترى بوضوح أنه لا يمكن لشجرة أن تنمو تحت سقف إسمنتي مثل النار حرارة ؛ يحجب الضوء و الشمس ، وإن نَمَت الأشجار اصطدمت به ثم يتوقف نموها فتموت. ما الذي يدفع هذا الجشع إلى ذلك إلا الطمع و شهوة المال و لا يدري فاعل ذلك أنه عندما يحرم من الأشجار ستنقلب حياته جحيماً و لو لم يدر فالطقس يزداد حرارة و الوضع النفسي يتأزم و القلق و التوتر يزداد ، والإحساس بالكآبة و الضيق يتولد عند الناس فيقابلهم مغتال الأشجار فيكونون له مثل الجحيم ضيقاً و توتراً و خصاماً و نزاعاً ، وإن كان هو قد اغتال الأشجار ثم سكن في فيللا فارهة حولها مسبح رائع و أشجار كثيرة إلا أنه لا بد أن يدفع الضريبة! والسبب في ذلك أن قوانين الأرض كلها قاصرة ضئيلة مهما حاولت جهدها ، ووحده شرع الله يضمن توازن الحياة حتى في أدق الأمور التي لا تخطر ببالنا ، و كلنا يعلم الحديث الشريف: (الإيمان بضع و سبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله و أدناها إماطة الأذى عن الطريق و الحياء شعبة من الإيمان)10.
مناهج الأرض مهما اهتمت بإماطة الأذى عن الطريق تبقى قاصرة لا تفي بمتطلبات الآفاق الإيمانية لتقول أن الوجائب التي تقتل الأشجار من أذى الطريق الذي تدخل إزالته في شعب الإيمان و مناهج الأرض قديماً و حديثاً ما بلغت و لا تبلغ من الرقي أن تصل إلى آفاق الإسلام و النبي صلى الله عليه و آله وسلم يقول:
(ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كانت له صدقة)11.
بل إن زرع الشجرة مطلب نبوي رشيد جاء في الحديث الصحيح: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)12، وتبلغ الآفاق بعداً إيمانيا ً حضارياً مذهلاً في حديث المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم إذ يقول : (لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس)13.
و ما بين شهادة لا إله إلا الله و إماطة الأذى عن الطريق و زرع الأشجار و غرس الفسائل إذا قامت الساعة أفق حضاري عظيم عاشه المسلمون فما قامت في وجههم عقيدة منحرفة و لا مذهب باطل و ما كان ذلك إلا بالصدق و الاستمرار عليه و هذا بيت القصيد ؛ فالإنسان مغرور فرداً كان أم جماعة و الصدق ينجيه فرداً كان أم جماعة الصدق ظاهرُ أوله شدة ، وأوله و نهايته خير ، والكذب ظاهر أوله رحمة و أوله و آخره شقاء و الصدق يفضح الكذب و الحق يدمر الباطل ، مجرد التزامك بالحق هو نسف للباطل ، إنسان واحد لا يرتشي يفضح كل مرتش في الأمة ؛ إنسان واحد يتكلم بالحق يفضح كل دجال و منافق ، إنسان واحد لا يسرق يفضح كل سارق ؛ هذه معادلات إيمانية ، وعلى الإنسان أن يبذل ما يستطيعه ؛ ما تستطيعه اعمل له ، عليك بالصدق و الاستمرار به حتى تلقى الله عز و جل ؛ الصدق ينسف الباطل و لو لم تتحرش بالباطل فإنه ينهار و يتفتت لأنه أكذوبة ووهم نعيشه بما نجعل له في قلوبنا ؛ فمن علم ذلك انهارت عنده صورة الباطل و رأى ذلك ببصيرته قبل أن يراه ببصره ، ونضرب لذلك مثالا كلكم يعلمه : الشيوعية في الاتحاد السوفييتي ملأت الدنيا صراخاً و عجيجاً ، سفكت الدماء وذبحت ، قامت بثورات رهيبة ، وماذا بعد؟ لقد انهارت!! لأنها قائمة على باطل وكان أهل الإيمان منذ أيامها الأولى يقولون ستسقط ، وسقطت ، والرأسمالية اليوم ستسقط لأنها لا تقوم على توازن رباني ؛ الأنظمة الفاسدة لا بد أن تنهار و لكنكم قوم تستعجلون ؛ أعمارنا قصيرة أيها الإخوة .. أسمعتم بقصة الغلام المؤمن التي جاءت في الصحيح ؛ الغلام المؤمن كان يعيش في جوٍ فيه عبودية لغير الله ، حاولوا قتله مراراً فما استطاعوا ، بصدقه قلب الأمور على أصحابها و هو غلام!
و هذه أشد شعوب الأرض همجية و سفكاً للدماء المغول و التتار ؛ هزموا المسلمين عسكرياً و هزمهم المسلمون حضارة و عقيدة ؛ شريعة و فكراً ؛ ثقافة و فنا ، وكل ذلك كان من الصدق الذي هو معجزة هذه العقيدة ؛ حملها القرآن إلى البشرية و عانقتها نفوس السابقين فسعدوا في الدنيا و يوم القيامة يقال لهم : (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم و رضوا عنه ذلك الفوز العظيم)14. وأستغفر الله.
اسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما
الحمد لله (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظُلموا لنُبوِّئَنَّهُم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون)1 ؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (فذلكم الله ربكم الحقُّ فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنَّى تُصرفون)2، ونشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله ورسوله (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون)3، يا أيها الناس اتقوا ربكم (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم)4.
أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن من كلامه تعالى قوله : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تَوَلَّوا عنه وأنتم تسمعون)5.
والالتزام بطاعة الله ورسوله في الأسرة المسلمة آفاقه لا تحد ودروبه لا تتناهى ؛ ومن كان يظن بنفسه الريادة فليقس نفسه على امرأة مؤمنة والتزامها منذ كانت في بيت أبيها ومروراً بحياتها زوجة وفية إلى أن ودعت فلذة كبدها مصلوباً في سبيل الله ثم موتها بعده بأسابيع ، ومما يطالعنا في حياتها المشرقة بالإيمان أن أباها رضي الله عنه طلب الصحبة في الهجرة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم واحتمل كل ماله معه ليبذله بين يدي النبي الكريم ؛ لأن شعاره كان دائماً إذا سُئِل ماذا أبقيت لعيالك أن يقول: (أبقيت لهم الله ورسوله) ، ودخل جدها وما كان وقتها قد أسلم وهو كفيف فقال لها: (ما أرى أباكم إلا قد فجعكم بماله كما فجعكم بنفسه)! ومارضيت الصحابية العظيمة أن يظن أحد أن مسلماً يضيع عياله ؛ كيف وهو إنما يحفظهم بحفظ الله ، وأخذت أحجاراً وضعت فوقها ثوباً ليتحسسه الشيخ فقال: لا بأس إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن.
الناس تظن لغفلتها أن الحفظ يكون بالمال ، والله خير الحافظين ، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يا عائشة لو شئت لسارت معي جبال الذهب..)6.
ونعود إلى الصحابية الكريمة وما سبقها إلى الدخول في دين الله إلا سبعة عشر نفراً.
وقت الهجرة الشريفة وقريش تتربص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وشعاب مكة الصخرية القاتمة تخلع قلوب أشد الرجال شجاعة ؛ في ذلك الوقت حبس التاريخ أنفاسه يرقب خطوات المصطفى وصاحبه يغادران مكة ؛ ومستقبل الرسالة والدعوة بين يديهما محفوف بعناية الله ؛ في تلك اللحظات العصيبة لم يكن في كل مكة من يعرف سر الحركة إلا رجل وامرأة ؛ أما الرجل فكان علي رضي الله عنه ، وأما المرأة فهي الصحابية العظيمة التي نتحدث عنها ؛ وأحست قريش بالأمر فجاء أبو جهل فطرق الباب ففتحت له وهي حامل يريدها أن تُقِرَّ له بما تعرف فأبت إباء الإيمان العنيد ؛ فما كان من أبي جهل إلا أن ضربها وصفعها صفعة دوت في شعاب مكة ، وهكذا يفعل الأنذال والجبناء في كل وقت وحين ؛ ينتظرون غيبة الرجال فيصولون ويجولون ويعتدون على النساء ... سنة الجاهلية الدائمة من يهود بني قينقاع إلى بني صهيون في أرض الإسراء والمعراج وانتهاء بالصرب الكفرة في البوسنة ؛ يستأسدون على الأطفال والشيوخ والنساء ، بعدما ذبحوا الشباب وأعدموا الرجال ؛ وضمنوا سكوت حكام الأرض وخَرَسَ بل تآمر وكر الصليبية الدولية والصهيونية العالمية : مجلس الإرهاب العالمي للشعوب المسلمة ، وهيئة الأمم المتحدة على ظلم أمة لا إله إلا الله.
وما خافت الصحابية الكريمة من صفعة طاغوت كفور ، ولولا أن مهمة عظيمة كانت تنتظرها لا تريد أن تؤخرها لأرت ذلك الكفور من عزة إيمانها وصلابة عقيدتها بل من قوة بأسها ما كان كفيلاً أن يذهله ويلجمه لكنها صبرت وكذلك المؤمن يصبر لا ضعفاً ؛ بل انتظارا أن يبلغ الكتاب أجله ؛ يأخذ فقه ذلك من قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)7، وذكر بعض المفسرين أن دلالة الآية أنه لا يجوز لكم يا مؤمنون أن تُغلبوا لكون عدوكم أشدَّ منكم صبراً.
وذهب أبو جهل فخرجت الصحابية المجاهدة تحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الزاد والطعام ؛ تمشي فوق الرمال الملتهبة أو في ظلمة الليل البهيم ، وجو مكة في غاية التوتر من إرهاب قريش لأهل الإيمان وفتنتهم والكيد لهم ، والرعب والخوف يخلعان قلوب الشجعان ؛ لكنها لم تبال بكل ذلك.
كان شذى الإيمان يقودها ، ونفحات النبوة تنير الطريق ؛ كانت ترى ببصيرتها طلوع فجر الإسلام ودولته الفتية وأرض الإيمان والخير والنور ، وكأن كل الكون من حولها ينشد:
أرض الإيمان أيا حُلماً بوصفك أضنيت القلما
أحياكِ سعيداً مبتسماً في قلبي وَضـَّاءُ النفس
وتنبعث مخاوف الطريق فإذا بنداوة الإيمان تبددها ؛ كيف لا والمصطفى الهادي صلى الله عليه وآله وسلم يفقه أصحابه: (ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان وطعمه : أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما ، وأن يحبَّ في الله ويُبغض في الله ، وأن توقد نار عظيمة فيقع فيها أحبُّ إليه من أن يشرك بالله شيئاً)8.
وعندما كانت تعد الطعام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه إذا بما تَرْبِطُ به الزاد يتمزق فأخذت خمارها فشقته نصفين ، واحداً منه للزاد وآخر تمنطقت به ، فكان لقباً لها وعرفت به ؛ فهي ذات النطاقين كما سماها الهادي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ إنها أسماء رضي الله عنها بنت خير الأصحاب بعد محمد صلى الله على محمد وآل محمد وصحب محمد ومن تبع محمداً إلى يوم الدين.
كانت أسماء من أنبل النساء وأوفرهن عقلاً بل أوفاهن وفاء وأيسرهن عيشاً ؛ ما بطرت ولا تكبرت وما أصخت سمعها يوماً لمناد من أهل الجاهلية في قليل ولا كثير. نشأت في بيت تتضوع منه طيوب الإيمان ؛ بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه ؛ أما زوجها فكان حواري رسول الله وأول من سل سيفاً في سبيل الله ؛ رائد الجهاد وأحد العشرة المبشرين بالجنة ابن (صفية) الصحابية المجاهدة الشجاعة عمة النبيصلى الله عليه وآله وسلم.
هاجرت أسماء رضي الله عنها وهي حامل وفي قُباء وضعت مولودها وهو أول مولود يولد في دولة الإسلام ، وسمته عبد الله فخرج مجاهداً أبياً من أسرة صدق وجهاد ، وعاشت أسماء في المدينة مع زوجها ما تأففت يوماً وما ضجرت ، وصبرت صبراً عجيباً في سبيل العقيدة والدين ولو كانت واحدة أخرى لملأت الدنيا صراخاً وشكاية ، ولخرج حب الدنيا من قلبها إلى لسانها ، ولأهلكت وأتعبت زوجها كل يوم وهي تقول له : أبنت رجل مثل أبي بكر تعيش في مثل هذه الظروف ، وفي أقل الأحوال تجعل حياته جحيماً لا يطاق حتى تتعبه فيركب الصعب والذلول لإرضاء شهواتها ونزواتها.
ما كانت أسماء هكذا ؛ أسماء بنت الصديق ؛ أسماء المؤتمنة على سر الهجرة ؛ أسماء أخت الجهاد والإقدام والبطولة والفداء ؛ أسماء صاحبة فكر الدولة والدعوة والأمة والحضارة.
ما كانت يوماً تحس أنها تحمل العقيدة لأن زوجها أو أباها يحملانها ؛ كانت العقيدة إيماناً يتدفق من قلبها المُلَوَّع من جاهلية الأرض التي آن لها أن توئد لترفع راية التوحيد.
وفي يوم من الأيام أتتها أمها وكانت مشركة ، وهشت أسماء لأمها ، ومن لا يلقى بنفسه في أحضان أمه إذا رآها بعد طول فراق ويفتح قلبه ويدع دموعه تحكي ما في قلبه ، وتراخت ذراعا أسماء ووقفت الكلمات على لسانها ؛ فالعقيدة فوق كل شيء ، وأرسلت بأختها عائشة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن اسأليه: أأصل أمي وهي مشركة؟ لقد خشيت أن يخدش التزامها ، أما قال تعالى (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حاد اللهَ ورسولَه ...)9، وعادت عائشة بالجواب أن صِلي أمك وأكرميها.
إن العقيدة في نفس المؤمن فوق كل شيء ولكن الإسلام ما كان يوماً قطاعاً للأرحام بل وصَّالاً لها ولقد كانت قريش تؤذي المؤمنين في مكة وتسومهم العذاب ثم قويت شوكة المسلمين وأصبحت لهم دولتهم ، وأصابت قريشاً مجاعة ؛ فما كان من نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن بعث لهم ما يعينهم في مجاعتهم ، وصدق تعالى إذ يقول: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)10.
ووراء المعلم الهادي مشت الأمة فسعدت وعاشت في سكينة وبر وتراحم وخير.
فهمت أسماء رضي الله عنها التوازن والشمول في العقيدة فأعطت كلاً حقه ؛ وقت الرحمة تلزمه الرحمة ، ووقت البأس يلزمه البأس ، ومن أوقات البأس فتنة وقعت في أيام سعيد بن العاص واضطرب حبل الأمن فيها ، فكان على جنب أسماء خنجر دافعت به عن نفسها وبيتها ، وأدبت كل معتد فجور ؛ أما في اليرموك ، وما أدراك ما اليرموك؟ فقد صُمَّتِ الآذان من صوت تكسر السيوف وتقصف الدروع ، وكانت كتائب الموت تغير مثل الصواعق الهائلة وقد أصبحت الأرض لزجة لكثرة ما سقيت من الدماء ، وانتصبت أسماء مثل لبوءة ضارية فشاركت في القتال تدافع عن دينها وعقيدتها ، أما قال تعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) 11.
كانت حياة أسماء كلُّها جهاداً في سبيل الله ، واحتملت كل ذلك ، وصبرت صبراً قليلٌ من يحتمله ، وزوجها كان من أفقر الناس ، هاجر ولا مال له ولا عقار ؛ ما كان له إلا فرس كانت أسماء تعلفه وتسير تجمع النوى من الأرض وتدقها وكانت في غاية التفهم لنفسية زوجها ؛ رآها عليه الصلاة والسلام وقد حملت النوى فأشفق عليها وأناخ راحلته لتركب فتذكرت غيرة الزبير فأبت واستحيت من الرجال! ما رضيت أن تركب مع رسول الله الطاهر المطهر المعصوم خشية أن لا يعجب زوجها ذلك ؛ فقال الزبير: والله لحملك النوى أشد علي من ركوبك معه. وصبرت أسماء وصبر زوجها ثم أخذ يعمل ويتاجر كما فعل الصحابة الذين قدموا ولا شيء معهم ففتح الله عليهم ورزقهم من الخيرات.
صبرت أسماء ، ولمَّا مات زوجها كانت تركته من التجارة خمسة ملايين ومائتي ألف درهم ما جمعها من حرام ولا نفوذ ولا جاه وما قعدت به عن علم ولا جهاد ، بل علَّم الدنيا أن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم رجال مال وتقى ، أشداء في النهار رهبان رقاق في الليل ؛ فلقد تعلموا من نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم أن (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير..)12، ورغم كل المال الذي فاض فما بطر الزبير ولا أسماء وكان له ألف خادم يعملون لحسابه ، ولكنه كان ينفق باليمين والشمال ، وما جبيت من الزبير زكاة قط! ما كان يجمع ليدخر بل يجمع وينفق ، لأن عقيدته : (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خُلَّةٌ ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون)13.
وعاشت أسماء مائة عامٍ ما سقط لها سنٌّ ولم يُنكر لها عقل ؛ وفي آخر عمرها كانت البيعة الشرعية معقودة لابنها عبد الله بن الزبير رضي الله عنه في الحجاز وفارس وخراسان ثم انقادت له مصر ؛ واجتمع المسلمون عليه إلا أمراء في الشام كانوا أدهى منه وأعلم بالسياسة ؛ فحركوا العوام وبطشوا حتى تقلص ملكه ثم حاصروه في بيت الله الحرام ، فتحصن بالبيت فنصبوا المنجنيق ينهال بالصخور وعُرض عليه الفرار فأبى وما رضي أن تختم حياته الحافلة بالجهاد بموقف جبان , وذهب عبد الله يستشير أمه أسماء ... العجوز ذات المائة عامٍ ؛ كفيفة البصر! وقال لها: يا أم قد خذلني الناس حتى أهلي وولدي ولم يبق لي أمل والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا فبماذا تشيرين؟ ووقف قلب الأم يوازن الأمور مع البيعة الشرعية والحق الواضح وكادت تغلبها عاطفتها وتذكرت ولادته في قباء ومرت بها أطياف الجاهلية وبقايا الطواغيت المتفرعنين وتفجرت في قلبها معاني الثبات على المبدأ والصبر على المحنة ؛ الموت أشرف من أن تدفع الأمة بشرعيتها إلى الظالمين.
إن الظالم يستطيع أن يسيطر ولكنه لا يستطيع أن يكون شرعي الحكم مهما طال به الزمن والأمة الغافلة فقط هي التي تستسلم ؛ أما أمة العقيدة فلا تنحني.
مر كل ذلك بأسماء وخرج القرار الحاسم: (لا يُتَلاعَبنَّ بك ... عشت كريماً فمت كريماً) لقد حكمت على ابنها بالإعدام ، وبيد من؟ يد الحجاج ؛ كانت تنتزع مع كل حرف من قرارها قطعة من روحها ، لقد حكمت على نفسها أيضاً بالإعدام.
وضمت الأم العمياء إليها ابنها ... والابن يبقى ابناً مهما كَبُرَ سناً أو مركزاً ... ضمته تتحسسه وتشمه وتمده بدفء الأمومة ، وخرج الفارس العظيم بعد وداع أمه الوداع الأخير ، فلما لم تعد تسمع خطواته ...خرجت دموع الأم غزيرة بعد تجلد فسالت على وجناتها.
وصُلب صحابي رسول الله في أمة سكرت برغبة المال أو رهبة السيف أو بريق التاج ، وخرجت أسماء تتحسس ابنها المصلوب ثم قالت : أما آن لهذا الفارس أن يترجل ؛ فقال لها الظالم الذي صلبه : المنافق! قالت: والله ما كان منافقاً وقد كان صواماً قواماً ؛ وردت عليه رداً بليغاً.
ما عاشت أسماء بعد ابنها إلا عشرين يوماً ؛ بعدما خطت لكل مسلم ومسلمة درب البطولة وعلمت الأسرة المسلمة كيف تحمل العقيدة وتصبر على البلاء وتشكر في السراء والضراء ، وصدق النبي الهادي صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول: (لا تسبوا أصحابي ؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نَصيفه)14، وأجمع علماء الأمة على أن من وقع في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو زنديق. اللهم اجعلنا ممن يحب نبيك المختار وأصحابه الأخيار وآله الأطهار.
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون.
مواضيع مماثلة
» * اساس المنطق اليهودي - افضل مفسري التوراة.
» * اساطير: الهامة - العنقاء- النداهة - في الفكر الديني- الجن- الانانونكي
» * اساطير: الهامة - العنقاء- النداهة - في الفكر الديني- الجن- الانانونكي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى