* البيت المسكون :الجزء 1 - 2
صفحة 1 من اصل 1
* البيت المسكون :الجزء 1 - 2
البيت المسكون 1
طارق فتحي
هل جربت يوما أن تسكن في بيت مسكون بالأشباح التي ربما تكون حكايتها تعود لقصة قتل قديمة ورأيت بنفسك شياطين الأرض تصارعك خلف باب مغلق , أو تقرع بابك , وتدعوك لمشاركتها القصة بالكامل تمهيدا للانتقام من قاتلها, هل تعثرت خطواتك وتعالت شهقاتك وتصلبت أقدامك أمام نظرات أحد المردة الغاضبين, ورددت بصوت داخلي كبله الخوف بالصمت.. لا .. إنه مجرد وهم بصري . في النهاية هل تعرف أهم الحقائق بين الوهم والحقيقة وبين الخرافة والواقع, وبين كيفية تصرفك حينما يحكي لك أحدهم أنه قابل شبحا, وبين أن تنصب لك الأشباح فخاخا في بيتك .
ارتشف فنجان قهوته على عجل مودعا زميله الاستاذ الجامعي لينصرف الى بعض شؤونه الخاصة . لوح له زميله بيده اليمين رافعا كفه فوق ام رأسه مذكرا اياه البيت المسكون في مدينة المنصور في العاصمة بغداد . حالما انقطع الصوت قهقه ( حازم ) الاستاذ الجامعي المرموق مبتعدا عن الكافتريا مسرع الخطى حاث المسير .
في 1/1/1990 تم اللقاء بينهما بحسب الموعد المتفق عليه بينهما لرؤية البيت المسكون في المنصور بناءا على طلب والحاح الدكتور (حازم) سيما وانه يدفعه حب الفضول لمعرفة مثل هذه الامور التي بالكاد يؤمن بها . قاد سيارته بهدوء كعادته وهو يستمع الى شرح زميله لبعض الملاحظات عن كيفية تصرفهما عندما يدخلان الدار مع شرح تفصيلي ممل لما سمعه من احداث غريبة وقصص عجيبة حول هذا البيت .
ارتعب حازم من الامر قليلا وتملكه الخوف والرعب عندما سمع من زميله تلك الاحداث الغريبة والمرعبة ولكون زميله دكتور ايضا ويثق في كلامه اخذ الموضوع على محمل الجد فقرر حينها العودة ثانية الى داره والغاء فكرة الدخول الى البيت المسكون لتشوش المعلومات لديه حول الجن والاشباح والشياطين وقصص ما وراء الطبيعة التي خزنت في ذاكرنه منذ نعومة اضفاره لسنين طويلة خلت .
ودع زميلة بعد ان اوصله الى داره على امل اللقاء في الحرم الجامعي في اليوم التالي وذهب كل منهم الى حال سبيله .
لمعت في راس الدكتور حازم فكرة مشاهدة البيت المسكون لاشباع فضوله الطفولي بعد ان استنفذ جل وقته في معرفة المزيد عن هذه الالغاز المحيرة التي تجري بين ظهرانينا وبمسميات مختلفة دون ان نتبين حقيقتها او نجد لها تفسير يلائم حواسنا الخمسة ومدركاتنا العقلية. فعقد العزم على ذلك وكتمها في سره . جاء اليوم الموعود وذهب الدكتور لمعاينة البيت بمفرده وهو بين الشك واليقين بعد ان امتلآت جعبته بعشرات القصص المرعبة عن الجن والشياطين والمردة والاشباح وبين مصدق ومكذب اراد ان يضع حدا لمتاهته هذه فقرر المضي قدما دون تراجع .
اطفأ محرك سيارته بعد ان ركنها على الجانب الايمن المحاذي لرصيف نصب ابو جعفر المنصور فتح نوافذ سيارته واخذ يمضغ سيكارته وهو متفكر للمرة الاخيرة هل يذهب في اكتشافه الى ابعد من هذه النقطة ام يتراجع , عندها مضغ هلوساته واكاذيب القوم التي تكشفها الحقائق المجردة . ام يعود مرة ثانية بصحبة زميله خشية ما يحدث مما لا يحمد عقباه عند دخوله المنزل .
انتفض على حين غرة كالمصروع , فجأة غادر سيارته بحركات مجنونه كان مسه طائف من الجن ملوحاً بكف يده مطوحا اياها في الهواء بحركات عنيفة واذا بعقب سيكارته ملتصقة بين اصابع كفه وبعد ان هوا بها بقوة نحو الارض تدحرج عقب سيكارته ارضاً واخذ ينفض مقعدة بضربات مجنونه كيما تحترق سيارته والحمد لله تم كل شيء بسلام مع حروق بسيطة بين سبابته والوسطى من اطراف اصابع يده اليسرى .
اعتبر الدكتور ان ما حصل معه نوع من الشؤم . ادار محرك سيارته بعد ان استوى في مقعده الا ان المحرك لا يدور عبثا حاول دون جدوى فاستعان باحد المارة اتضح بعدها ان احد اسلاك شمعات القدح غير متصلة بشكل جيد فبمجرد ضغطها ضغطة بسيطة اخذ المحرك يدور شكره الدكتور على جميل صنعه وخصوصا ان الرجل رفض ان ياخذ المال من يده فانصرف كل منهما بابتسامه عريضة .
مع ان ايمانه في مثل هذه الامور غير مسلم به ولم تشغل مساحة كبيرة من تفكيره الا انه اصر على اكتشاف البيت المسكون بعد ان تاكد تماما من حوادث هذا البيت التي وقعت فعلا حين طرح سؤاله على الرجل الذي اصلح سيارته فاجابه الاخير بالقبول والايجاب وانه من سكنة المنطقة منذ اكثر من عشرين عاما مضت . التف حول نصب ابو جعفر المنصور ودخل زقاقا ضيقاً بعض الشي وتوقف تماما عند العنوان الذي وضعه امامه تماما على دشبول سيارته خلف مقود القيادة .
استل ورقته وخرج من سيارته باتجاه المنزل مفتشاً بدقة بين اغصان الاشجار المتدلية على جدار المنزل من الخارج . بعد التفتيش الدقيق وازالة بعض الاغصان الجافة وكسر بعضها الآخر , تبين له رقعة صغيرة مدون فيها نفس العنوان الموجود على ورقته , تنفس الصعداء لانه وجد البيت فنظر نظرة عامه فاذا به بيت قديم الطراز ذو هندسة رائعة وتصميم اخاذ افترش ارض واسعة وحديقة غناء بانواع الاشجار والزهور التي رصت تحتها بشكل هندسي مدروس . وان كان بعض الاهمال قد اصابها الا ان جمال البيت لا يخفى على كل لبيب حصيف . فحزم امره على شراء البيت وجعله مفاجأة لاسرته ولزملائه من الا ساتذة الجامعيين . طار لبه من الفرح ...
اثناء دهشته بمعاينة المنزل وجميل تصميمه واتقان بنائه وكونه قديم بعض الشيء وهو محب ومولع بالتاريخ ولكل قديم .اخذ يبحث عن مكتب صغير لبيع وشراء العقارات كان يجثم غير بعيد عن ركن مرطبات الرواد الشهير في شارع المنصور الرئيسي . اصطحبه صاحب مكتب العقارات الى المنزل ثانية بعد ان اخبره الدكتور انه عاين المنزل من الخارج وبوده ان يتعرف عليه من الداخل وانه امر ضروري لا بد منه قبل اقدامه على شراء المنزل .
حصل له ما اراد فاذا بالمفاجئة كادت ان توقعه ارضا اذ ان المنزل ما زال موثثاً بشكل جيد مساحته من الداخل يخيل اليه انها اكبر من مساحته من الخارج والاثاث مرتب بعناية فائقة يحوي على ستة غرف نوم وهول داخلي كبير مع ملحق اصغر منه بعض الشيء يفصلهما بوابة متحركة تطوى عند اللزوم فيصبح المكان كقاعه لاستقبال الزوار الوافدين اليه , حمامات صحية اكثر من واحدة منتشرة في ارجاء البيت . ويبدو البيت نظيفا باستثناء بعض الاتربة التي تعلو مفروشاته . تحمس للامر كثيرا واستهوته فكرة شرائه بشكل جاد وحازم .
اخبره صاحب مكتب العقار ان المنزل قديم ولكن اساساته متينة وتصميمه مذهل وغريب اصحابه مهاجرين خارج البلاد منذ زمن بعيد . ولم تسكن فيه اي عائلة اكثر من عدة اشهر فيغادروها مرغمين وهكذا انتقلت الدار عن طريق الشراء تارة وعن طريق الايجار تارة اخرى حتى استقر اخيرا لصاحبه وهو رجل عراقي من اخواننا النصارى مهاجرا ايضا الا انه عمل وكالة عامة لوالده الذي يسكن في منطقة بغداد الجديدة . مما يضمن لك ولي تحويل الدار باسمك بكل سهولة دون معرقلات .
ولما استفسر الدكتور حازم من صاحب مكتب العقار عن الامور الغريبة التي تحدث في الدار من انه مسكون بالاشباح والارواح الشريرة وما الى ذلك , ابتسم صاحب مكتب العقار ابتسامة عريضة بعد ان ازاح كتفيه الى الخلف قليلا . فاردفه قائلا دكتور انت استاذ جامعي قدير وتحمل لقب دكتوراه وذو عقلية متفتحة كما يبدو من ملامحك وهيئتك . كيف تصدق مثل هذا الكلام الذي تتناقله عجائزنا من جيل الى جيل من مخزون مورثاتنا الشعبية ليصبح الامر بعد ذلك كحقيقة مسلم بها , فليصدقها من شاء وليكذبها الاخرين . وطمأنه ان البيت لم يسكنه احد اكثر من شهور قلائل لا سباب طبيعية مثل الوفاة والهجرة الى مكان آخر بحسب ظروف كل عائلة تسكنه على غير عادة العوائل العراقية التي تمكث في المكان عشرات السنين ان لم يكن المئات . وان الدنيا تغيرت والحياة اصبحت اكثر تعقيدا وايجاد فرص العمل في البلد اصبحت قليلة من اجل هذا تسافر بعض العوائل لتغير مكان عيشها طلبا للرزق او هروبا من المناخ القاري للبلد او لاسباب اخرى معروفة لدى الجميع .
بعد تشجيع صاحب المكتب والاطناب بمزايا هذا العقار الجميل وثمنه البخس المغري ووقوعه في شارع فرعي هاديء جدا ونظيف ساكنيه من العوائل العراقية الراقية من الاخيار المتعاونين . دفع الدكتور للدلال مبلغا من المال كعربون او مقدمة اولية لشراء العقار بحماسة اهل الريف , رفع رأسه بكل فخر واعتزاز تملكته الانا قليلا على غير عادته المتواضعة السمحة المحبة للاخرين .
تم التوقيع بينهما بموجب عقد رسمي مختوم باسم المكتب قد ذكر فيه المبلغ الاجمالي للعقار والمبلغ المدفوع كمقدمة او دفعة اولية وتوقيع الطرفين وزيادة في الائتمان تم توقيع العقد مع شهود اثنان كانا قد حضرا في المكتب بمعية صاحب التوكيل العام من بغداد الجديدة . عند توقيع العقد , حسم الامر ونهض الجميع مودعين الدكتور حازم وهو يضع صورة العقد في جيب سترته الداخلي , خرج مبتسما وعلامات النصر بادية على محياه ونسي امر الحكايات المرعبة التي سمعها عن البيت المسكون سواءا من زميله في العمل او من اهل منطقة المنصور .
تم الامر للدكتور حازم واصبحت الدار ملكية خاصة له بشكل رسمي بعد ان دفع متبقي المبلغ المذكور بموجب العقد حال خروج الجميع من دائرة التسجيل العقاري في المنصور واصبحت عائديته من جديد باسم الدكتور حازم . بعدها تمت استضافته لتناول المشويات العراقية في مطعم قريب وذلك كعربون على حسن النية من قبل الجميع . وانصرفوا كل الى وجهته .
كتم الدكتور الامر عن عائلته وزملائه لتكون مفاجئة لهم بعدها قام ببعض الاصلاحات في المنزل وترميم الاماكن التي تأثرت نوعما بالرطوبة بسبب غلق النوافذ لمدة طويلة وعدم تهوية البيت والاعتناء بالحديقة وتشذيبها والتخلص من النباتات الطفيلية الضارة والغير نافعة مثل الحشائش وشق السواقي وترميمها بشكل يسهل عليه عملية انسياب المياه وري المزروعات اثناء السقي . وفعلا تم تكليف احد الفلاحين من الذين يجوبون المنطقة لعرض خدماتهم الزراعية وعمل الفلاح كل ما كان يدور بخاطر الدكتور وعندما انتهى الامر تم التوجه الى داخل البيت لغرض طلاء الجدران الداخلية وقد نسب للامر احد مكاتب بيع الاصباغ مقابل سينما غرناطة . حيث قام اسطيفان بعمله على اكمل وجه .
المفرح في الامر ان كل هذه التغيرات التي اجراها على الدار من التاسيسات الصحية المتضررة في اعلى سطح المنزل بسبب الترك والاهمال حتي حديقة الدار الكبيرة نسبيا لم تكلفه أي مبلغ يذكر حيث انه استقدم احد اصحاب المزادات في ساحة الاندلس وعرض عليه معروضات البيت من الاثاث وغيرها فاتفق الاثنان على مبلغا معينا وتم بيع جميع الموجودات الا ما ندر من التحف النفيسة التي احبها الدكتور كثيرا . كانت صفقة جيدة وناجحة من قبل مزاد الجواري وللسيد صفاء .
قام الدكتور بتأثيث الدار بشكل جيد ومدروس بعد استقدام احد مهندسي الديكورات من مكتب للاثاث يقبع غير بعيد عن داره على الجهة اليسرى من الشارع الرئيسي في المنصور يدعى ( أوروك ) للاثاث صاحبه شاب مهندس اسمه (علي) ذو خبرة جيدة في مجاله . اصبح البيت من الخارج والداخل ايقونة جميلة كمتحف رائع رصت معروضاته بشكل بديع واصبح المكان يسر الناظرين .
استتب الامر له اخيراً وانتظر الفرصة المناسبة ليعلن عن كنزه المصون الذي حاول جاهدا اخفائه عن كريمته زوجته الفاضلة ومع ان الاخيرة مندهشة لحصول تغيرات كبيرة في طريقة واسلوب معاملة زوجها لها لم تعتدها من قبل فيه . الا انها آثرت الصمت لتبيان الحقيقة فيما بعد او يصرح الزوج بمكنونات نفسه معللا سبب انشراحه الدائم وتفائله بشكل لم يسبق له مثيل طيلة حياتهما الزوجية الماضية .
واخيرا وفي احد المناسبات السعيدة التي تخص الزوجين اعلن الدكتور حازم للجميع عن هديته المفاجئة لزوجته الرائعة وهي عبارة عن بيت عصري كبير وجميل في مدينة المنصور في بغداد وكانت الدهشة قد عقدت لسان الزوجة بعد ان فغرت فاها مندهشة متعجبة من هذا التصريح القنبلة وكيف استطاع الدكتور كتم مثل هذا الخبر عنها طيلة الشهور القليلة الماضية .
هرع الدكتور اليها احتضنها بعد ان اسقطت كوب العصير من يدها دون ارادة منها والتف الجميع حول الوالدة المراءة الفاضلة العصامية الصامتة فتلقفها بجنون وسط تصفيق الحاضرين وهتافات التشجيع والاستحسان تنطلق من هنا وهناك وانتهى الامر على خير وانصرف الجميع من الحفل العائلي الصغير بعد تجاوز عقارب الساعة الثانية عشر والنصف بعد منتصف الليل .
انتقلت عائلة الدكتور حازم الى دارها الجديدة في المنصور وكانت الصدمة مذهلة لجميع افراد العائلة لما وجدوه من منظر يسلب الالباب لواجهة المنزل مع نظارة وجمال الحديقة وحسن تنسيقها مما يرغم المرء ان يقف مذهولا مستغربا . ايمكن ان يكون هذا السحر من صنع الانسان .؟ في الداخل صدموا لمشاهدة التاثيث الراقي والديكورات المذهلة التي تزين جميع مرافق الدار بما فيها غرف النوم ناهيك عن صالة استقبال الضيوف . استقر الامر اخيرا بدعاء جميل من الزوجة المؤمنة تشكر فيه هذه النعمة الفضيلة التي اسبغها الله لهم سبحانه وتعالى .
بعد الحاح شديد من الابناء تم جلب قفصين احدهما لطيور الكناري والاخر لبلبل عراقي غريد جلبه له زميلة من محافظة ديالى . وعمل لا حقا قفصا كبيرا في الحديقة الخلفية لتربية الدواجن تلك الحيوانات كانت حلم الدكتور حازم منذ ايام طفولته وفعلا تم الامر وكان له ما اراد . مرت الايام بطيئة فاذا بطائري الكناري فارقا الحياة دون مبرر او سبب مقنع واول من انتبه لذلك الزوجة بسبب انقطاع تغريدهما .
بعدها بيومين فارق البلبل الغريد الحياة ايضا رغم العناية الفائقة التي كان يلقاها من العائلة ايضا بدون سبب مقنع فاحتاروا في الامر وتنبهت العائلة لهذين الحدثين . ومر اسبوع آخر فاذا باحد الابناء يخبر الدكتور بان الدجاجات نفقت جميعا مرة واحدة وهو امر مستغرب جدا ولا يحدث الا نادرا . جلب الدكتور طبيبا بيطريا خشية ان يكون هناك مرضا مفاجيء او وباء معدي في الدجاجات مما جعلهن ينفقن في وقت واحد . بعد الفحوصات تبين ان الدجاجات سليمات واستغرب الطبيب ايضا الامر وعده من الصدف النادرة . تم تنظيف الحديقة الخلفية ورفع قفص الدجاج بعد اهدائه لاحد معارفه وزرع الزهور والرياحين في المكان .
بالرغم من ان الدجاجات كانت من نوع نادر اهداه له احد معارفة عندما اعجب بها الدكتور وهن صغيرات فما كان من صاحبه الا ان يصر على هديته ووضعها بنفسه في صندوق سيارته الخلفي بالرغم من ممانعة الدكتور والالحاح عليه بان لا يفعل . في الحقيقة حزن الدكتور على الدجاجات كثيرا وان لم يظهر ذلك لعائلته
وكعادة العراقيين جميعا في ايفاء نذورهم اشترى كبشاً سمينا لنذر لزوجته بمناسبة البيت الجديد يطعم للفقراء والمساكين وتم ربطه في الحديقة الخلفية ريثما ياتي القصاب في صباح اليوم التالي حسبما اتفق معه . وما ان طلع صباح اليوم التالي حتى وجدوا الخروف قد فارق الحياة وايضا لاسباب مجهولة . بعد ذلك باسبوع او اقل ودعت والدة الدكتور حازم الحياة وكانت رحمها الله يحبها كثيراً ويتفانى في خدمتها .
هنا انتبه الدكتور لنفسه مليا واخذ يعيد شريط ذكرياته منذ ان سكن الدار منذ اشهر قليلة سلسلة الاحداث وبعقل علمي سنني اخذ يدون التواريخ لهذه الحوادث وبالتفصيل الممل ذاكرا السنة والشهر واليوم حتى الساعة فوجد ان تسعة ارواح زهقت في البيت خلال ايام قلائل. خمس دجاجات كناريان وبليل واحد ووالدته اخيراً المجموع (9) بالتمام والكمال ما سر هذا الرقم .
لا حظ ايضاً ان هذا الرقم تكرر كثيرا في اروقة تفكيره وجد جمهرة من المناسبات التي تحمل هذا الرقم اما بعينه او بالاشارة اليه رمزا او لغزاً . حسب المدة من اول وفاة حتى آخر يوم وفاة والدته فوجدها (90) يوما بالتمام والكمال . لاحظ ايضا انه في 9-9-1999 انتقل الى داره الجديدة ولكي لا اطيل عليكم هناك اكثر من مناسبة لديه ولعائلته يشكل الرقم (9) القاسم المشترك الاعظم بينهم . وانتبه ايضا الى ان الحوادث تقع تماما في الايام الوسطى من كل شهر عربي - هجري ( 14-15-16 ) التي يكون فيها القمر بدراً .
حاول جهده ان يخرج بنتيجة او حل علمي رصين لما يدور حول هذا الرقم وما جرى له من احداث في سكنه الجديد . ثابر واجتهد كثيرا الا انه لم يفلح في الامر ولم يسأل اهل العلم والذكر لمنصبه الوظيفي كاستاذ جامعي مرموق . واخير كتم سره بداخله واخذ يرقب الاحداث بحذر شديد .
اخذت اهتمامات الدكتور حازم تنحى منحى آخر في حياته . بمطالعة الكتب التاريخية والدينية والعلمية تلك التي تتحدث عن مثل هذه الظواهر الغامضة فاصبح بين نقيضين العلم والتفسيرات الدينية ومع انه اتقن معرفة بعض مصطلحات القوم في الجن والملائكة والشياطين وتصنيفات كل منهم الى رتب وعوائل وانواع . اصبحت في جعبته الشيء الكثير عن هذه الظواهر التي لم ينكرها احداً ممن يعرفهم .
ايقن ان قصص الشرق والغرب لا تخلوا من ذكر البيوت المسكونة وتحقق من تفاصيل كل قصة تدور احداثها حول البيت المسكون . فصدع بذلك رأسه ولم يصل الى شيء يقنعه بحقيقة اثبات هذه الظواهر او نفيها . فالكل يقر بوجودها الا ان احدأ ما لم يمر بتجربة حقيقة او مشاهدة عينية او حتى سمعية فقط كلام مسهب غامض وجميل .
قرر حينها ان يلتفت الى اسرته وقضاء وقت اطول معهم والخروج من صومعته مكتبه الفخم نوع ما في بيته الجديد . كان له ما اراد . في مساء يوم جميل والكل مبتهج كان الدكتور اكثر الجميع ابتهاجا وانفعالا , حينها اتت اليه ابنته مبتسمة فرحة وهي تقول بابا رأيت الشبح في بيتنا . فانصعق الوالد حين سماع كلمات ابنته وهي تذكر له الشبح . فاخبرها كيف رايت الشبح يا ابنتي .؟ اخذت تشرح له بطريقة الايماءات , وبما انها كانت تجيد رسم الاشياء وبعض الفنون البسيطة كونها طالبة في كلية الهندسة التكنلوجية , طلب منها ان ترسم له شكل الشبح ولو بشكل تقريبي , وافقته على ذلك وبعد مدة ليست بالقصيرة احضرت له الرسمة , بابا هذا ما شاهدته .
تعجب حازم من رسمة ابنته اذ انها استطاعت ان ترسم له رسمة جيدة توحي الى ما شاهدته الابنة او تخيلته بشكل مذهل. فاخذ العجب منه مأخذه , وهو يخاطب نفسه في سره اذا كانت هذه العائلة المؤمنة بكل قوة بدينها وبالاخلاق الحميدة وهي على خلق ومتمسكة بحبل الله وبتعاليم الرب وفعل الخير للجميع بدون استثناء . تمسها هذه المخلوقات الغير مرئية فكيف اذا لو كانت عائلة غير مؤمنة تسكن في هذا البيت الملعون .
اشعل غليونه المنحني قليلا للاسفل وهو يتفكر بالصور المعلقة على جدران مكتبه ويجول بنظراته حول المكان مسترسلا بافكاره , ما العمل .؟ ماذا يصنع .؟ فقرر امرأ وكتم امره عن اهله وعائلته. كانت مناسبة جميلة حدثت في الوقت الملائم تماما , اذ ارسل الدكتور حازم جميع افراد عائلته الى بيت اهل زوجته لحضور مناسبة ما , كانت هذه فرصته الذهبية ليقوم بتجاربه التي اتخذ القرار لها في اللية الفائتة , كان له ما اراد . واختلى مع نفسه وحيدا في البيت المسكون .
اودع عائلته عند اهل زوجته , خرج لبعض مشاغله وعاد مساءا وحيدا الى داره , لاحظ امرا غريبا لم يعهده من قبل او لم يلتفت اليه سابقاً حيث كان السكون والظلام يخيمان على الشارع والمحلة برمتها ومنها داره . ترجل من سيارته امام باب داره وابقى الانارة الامامية للسيارة مضاءة ريثما يفتح باب الكراج للدخول , فجأة انطفأت المصابيح دون مسوغ ولما عاد ادراجه نحو سيارته اضاءت المصابيح ثانية من تلقاء نفسها وهكذا تكرر الامر مرتان .
علل الدكتور حازم الامر بعدم انضباط كهربائية السيارة خصوصا انه مر فوق مطبات وتعرجات كثيرة اثناء عودته وغدا صباحا سيتبين الامر , ترجل ثانية وسط كراج داره وقفل عائدا لاغلاق باب الكراج الكبير . اضاء مصابيح البيت الخارجية وهو يتمتم في سره, لما كانت الكهرباء موجودة اصلا لماذا هذا الظلام في الزقاق ومصابيح الدور الخارجية مطفأة جميعا .
ابتسم في سره ابتسامة عريضة وضع مفاتيح سيارته فوق جهاز التلفاز الخاص بالصالة كعادته دائماً . القى بنظره الى الحديقة الامامية للدار واذا به يفاجأ بانطفاء مصباح الكراج . لعله نسي اضاءته دلف الى المطبخ لاضاءة المصابيح وقبل ان يلمس السويج وجد المصابيح مضاءة من جديد . استمرت لعبة الانارة دقائق معدودات اتضح له ان انارة البيت بالكامل في حالة مربكة من الفوضى تضيء وتطفى وهكذا دواليك . لم يكن امامه خيار حتى يجلب مهندس كهربائي ليعاين التاسيسات الكهربائية جميعها .
وبما انه مجهد بعض الشيء قرر ان ياخذ حمام بارد قبل ان يعد سهرته المعهودة كل ليلة امام التلفاز لمتابعة الاخبار وبعض البرامج المفضلة لديه . دخل حمامه وهو يدندن بكلمات اغنية لم تتبين مخارج حروفها بتمايل نحو اليمين ونحو الشمال طربا فرحا مع نفسه . وقف تحت الدش والماء البارد ينهمر عليه بغزارة فجأةً صب عليه ماء ساخن بدرجة الغليان كاد ان يفقد وعيه فيها تماماً . الا انه نجى ببعض الحروق البسيطة على ظهره .
اخذ يلعن ويشتم كل شياطين الانس والجن . وخرج لا يلوي على شيء فتحسس ظهره بمرآة غرفة نومه فاذا به يجد مجرد احمرار بسيط ولا شيء غير ذلك . ارتدى ملابسه النصف تحتية بتمهل وجلس عاري الصدر امام التلفاز . قرر ان يعمل له ابريق من الشاي فامتعض للامر كونه يكره المطبخ كثيرا ولم يتعود سابقا ان عمل شيء في المطبخ كالطعام والشراب . الا انه مجبر هذه المرة فلا احد غيره في البيت .
وضع اول خطواته على عتبة المطبخ فانطفات المصابيح رفع قدمه عن العتبة عادت الانارة من جديد تاكد له ان تغذية المطبخ بالكهرباء يمر من تحت العتبة وكرر الامر اكثر من مرة فكانت النتيجة ايجابية انطفاء ثم انارة ثم انطفاء . حمل قنينة الغاز الاحتياطية الفارغة وضعا وسط عتبة باب المطبخ بقيت الانارة مستمرة لحين عمله ابريق الشاي .
قرر في حينها ان ياخذ جميع عدة الشاي معه الى الصالة ليتخلص من لعبة الانارة هذه وكان له ما اراد وعند الخروج كان عليه ان يصفح اكثر فاكثر تحاشيا لقنينة الغاز الموضوعة في وسط عتبة باب المطبخ تماما , صدم الصينية بطرف عتبة الدار الجانبية فاندلق ابريق الشاي على ساقيه فرمى كل شيء من يديه واسرع الى الحمام لسكب الماء البارد على قدمية وما ان انار الحمام جرى مسرعا حتى انزلقت قدماه وارتطم بقوة بالبانيو الابيض الكبير الموضوع على جانب الحمام من الداخل . سكب على قدميه الماء البارد .
خرج وهو يعرج في مشيته فاتجه صوب المكان فاذا به يرى الشاي ينساب ببطيء شديد نحو السجادة الكاشان والتي كانت اثيرته الحبيبة وهدية المرحومة والدته بمناسبة زواجه امتقع وجهه وجحظت عيناه لاستحالة وصول الشاي الى السجادة فيزيائيا وكيميائيا وحتى علميا , اذ ان الشاي المسكوب كان ينساب بعكس الجاذبية الارضية محطما القوانين الفيزيائية ونظرية الاواني المستطرقة .
البيت المسكون 2
طارق فتحي
استوى في جلسته امام التلفاز كعادته مساء كل يوم بعد ان اطفأ جميع مصابيح البيت الداخلية سوى انارة باهتة بجانبه , متفكرا بما جرى له , مع انه محدق بالتلفاز بشكل جيد الا انه كان لا يرى فيه شيئا بل هناك عالم آخر يشغله هو من تسبب له في هذه الحوادث البسيطة . ولم يوقظه من غفلته سوى انارة مصباح المطبخ ثانية من تلقاء نفسها . اطلق ضحكة هستيرية صاخبة واخذ يصفق بكلتا يديه معلنا انتصار اشباح البيت المسكون بحركات راقصة مجنونه .
انتبه لنفسه ولما يقوم به فخاطب ذاته , ايعقل ان اتصرف هكذا وانا الدكتور الاكاديمي المعروف كواجهة اجتماعية فانحنى كمن يؤدي التحية ثم رفع راسه بعد ان ضم وجهه بكلتا يدية اسفا وحزنا على ما يجري معه . قرر الذهاب الى الحمام ليغسل وجهه ويديه من اثار الدهون والمراهم التي استعملها لتطبيب نفسه من الحروق .
جلس ثانية امام التلفاز فاذا به يسمع صوت حركة وسقوط شيء ما على ممر السلم العلوي. نهض من فوره وارتقى درجات السلم لاستطلاع الامر فلم يعثر على شيء . قفل عائدا الى مقعده وهو يدندن ببيت شعر حفظه لغرض قراءته على الطلاب في مدرسة ولده الصغير . وما ان استوى على مقعده حتى تناهى الى سمعة صوت تدحرج على السلم القريب منه وهذه المرة الصوت واضح جداً مما لا شك او لبس فيه . ومن المؤكد ان شيئاً ما قد سقط من على السلم وتدحرج اسفله ,وعندما تبين الامر لم يجد اي شيء في الموقع الذي اتى منه الصوت.
وقف وسط الصالة مذهولاً يراجع افكاره وانتهى تفكيره ان الامر لا يعدوا كونه مجرد تخيلات عاد الى مكانه اخرج سيكاره الكبير من العلبة الفضية التي بجانبه اشعل سيكاره وهو ينفذ دخانها في الفضاء مستمتعاً مسترخياً . وعلى حين غفلة منه سمع صرير صوت باب يفتح وصوت مفتاح يدار في قفل ثم اعقبتها صفقة باب قوية ارتجت لها الاركان . نهض من فوره كالمصروع فاذا به يجد بابا المطبخ مغلقاً على غير العادة, تفكر مليا واوعز الامر الى تسرب بعض الهواء من النافذة مما ولد فراغا هائلا في الداخل جعل الباب يصفق بهذه القوة .
اخذ يلوم بناته وزوجته في سره حيث اكد اكثر من مرة على غلق نوافذ البيت عند الخروج منعا لدخول الاتربة وبعض الاوساخ فضاق صدره بالامر وتوعد بمحاسبتهن حال عودتهن ثانية الى الدار . سيما وانه اكد على عدم فتح نوافذ الصالة مالم يكن لديهم ضيوف . خاصة وان الضيوف المهنئين لم ينقطعوا عن زيارتهم كونهم حديثي عهد في السكن في هذه الدار.
وما ان اعاد الكرة بالجلوس في الصالة حتى ومض في عينية ضوء ساطع كاد ان يفقده بصره مخترقا الزجاج الذي يفصل بين الصالة والهول الداخلي . فاستغرب للامر فهو قبل ثواني كان في المكان ولم يكن هناك اي نور , من اين اتى هذا الضوء الباهر .؟
كيف سطع هذا الضوء فجأةً .؟
اسئلة كثيرة راودته وهو في طريقه الى مصدر الضوء , وما ان ازاح الستارة حتى تبين ان الشمس قد سطعت معلنه بدأ نهار يوم جديد .
ضحك الدكتور حازم ملء شدقيه واخذ يقلب كفيه فوق بعضهما البعض والابتسامة تكاد لا تفارق محياه . يا الهي .؟ ما هذا الجنون .؟ كيف انقضى الليل الطويل في بضعة ثواني عشتها مع احداث لم افقه كنهها ولم اجد لها تفسيرا مقنعا . انه الجنون بعينه .. انه الجنون بعينه .
في مساء اليوم التالي كان يعد مقالا في مكتبه الخاص وتبين ان الامر استغرقه الكثير من الوقت , رمى بقلمه جانباً نهض من مقعده احنى ظهره الى الخلف قليلا . فنشط من عقال. اتجه صوب المطبخ لاعداد كوبا من الشاي . عندها اتى بعدة الشاي كاملة الى حيث مكانه المعتاد في الصالة الداخلية امام التلفاز . وضع كل شيء في مكانه وبدأ بسكب الشاي في فنجانه . بعدها حاول عبثا تشغيل التلفاز بواسطة الريموت كنترول التي بحوزته فلم يفلح الامر .
افرغ بطاريات الجهاز واتى بغيرها جديدة وحاول ثانية فلم يفلح الامر ايضاً , مع انه نسي احداث الليل الفائتة اخذ يندب حظه العاثر من ان اي شيء يلمسه بيدية يتعطل فرمى ببصره بعيدا حول طاولات الصالة الصغيرة لعله يعثر على شيء ما يبحث عنه بكل جدية . وهو متفكر في امر آخر . هنا استوقفته المفاجئة وتسمر في مكانه لا يلوى على شيء فاغرا فاه محدقا عيناه رافعا راسه الى الوراء وهو يشم رائحة بخور قوية وحادة .
لعل بعض الجيران اوقدوا البخور للتبرك او لازالة رائحة غير مرغوب فيها . ولكن من اين للرائحة ان تدخل الصالة وجميع غرف وابواب الدار موصدة باحكام . ان هذه الرائحة قريبة جدا ونفاذة . هرع الى المطبخ فلم يجد شيئا ثم اعقبها الى غرفة الطعام فوجد مبخرة نحاسية تنفذ البخور بشدة كان احد ما وضعها للتو واشعلها من فوره . تعجب من الامر لانهم عندما يشعلون البخور بالعادة يكون في غرفة المرحومة الوالدة فقط .
احتمال ان تكون المبخرة موضوعة هنا في محاولة من البنات او امهم اشعالها وبعد ذلك يتم اخذها الى غرفة الوالدة وبما انهم كانوا على عجلة من امرهم ربما لم ينتظروا ان توقد مع البخور فبقيت النار كامنة تحت حتى حصل للتو ما حصل , ومع هبت ريح خفيفة اتقدت النار من تحت الرماد وبدورها سخنت البخور واشعلته . لا يوجد تفسير عقلاني لما حصل غير ذلك . السؤال هنا من اين اتت الريح ونوافذ المطبخ والباب مقفلة باحكام .؟ يبقى هذا السؤال كغيره من الاسئلة المحيرة التي تبقى بدون جواب شاف ومقنع ومنطقي .
ما هذا دكتور حازم .؟ ما الذي يجري عندك .؟ انك تبالغ في تصوراتك كثيرا وتتخيل اشياء لم تحدث قط افق من غفلتك وعد الى رشدك ما هكذا تورد الابل ايها الاستاذ المقتدر الدكتور المرموق . كانت هذه محاورة مطولة مع ذاته اخذ يكلم نفسه كمن مسه نوع من الجن تلك التي اخذت تتلاعب به . عبس وجهه متأثرا لوحدته وهو يخاطب نفسه يجب ان لا احمل نفسي هذه الامور وسوف لن اعطيها اكثر من طاقتها فهي باية حال لا تستحق هذا العناء من التفكير . كان النقاش مع نفسه يحتدم تارة الى حد الصراخ ويخفت تارة اخرى لحد الهمس وبين الاثنان ضاع الدكتور حازم وشخصيته التي كان يعتد بها دوما واصبح فريسة سهلة للهواجس والظنون كطفل يتخبط في ظلام دامس لا يحسن كيف يجد السبيل الى طريقه .
عاد لمجلسه المعتاد ومد يده ببطيء لتناول فنجان الشاي الا ان يده تطوحت في الهواء ولم تمسك اي شيء ولما نظر بجانبه فاذا به يجد ان المنضدة الصغيرة التي وضع عليها عدة الشاي بالكامل قبل دقائق قليلة فارغة من اي شيء . هب مسرعا نحو المطبخ فأنار المصباح فاذا به يجد ابريق الشاي على الطباخ والنار موقدة من تحته . هنا اخذت الافكار تعصف براسة وتدور كأعصار مدمر . ايكون هو من حمل عدة الشاي وارجعها للمطبخ ووضع ابريق الشاي البارد لتسخينه ثانية . وهو في حالة الهذيان مع نفسة ومحاورته مع الذات . كل شيء ممكن . ولكن جنوني المفاجيء هذا بالتاكيد انه شيء غير ممكن , جنوني وانا المتعلم المثقف صاحب الشهادات العليا . كيف اذا بالناس البسطاء , انه لامر له العجب العجاب .
ما ان حل المساء حتى عاد الدكتور حازم الى بيته مسرعاً فهو لا يرغب ان يبقى خارج المنزل عند حلول الظلام وهذه عادة اكتسبها منذ طفولته . تناول طعامه على عجل خارج الدار ولم يتبقى له الا شرب الشاي ذلك الشراب الذي له طقوس خاصة في كل بيت عراقي . ورغم انه كما اسلفنا يكره المطبخ الا ان عليه ان يعمل الشاي لوحدة . فعائلته لم تعود قبل مساء يوم الغد .
دخل المطبخ مكرهاً ,اوقد الطباخ , وضع ابريق الشاي عليه بعد ان تاكد ان فيه الشاي , كل ما عليه تسخينه . انشغل بتحضير معدات الشاي من الصحون والملاعق وحاوية السكر بعد ان تم غسلها من جديد . كونه قضى ليلة مرعبة امس ونسي غسل طقم الشاي بعد استعماله
سمع ازيزا خفيفاً على الطباخ فانتبه فاذا بالشاي وصل درجة الغليان واخذ الابريق يسكب القليل منه على عين الطباخ الملتهبة فاصدرت هذا الصوت , قام من فوره باطفاء الطباخ واخذ طقم الشاي الى الصالة كعادته في كل مساء , وما ان استوى في جلسته وهو يصارع علبة سيكاره مخرجا منها سيكار كبير هم باشعاله , اطلق نفسا عميقا في الفضاء بنوع من الاسترخاء والاستجمام مع نفسه .
هيأ كوبه تناول الابريق في يمناه اخذ يسكب الشاي فاذا به ماء ابيض كالزلال . اندهش للامر واغتم قليلا اذ ان عليه ان يعود للمطبخ ثانيةُ لعمل الشاي . نهض متثاقلا هذه المرة واتجه صوب المطبخ وبعد جهد جهيد في البحث والمناورة بين ارفف الكاونتر العلوية والسفلية عثر على علبة الشاي المصون . عند اول خطوه على العتبة انارت مصابيح المطبخ جميعها . الا انه لم يكترث للامر , اخذ يبتسم في سره وهو يخاطب مصابيحه سوف لن العب معكم هذا الجنون
تقدم نحو الطباخ واثق الخطوة فتفاجأ بان عين الطباخ مشتعلة قال في سره يمكن.. قد.. اكون.. ربما نسيت اطفائه , وضع ابريق الشاي على النار الملتهبة وكشف غطاء الابريق فاذا به يجده مملواً بالشاي سكب منه القليل في سنك المطبخ زيادة في التاكد فاذا به شاي اسود كثيف القوام . فما كان منه الا ان اعاد تسخينه وجلبه معه الى الصالة بعد ان تاكد تماما هذه المرة من اطفاء المصابيح جميعها وعين الطباخ المشتعلة .
قد يكون مرض النسيان ما اصابني بالامس واليوم . او ان هناك امراً ما .؟ ما علي سوى اكتشافه واني لجاد هذه المرة بكل ما اوتيت من قوة . هكذا كان يكلم نفسه بعد ان نفذ كمية كبيرة من دخان سيكاره طافت في اركان المكان مشكلة صور بوهيمية اخذ يشرحها ويفسرها لنفسه متذكرا كل احداث الوفيات التي حصلت له مارا بالرقم العجيب وصولا الى لعبة الاستغماية من مصابيح الدار الداخلية والخارجية واخيرا ليس اخراً لعبة الشاي والمطبخ . وبئر السلم وغيرها من المشاكسات التي لا يعرف لها سببا سوى ربطها بعالم الاشباح والاروح والجن والشياطين . ضاع الدكتور حازم بين اما.. و.. او ..
صرخ عاليا اعوذ بالله من الشيطان الرجيم . ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم . تذكر المرحومة والدته فقرر اهدائها سورة الفاتحة وشرع يقول بسم الله الرحمن الرحيم . قل هو الله احد .. الله الصمد .. لم.... ما هذا الذي اقوله ..؟ انها سورة الاخلاص وانا اريد ان اقراء سورة الفاتحة حاول جاهدا ان يتذكر سورة الفاتحة فما افلح وذهب سعيه سدى . تلعثم كثيرا واستغفر ربه كثيرا ومسح بكلتا يديه وجهه , قضى ليلته بين اليقظة والمنام وهو ما زال على كرسيه في وسط الصالة المظلمة ..
الليلة الثالثة التي قضاها الدكتور حازم في بيته المسكون والمملوء بالاشباح والارواح الهائمة كانت اشد الليالي عليه رعباً واكثرها قسوة وغموضاً وغرابة . خرج من مكتبه الفخم وهو يتثأب من شدة النعاس , نظر الى الساعة الجدارية المعلقة فوق جهاز التلفاز فاذا به يرى عقرب الدقائق يجري بعكس اتجاه عقارب الساعة وبصورة مستمرة غير متقطعة وبسرعة ملفته للنظر .
اقترب اكثر فاكثر فاذا بمؤشر التاريخ يشير الى اليوم السابع عشر من شهر آذار من العام 1954 ( 17-3-1954 ) . عندها انتبه الى الاضواء المنبعثة من شاشة التلفزيون التي يقف امامها مباشرةً واذا بمذيع الاخبار يعلن حالة الطواري في بغداد بسبب فيضان نهر دجلة لم ينتبه الى التلفاز الذي اشتغل من تلقاء نفسه . ازاح بجسمه قليلا الى الوراء وتناول الريموت كنترول من جانب مقعده لاطفاء التلفزيون الى ان الجهاز لم يعمل .
عاد ثانية يحدق في عقرب الدقائق الذي يجري كالملهوف وبعكس اتجاه عقارب الساعة وبصورة سريعة تقدم اكثر فاكثر وحملق جيدا في نافذة التاريخ الصغيرة فاذا به يجد نفسه في العام 1926 وكالعادة ظهر المذيع ليعلن حالة الطواري في بغداد ذاكرا العام ذاته الموجود في ساعته الجدارية . ايضا اخذ التلفاز يشتغل من تلقاء نفسه وعند الانتهاء من نشرة الاخبار يطفي لحاله .
ما هذا الهراء دكتور حازم ستصبح مجنونا عما قريب مهلك انت تهلوس دقق النظر جيدا في الساعة الجدارية وهذه المرة خذ نفسا عميقا . ولما انتهى الدكتور من محاورة نفسه نفذ وصيته فاقترب اكثر هذه المرة ليجد عقرب الدقائق لازال مستمرا بالدوران بعكس اتجاه عقارب الساعة . ومؤ شر التاريخ يؤشر للعام 1950 . وكالعادة اشتغل التلفزيون من تلقاء نفسه ليعلن المذيع موافقة مجلس الاعمار على الارادة الملكية في انشاء مدينة عصرية بعد شراء قطع من الاراضي الزراعية من عائلة دراغ الكريمة . هذه المرة ذهب الى ستارة الصالة المطلة على الحديقة الامامية للدار فاذا به يجد غابة كثيفة من اشجار النخيل تقبع تحتها اشجار الفواكه كالبرتقال الراتنج وبعض الحمضيات ولا شيء غير البساتين المتناهية الاطراف والخضرة تحيط بالمكان . اسدل الستارة وهو في حالة رعب وخوف شديدين فاتجه الى بابا الصالة ليرى ما شاهده للتو عن كثب وليقطع الشك باليقين .
تعثر في عتبة بابا الصالة اثناء خروجه مسرعا , سقط على وجهه بقوة . نهض من فوره مندهشاً مرعوباً مما يجري حوله فاذا به يرى طقم الشاي يفترش سجادته الكاشان المفضلة لديه وبعض من اشيائه مبعثرة في المكان حيث لازال جهاز التلفاز يعمل . ذهب لاطفائه فالقى نظرة على العين السحرية فوجدها في حالة الاطفاء . اذا لماذا التلفاز لا زال يعمل .
بين الدهشة والذهول والابتسامة والعبوس تحير الدكتور حازم ماذا يفعل والامر وصل الى حد لا يطاق ولم يجد أي تفسيرات منطقية ومعقولة لما حدث معه في الليلتين الماضيتين وهذه الليلة , سوى اوهام الاشباح وحكايات الجن والشياطين . لازال واقفا في وسط الصالة يكلم نفسه ويناقشها بكل جدية واهتمام .
اذ سمع طرقاً خفيفاً على الباب الخارجي للبيت نظر الى ساعته انها الحادية عشرة مساءا . من عساه ان يزوره بمثل هذه الساعة لابد ان خطب ما حدث لاحد الجيران , ذهب ليستطلع من الطارق فلم يجد احداً , قال في سره ربما تأخرت عليه وغادر من حيث اتى , لم ينهي تفكيره بالامر حتى سمع طرقا خفيفا على باب الصالة من داخل البيت . قفز كلارنب ليباغت الطارق فلم يجد احدا ايضاً .
امتلا المكان برائحة عطر فواحة زكية ونسمة هواء لطيفة وباردة امسك بمقبض الباب من الداخل وهو يشم عبق هذا النسيم الرائع والمنعش , الحق اقول لكم انها رائحة زكية لم اشم مثلها من قبل , لابد انها آتية من حدائق وزهور الجيران في المحلة مع هبت النسيم الباردة مما جعل عطرها وشذاها يملان المكان . اصابه حالة من الترقب والتربص لسماع طرق الابواب مرة اخرى وبينما كان كذلك اذ اغلقت عليه بلطف وهدوء دون ضجة باب الهول الداخلية .
فوجد ان مقبض الباب يتحرك من تلقاء نفسه , اسرع الخطى ليمسك بصاحب هذه الحركة وما ان وضع يده على مقبض الباب حتى تسمر في مكانه وانتابه خوف ورعب شديدين تردد كثيرا معتقدا انه سيرى مخلوقا مخيفا ينتظره في الداخل , بعد لحظات عاد له وعيه وهدأ روعه وتذكر مشاهداته لافلام الرعب المخيفة واخرى اغرب من الخيال وقصص الجن والاشباح وما وراء الطبيعة .
تذكر مخاوفه حاول ان يربط بين افكاره وقرأته ومشاهداته بما يحدث في هذه الدار الملعونة . استرجع في ذاكرته جميع القصص والروايات التي سمعها عن هذا البيت قبل شرائه وبما انه كان رجلا عصاميا ذو توجهات علمية اكاديمية فلم يعر لهذه القصص اية اهمية . الان يجتر غضبه لعدم تصديقه عن ما قيل عن داره المسكونة بالارواح .
ربما كانت هذه الروح التي تعبث معي روح خيرة أي طيبة كونها لم تؤذيني قط طيلة الفترة الماضية منذ ان شعرت بها ولغاية هذه اللحظة . من الجائز ان تكون هذه الروح لملك صالح كما كنا نقرأ في موروثنا الشعبي القديم . استجمع شجاعته وفتح باب الهول الداخلي المطل على الممرات والسلم , ولما لم يجد شيئاً كالعادة هم بالرجوع الى داخل الصالة بعد ان آلف مثل هذه المواقف واصبحت عنده حالة طبيعية تخصه لوحده بل ذهب في افكاره بعيدا فعدها من القوى الخارقة للطبيعة تلك التي يمتلكها دون ان يعلم ما هيتها . لما لا تكون كرامة له على حسن سيرته وعظيم اخلاقه الراقية .
هنا لمع نور ساطع قوي مبهر فاشاح بنظره صوب صحن السلم العلوي باتجاه مصدر الضوء, هم بصعود السلم بسرعة وشجاعة فائقتين وهو يصرخ بالضوء عاليا , الان امسكت بك ايها الشبح اني لم اعد اخافك لابد ان تكون من الاشباح الصالحين . عندها قفز بخطوات واسعة على صحن السلم العلوي وهو يصرخ امسكت بك .
طارق فتحي
هل جربت يوما أن تسكن في بيت مسكون بالأشباح التي ربما تكون حكايتها تعود لقصة قتل قديمة ورأيت بنفسك شياطين الأرض تصارعك خلف باب مغلق , أو تقرع بابك , وتدعوك لمشاركتها القصة بالكامل تمهيدا للانتقام من قاتلها, هل تعثرت خطواتك وتعالت شهقاتك وتصلبت أقدامك أمام نظرات أحد المردة الغاضبين, ورددت بصوت داخلي كبله الخوف بالصمت.. لا .. إنه مجرد وهم بصري . في النهاية هل تعرف أهم الحقائق بين الوهم والحقيقة وبين الخرافة والواقع, وبين كيفية تصرفك حينما يحكي لك أحدهم أنه قابل شبحا, وبين أن تنصب لك الأشباح فخاخا في بيتك .
ارتشف فنجان قهوته على عجل مودعا زميله الاستاذ الجامعي لينصرف الى بعض شؤونه الخاصة . لوح له زميله بيده اليمين رافعا كفه فوق ام رأسه مذكرا اياه البيت المسكون في مدينة المنصور في العاصمة بغداد . حالما انقطع الصوت قهقه ( حازم ) الاستاذ الجامعي المرموق مبتعدا عن الكافتريا مسرع الخطى حاث المسير .
في 1/1/1990 تم اللقاء بينهما بحسب الموعد المتفق عليه بينهما لرؤية البيت المسكون في المنصور بناءا على طلب والحاح الدكتور (حازم) سيما وانه يدفعه حب الفضول لمعرفة مثل هذه الامور التي بالكاد يؤمن بها . قاد سيارته بهدوء كعادته وهو يستمع الى شرح زميله لبعض الملاحظات عن كيفية تصرفهما عندما يدخلان الدار مع شرح تفصيلي ممل لما سمعه من احداث غريبة وقصص عجيبة حول هذا البيت .
ارتعب حازم من الامر قليلا وتملكه الخوف والرعب عندما سمع من زميله تلك الاحداث الغريبة والمرعبة ولكون زميله دكتور ايضا ويثق في كلامه اخذ الموضوع على محمل الجد فقرر حينها العودة ثانية الى داره والغاء فكرة الدخول الى البيت المسكون لتشوش المعلومات لديه حول الجن والاشباح والشياطين وقصص ما وراء الطبيعة التي خزنت في ذاكرنه منذ نعومة اضفاره لسنين طويلة خلت .
ودع زميلة بعد ان اوصله الى داره على امل اللقاء في الحرم الجامعي في اليوم التالي وذهب كل منهم الى حال سبيله .
لمعت في راس الدكتور حازم فكرة مشاهدة البيت المسكون لاشباع فضوله الطفولي بعد ان استنفذ جل وقته في معرفة المزيد عن هذه الالغاز المحيرة التي تجري بين ظهرانينا وبمسميات مختلفة دون ان نتبين حقيقتها او نجد لها تفسير يلائم حواسنا الخمسة ومدركاتنا العقلية. فعقد العزم على ذلك وكتمها في سره . جاء اليوم الموعود وذهب الدكتور لمعاينة البيت بمفرده وهو بين الشك واليقين بعد ان امتلآت جعبته بعشرات القصص المرعبة عن الجن والشياطين والمردة والاشباح وبين مصدق ومكذب اراد ان يضع حدا لمتاهته هذه فقرر المضي قدما دون تراجع .
اطفأ محرك سيارته بعد ان ركنها على الجانب الايمن المحاذي لرصيف نصب ابو جعفر المنصور فتح نوافذ سيارته واخذ يمضغ سيكارته وهو متفكر للمرة الاخيرة هل يذهب في اكتشافه الى ابعد من هذه النقطة ام يتراجع , عندها مضغ هلوساته واكاذيب القوم التي تكشفها الحقائق المجردة . ام يعود مرة ثانية بصحبة زميله خشية ما يحدث مما لا يحمد عقباه عند دخوله المنزل .
انتفض على حين غرة كالمصروع , فجأة غادر سيارته بحركات مجنونه كان مسه طائف من الجن ملوحاً بكف يده مطوحا اياها في الهواء بحركات عنيفة واذا بعقب سيكارته ملتصقة بين اصابع كفه وبعد ان هوا بها بقوة نحو الارض تدحرج عقب سيكارته ارضاً واخذ ينفض مقعدة بضربات مجنونه كيما تحترق سيارته والحمد لله تم كل شيء بسلام مع حروق بسيطة بين سبابته والوسطى من اطراف اصابع يده اليسرى .
اعتبر الدكتور ان ما حصل معه نوع من الشؤم . ادار محرك سيارته بعد ان استوى في مقعده الا ان المحرك لا يدور عبثا حاول دون جدوى فاستعان باحد المارة اتضح بعدها ان احد اسلاك شمعات القدح غير متصلة بشكل جيد فبمجرد ضغطها ضغطة بسيطة اخذ المحرك يدور شكره الدكتور على جميل صنعه وخصوصا ان الرجل رفض ان ياخذ المال من يده فانصرف كل منهما بابتسامه عريضة .
مع ان ايمانه في مثل هذه الامور غير مسلم به ولم تشغل مساحة كبيرة من تفكيره الا انه اصر على اكتشاف البيت المسكون بعد ان تاكد تماما من حوادث هذا البيت التي وقعت فعلا حين طرح سؤاله على الرجل الذي اصلح سيارته فاجابه الاخير بالقبول والايجاب وانه من سكنة المنطقة منذ اكثر من عشرين عاما مضت . التف حول نصب ابو جعفر المنصور ودخل زقاقا ضيقاً بعض الشي وتوقف تماما عند العنوان الذي وضعه امامه تماما على دشبول سيارته خلف مقود القيادة .
استل ورقته وخرج من سيارته باتجاه المنزل مفتشاً بدقة بين اغصان الاشجار المتدلية على جدار المنزل من الخارج . بعد التفتيش الدقيق وازالة بعض الاغصان الجافة وكسر بعضها الآخر , تبين له رقعة صغيرة مدون فيها نفس العنوان الموجود على ورقته , تنفس الصعداء لانه وجد البيت فنظر نظرة عامه فاذا به بيت قديم الطراز ذو هندسة رائعة وتصميم اخاذ افترش ارض واسعة وحديقة غناء بانواع الاشجار والزهور التي رصت تحتها بشكل هندسي مدروس . وان كان بعض الاهمال قد اصابها الا ان جمال البيت لا يخفى على كل لبيب حصيف . فحزم امره على شراء البيت وجعله مفاجأة لاسرته ولزملائه من الا ساتذة الجامعيين . طار لبه من الفرح ...
اثناء دهشته بمعاينة المنزل وجميل تصميمه واتقان بنائه وكونه قديم بعض الشيء وهو محب ومولع بالتاريخ ولكل قديم .اخذ يبحث عن مكتب صغير لبيع وشراء العقارات كان يجثم غير بعيد عن ركن مرطبات الرواد الشهير في شارع المنصور الرئيسي . اصطحبه صاحب مكتب العقارات الى المنزل ثانية بعد ان اخبره الدكتور انه عاين المنزل من الخارج وبوده ان يتعرف عليه من الداخل وانه امر ضروري لا بد منه قبل اقدامه على شراء المنزل .
حصل له ما اراد فاذا بالمفاجئة كادت ان توقعه ارضا اذ ان المنزل ما زال موثثاً بشكل جيد مساحته من الداخل يخيل اليه انها اكبر من مساحته من الخارج والاثاث مرتب بعناية فائقة يحوي على ستة غرف نوم وهول داخلي كبير مع ملحق اصغر منه بعض الشيء يفصلهما بوابة متحركة تطوى عند اللزوم فيصبح المكان كقاعه لاستقبال الزوار الوافدين اليه , حمامات صحية اكثر من واحدة منتشرة في ارجاء البيت . ويبدو البيت نظيفا باستثناء بعض الاتربة التي تعلو مفروشاته . تحمس للامر كثيرا واستهوته فكرة شرائه بشكل جاد وحازم .
اخبره صاحب مكتب العقار ان المنزل قديم ولكن اساساته متينة وتصميمه مذهل وغريب اصحابه مهاجرين خارج البلاد منذ زمن بعيد . ولم تسكن فيه اي عائلة اكثر من عدة اشهر فيغادروها مرغمين وهكذا انتقلت الدار عن طريق الشراء تارة وعن طريق الايجار تارة اخرى حتى استقر اخيرا لصاحبه وهو رجل عراقي من اخواننا النصارى مهاجرا ايضا الا انه عمل وكالة عامة لوالده الذي يسكن في منطقة بغداد الجديدة . مما يضمن لك ولي تحويل الدار باسمك بكل سهولة دون معرقلات .
ولما استفسر الدكتور حازم من صاحب مكتب العقار عن الامور الغريبة التي تحدث في الدار من انه مسكون بالاشباح والارواح الشريرة وما الى ذلك , ابتسم صاحب مكتب العقار ابتسامة عريضة بعد ان ازاح كتفيه الى الخلف قليلا . فاردفه قائلا دكتور انت استاذ جامعي قدير وتحمل لقب دكتوراه وذو عقلية متفتحة كما يبدو من ملامحك وهيئتك . كيف تصدق مثل هذا الكلام الذي تتناقله عجائزنا من جيل الى جيل من مخزون مورثاتنا الشعبية ليصبح الامر بعد ذلك كحقيقة مسلم بها , فليصدقها من شاء وليكذبها الاخرين . وطمأنه ان البيت لم يسكنه احد اكثر من شهور قلائل لا سباب طبيعية مثل الوفاة والهجرة الى مكان آخر بحسب ظروف كل عائلة تسكنه على غير عادة العوائل العراقية التي تمكث في المكان عشرات السنين ان لم يكن المئات . وان الدنيا تغيرت والحياة اصبحت اكثر تعقيدا وايجاد فرص العمل في البلد اصبحت قليلة من اجل هذا تسافر بعض العوائل لتغير مكان عيشها طلبا للرزق او هروبا من المناخ القاري للبلد او لاسباب اخرى معروفة لدى الجميع .
بعد تشجيع صاحب المكتب والاطناب بمزايا هذا العقار الجميل وثمنه البخس المغري ووقوعه في شارع فرعي هاديء جدا ونظيف ساكنيه من العوائل العراقية الراقية من الاخيار المتعاونين . دفع الدكتور للدلال مبلغا من المال كعربون او مقدمة اولية لشراء العقار بحماسة اهل الريف , رفع رأسه بكل فخر واعتزاز تملكته الانا قليلا على غير عادته المتواضعة السمحة المحبة للاخرين .
تم التوقيع بينهما بموجب عقد رسمي مختوم باسم المكتب قد ذكر فيه المبلغ الاجمالي للعقار والمبلغ المدفوع كمقدمة او دفعة اولية وتوقيع الطرفين وزيادة في الائتمان تم توقيع العقد مع شهود اثنان كانا قد حضرا في المكتب بمعية صاحب التوكيل العام من بغداد الجديدة . عند توقيع العقد , حسم الامر ونهض الجميع مودعين الدكتور حازم وهو يضع صورة العقد في جيب سترته الداخلي , خرج مبتسما وعلامات النصر بادية على محياه ونسي امر الحكايات المرعبة التي سمعها عن البيت المسكون سواءا من زميله في العمل او من اهل منطقة المنصور .
تم الامر للدكتور حازم واصبحت الدار ملكية خاصة له بشكل رسمي بعد ان دفع متبقي المبلغ المذكور بموجب العقد حال خروج الجميع من دائرة التسجيل العقاري في المنصور واصبحت عائديته من جديد باسم الدكتور حازم . بعدها تمت استضافته لتناول المشويات العراقية في مطعم قريب وذلك كعربون على حسن النية من قبل الجميع . وانصرفوا كل الى وجهته .
كتم الدكتور الامر عن عائلته وزملائه لتكون مفاجئة لهم بعدها قام ببعض الاصلاحات في المنزل وترميم الاماكن التي تأثرت نوعما بالرطوبة بسبب غلق النوافذ لمدة طويلة وعدم تهوية البيت والاعتناء بالحديقة وتشذيبها والتخلص من النباتات الطفيلية الضارة والغير نافعة مثل الحشائش وشق السواقي وترميمها بشكل يسهل عليه عملية انسياب المياه وري المزروعات اثناء السقي . وفعلا تم تكليف احد الفلاحين من الذين يجوبون المنطقة لعرض خدماتهم الزراعية وعمل الفلاح كل ما كان يدور بخاطر الدكتور وعندما انتهى الامر تم التوجه الى داخل البيت لغرض طلاء الجدران الداخلية وقد نسب للامر احد مكاتب بيع الاصباغ مقابل سينما غرناطة . حيث قام اسطيفان بعمله على اكمل وجه .
المفرح في الامر ان كل هذه التغيرات التي اجراها على الدار من التاسيسات الصحية المتضررة في اعلى سطح المنزل بسبب الترك والاهمال حتي حديقة الدار الكبيرة نسبيا لم تكلفه أي مبلغ يذكر حيث انه استقدم احد اصحاب المزادات في ساحة الاندلس وعرض عليه معروضات البيت من الاثاث وغيرها فاتفق الاثنان على مبلغا معينا وتم بيع جميع الموجودات الا ما ندر من التحف النفيسة التي احبها الدكتور كثيرا . كانت صفقة جيدة وناجحة من قبل مزاد الجواري وللسيد صفاء .
قام الدكتور بتأثيث الدار بشكل جيد ومدروس بعد استقدام احد مهندسي الديكورات من مكتب للاثاث يقبع غير بعيد عن داره على الجهة اليسرى من الشارع الرئيسي في المنصور يدعى ( أوروك ) للاثاث صاحبه شاب مهندس اسمه (علي) ذو خبرة جيدة في مجاله . اصبح البيت من الخارج والداخل ايقونة جميلة كمتحف رائع رصت معروضاته بشكل بديع واصبح المكان يسر الناظرين .
استتب الامر له اخيراً وانتظر الفرصة المناسبة ليعلن عن كنزه المصون الذي حاول جاهدا اخفائه عن كريمته زوجته الفاضلة ومع ان الاخيرة مندهشة لحصول تغيرات كبيرة في طريقة واسلوب معاملة زوجها لها لم تعتدها من قبل فيه . الا انها آثرت الصمت لتبيان الحقيقة فيما بعد او يصرح الزوج بمكنونات نفسه معللا سبب انشراحه الدائم وتفائله بشكل لم يسبق له مثيل طيلة حياتهما الزوجية الماضية .
واخيرا وفي احد المناسبات السعيدة التي تخص الزوجين اعلن الدكتور حازم للجميع عن هديته المفاجئة لزوجته الرائعة وهي عبارة عن بيت عصري كبير وجميل في مدينة المنصور في بغداد وكانت الدهشة قد عقدت لسان الزوجة بعد ان فغرت فاها مندهشة متعجبة من هذا التصريح القنبلة وكيف استطاع الدكتور كتم مثل هذا الخبر عنها طيلة الشهور القليلة الماضية .
هرع الدكتور اليها احتضنها بعد ان اسقطت كوب العصير من يدها دون ارادة منها والتف الجميع حول الوالدة المراءة الفاضلة العصامية الصامتة فتلقفها بجنون وسط تصفيق الحاضرين وهتافات التشجيع والاستحسان تنطلق من هنا وهناك وانتهى الامر على خير وانصرف الجميع من الحفل العائلي الصغير بعد تجاوز عقارب الساعة الثانية عشر والنصف بعد منتصف الليل .
انتقلت عائلة الدكتور حازم الى دارها الجديدة في المنصور وكانت الصدمة مذهلة لجميع افراد العائلة لما وجدوه من منظر يسلب الالباب لواجهة المنزل مع نظارة وجمال الحديقة وحسن تنسيقها مما يرغم المرء ان يقف مذهولا مستغربا . ايمكن ان يكون هذا السحر من صنع الانسان .؟ في الداخل صدموا لمشاهدة التاثيث الراقي والديكورات المذهلة التي تزين جميع مرافق الدار بما فيها غرف النوم ناهيك عن صالة استقبال الضيوف . استقر الامر اخيرا بدعاء جميل من الزوجة المؤمنة تشكر فيه هذه النعمة الفضيلة التي اسبغها الله لهم سبحانه وتعالى .
بعد الحاح شديد من الابناء تم جلب قفصين احدهما لطيور الكناري والاخر لبلبل عراقي غريد جلبه له زميلة من محافظة ديالى . وعمل لا حقا قفصا كبيرا في الحديقة الخلفية لتربية الدواجن تلك الحيوانات كانت حلم الدكتور حازم منذ ايام طفولته وفعلا تم الامر وكان له ما اراد . مرت الايام بطيئة فاذا بطائري الكناري فارقا الحياة دون مبرر او سبب مقنع واول من انتبه لذلك الزوجة بسبب انقطاع تغريدهما .
بعدها بيومين فارق البلبل الغريد الحياة ايضا رغم العناية الفائقة التي كان يلقاها من العائلة ايضا بدون سبب مقنع فاحتاروا في الامر وتنبهت العائلة لهذين الحدثين . ومر اسبوع آخر فاذا باحد الابناء يخبر الدكتور بان الدجاجات نفقت جميعا مرة واحدة وهو امر مستغرب جدا ولا يحدث الا نادرا . جلب الدكتور طبيبا بيطريا خشية ان يكون هناك مرضا مفاجيء او وباء معدي في الدجاجات مما جعلهن ينفقن في وقت واحد . بعد الفحوصات تبين ان الدجاجات سليمات واستغرب الطبيب ايضا الامر وعده من الصدف النادرة . تم تنظيف الحديقة الخلفية ورفع قفص الدجاج بعد اهدائه لاحد معارفه وزرع الزهور والرياحين في المكان .
بالرغم من ان الدجاجات كانت من نوع نادر اهداه له احد معارفة عندما اعجب بها الدكتور وهن صغيرات فما كان من صاحبه الا ان يصر على هديته ووضعها بنفسه في صندوق سيارته الخلفي بالرغم من ممانعة الدكتور والالحاح عليه بان لا يفعل . في الحقيقة حزن الدكتور على الدجاجات كثيرا وان لم يظهر ذلك لعائلته
وكعادة العراقيين جميعا في ايفاء نذورهم اشترى كبشاً سمينا لنذر لزوجته بمناسبة البيت الجديد يطعم للفقراء والمساكين وتم ربطه في الحديقة الخلفية ريثما ياتي القصاب في صباح اليوم التالي حسبما اتفق معه . وما ان طلع صباح اليوم التالي حتى وجدوا الخروف قد فارق الحياة وايضا لاسباب مجهولة . بعد ذلك باسبوع او اقل ودعت والدة الدكتور حازم الحياة وكانت رحمها الله يحبها كثيراً ويتفانى في خدمتها .
هنا انتبه الدكتور لنفسه مليا واخذ يعيد شريط ذكرياته منذ ان سكن الدار منذ اشهر قليلة سلسلة الاحداث وبعقل علمي سنني اخذ يدون التواريخ لهذه الحوادث وبالتفصيل الممل ذاكرا السنة والشهر واليوم حتى الساعة فوجد ان تسعة ارواح زهقت في البيت خلال ايام قلائل. خمس دجاجات كناريان وبليل واحد ووالدته اخيراً المجموع (9) بالتمام والكمال ما سر هذا الرقم .
لا حظ ايضاً ان هذا الرقم تكرر كثيرا في اروقة تفكيره وجد جمهرة من المناسبات التي تحمل هذا الرقم اما بعينه او بالاشارة اليه رمزا او لغزاً . حسب المدة من اول وفاة حتى آخر يوم وفاة والدته فوجدها (90) يوما بالتمام والكمال . لاحظ ايضا انه في 9-9-1999 انتقل الى داره الجديدة ولكي لا اطيل عليكم هناك اكثر من مناسبة لديه ولعائلته يشكل الرقم (9) القاسم المشترك الاعظم بينهم . وانتبه ايضا الى ان الحوادث تقع تماما في الايام الوسطى من كل شهر عربي - هجري ( 14-15-16 ) التي يكون فيها القمر بدراً .
حاول جهده ان يخرج بنتيجة او حل علمي رصين لما يدور حول هذا الرقم وما جرى له من احداث في سكنه الجديد . ثابر واجتهد كثيرا الا انه لم يفلح في الامر ولم يسأل اهل العلم والذكر لمنصبه الوظيفي كاستاذ جامعي مرموق . واخير كتم سره بداخله واخذ يرقب الاحداث بحذر شديد .
اخذت اهتمامات الدكتور حازم تنحى منحى آخر في حياته . بمطالعة الكتب التاريخية والدينية والعلمية تلك التي تتحدث عن مثل هذه الظواهر الغامضة فاصبح بين نقيضين العلم والتفسيرات الدينية ومع انه اتقن معرفة بعض مصطلحات القوم في الجن والملائكة والشياطين وتصنيفات كل منهم الى رتب وعوائل وانواع . اصبحت في جعبته الشيء الكثير عن هذه الظواهر التي لم ينكرها احداً ممن يعرفهم .
ايقن ان قصص الشرق والغرب لا تخلوا من ذكر البيوت المسكونة وتحقق من تفاصيل كل قصة تدور احداثها حول البيت المسكون . فصدع بذلك رأسه ولم يصل الى شيء يقنعه بحقيقة اثبات هذه الظواهر او نفيها . فالكل يقر بوجودها الا ان احدأ ما لم يمر بتجربة حقيقة او مشاهدة عينية او حتى سمعية فقط كلام مسهب غامض وجميل .
قرر حينها ان يلتفت الى اسرته وقضاء وقت اطول معهم والخروج من صومعته مكتبه الفخم نوع ما في بيته الجديد . كان له ما اراد . في مساء يوم جميل والكل مبتهج كان الدكتور اكثر الجميع ابتهاجا وانفعالا , حينها اتت اليه ابنته مبتسمة فرحة وهي تقول بابا رأيت الشبح في بيتنا . فانصعق الوالد حين سماع كلمات ابنته وهي تذكر له الشبح . فاخبرها كيف رايت الشبح يا ابنتي .؟ اخذت تشرح له بطريقة الايماءات , وبما انها كانت تجيد رسم الاشياء وبعض الفنون البسيطة كونها طالبة في كلية الهندسة التكنلوجية , طلب منها ان ترسم له شكل الشبح ولو بشكل تقريبي , وافقته على ذلك وبعد مدة ليست بالقصيرة احضرت له الرسمة , بابا هذا ما شاهدته .
تعجب حازم من رسمة ابنته اذ انها استطاعت ان ترسم له رسمة جيدة توحي الى ما شاهدته الابنة او تخيلته بشكل مذهل. فاخذ العجب منه مأخذه , وهو يخاطب نفسه في سره اذا كانت هذه العائلة المؤمنة بكل قوة بدينها وبالاخلاق الحميدة وهي على خلق ومتمسكة بحبل الله وبتعاليم الرب وفعل الخير للجميع بدون استثناء . تمسها هذه المخلوقات الغير مرئية فكيف اذا لو كانت عائلة غير مؤمنة تسكن في هذا البيت الملعون .
اشعل غليونه المنحني قليلا للاسفل وهو يتفكر بالصور المعلقة على جدران مكتبه ويجول بنظراته حول المكان مسترسلا بافكاره , ما العمل .؟ ماذا يصنع .؟ فقرر امرأ وكتم امره عن اهله وعائلته. كانت مناسبة جميلة حدثت في الوقت الملائم تماما , اذ ارسل الدكتور حازم جميع افراد عائلته الى بيت اهل زوجته لحضور مناسبة ما , كانت هذه فرصته الذهبية ليقوم بتجاربه التي اتخذ القرار لها في اللية الفائتة , كان له ما اراد . واختلى مع نفسه وحيدا في البيت المسكون .
اودع عائلته عند اهل زوجته , خرج لبعض مشاغله وعاد مساءا وحيدا الى داره , لاحظ امرا غريبا لم يعهده من قبل او لم يلتفت اليه سابقاً حيث كان السكون والظلام يخيمان على الشارع والمحلة برمتها ومنها داره . ترجل من سيارته امام باب داره وابقى الانارة الامامية للسيارة مضاءة ريثما يفتح باب الكراج للدخول , فجأة انطفأت المصابيح دون مسوغ ولما عاد ادراجه نحو سيارته اضاءت المصابيح ثانية من تلقاء نفسها وهكذا تكرر الامر مرتان .
علل الدكتور حازم الامر بعدم انضباط كهربائية السيارة خصوصا انه مر فوق مطبات وتعرجات كثيرة اثناء عودته وغدا صباحا سيتبين الامر , ترجل ثانية وسط كراج داره وقفل عائدا لاغلاق باب الكراج الكبير . اضاء مصابيح البيت الخارجية وهو يتمتم في سره, لما كانت الكهرباء موجودة اصلا لماذا هذا الظلام في الزقاق ومصابيح الدور الخارجية مطفأة جميعا .
ابتسم في سره ابتسامة عريضة وضع مفاتيح سيارته فوق جهاز التلفاز الخاص بالصالة كعادته دائماً . القى بنظره الى الحديقة الامامية للدار واذا به يفاجأ بانطفاء مصباح الكراج . لعله نسي اضاءته دلف الى المطبخ لاضاءة المصابيح وقبل ان يلمس السويج وجد المصابيح مضاءة من جديد . استمرت لعبة الانارة دقائق معدودات اتضح له ان انارة البيت بالكامل في حالة مربكة من الفوضى تضيء وتطفى وهكذا دواليك . لم يكن امامه خيار حتى يجلب مهندس كهربائي ليعاين التاسيسات الكهربائية جميعها .
وبما انه مجهد بعض الشيء قرر ان ياخذ حمام بارد قبل ان يعد سهرته المعهودة كل ليلة امام التلفاز لمتابعة الاخبار وبعض البرامج المفضلة لديه . دخل حمامه وهو يدندن بكلمات اغنية لم تتبين مخارج حروفها بتمايل نحو اليمين ونحو الشمال طربا فرحا مع نفسه . وقف تحت الدش والماء البارد ينهمر عليه بغزارة فجأةً صب عليه ماء ساخن بدرجة الغليان كاد ان يفقد وعيه فيها تماماً . الا انه نجى ببعض الحروق البسيطة على ظهره .
اخذ يلعن ويشتم كل شياطين الانس والجن . وخرج لا يلوي على شيء فتحسس ظهره بمرآة غرفة نومه فاذا به يجد مجرد احمرار بسيط ولا شيء غير ذلك . ارتدى ملابسه النصف تحتية بتمهل وجلس عاري الصدر امام التلفاز . قرر ان يعمل له ابريق من الشاي فامتعض للامر كونه يكره المطبخ كثيرا ولم يتعود سابقا ان عمل شيء في المطبخ كالطعام والشراب . الا انه مجبر هذه المرة فلا احد غيره في البيت .
وضع اول خطواته على عتبة المطبخ فانطفات المصابيح رفع قدمه عن العتبة عادت الانارة من جديد تاكد له ان تغذية المطبخ بالكهرباء يمر من تحت العتبة وكرر الامر اكثر من مرة فكانت النتيجة ايجابية انطفاء ثم انارة ثم انطفاء . حمل قنينة الغاز الاحتياطية الفارغة وضعا وسط عتبة باب المطبخ بقيت الانارة مستمرة لحين عمله ابريق الشاي .
قرر في حينها ان ياخذ جميع عدة الشاي معه الى الصالة ليتخلص من لعبة الانارة هذه وكان له ما اراد وعند الخروج كان عليه ان يصفح اكثر فاكثر تحاشيا لقنينة الغاز الموضوعة في وسط عتبة باب المطبخ تماما , صدم الصينية بطرف عتبة الدار الجانبية فاندلق ابريق الشاي على ساقيه فرمى كل شيء من يديه واسرع الى الحمام لسكب الماء البارد على قدمية وما ان انار الحمام جرى مسرعا حتى انزلقت قدماه وارتطم بقوة بالبانيو الابيض الكبير الموضوع على جانب الحمام من الداخل . سكب على قدميه الماء البارد .
خرج وهو يعرج في مشيته فاتجه صوب المكان فاذا به يرى الشاي ينساب ببطيء شديد نحو السجادة الكاشان والتي كانت اثيرته الحبيبة وهدية المرحومة والدته بمناسبة زواجه امتقع وجهه وجحظت عيناه لاستحالة وصول الشاي الى السجادة فيزيائيا وكيميائيا وحتى علميا , اذ ان الشاي المسكوب كان ينساب بعكس الجاذبية الارضية محطما القوانين الفيزيائية ونظرية الاواني المستطرقة .
البيت المسكون 2
طارق فتحي
استوى في جلسته امام التلفاز كعادته مساء كل يوم بعد ان اطفأ جميع مصابيح البيت الداخلية سوى انارة باهتة بجانبه , متفكرا بما جرى له , مع انه محدق بالتلفاز بشكل جيد الا انه كان لا يرى فيه شيئا بل هناك عالم آخر يشغله هو من تسبب له في هذه الحوادث البسيطة . ولم يوقظه من غفلته سوى انارة مصباح المطبخ ثانية من تلقاء نفسها . اطلق ضحكة هستيرية صاخبة واخذ يصفق بكلتا يديه معلنا انتصار اشباح البيت المسكون بحركات راقصة مجنونه .
انتبه لنفسه ولما يقوم به فخاطب ذاته , ايعقل ان اتصرف هكذا وانا الدكتور الاكاديمي المعروف كواجهة اجتماعية فانحنى كمن يؤدي التحية ثم رفع راسه بعد ان ضم وجهه بكلتا يدية اسفا وحزنا على ما يجري معه . قرر الذهاب الى الحمام ليغسل وجهه ويديه من اثار الدهون والمراهم التي استعملها لتطبيب نفسه من الحروق .
جلس ثانية امام التلفاز فاذا به يسمع صوت حركة وسقوط شيء ما على ممر السلم العلوي. نهض من فوره وارتقى درجات السلم لاستطلاع الامر فلم يعثر على شيء . قفل عائدا الى مقعده وهو يدندن ببيت شعر حفظه لغرض قراءته على الطلاب في مدرسة ولده الصغير . وما ان استوى على مقعده حتى تناهى الى سمعة صوت تدحرج على السلم القريب منه وهذه المرة الصوت واضح جداً مما لا شك او لبس فيه . ومن المؤكد ان شيئاً ما قد سقط من على السلم وتدحرج اسفله ,وعندما تبين الامر لم يجد اي شيء في الموقع الذي اتى منه الصوت.
وقف وسط الصالة مذهولاً يراجع افكاره وانتهى تفكيره ان الامر لا يعدوا كونه مجرد تخيلات عاد الى مكانه اخرج سيكاره الكبير من العلبة الفضية التي بجانبه اشعل سيكاره وهو ينفذ دخانها في الفضاء مستمتعاً مسترخياً . وعلى حين غفلة منه سمع صرير صوت باب يفتح وصوت مفتاح يدار في قفل ثم اعقبتها صفقة باب قوية ارتجت لها الاركان . نهض من فوره كالمصروع فاذا به يجد بابا المطبخ مغلقاً على غير العادة, تفكر مليا واوعز الامر الى تسرب بعض الهواء من النافذة مما ولد فراغا هائلا في الداخل جعل الباب يصفق بهذه القوة .
اخذ يلوم بناته وزوجته في سره حيث اكد اكثر من مرة على غلق نوافذ البيت عند الخروج منعا لدخول الاتربة وبعض الاوساخ فضاق صدره بالامر وتوعد بمحاسبتهن حال عودتهن ثانية الى الدار . سيما وانه اكد على عدم فتح نوافذ الصالة مالم يكن لديهم ضيوف . خاصة وان الضيوف المهنئين لم ينقطعوا عن زيارتهم كونهم حديثي عهد في السكن في هذه الدار.
وما ان اعاد الكرة بالجلوس في الصالة حتى ومض في عينية ضوء ساطع كاد ان يفقده بصره مخترقا الزجاج الذي يفصل بين الصالة والهول الداخلي . فاستغرب للامر فهو قبل ثواني كان في المكان ولم يكن هناك اي نور , من اين اتى هذا الضوء الباهر .؟
كيف سطع هذا الضوء فجأةً .؟
اسئلة كثيرة راودته وهو في طريقه الى مصدر الضوء , وما ان ازاح الستارة حتى تبين ان الشمس قد سطعت معلنه بدأ نهار يوم جديد .
ضحك الدكتور حازم ملء شدقيه واخذ يقلب كفيه فوق بعضهما البعض والابتسامة تكاد لا تفارق محياه . يا الهي .؟ ما هذا الجنون .؟ كيف انقضى الليل الطويل في بضعة ثواني عشتها مع احداث لم افقه كنهها ولم اجد لها تفسيرا مقنعا . انه الجنون بعينه .. انه الجنون بعينه .
في مساء اليوم التالي كان يعد مقالا في مكتبه الخاص وتبين ان الامر استغرقه الكثير من الوقت , رمى بقلمه جانباً نهض من مقعده احنى ظهره الى الخلف قليلا . فنشط من عقال. اتجه صوب المطبخ لاعداد كوبا من الشاي . عندها اتى بعدة الشاي كاملة الى حيث مكانه المعتاد في الصالة الداخلية امام التلفاز . وضع كل شيء في مكانه وبدأ بسكب الشاي في فنجانه . بعدها حاول عبثا تشغيل التلفاز بواسطة الريموت كنترول التي بحوزته فلم يفلح الامر .
افرغ بطاريات الجهاز واتى بغيرها جديدة وحاول ثانية فلم يفلح الامر ايضاً , مع انه نسي احداث الليل الفائتة اخذ يندب حظه العاثر من ان اي شيء يلمسه بيدية يتعطل فرمى ببصره بعيدا حول طاولات الصالة الصغيرة لعله يعثر على شيء ما يبحث عنه بكل جدية . وهو متفكر في امر آخر . هنا استوقفته المفاجئة وتسمر في مكانه لا يلوى على شيء فاغرا فاه محدقا عيناه رافعا راسه الى الوراء وهو يشم رائحة بخور قوية وحادة .
لعل بعض الجيران اوقدوا البخور للتبرك او لازالة رائحة غير مرغوب فيها . ولكن من اين للرائحة ان تدخل الصالة وجميع غرف وابواب الدار موصدة باحكام . ان هذه الرائحة قريبة جدا ونفاذة . هرع الى المطبخ فلم يجد شيئا ثم اعقبها الى غرفة الطعام فوجد مبخرة نحاسية تنفذ البخور بشدة كان احد ما وضعها للتو واشعلها من فوره . تعجب من الامر لانهم عندما يشعلون البخور بالعادة يكون في غرفة المرحومة الوالدة فقط .
احتمال ان تكون المبخرة موضوعة هنا في محاولة من البنات او امهم اشعالها وبعد ذلك يتم اخذها الى غرفة الوالدة وبما انهم كانوا على عجلة من امرهم ربما لم ينتظروا ان توقد مع البخور فبقيت النار كامنة تحت حتى حصل للتو ما حصل , ومع هبت ريح خفيفة اتقدت النار من تحت الرماد وبدورها سخنت البخور واشعلته . لا يوجد تفسير عقلاني لما حصل غير ذلك . السؤال هنا من اين اتت الريح ونوافذ المطبخ والباب مقفلة باحكام .؟ يبقى هذا السؤال كغيره من الاسئلة المحيرة التي تبقى بدون جواب شاف ومقنع ومنطقي .
ما هذا دكتور حازم .؟ ما الذي يجري عندك .؟ انك تبالغ في تصوراتك كثيرا وتتخيل اشياء لم تحدث قط افق من غفلتك وعد الى رشدك ما هكذا تورد الابل ايها الاستاذ المقتدر الدكتور المرموق . كانت هذه محاورة مطولة مع ذاته اخذ يكلم نفسه كمن مسه نوع من الجن تلك التي اخذت تتلاعب به . عبس وجهه متأثرا لوحدته وهو يخاطب نفسه يجب ان لا احمل نفسي هذه الامور وسوف لن اعطيها اكثر من طاقتها فهي باية حال لا تستحق هذا العناء من التفكير . كان النقاش مع نفسه يحتدم تارة الى حد الصراخ ويخفت تارة اخرى لحد الهمس وبين الاثنان ضاع الدكتور حازم وشخصيته التي كان يعتد بها دوما واصبح فريسة سهلة للهواجس والظنون كطفل يتخبط في ظلام دامس لا يحسن كيف يجد السبيل الى طريقه .
عاد لمجلسه المعتاد ومد يده ببطيء لتناول فنجان الشاي الا ان يده تطوحت في الهواء ولم تمسك اي شيء ولما نظر بجانبه فاذا به يجد ان المنضدة الصغيرة التي وضع عليها عدة الشاي بالكامل قبل دقائق قليلة فارغة من اي شيء . هب مسرعا نحو المطبخ فأنار المصباح فاذا به يجد ابريق الشاي على الطباخ والنار موقدة من تحته . هنا اخذت الافكار تعصف براسة وتدور كأعصار مدمر . ايكون هو من حمل عدة الشاي وارجعها للمطبخ ووضع ابريق الشاي البارد لتسخينه ثانية . وهو في حالة الهذيان مع نفسة ومحاورته مع الذات . كل شيء ممكن . ولكن جنوني المفاجيء هذا بالتاكيد انه شيء غير ممكن , جنوني وانا المتعلم المثقف صاحب الشهادات العليا . كيف اذا بالناس البسطاء , انه لامر له العجب العجاب .
ما ان حل المساء حتى عاد الدكتور حازم الى بيته مسرعاً فهو لا يرغب ان يبقى خارج المنزل عند حلول الظلام وهذه عادة اكتسبها منذ طفولته . تناول طعامه على عجل خارج الدار ولم يتبقى له الا شرب الشاي ذلك الشراب الذي له طقوس خاصة في كل بيت عراقي . ورغم انه كما اسلفنا يكره المطبخ الا ان عليه ان يعمل الشاي لوحدة . فعائلته لم تعود قبل مساء يوم الغد .
دخل المطبخ مكرهاً ,اوقد الطباخ , وضع ابريق الشاي عليه بعد ان تاكد ان فيه الشاي , كل ما عليه تسخينه . انشغل بتحضير معدات الشاي من الصحون والملاعق وحاوية السكر بعد ان تم غسلها من جديد . كونه قضى ليلة مرعبة امس ونسي غسل طقم الشاي بعد استعماله
سمع ازيزا خفيفاً على الطباخ فانتبه فاذا بالشاي وصل درجة الغليان واخذ الابريق يسكب القليل منه على عين الطباخ الملتهبة فاصدرت هذا الصوت , قام من فوره باطفاء الطباخ واخذ طقم الشاي الى الصالة كعادته في كل مساء , وما ان استوى في جلسته وهو يصارع علبة سيكاره مخرجا منها سيكار كبير هم باشعاله , اطلق نفسا عميقا في الفضاء بنوع من الاسترخاء والاستجمام مع نفسه .
هيأ كوبه تناول الابريق في يمناه اخذ يسكب الشاي فاذا به ماء ابيض كالزلال . اندهش للامر واغتم قليلا اذ ان عليه ان يعود للمطبخ ثانيةُ لعمل الشاي . نهض متثاقلا هذه المرة واتجه صوب المطبخ وبعد جهد جهيد في البحث والمناورة بين ارفف الكاونتر العلوية والسفلية عثر على علبة الشاي المصون . عند اول خطوه على العتبة انارت مصابيح المطبخ جميعها . الا انه لم يكترث للامر , اخذ يبتسم في سره وهو يخاطب مصابيحه سوف لن العب معكم هذا الجنون
تقدم نحو الطباخ واثق الخطوة فتفاجأ بان عين الطباخ مشتعلة قال في سره يمكن.. قد.. اكون.. ربما نسيت اطفائه , وضع ابريق الشاي على النار الملتهبة وكشف غطاء الابريق فاذا به يجده مملواً بالشاي سكب منه القليل في سنك المطبخ زيادة في التاكد فاذا به شاي اسود كثيف القوام . فما كان منه الا ان اعاد تسخينه وجلبه معه الى الصالة بعد ان تاكد تماما هذه المرة من اطفاء المصابيح جميعها وعين الطباخ المشتعلة .
قد يكون مرض النسيان ما اصابني بالامس واليوم . او ان هناك امراً ما .؟ ما علي سوى اكتشافه واني لجاد هذه المرة بكل ما اوتيت من قوة . هكذا كان يكلم نفسه بعد ان نفذ كمية كبيرة من دخان سيكاره طافت في اركان المكان مشكلة صور بوهيمية اخذ يشرحها ويفسرها لنفسه متذكرا كل احداث الوفيات التي حصلت له مارا بالرقم العجيب وصولا الى لعبة الاستغماية من مصابيح الدار الداخلية والخارجية واخيرا ليس اخراً لعبة الشاي والمطبخ . وبئر السلم وغيرها من المشاكسات التي لا يعرف لها سببا سوى ربطها بعالم الاشباح والاروح والجن والشياطين . ضاع الدكتور حازم بين اما.. و.. او ..
صرخ عاليا اعوذ بالله من الشيطان الرجيم . ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم . تذكر المرحومة والدته فقرر اهدائها سورة الفاتحة وشرع يقول بسم الله الرحمن الرحيم . قل هو الله احد .. الله الصمد .. لم.... ما هذا الذي اقوله ..؟ انها سورة الاخلاص وانا اريد ان اقراء سورة الفاتحة حاول جاهدا ان يتذكر سورة الفاتحة فما افلح وذهب سعيه سدى . تلعثم كثيرا واستغفر ربه كثيرا ومسح بكلتا يديه وجهه , قضى ليلته بين اليقظة والمنام وهو ما زال على كرسيه في وسط الصالة المظلمة ..
الليلة الثالثة التي قضاها الدكتور حازم في بيته المسكون والمملوء بالاشباح والارواح الهائمة كانت اشد الليالي عليه رعباً واكثرها قسوة وغموضاً وغرابة . خرج من مكتبه الفخم وهو يتثأب من شدة النعاس , نظر الى الساعة الجدارية المعلقة فوق جهاز التلفاز فاذا به يرى عقرب الدقائق يجري بعكس اتجاه عقارب الساعة وبصورة مستمرة غير متقطعة وبسرعة ملفته للنظر .
اقترب اكثر فاكثر فاذا بمؤشر التاريخ يشير الى اليوم السابع عشر من شهر آذار من العام 1954 ( 17-3-1954 ) . عندها انتبه الى الاضواء المنبعثة من شاشة التلفزيون التي يقف امامها مباشرةً واذا بمذيع الاخبار يعلن حالة الطواري في بغداد بسبب فيضان نهر دجلة لم ينتبه الى التلفاز الذي اشتغل من تلقاء نفسه . ازاح بجسمه قليلا الى الوراء وتناول الريموت كنترول من جانب مقعده لاطفاء التلفزيون الى ان الجهاز لم يعمل .
عاد ثانية يحدق في عقرب الدقائق الذي يجري كالملهوف وبعكس اتجاه عقارب الساعة وبصورة سريعة تقدم اكثر فاكثر وحملق جيدا في نافذة التاريخ الصغيرة فاذا به يجد نفسه في العام 1926 وكالعادة ظهر المذيع ليعلن حالة الطواري في بغداد ذاكرا العام ذاته الموجود في ساعته الجدارية . ايضا اخذ التلفاز يشتغل من تلقاء نفسه وعند الانتهاء من نشرة الاخبار يطفي لحاله .
ما هذا الهراء دكتور حازم ستصبح مجنونا عما قريب مهلك انت تهلوس دقق النظر جيدا في الساعة الجدارية وهذه المرة خذ نفسا عميقا . ولما انتهى الدكتور من محاورة نفسه نفذ وصيته فاقترب اكثر هذه المرة ليجد عقرب الدقائق لازال مستمرا بالدوران بعكس اتجاه عقارب الساعة . ومؤ شر التاريخ يؤشر للعام 1950 . وكالعادة اشتغل التلفزيون من تلقاء نفسه ليعلن المذيع موافقة مجلس الاعمار على الارادة الملكية في انشاء مدينة عصرية بعد شراء قطع من الاراضي الزراعية من عائلة دراغ الكريمة . هذه المرة ذهب الى ستارة الصالة المطلة على الحديقة الامامية للدار فاذا به يجد غابة كثيفة من اشجار النخيل تقبع تحتها اشجار الفواكه كالبرتقال الراتنج وبعض الحمضيات ولا شيء غير البساتين المتناهية الاطراف والخضرة تحيط بالمكان . اسدل الستارة وهو في حالة رعب وخوف شديدين فاتجه الى بابا الصالة ليرى ما شاهده للتو عن كثب وليقطع الشك باليقين .
تعثر في عتبة بابا الصالة اثناء خروجه مسرعا , سقط على وجهه بقوة . نهض من فوره مندهشاً مرعوباً مما يجري حوله فاذا به يرى طقم الشاي يفترش سجادته الكاشان المفضلة لديه وبعض من اشيائه مبعثرة في المكان حيث لازال جهاز التلفاز يعمل . ذهب لاطفائه فالقى نظرة على العين السحرية فوجدها في حالة الاطفاء . اذا لماذا التلفاز لا زال يعمل .
بين الدهشة والذهول والابتسامة والعبوس تحير الدكتور حازم ماذا يفعل والامر وصل الى حد لا يطاق ولم يجد أي تفسيرات منطقية ومعقولة لما حدث معه في الليلتين الماضيتين وهذه الليلة , سوى اوهام الاشباح وحكايات الجن والشياطين . لازال واقفا في وسط الصالة يكلم نفسه ويناقشها بكل جدية واهتمام .
اذ سمع طرقاً خفيفاً على الباب الخارجي للبيت نظر الى ساعته انها الحادية عشرة مساءا . من عساه ان يزوره بمثل هذه الساعة لابد ان خطب ما حدث لاحد الجيران , ذهب ليستطلع من الطارق فلم يجد احداً , قال في سره ربما تأخرت عليه وغادر من حيث اتى , لم ينهي تفكيره بالامر حتى سمع طرقا خفيفا على باب الصالة من داخل البيت . قفز كلارنب ليباغت الطارق فلم يجد احدا ايضاً .
امتلا المكان برائحة عطر فواحة زكية ونسمة هواء لطيفة وباردة امسك بمقبض الباب من الداخل وهو يشم عبق هذا النسيم الرائع والمنعش , الحق اقول لكم انها رائحة زكية لم اشم مثلها من قبل , لابد انها آتية من حدائق وزهور الجيران في المحلة مع هبت النسيم الباردة مما جعل عطرها وشذاها يملان المكان . اصابه حالة من الترقب والتربص لسماع طرق الابواب مرة اخرى وبينما كان كذلك اذ اغلقت عليه بلطف وهدوء دون ضجة باب الهول الداخلية .
فوجد ان مقبض الباب يتحرك من تلقاء نفسه , اسرع الخطى ليمسك بصاحب هذه الحركة وما ان وضع يده على مقبض الباب حتى تسمر في مكانه وانتابه خوف ورعب شديدين تردد كثيرا معتقدا انه سيرى مخلوقا مخيفا ينتظره في الداخل , بعد لحظات عاد له وعيه وهدأ روعه وتذكر مشاهداته لافلام الرعب المخيفة واخرى اغرب من الخيال وقصص الجن والاشباح وما وراء الطبيعة .
تذكر مخاوفه حاول ان يربط بين افكاره وقرأته ومشاهداته بما يحدث في هذه الدار الملعونة . استرجع في ذاكرته جميع القصص والروايات التي سمعها عن هذا البيت قبل شرائه وبما انه كان رجلا عصاميا ذو توجهات علمية اكاديمية فلم يعر لهذه القصص اية اهمية . الان يجتر غضبه لعدم تصديقه عن ما قيل عن داره المسكونة بالارواح .
ربما كانت هذه الروح التي تعبث معي روح خيرة أي طيبة كونها لم تؤذيني قط طيلة الفترة الماضية منذ ان شعرت بها ولغاية هذه اللحظة . من الجائز ان تكون هذه الروح لملك صالح كما كنا نقرأ في موروثنا الشعبي القديم . استجمع شجاعته وفتح باب الهول الداخلي المطل على الممرات والسلم , ولما لم يجد شيئاً كالعادة هم بالرجوع الى داخل الصالة بعد ان آلف مثل هذه المواقف واصبحت عنده حالة طبيعية تخصه لوحده بل ذهب في افكاره بعيدا فعدها من القوى الخارقة للطبيعة تلك التي يمتلكها دون ان يعلم ما هيتها . لما لا تكون كرامة له على حسن سيرته وعظيم اخلاقه الراقية .
هنا لمع نور ساطع قوي مبهر فاشاح بنظره صوب صحن السلم العلوي باتجاه مصدر الضوء, هم بصعود السلم بسرعة وشجاعة فائقتين وهو يصرخ بالضوء عاليا , الان امسكت بك ايها الشبح اني لم اعد اخافك لابد ان تكون من الاشباح الصالحين . عندها قفز بخطوات واسعة على صحن السلم العلوي وهو يصرخ امسكت بك .
مواضيع مماثلة
» * البيت المسكون : الجزء 3 - 4
» * البيت المسكون : الجزء 5 - 6
» * ترتيب البيت العراقي - العوامل المساعدة والمعرقلة لترتيب البيت العراقي.
» * كفاح كفيف - الجزء الثالث
» * رحمة وبيت الاحلام- منزل قتيبة المسكون-العالم الاخر-وضاع الحلم
» * البيت المسكون : الجزء 5 - 6
» * ترتيب البيت العراقي - العوامل المساعدة والمعرقلة لترتيب البيت العراقي.
» * كفاح كفيف - الجزء الثالث
» * رحمة وبيت الاحلام- منزل قتيبة المسكون-العالم الاخر-وضاع الحلم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى