* زواج الكهنة - رسل البارحة ورسل اليوم - مجادلة الأنبا جرجي - الأب متى المسكين: أبٌ لي
صفحة 1 من اصل 1
* زواج الكهنة - رسل البارحة ورسل اليوم - مجادلة الأنبا جرجي - الأب متى المسكين: أبٌ لي
زواج الكهنة
تختلف الكنيسة الكاثوليكية مع الكنيسة الأرثذوكسية والكنائس البروتستانتية في نظرتها إلى زواج خدام الكنيسة من الكهنة والقسس. وتستند كل من هذه الكنائس إلى تفاسيرها لنصوص العهد الجديد التي تتعلق بهذا الأمر، فبينما تبيح الكنائس البروتستانتية الزواج للقسس بمختلف مناصبهم، لا تمانع الكنائس الأرثذوكسية في قبول المتزوجين في سلك الكهنوت ولكنها لا تسمح لهم بتبوّء المناصب العليا كمنصب المطران أو البطريرك. أما الكنيسة الكاثوليكية فهي على نقيض الكنائس الأخرى، لا تقبل إلاّ غير المتزوجين لكل المناصب الدينية باستثناء حالات معينة سُمِحَ فيها للكنائس الكاثوليكية الشرقية بقبول بعض المتزوجين حين تكون هناك حاجة ماسة لسد النقص في عدد الكهنة وخاصة في القرى.
***********
إن اللجوء إلى الإنجيل للبحث في مدى صحة موقف أي من الفئات من هذه القضية هو بالتأكيد أمر ليس سهلاً لا بل قد يكون عقيماً. فلو كان الأمر على ما يتصوره البعض من سهولة لكان الفرقاء قد توصلوا إلى حل له منذ أمد بعيد. إنه أمر ككل الأمور الأخرى التي تختلف فيها الطوائف الدينية حيث تنظر كل منها إلى نصوص الكتاب بمنظار مختلف.
الإنجيل بفصوله الأربعة، متى ومرقس ولوقا ويوحنا لم يذكر شيئاً من أقوال للمسيح تشير إلى ضرورة عزوبية خدام الكنيسة. لا بل عل العكس، فإننا رغم كوننا لا نعرف الشيء الكثير عن الوضع العائلي لكل من الاثني عشرة الذين اختارهم المسيح تلاميذ له، فإن الإنجيل يشير إلى أن واحداً منهم على الأقل كان متزوجاً وهو بطرس الذي اصبح فيما بعد، حسب التقليد، أول رأس للكنيسة: "وأتى يسوع إلى بيت بطرس فرأى حماته ملقاةً بحمّى فلمس يدها ففارقتها الحمّى فقامت وصارت تخدمهم." ( متى الفصل الثامن 14 – 15 ) وفي هذا النص، نجد ما يشجعنا على الاعتقاد بأن المسيح لم يقتصر في اختياره لتلاميذه على غير المتزوجين.
الرسائل المتبادلة بين الرسل وتلاميذهم حوت أكثر مما حوته كتب الإنجيليين الأربعة من إشارات إلى هذا الموضوع:
· "أما لنا سلطان أن نجول بامرأةٍ أختٍ كسائر الرسل وإخوة الرب وكيفا، أم أنا وبرنابا وحدنا لا سلطان على ذلك؟ (كورنثوس الأولى 9 : 5 – 6 )
· "أما من جهة ما كتبتم به إليّ فحسن للرجل أن لا يمسّ امرأة ولكن لسبب الزنى فلتكن لكل واحدة امرأته وليكن لكل واحدة رجلها." (كورنثوس الأولى 7 : 1 – 2 )
· "وأنا إنما أقول ذلك على سبيل الإباحة لا على سبيل الأمر فإني أودّ لو يكون جميع الناس مثلي لكن كل أحد له من الله موهبة تخصّه فبعضهم هكذا وبعضهم هكذا." (كورنثوس الأولى 7 : 6 – 7 )
· "ومِن أصْدَق ما يُقال أنه إن كان أحد يرغب في الأسقفية فقد اشتهى أمراً عظيماً. فينبغي أن يكون الأسقف بغير عيب رجل امرأة واحدة صاحياً عاقلاً مهذباً مضيفاً للغرباء قادراً على التعليم غير مدمنٍ للخمر ولا سريع الضرب بل حليماً غير مخاصم ولا محبّ للمال. يحسن تدبير بيته ويضبط أبناءه في الخضوع بكل عفاف فإنه إذا كان أحد لا يعرف كيف يدبّر بيته فكيف يعتني بكنيسة الله. (بولس الأولى إلى تيموثاوس الفصل الثالث 1 – 5 )
************
الغاية من استشهادي بالنصوص التي أتيت على ذكرها لم تكن فتح باب الجدال لإثبات صحة أو خطأ أحد الأطراف إنما كان ذلك للاستئناس بها وأيضاً لإعطاء القارئ فكرة عما تضمنه كتاب العهد الجديد من نصوص تتعلق بهذا الأمر. لِذا، فإني سأترك الجدل حول تفسير الحروف والكلمات لغيري فأناقش الموضوع مع قرّائي من وجهة نظر اجتماعية واقعية وعملية، وعلى ذلك، فإني أستهل نقاشي بالسؤال التالي: ما هي محاسن ومساوئ زواج الكهنة والقسس، حتى بمن فيهم أصحاب المناصب الرفيعة؟
كي لا تكون إجابتي على هذا السؤال منطلقة من رأيٍ شخصيٍّ بحت، فقد قمت بطرحه مراراً وفي مناسبات مختلفة على كاثوليكيين من أتباع الكنيسة التي ربيت أنا نفسي في أحضانها. ولم يكن أمراً مفاجئاً البتة أن أرى كل الذين طرحت عليهم السؤال يتفقون على عدم وجود أية جوانب سيئة لزواج رجال الدين، لا بل ذهب كثيرون منهم إلى أبعد من ذلك ورأوا في هذا الزواج أمراً ليس حسناً فقط إنما ضرورياً ومطلوباً. إذن، تعال معي قارئي العزيز نستعرض محاسن هذا الزواج في غياب ذكر أية مساوئ له.
· الزواج رادع أخلاقي
لرجل الدين المتزوج واجبات أخلاقية تجاه زوجته وأولاده يشعر بضرورة مراعاتها والحفاظ عليها أكثر مما يشعر به رجل علماني متزوج. عندما تكون الفضيحة متعلقة برجل دين فهي دائماً أكبر وأعظم مما هي عليه حين تتعلق برجل علماني، فكيف يكون الأمر إذا كان رجل الدين متزوجاً!.. لا شكّ في أن رجل الدين المتزوّج سيحسب ألف حساب قبل أن يقوم بأي تصرّف لا أخلاقي. إن موقفه لن يكون صعباً فقط أمام أبناء رعيّته الذين قد يتخلّص من مواجهتهم بالانتقال إلى بلد أو مدينة أخرى، بل سوف يواجه العار أمام عائلته التي سوف ترافقه أينما حلّ سواء بقي في سلك الخدمة الدينية أم لم يبقَ.
· الزواج حاجة بشرية
رجل الدين إنسان كأي إنسان آخر معرض للتجارب وغير معصوم عن الخطأ. وهو أيضاً إنسان كأي إنسان له مشاعره وإحساسه الجنسي، والزواج لا ريب في أنه يلبي حاجاته من حيث أنه يمنحه قدرة أكبر على مقاومة مغريات الجنس.
· الزواج مدرسة
رجل الدين المتزوج الذي يعرف كيف يرعى شؤون أسرته ويحافظ على سمعتها ومصالحها هو بدون أدنى شك قد كسب خبرة جيدة لرعاية الأسرة الكبيرة التي تشكلها الرعية. إنه أدرى بمشاكلهم وأحوالهم وطموحاتهم وخلافاتهم. وبذلك يمكنه بواسطة المركز الذي يتمتع به أن يتداخل بينهم ويساعدهم على حل مشاكلهم.
الزواج مفتاح لعلاقات اجتماعية جيدة:
بناء على ما تقدم، فإن شـعور النـاس بالراحة والاطمئنان، سـيكون شعوراً أفضل لوجود رجل دين، صاحبِ عائلـة، أبٍ وزوجٍ وربما جدٍّ، مع أولادهـم وبناتهم، وفي بيوتهم وفي حفلاتهم وغير ذلك من الأمكنة والمناسـبات. هنا لا بد من الاسـتدراك بالقول أن هذا لا يعني أبداً انتقاصاً لمكانة كل رجال الدين غير المتزوجين، إذ أن هناك منهم من بلغ في عفّـته ومحافظته على نذوره الأخرى مرحلة القداسـة. هؤلاء تمتعوا بالموهبـة التي تحدث عنها بولس الرسـول في رسالته إلى أهل كورنثوس حيث قال: فإني أودّ لو يكون جميع الناس مثلي لكن كل أحد له من الله موهبة تخصّه فبعضهم هكذا وبعضهم هكذا." (كورنثوس الأولى 7 : 6 – 7 )
ربما كانت عزوبية المبشرين وخدام الكنيسة في مطلع المسيحية وفي العصور اللاحقة أمراً مستحسناً على الأغلب لسبب واحد مهم. ذلك السبب كان سفر هؤلاء المستمر من مدينة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر وبالتالي فإنه لم يكن من السهل أن يقوم المبشّر بواجباته في رعاية وخدمة أسرته وهو على ما هو عليه من تنقل دائم. كانت المسافات بعيدة جداً ووسائل النقل بطيئة إضافة إلى الأخطار التي كان يتعرّض لها المسافرون. عزوبية المبشرين لم تكن هي الغاية بحد ذاتها لإرضاء الله بل كانت وسيلة لخدمته، ولكنها رغم ذلك، وحسب ما توحي به نصوص العهد الجديد، لم تكن أمراً مفروضاً بل اختيارياً.
لقد أثبتت وقائع الأحداث أن تصلب السلطة الكنسية في هذا العصر لا يخدم أحداً من الأطراف. إنه تصلب أثبت عدم جدواه وأنه بكل تأكيد لا يؤدي أية خدمة، لا لله، ولا للكنيسة نفسها، ولا للرعية ولا لخادم الكنيسة. فالتصرفات المشينة لبعض رجال الدين ليست سراً خافياً على أحد كما أنه ليس سراً نذيعه إذا قلنا أن وسائل الإعلام لا تنقلها كلها. ربما يقول قائل أن هناك كثيراً من الفضائح التي تناقلتها وسائل الإعلام تتعلق برجال دين متزوجين ينتمون إلى طوائف بروتستانتية، وبالتالي، أفلا يثبت هذا أن الزواج ليس عنصراً فعالاً في ردع رجل الدين أو أي إنسان عن الانحراف؟.. والجواب على هذا بكل بساطة هو "نعم"!.. إنه بالطبع لن يردع من لا يرتدع بشيء وخاصة أولئك الذين يدّعون خدمة الله والدين بينما ليسوا في الحقيقة سوى منافقين مشعوذين. هؤلاء لا ينطبق عليهم قول المسيح بأنهم الملح الذي فسد فاستحق أن يُرمى خارجاً ليدوس عليه الناس، (متى 5 : 13 ) لأنهم في الحقيقة كانوا ملحاً فاسداً من الأساس حيث لم تكن غايتهم من الوعظ والتبشير إلا مهنة وجدوا فيها وسيلة سهلة لخداع البسيطين من الناس وجني الأرباح الطائلة السريعة من ورائهم. ويجدر القول هنا أن هناك على كل حال من البشر من لا ينفع فيهم لا زواج ولا علاج.
إنه لمن المؤكّد بأن السماح بزواج الكهنة لن يأتي بحل نهائي للتصرّفات السيئة التي يقوم بها البعض منهم، ولكن علينا أن نتذكّر هنا أنه حتى الأنبياء لم يسلموا من الوقوع في حبائل المغريات فكان منهم من انحرف عن طريق الأخلاق وأتى بالموبقات التي استحقت غضب الله. رغم ذلك، لا يمكننا إلا أن نقرّ بأن الزواج هو إلى حدّ ما أفضل ضمانةٌ لا يشكّ أحد في فعاليّتها وفائدتها.
رسل البارحة ورسل اليوم
عندما خطا المسيح أولى خطواته على طريق رحلته التبشيرية الشاقة، كان همه الأول أن يختار التلاميذ الذين سوف يعلمهم ليوكل إليهم فيما بعدُ مهمةَ متابعة الرسالة.
لم يكن اختيار التلاميذ أمراً سهلاً أمام المسيح إذ كان عليه أن يرضيَ عدداً كبيراً من الناس الذين تربطه بهم علاقات خاصة أو مصالح معيّنة، ماديةً كانت أم شخصية!..
كان لأمه أقرباء وكذلك كان ليوسف ـ خطيب أمه ـ أقرباء وأصدقاء، وكان على السيد المسيح أن يرضي أمه وخطيب أمه وكل معارفه. ومن هذا المنطلق ، كان المسيح حذراً كل الحذر في اختيار هؤلاء التلاميذ!!
*********
إني لعلى ثقة بأنَّ قارئي لا يصدّق حرفاً واحدا مما أتيت على ذكره، لا بل، لا أشك أبداً في أن قارئي قد بدأ يغضب وهو يقرأ ما يقرأ، وأنا لا ألومه على عدم تصديقه أو على غضبه. إني على العكس من ذلك تماماً، أشاركه عدم تصديقه لما ذكرت، كما أشاركه غضبه واشمئزازه. ولكن، إذا كنت أنا نفسي لا أصدق ما قلت وأشعر بالغضب لما قلت، فلماذا تراني قد قلت ما قلت؟!!
أعترف بأنني لم أقل الذي قلته إلا ساخراً من واقعِ حالٍ نعيشه ولا مفر لنا من الاعتراف به. وأنا إذ أعتذر لسخريتي، لا بد لي من الإشارة إلى أنها سخرية متألمٍ لا سخرية متهكّم.
*********
المسيح لم يكن بحاجة لإرضاء أحد، وحين اختار تلاميذه أولئك فإنه قد اختار كلا منهم لغاية تخدم رسالته. كان يعرف مستقبل كل واحد منهم وأهمية دوره في رسالته التي أتى هو من أجلها. كان لمتى دورٌ، وليوحنا دورٌ، ولبطرسَ دورٌ، وحتى ليهوذا الاسخريوطي دور. ومهما اختلفت أدوار كل منهم، فإن الغاية من اختيارهم كانت إتمام القصد من مجيء المسيح ومتابعة الرسالة. والأهم من ذلك، فقد حذّرهم بأنه لن يتغاضى عن أيّ تصرّف فاسدٍ إذ خطب فيهم قائلاً: "أنتم ملح الأرض ولكن إن فسد الملح فبماذا يُملَّح. لا يصلح بعدُ لشيء إلا لأن يطرح خارجاً ويُداسَ من الناس." (متى 5 : 13)
علمهم أن يكونوا فقراء صبورين وُدَعاء رُحماء غير طماعين بمال. علمهم أن لا يهتموا لهذا العالم وسياسة هذا العالم. حذرهم من أن يكونوا تجاراً. مجاناً أعطاهمُ ومجاناً أمرهم أن يعطوا.
من منطلق تلك التعاليم، فَهِمَ الرسل الأوائل المهمة التي أوكلت إليهم وقبلوا بها. قبلوا بها عارفين أنها ليست وظيفة لتأمين عيش إنما وعلى العكس تماماً، رحلة على طريق العذاب.
بعد رحيل المسيح، كان الرسل يجتمعون ويصلون ويطلبون من الروح القدس أن يساعدهم على اختيار التلاميذ. لم يكن لديهم آنذاك أجهزة كمبيوتر ولم يكن هناك مؤسسات يستخدمونها للتحري عن تاريخ وسلوك التلاميذ ولكنهم بالتأكيد كانوا يختارونهم بعد أن يتأكدوا إلى حد ما من صلاحيتهم للخدمة وبناء على توصيات من تلاميذ آخرين عُرفوا بصلاحهم.
تعيين الكهنة كخدام للكنائس يجب أن لا يختلف، لا في الطريقة ولا في الهدف عن كيفية انتقاء المسيح للرسل، أو عن كيفية انتقاء الرسل للتلاميذ.
الكهنة والمطارنة والقسس ليسوا الكنيسة. والكنيسة ليست البناء الذي يجتمع بين جدرانه المؤمنون لأداة الصلاة. الكنيسة هي جماعة المؤمنين نفسها. وبالتالي، فإن هذه الكنيسة ليست بحاجة إلى بناء، إذ يمكن للمؤمنين أن يجتمعوا في حديقة عامة أو أي مكان آخر، وحيث يجتمعون تكون هناك كنيسة. الكنيسة ليست بحاجة إلى كاهن، إذ يمكن للمؤمنين أن يختاروا من بينهم أي رجل صالح حكيم ومطلع ليرأس اجتماعهم. بعبارة أخرى، إن جماعة المؤمنين هي الكنيسة سواء كان هناك كاهن أم لم يكن، وسواء كان هناك بناء أو لم يكن. وجود كاهن داخل بناء تحيط به أربعة جدران دون مجموعة المؤمنين لن يشكل كنيسة.
هنا لا بد لي من الاستدراك قبل أن يرى البعض في كلامي دعوة إلى الفوضى. إني لأستدرك وأقول، إن القول بعدم الحاجة إلى راع أو رئيس هو أمر يخالف طبيعة المجتمعات البشرية لا بل حتى طبيعة بعض الجماعات الحيوانية الذكية التي لا يمكن لها أن تستمر في الوجود دون قيادة.
الدولة بحاجة إلى رئيس والجيش بحاجة إلى قائد والفريق الرياضي بحاجة إلى مشرف والمؤسسة التجارية بحاجة إلى مدير وجماعة المؤمنين بحاجة إلى راعٍ سواء كان لقبه كاهناً أو قسيساً أو معلماً. ولكن إذا كان الرئيس في العالم ـ الحرّ منه طبعاً ـ معرضاً للعزل حين يسيء استخدام السلطة التي عُهِدت إليه، وإذا كان مدير الشركة معرضاً للطرد حين يخون الأمانة التي ربطت بعنقه، وإذا قائد الجيش معرضاً للمحاكمة والسجن حين يتعاون مع الأعداء أو يقود جنوده بتهور إلى معركة خاسرة.. إذا كان هذا عقاب الحكام والقادة والمسئولين الزمنيين، فحريّ أن يكون عقاب القادة الروحيين الذين يخونون الأمانة والذين لا يحترمون القوانين التي يعظون هم أنفسهم بها عقاباً أشدّ وأعظم.
*********
ربما يعترض بعض المتحفظين بقولهم أنه من العار أن نقوم بنشر الغسيل الوسخ أمام الناس. إلى هؤلاء أقول: إنه من العار أن لا يُنشرَ الغسيل الوسخ والأفضل لهذا الغسيل الوسخ أن ينشر ليتطهر بأشعة الشمس قبل أن يعرّض الجسد لمختلف الأمراض. إضافة إلى ذلك، إذا كانت أخبار الفساد في العصور الماضية تنتشر بسرعة الحصان، فهي اليوم تنتشر بسرعة الضوء، وتجاهلها ليس إلا كتجاهل النعامة للخطر المقبل عليها بدفن رأسها تحت الرمال.
إلى هؤلاء أقول أيضاً: إن أعداء المسيحية لا يجدون شيئاً في تعاليمها يستغلونه للهجوم عليها، فيستعيضون عن ذلك بمهاجمتها عن طريق إظهار رجال الدين المسيئين بتصرفاتهم إلى تعاليمها وكأنهم هم الدين المسيحي.
خلال السنوات الثلاثة التي قضاها المسيح على الأرض مع التلاميذ، علمهم كيف يكونوا خداماً للمؤمنين لا أرباباً، وقام بغسل أقدامهم ليقرن قوله بالفعل. قال لهم: "من أراد أن يكون فيكم كبيراً فليكن لكم خادماً، ومن أراد أن يكون فيكم أوَّلَ فليكن لكم عبداً" (متى 20 : 27)
إنّ من يعتقد بأن الكنيسة كمؤسسة وسلطة ليست بحاجة إلى إصلاح، فكأنه يقول بأنها معصومة عن الخطأ، وهذا القول بحد ذاته هو الخطأ عينه. ما علينا إلا أن نفتح كتب التاريخ ونطالع صحف الحاضر!
إنه لمن المؤسف أن يكون هناك من يعتقد بخطأ توجيه النقد إلى السلطة الكنسية علناً، لأن السكوت عن الخطأ خطأ أكبر، والحديث عنه سراً لا يؤدي إلى نتيجة، فالاعتراف بوجود الخطأ لا عيب فيه، إنما العيب هو في السكوت عنه.
تعليق على مجادلة الأنبا جرجي
ما دفعني للكتابة إليكم هم قراءتي للمقال المعنون بـ "مجادلة الأنبا جرجي مع الشيوخ المسلمين" المنشور في مجلتكم بتاريخ 18/ 3/ 2004، والحقيقة أن هذه المجادلة - سواء أكان لها أساس تاريخي حقيقي أم لا- ذات قيمة كبيرة لأي مهتم بموضوع الحوار بين الأديان (كجزء من الحوار بين الثقافات المختلفة) وهو أمر لا تزال له بلا شك أهمية كبيرة في واقعنا الحضاري والثقافي حتى الآن، والقيمة الكبرى لهذه المجادلة هي أنها تثبت للمسلمين الجاهلين بحقيقة دينهم واستناداً لأساسين لا يمكن أن يرفضوهما الأول هو كتابهم المقدس (القرآن) والثاني هو المنطق العقلي البحت، تثبت لهم صحة العقائد الأساسية للدين المسيحي.
لكن ما حزَّ في نفسي وأنا أقرأ هذه المجادلة طرحها لموضوع خلافي بين الطوائف المسيحية له تاريخ سيء كعامل شقاق أساسي في الكنيسة التي كانت واحدة، وأعني موضوع الطبيعتين (ولاحقاً الفعلين أو الإرادتين) عند السيِّد المسيح، وكنتُ أتمنى لو لم تحتوِ المجادلة على ما احتوتُه بخصوص هذا الموضوع واكتفت بإثبات الحقائق الإيمانية المسيحية الأساسية التي يتفق عليها جميع المسيحيين.
أنا لستُ مختصاً باللاهوت (في الحقيقة أنا طبيب بشري)، لكن باعتبار أن كثيراً من الذين سيقرؤون المجادلة سيظنون أن موضوع "الطبيعتين" كما طُرح فيها هو من الحقائق الإيمانية العقائدية للدين المسيحي (خاصةً مع تأكيد توطئة المجادلة - التي أعتقد أنها من تأليف الراهب المرسل الكاثوليكي الذي قام بتحريرها - على سلامة عقيدة الراهب جرجي باعتباره من الروم الملكيين كاثوليكيّ المعتقد)، فإنني وجدتُ نفسي مضطراً للتعقيب على هذا الأمر.
إن أيّ دارس للتاريخ الكنسي يعرف أن هذا الموضوع أثير لأول مرة في الكنيسة عند محاولة بطريرك القسطنطينية نسطوريوس في القرن الخامس الميلادي تفسير سر التجسّد بطريقة خاصة، وهذا ما أدى لاحقاً لانشقاقات كنسية عديدة بلغت ذروتها في المجمع سيئ الذكر مجمع خلقيدونية عام 451 م الذي شقّ الكنيسة الواحدة وأضعف الإمبراطورية البيزنطية بالصراعات والاضطهادات الدينية خلال القرن السادس الميلادي، الأمر الذي كان العامل الأساسي لاحقاً في سقوط سورية ومصر بسهولة بيد المسلمين، هذا مع عدم إغفال دور الراهب النسطوري بحيرا في النشوء الفكري للإسلام في القرن السابع الميلادي.
ما سأذكرُه ليس فتحاً جديداً للجدال الذي اكتسب سمعة سيئة عندما سُمي جدلاً بيزنطياً، لكنني سأستخدم نفس المجادلة موضوع المقال لتوضيح بعض النقاط؛ أعتقد أن الأنبا جرجي كان موفّقاً للغاية في مثاله الذي طرحه لتوضيح ضرورة آلام المسيح لتحقيق فداء الإنسان دون الإخلال بعدالة الله، وأذكّر أنه شبَّه في هذا المثال تجسّد السيِّد المسيح بتسربل الملك بزي العبيد ليظهر للعبد الشرير بصورة عابر طريق عادي، وأسمح لنفسي بأن أضيف للقصة من عندي أن الملك عندما تنكَّر بزي العبيد أوكل لأحد عبيده الأخيار تسيير شؤون المملكة وأعطاه السلطة باسم الملك بل أنه سمح له بارتداء الزي الملكي لكي تعرف الرعايا أن سلطته شرعية كونها مستمدّة من السلطة الملكية الأساسية، وأسأل الآن هل تغيّرت الطبيعة الأساسية للملك (أي جوهره) عندما تسربل بزي العبيد؟!! ألم يبقَ هو الملك حتى عندما ظهر للناس كعبد فقير؟!! وبنفس الوقت هل تغيّرت الطبيعة الأساسية للعبد الخيّر (أي جوهره) عندما ارتدى الثوب الملكي؟!! هل أصبح هو الملك لظهوره بهذا الثوب؟!! في كلتا الحالتين هناك علاقة بين المُلك (الذي تُقصَد به هنا الطبيعة الإلهية) وبين العبودية (التي تُقصَد بها الطبيعة البشرية)، وفي كلتاهما يخالف الجوهر الحقيقي للأمور المظهر الخارجي لها، لكن شتّان ما بين الحالتين!!!
لا أظنّ أن هدفي من هذه التشبيهات خافٍ على أحد، فما أقصده أن العلاقة بين الطبيعتين كانت عند تجسّد السيّد المسيح –حسب المعتقد المسيحي- هي كحالة الملك الذي ظهر بصورة العبد مع بقاء طبيعته الواحدة (أي جوهره الإلهي المساوٍ للآب حسب ما يؤمن كل مسيحي) كما هي "عظيمٌ هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد" (تيموثاوس3،16)، لم تكن العلاقة بين الطبيعتين حين التجسّد أبداً كحالة عبد خيّر سُمح له بأن يرتدي الزي الملكي وأن يمارس السلطة الملكية (مؤقتاً) وأن يظهر للناس كأنه الملك، الحالة الثانية يمكن تشبيهها بما حدث مع بولس الرسول عندما قام بقوة الروح القدس بشفاء الرجل المقعد في مدينة لسترة حيث ظنّ الناس هناك أنه إله "إنّ الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا" (أعمال 14، 12) لكنها حتماً ليست حالة تجسّد السيِّد المسيح، وكما سيبقى الملك ملكاً حتى لو تسربل بزي العبيد، وسيبقى العبد عبداً ولو لبس الزي الملكي، ظلّ سيدنا يسوع المسيح عند تجسّده هو الله (بجوهره وطبيعته الواحدة)، وظلّ بولس الرسول إنساناً (بجوهره وطبيعته الواحدة) حتى عند قيامه بالمعجزات باسم يسوع الناصري.
إن الحديث عن الطبيعتين بدلاً عن الجوهر الإلهي والطبيعة الواحدة في السيّد المسيح بعد التجسّد سوف يؤدي حتماً للخلط بين الحالتين المختلفتين للعلاقة بين الطبيعتين الإلهية والبشرية اللتين ذكرتُهما أعلاه واللتين يجب التمييز بينهما تماماً، وهذا ما نراه في الحقيقة في المثال غير الموفَّق الذي جاء على لسان الأنبا جرجي في المجادلة موضوع كلامنا حين تكلم عن الطبيعتين فشبَّه اتحادهما خلال التجسّد بالسيف الذي تمَّت تحميته بالنار فاكتسب السيف فعل النار حيث يقول (كذلك الجسد.. صار يفعل فعل اللاهوت)، هذا المثال غير الموفَّق برأينا يمكن تطبيقه على حالة بولس المذكورة أعلاه وحالة كل الأنبياء والرسُل الذين قاموا بمعجزات (أي فعل لاهوتي) مع بقاء طبيعتهم الأساسية بشرية (كما يبقى السيف سيفاً حتى لو تمَّت تحميتُه بالنار) ولا يجوز تطبيقه إطلاقاً على حالة تجسّد السيِّد المسيح. إن الخلط والالتباس اللذين يؤدي إليهما تمثيل كهذا لسر التجسّد (وهو كما رأينا نتيجة لاستخدام مفهوم الطبيعتين في السيِّد المسيح) يمكن أن يؤدي للانزلاق إلى ما انزلق إليه بعض أتباع نسطوريوس (ومنهم الراهب بحيرا المشهور على الأرجح) حين غالوا في تأكيد فصل الطبيعتين بعد التجسّد لدرجة أن أتباعهم اللامباشرين (تلاميذ بحيرا) رفضوا الاعتراف بألوهية السيّد المسيح، فأصبح السيّد المسيح عندهم إنساناً ذا طبيعة بشرية حلَّ عليه قبسٌ إلهي (طبيعة إلهية) فصار يقوم بأفعال لاهوتية، وقد رفض هؤلاء الاعتراف بالمسيح أبناً وحيداً لله، لأن هذا التعبير يتضمن حتماً أن جوهر المسيح مساوٍ لجوهر الآب كما أن جوهر أي أبن مماثل لجوهر أبيه. إن خطر هذا الانزلاق هذا الانحراف الكامل عن إيمان الكنيسة المسيحية هو الذي جعل آباءنا قديماً يرفضون الصيغة الخلقيدونية عن الطبيعتين في السيِّد المسيح (ويدفعون بدمائهم ثمن هذا الرفض).
إن خطأ نسطوريوس الأساسي كان حين حاول أن يدرك بعقله الإنساني المحدود ماهية الطبيعة الإلهية غير المحدودة، وأنا شخصياً لا أعتقد أنه كان إنساناً سيئاً بل أعتقد أنه كان صالحاً وكان مسيحياً يؤمن بالحقائق الإيمانية الأساسية وبالتالي بألوهية السيِّد المسيح، لكننا كبشر أي ذوي طبيعة بشرية (وأحدنا حتماً نسطوريوس نفسه) نستطيع نوعاً ما أن ندرك (ولو بطريقة مبهمة أحياناً) ماذا تعني هذه الطبيعة، ندرك صفاتها وندرك قدراتها وندرك الحدود التي لا تستطيع أن تتجاوزها، ولكن هل نستطيع أن ندرك ماهية الطبيعة الإلهية؟!! لقد ظنَّ نسطوريوس (والخلقيدونيون من بعده) مثلاً أن الإحساس بالألم انتقاص من الطبيعة الإلهية، فأصرّوا على مفهوم الطبيعتين بعد الاتحاد ليجنّبوا الطبيعة الإلهية (التي قولبوها حسب عقلهم الخاص) هذا النقص المزعوم، والحقيقة أن نسطوريوس كان منسجماً مع ذاته عندما قال بالأقنومين في السيّد المسيح أكثر من الخلقيدونيين الذين كانت صيغتهم عن الأقنوم الواحد (وبالتالي الجوهر الواحد) والطبيعتين غير المختلطتين في السيِّد المسيح بعد الاتحاد تحمل تناقضاً داخلياً مع ذاتها (وأنا أستعير هنا تعبيراً لمار سويريوس بطريرك أنطاكيا الشرعي في القرن السادس الميلادي)، قد يقول البعض أنني عندما أرفض تعبير الطبيعتين في السيِّد المسيح بعد الاتحاد، وأصرّ على الطبيعة الواحدة والجوهر الواحد الإلهي (المساوي للآب) في السيّد المسيح، أخلط ما بين كلمة الطبيعة وكلمة الجوهر، وأنا أرجو أن يتطوع هذا البعض ليفهمني ما هو الفرق الحقيقي بين هاتين الكلمتين؛ وقد يتهمنى آخرون ممن اعتادوا على تسمية معتقد أمثالي بالمونوفيزيتية أنني أنكر إنسانية السيّد المسيح، وأجيبهم بأننا –كما قلتُ أعلاه- بشر ندرك ماهية الطبيعة البشرية وندرك الحدود التي لا نستطيع أن نتجاوزها فنصبح كالآلهة، لكن من قال لهم بأن الطبيعة الإلهية التي لا نستطيع إدراكها ولا نعرف حدودها لا تستطيع أن تتمثل كل ما في الطبيعة البشرية الانسانية؟ وبالتالي من قال لهم أن السيّد المسيح الله الكلمة المساوي للآب في الجوهر والطبيعة عندما ظهر بالجسد وصار إنساناً كاملاً فيه كل صفاتنا (عدا الخطيئة) فإن ذلك يعني أنه أصبح ذا طبيعتين (أو لاحقاً كائناً فصامياً ذا إرادتين)؟!! هذا الكلام ليس دعوة للا أدرية أو اللاعقلانية عند مناقشة الأمور الإيمانية، فاللجوء لهذين المذهبين الفلسفيين لن يفيدنا كمسيحيين إذا أردنا مجادلة أتباع الأديان الأخرى، لكن بنفس الوقت يجب ألا نرتكب خطأ الآباء القدماء ومنهم آباء مجمع خلقيدونية وكذلك نسطوريوس المسكين الذين أدّى إصرارهم على ادعاء معرفة صفات الطبيعة الإلهية لنتائج تعاكس تماماً ما كانوا يتوخون.
أذكّر هنا أن نزع الألوهية عن السيّد المسيح على يد الأتباع اللامباشرين لنسطوريوس كانت نتيجته أن فقَد الدين (وحتماً لا أقصد هنا الدين المسيحي) دوره التوجيهي الأخلاقي الإنساني كضمير جمعي في المجتمع، فالدين يجب أن يكون كالمنارة يهدي الجميع إلى الدرب الصحيح نحو الله الذي هو الخير المطلق، ولقد كانت تعاليم السيّد المسيح وأعماله على الأرض بالفعل تمثّل هذه المنارة، فكما يدل ضوء المنارة السفن على الطريق الصحيح في عرض البحر (دون أن يستلزم ذلك بالضرورة أن تصل هذه السفن إلى هذه المنارة) تدلّنا هذه التعاليم وهذه الأعمال (وبالخاصة محبته المطلقة للجميع حتى الأعداء منهم وتضحيته بذاته من أجل خلاص البشرية) على ما يجب أن نسعى إليه ونبتغي تحقيقه (حتى لو عجزنا عن الوصول الفعلي لهذا الأمر باعتبارنا بشراً ضعفاء لا يمكن أن نُقارن بالرب الإله)، بدل ذلك أصبح الدين للأسف الشديد تشريعاً لعقائد غريبة تقدّس الغرائز الحيوانية وتدعو لإفناء الآخر فكرياً وجسدياً.
دكتور س. ش.
الأب متى المسكين: أبٌ لي
لست ممن يتشيعون لفئة مسيحية ضد فئة أخرى لأني أرى في هذا تقييداً لحريتي، ولم أقصد أن أتعرف بالأب متى المسكين كمعلم لي من باب الخروج عما يألفه عوام الناس. ذهبت ذات مرة لزيارة المرحوم حلمي صديقي، وبعد أن أكلنا وجبة شهية وأودعني سلامة الله ترك معي مجموعة من الكتب الصغيرة وشريطاً كان هو بداية تعرفي بهذا الصوت المميز والذي لم أعرفه من قبل. أخذت الشريط واستمعت إليه وكثيرا ما ترد إليّ الشرائط من هنا وهناك ممن يرغبون في دعمي في إيماني المسيحي والتي كانت انتقالاً كبيراً من خارج المسيحية إلى المسيحية برحابها المتسعة ومسيحها الرأس. عندما تسمع عظة للأب متى المسكين (وهو لا يحب أن يرى نفسه واعظاً بل إنساناً له عِشرة بالمسيح يأخذك خطوة خطوة إلى أن يصل بك للمسيح وجها لوجه) تجد أن تعليمه مختلفاً. إنه لا يقدم لك نصائح وإرشادات لأنه ما أكثر الواجبات والفرائض التي يلقنها المعلمون لمريديهم، بل هو يأخذك ويقف بك بهدوء أمام وجه المسيح وحبه المتدفق وكأنه يميط حجابا من نوعٍ ما جانبا، فتنكشف لك هذه الأمور المحجوبة، فترى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ترى ما قاله ربنا لـ مرثا: إنْ آمنت ترين مجد الله (يوحنا 11:40). عندما تسمع الأب متى المسكين تشعر أنك (وقد انتقلت أنا نقلة جذرية من دين الآباء والأجداد الذي فُطرت أنا عليه) بأنه يغمرك حب شديد يأخذ بمجامع قلبك تجاه هذا المسيح الذي يحدثك عنه الأب متى وتقول: أريد هذا المسيح. أريده الآن. و تذهب خارجا كطفل يجري هنا وهناك أو كهذا الإبن الضال الذي يهرول للقاء أبيه فتخرّ أمام المسيح ساجدا: ربي وإلهي. كل هذا و الآب متى المسكين يقف جانبا في براءة الطفل ويشاهد حب الله يتدفق وكأنه المحيط يندفق دفقا في قلب المؤمن "لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا".
كنت أتهيب الأرثوذكسية وأخشى أنها ردة من دين تركته إلى دين جديد أستبدلها بها ولكن بقراءة الأب متى المسكين وسماعه عرفت أن الأرثوذكسية ليست دين ولكن هي دعوة لمعرفة الإله المتجسد كي نصير نحن أبناء وبنات الله وهذا هو إمتياز "التألّه" في شراكة للطبيعة الإلهية (2 بطرس 1: 3 و4). أمام الأب متى المسكين الكاهن الأرثوذكسي لن نخشى أن يتهمنا أحد بتهمة الجمود لأن الطقس هنا يصبح مكشوفاً بكل رموزه العميقة المكتنزة بالمعاني، ونعرف أن إيماننا ليس مسائل حسابية ولكنه مليء بالإشارات والدلائل ذات المعاني العميقة، وفي كل ممارسة طقسية نجد سر المسيح مخبئا وعلينا أن نسعى مبتهجين لكشفه أو هو بالأحرى يكشف لنا عن نفسه بنفسه في السرّ؛ والمسيحية هنا هي مسيحية سرائرية حيث الجملة الواحدة في بساطتها التي يفهمها أي طفل هي أيضا مركبة وذات بعدٍ أكثر من واحد. عندها نعرف أن إيماننا المسيحي ليس مجرد "عقائد" و "أركان إيمان" بل هو إيمان سرائري كله أسرار يهمس فيها صوت المسيح بقوله: "الذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي" (يوحنا 14: 21). هنا المعرفة قائمة على وجود الحب أولا وبدون الحب لن نعرف أسرار الإيمان، ولتقل كتب العقائد ما شاءت فالإيمان المسيحي هنا ليس أركاناً وفرائضَ إيمانٍ بل هو "سر الرب" و الذي هو لخائفيه.
أيضا بهرني الأب متى المسكين في حبه الصادق والواثق للمسلمين، وشتان بين الحب عن ثقةٍ وصدقِ نفسٍ والحب عن مبدأ "مجبر أخاك لا بطل". لا تملك أمامه أن ترى الناس بتقسيمات عقائدية: هذا إلى الجنة و ذاك إلى النار..، بل ترى الخليقة كلها مشمولة في حب الله الأبدي الأزلي وجميعهم "ذريته". هنا يستعلن خلاص المسيح للجميع بأني يعلن النور عن ذاته والنور هنا يقوم بعمله دون حاجة إلى أبواق وصراخ الوعاظ وحسب المؤمن عندئذ أن يثبت في اتحاده بالمسيح والمسيح يجذب الناس إليه.
تعلمت منه أن المسيحي الحقيقي يطبق حرفيا وصايا المسيح فهي ليست لزمن غابر تحتمل المجاز بل هي وصايا حرفية، وعندما يطلب منا أن نصفح حتى وإن لم نشعر بالصفح فهذا إلزام لنا وعلينا وإلا بقينا في الظلمة الخارجية حيث البكاء وصرير الأسنان. عندها نفهم جيدا معنى انتصار الصليب وأن نغلب ذواتنا كما يؤكد في تعليمه وإلا فكلامنا عن قيامة المسيح وغلبته يصبح مجرد شعارات فارغة.
عند الأب متى المسكين، التنسّك ليس جهاداً فردياً بل جهاد النعمة كما علم القديس مار إسحق السرياني، فكما أن الخلاص بالنعمة فكذلك الجهاد يكون أيضا بالنعمة، وعندها علينا أن نذكر ما قاله لي ذاك القبطي العجوز: "يا بني إجمد فيه وهو ها يجمد فيك". لا نتكل في جهادنا على مفهوميتنا أو محاولاتنا الفردية بل الرب نفسه يعمل فينا، والرب نفسه يصلي فينا بروحه، والرب نفسه يجدد إنساننا الباطن العتيق.
مع الأب متى المسكين أحببت الإنجيل وأردت أن آكله أكلا وأقرأه مرارا وتكرارا فأجد أني أمام "غمر ينادي غمر" وكلام أبعاده عميقة بلا حدود وفيها صوت ربنا لبطرس: يا بطرس ابعد إلى العمق. مع الأب متى المسكين لن نقرأ الآية ونقف عند المعنى الظاهر لنا بل سنجد المسيح أيقونة الآب يكشف لنا وجه الله الجميل فيها، ونريد من خلال الآية أن ندخل لقلب المسيح ونقيم هناك. كم أنا شاكر أن تكرم صديقي روماني وأكرمني في عطائه بمجموعة سي دي "أقراص مدمجة" لجميع عظات الأب متى المسكين. ويا للعار أن هذا الكنز عندي ولا أغترف منه من يوم إلى يوم أو من أسبوع لأسبوع، ولا عجب فيما يتبع ذلك من قحط روحي وجفاف وسلوك جسداني. نحن بحاجة إلى معلمين ومرشدين مثل الأب متى حتى يأخذوا بيدنا إلى المسيح مباشرة ونتعلم أن ننتصر على غضبنا وأن لا نثأر لذواتنا بل ليكون شعارنا دوما كما قال الأب متى في تفسيره لرسالة أفسس مقتبسا آية إشعياء النبي: "حقي عند الرب" (إشعيا 49: 4) وحسبنا إله كهذا وهو نفسه كفاية جميع حقوقنا وما نريد. هذا الرجل على مثال المسيح يرفض أن ينشق بل يخضع خضوع المسيح الكامل لمن اضطهدوه وحرقوا كتبه وازدروا بها متحدثا بكل احترام وحب ووقار لمن يرأسوه وآبائه في الرهبنة، فعرفنا أن المسيح حقا هو خضوع التواضع لا غطرسة الاعتداد بالذات ورد الصاع بمثله مما يؤدي للشقاق والانقسام والمسيح يضم كنيسته إلى وحدته السرائرية مع أبيه.
تيموثاوس إبراهيم،
تختلف الكنيسة الكاثوليكية مع الكنيسة الأرثذوكسية والكنائس البروتستانتية في نظرتها إلى زواج خدام الكنيسة من الكهنة والقسس. وتستند كل من هذه الكنائس إلى تفاسيرها لنصوص العهد الجديد التي تتعلق بهذا الأمر، فبينما تبيح الكنائس البروتستانتية الزواج للقسس بمختلف مناصبهم، لا تمانع الكنائس الأرثذوكسية في قبول المتزوجين في سلك الكهنوت ولكنها لا تسمح لهم بتبوّء المناصب العليا كمنصب المطران أو البطريرك. أما الكنيسة الكاثوليكية فهي على نقيض الكنائس الأخرى، لا تقبل إلاّ غير المتزوجين لكل المناصب الدينية باستثناء حالات معينة سُمِحَ فيها للكنائس الكاثوليكية الشرقية بقبول بعض المتزوجين حين تكون هناك حاجة ماسة لسد النقص في عدد الكهنة وخاصة في القرى.
***********
إن اللجوء إلى الإنجيل للبحث في مدى صحة موقف أي من الفئات من هذه القضية هو بالتأكيد أمر ليس سهلاً لا بل قد يكون عقيماً. فلو كان الأمر على ما يتصوره البعض من سهولة لكان الفرقاء قد توصلوا إلى حل له منذ أمد بعيد. إنه أمر ككل الأمور الأخرى التي تختلف فيها الطوائف الدينية حيث تنظر كل منها إلى نصوص الكتاب بمنظار مختلف.
الإنجيل بفصوله الأربعة، متى ومرقس ولوقا ويوحنا لم يذكر شيئاً من أقوال للمسيح تشير إلى ضرورة عزوبية خدام الكنيسة. لا بل عل العكس، فإننا رغم كوننا لا نعرف الشيء الكثير عن الوضع العائلي لكل من الاثني عشرة الذين اختارهم المسيح تلاميذ له، فإن الإنجيل يشير إلى أن واحداً منهم على الأقل كان متزوجاً وهو بطرس الذي اصبح فيما بعد، حسب التقليد، أول رأس للكنيسة: "وأتى يسوع إلى بيت بطرس فرأى حماته ملقاةً بحمّى فلمس يدها ففارقتها الحمّى فقامت وصارت تخدمهم." ( متى الفصل الثامن 14 – 15 ) وفي هذا النص، نجد ما يشجعنا على الاعتقاد بأن المسيح لم يقتصر في اختياره لتلاميذه على غير المتزوجين.
الرسائل المتبادلة بين الرسل وتلاميذهم حوت أكثر مما حوته كتب الإنجيليين الأربعة من إشارات إلى هذا الموضوع:
· "أما لنا سلطان أن نجول بامرأةٍ أختٍ كسائر الرسل وإخوة الرب وكيفا، أم أنا وبرنابا وحدنا لا سلطان على ذلك؟ (كورنثوس الأولى 9 : 5 – 6 )
· "أما من جهة ما كتبتم به إليّ فحسن للرجل أن لا يمسّ امرأة ولكن لسبب الزنى فلتكن لكل واحدة امرأته وليكن لكل واحدة رجلها." (كورنثوس الأولى 7 : 1 – 2 )
· "وأنا إنما أقول ذلك على سبيل الإباحة لا على سبيل الأمر فإني أودّ لو يكون جميع الناس مثلي لكن كل أحد له من الله موهبة تخصّه فبعضهم هكذا وبعضهم هكذا." (كورنثوس الأولى 7 : 6 – 7 )
· "ومِن أصْدَق ما يُقال أنه إن كان أحد يرغب في الأسقفية فقد اشتهى أمراً عظيماً. فينبغي أن يكون الأسقف بغير عيب رجل امرأة واحدة صاحياً عاقلاً مهذباً مضيفاً للغرباء قادراً على التعليم غير مدمنٍ للخمر ولا سريع الضرب بل حليماً غير مخاصم ولا محبّ للمال. يحسن تدبير بيته ويضبط أبناءه في الخضوع بكل عفاف فإنه إذا كان أحد لا يعرف كيف يدبّر بيته فكيف يعتني بكنيسة الله. (بولس الأولى إلى تيموثاوس الفصل الثالث 1 – 5 )
************
الغاية من استشهادي بالنصوص التي أتيت على ذكرها لم تكن فتح باب الجدال لإثبات صحة أو خطأ أحد الأطراف إنما كان ذلك للاستئناس بها وأيضاً لإعطاء القارئ فكرة عما تضمنه كتاب العهد الجديد من نصوص تتعلق بهذا الأمر. لِذا، فإني سأترك الجدل حول تفسير الحروف والكلمات لغيري فأناقش الموضوع مع قرّائي من وجهة نظر اجتماعية واقعية وعملية، وعلى ذلك، فإني أستهل نقاشي بالسؤال التالي: ما هي محاسن ومساوئ زواج الكهنة والقسس، حتى بمن فيهم أصحاب المناصب الرفيعة؟
كي لا تكون إجابتي على هذا السؤال منطلقة من رأيٍ شخصيٍّ بحت، فقد قمت بطرحه مراراً وفي مناسبات مختلفة على كاثوليكيين من أتباع الكنيسة التي ربيت أنا نفسي في أحضانها. ولم يكن أمراً مفاجئاً البتة أن أرى كل الذين طرحت عليهم السؤال يتفقون على عدم وجود أية جوانب سيئة لزواج رجال الدين، لا بل ذهب كثيرون منهم إلى أبعد من ذلك ورأوا في هذا الزواج أمراً ليس حسناً فقط إنما ضرورياً ومطلوباً. إذن، تعال معي قارئي العزيز نستعرض محاسن هذا الزواج في غياب ذكر أية مساوئ له.
· الزواج رادع أخلاقي
لرجل الدين المتزوج واجبات أخلاقية تجاه زوجته وأولاده يشعر بضرورة مراعاتها والحفاظ عليها أكثر مما يشعر به رجل علماني متزوج. عندما تكون الفضيحة متعلقة برجل دين فهي دائماً أكبر وأعظم مما هي عليه حين تتعلق برجل علماني، فكيف يكون الأمر إذا كان رجل الدين متزوجاً!.. لا شكّ في أن رجل الدين المتزوّج سيحسب ألف حساب قبل أن يقوم بأي تصرّف لا أخلاقي. إن موقفه لن يكون صعباً فقط أمام أبناء رعيّته الذين قد يتخلّص من مواجهتهم بالانتقال إلى بلد أو مدينة أخرى، بل سوف يواجه العار أمام عائلته التي سوف ترافقه أينما حلّ سواء بقي في سلك الخدمة الدينية أم لم يبقَ.
· الزواج حاجة بشرية
رجل الدين إنسان كأي إنسان آخر معرض للتجارب وغير معصوم عن الخطأ. وهو أيضاً إنسان كأي إنسان له مشاعره وإحساسه الجنسي، والزواج لا ريب في أنه يلبي حاجاته من حيث أنه يمنحه قدرة أكبر على مقاومة مغريات الجنس.
· الزواج مدرسة
رجل الدين المتزوج الذي يعرف كيف يرعى شؤون أسرته ويحافظ على سمعتها ومصالحها هو بدون أدنى شك قد كسب خبرة جيدة لرعاية الأسرة الكبيرة التي تشكلها الرعية. إنه أدرى بمشاكلهم وأحوالهم وطموحاتهم وخلافاتهم. وبذلك يمكنه بواسطة المركز الذي يتمتع به أن يتداخل بينهم ويساعدهم على حل مشاكلهم.
الزواج مفتاح لعلاقات اجتماعية جيدة:
بناء على ما تقدم، فإن شـعور النـاس بالراحة والاطمئنان، سـيكون شعوراً أفضل لوجود رجل دين، صاحبِ عائلـة، أبٍ وزوجٍ وربما جدٍّ، مع أولادهـم وبناتهم، وفي بيوتهم وفي حفلاتهم وغير ذلك من الأمكنة والمناسـبات. هنا لا بد من الاسـتدراك بالقول أن هذا لا يعني أبداً انتقاصاً لمكانة كل رجال الدين غير المتزوجين، إذ أن هناك منهم من بلغ في عفّـته ومحافظته على نذوره الأخرى مرحلة القداسـة. هؤلاء تمتعوا بالموهبـة التي تحدث عنها بولس الرسـول في رسالته إلى أهل كورنثوس حيث قال: فإني أودّ لو يكون جميع الناس مثلي لكن كل أحد له من الله موهبة تخصّه فبعضهم هكذا وبعضهم هكذا." (كورنثوس الأولى 7 : 6 – 7 )
ربما كانت عزوبية المبشرين وخدام الكنيسة في مطلع المسيحية وفي العصور اللاحقة أمراً مستحسناً على الأغلب لسبب واحد مهم. ذلك السبب كان سفر هؤلاء المستمر من مدينة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر وبالتالي فإنه لم يكن من السهل أن يقوم المبشّر بواجباته في رعاية وخدمة أسرته وهو على ما هو عليه من تنقل دائم. كانت المسافات بعيدة جداً ووسائل النقل بطيئة إضافة إلى الأخطار التي كان يتعرّض لها المسافرون. عزوبية المبشرين لم تكن هي الغاية بحد ذاتها لإرضاء الله بل كانت وسيلة لخدمته، ولكنها رغم ذلك، وحسب ما توحي به نصوص العهد الجديد، لم تكن أمراً مفروضاً بل اختيارياً.
لقد أثبتت وقائع الأحداث أن تصلب السلطة الكنسية في هذا العصر لا يخدم أحداً من الأطراف. إنه تصلب أثبت عدم جدواه وأنه بكل تأكيد لا يؤدي أية خدمة، لا لله، ولا للكنيسة نفسها، ولا للرعية ولا لخادم الكنيسة. فالتصرفات المشينة لبعض رجال الدين ليست سراً خافياً على أحد كما أنه ليس سراً نذيعه إذا قلنا أن وسائل الإعلام لا تنقلها كلها. ربما يقول قائل أن هناك كثيراً من الفضائح التي تناقلتها وسائل الإعلام تتعلق برجال دين متزوجين ينتمون إلى طوائف بروتستانتية، وبالتالي، أفلا يثبت هذا أن الزواج ليس عنصراً فعالاً في ردع رجل الدين أو أي إنسان عن الانحراف؟.. والجواب على هذا بكل بساطة هو "نعم"!.. إنه بالطبع لن يردع من لا يرتدع بشيء وخاصة أولئك الذين يدّعون خدمة الله والدين بينما ليسوا في الحقيقة سوى منافقين مشعوذين. هؤلاء لا ينطبق عليهم قول المسيح بأنهم الملح الذي فسد فاستحق أن يُرمى خارجاً ليدوس عليه الناس، (متى 5 : 13 ) لأنهم في الحقيقة كانوا ملحاً فاسداً من الأساس حيث لم تكن غايتهم من الوعظ والتبشير إلا مهنة وجدوا فيها وسيلة سهلة لخداع البسيطين من الناس وجني الأرباح الطائلة السريعة من ورائهم. ويجدر القول هنا أن هناك على كل حال من البشر من لا ينفع فيهم لا زواج ولا علاج.
إنه لمن المؤكّد بأن السماح بزواج الكهنة لن يأتي بحل نهائي للتصرّفات السيئة التي يقوم بها البعض منهم، ولكن علينا أن نتذكّر هنا أنه حتى الأنبياء لم يسلموا من الوقوع في حبائل المغريات فكان منهم من انحرف عن طريق الأخلاق وأتى بالموبقات التي استحقت غضب الله. رغم ذلك، لا يمكننا إلا أن نقرّ بأن الزواج هو إلى حدّ ما أفضل ضمانةٌ لا يشكّ أحد في فعاليّتها وفائدتها.
رسل البارحة ورسل اليوم
عندما خطا المسيح أولى خطواته على طريق رحلته التبشيرية الشاقة، كان همه الأول أن يختار التلاميذ الذين سوف يعلمهم ليوكل إليهم فيما بعدُ مهمةَ متابعة الرسالة.
لم يكن اختيار التلاميذ أمراً سهلاً أمام المسيح إذ كان عليه أن يرضيَ عدداً كبيراً من الناس الذين تربطه بهم علاقات خاصة أو مصالح معيّنة، ماديةً كانت أم شخصية!..
كان لأمه أقرباء وكذلك كان ليوسف ـ خطيب أمه ـ أقرباء وأصدقاء، وكان على السيد المسيح أن يرضي أمه وخطيب أمه وكل معارفه. ومن هذا المنطلق ، كان المسيح حذراً كل الحذر في اختيار هؤلاء التلاميذ!!
*********
إني لعلى ثقة بأنَّ قارئي لا يصدّق حرفاً واحدا مما أتيت على ذكره، لا بل، لا أشك أبداً في أن قارئي قد بدأ يغضب وهو يقرأ ما يقرأ، وأنا لا ألومه على عدم تصديقه أو على غضبه. إني على العكس من ذلك تماماً، أشاركه عدم تصديقه لما ذكرت، كما أشاركه غضبه واشمئزازه. ولكن، إذا كنت أنا نفسي لا أصدق ما قلت وأشعر بالغضب لما قلت، فلماذا تراني قد قلت ما قلت؟!!
أعترف بأنني لم أقل الذي قلته إلا ساخراً من واقعِ حالٍ نعيشه ولا مفر لنا من الاعتراف به. وأنا إذ أعتذر لسخريتي، لا بد لي من الإشارة إلى أنها سخرية متألمٍ لا سخرية متهكّم.
*********
المسيح لم يكن بحاجة لإرضاء أحد، وحين اختار تلاميذه أولئك فإنه قد اختار كلا منهم لغاية تخدم رسالته. كان يعرف مستقبل كل واحد منهم وأهمية دوره في رسالته التي أتى هو من أجلها. كان لمتى دورٌ، وليوحنا دورٌ، ولبطرسَ دورٌ، وحتى ليهوذا الاسخريوطي دور. ومهما اختلفت أدوار كل منهم، فإن الغاية من اختيارهم كانت إتمام القصد من مجيء المسيح ومتابعة الرسالة. والأهم من ذلك، فقد حذّرهم بأنه لن يتغاضى عن أيّ تصرّف فاسدٍ إذ خطب فيهم قائلاً: "أنتم ملح الأرض ولكن إن فسد الملح فبماذا يُملَّح. لا يصلح بعدُ لشيء إلا لأن يطرح خارجاً ويُداسَ من الناس." (متى 5 : 13)
علمهم أن يكونوا فقراء صبورين وُدَعاء رُحماء غير طماعين بمال. علمهم أن لا يهتموا لهذا العالم وسياسة هذا العالم. حذرهم من أن يكونوا تجاراً. مجاناً أعطاهمُ ومجاناً أمرهم أن يعطوا.
من منطلق تلك التعاليم، فَهِمَ الرسل الأوائل المهمة التي أوكلت إليهم وقبلوا بها. قبلوا بها عارفين أنها ليست وظيفة لتأمين عيش إنما وعلى العكس تماماً، رحلة على طريق العذاب.
بعد رحيل المسيح، كان الرسل يجتمعون ويصلون ويطلبون من الروح القدس أن يساعدهم على اختيار التلاميذ. لم يكن لديهم آنذاك أجهزة كمبيوتر ولم يكن هناك مؤسسات يستخدمونها للتحري عن تاريخ وسلوك التلاميذ ولكنهم بالتأكيد كانوا يختارونهم بعد أن يتأكدوا إلى حد ما من صلاحيتهم للخدمة وبناء على توصيات من تلاميذ آخرين عُرفوا بصلاحهم.
تعيين الكهنة كخدام للكنائس يجب أن لا يختلف، لا في الطريقة ولا في الهدف عن كيفية انتقاء المسيح للرسل، أو عن كيفية انتقاء الرسل للتلاميذ.
الكهنة والمطارنة والقسس ليسوا الكنيسة. والكنيسة ليست البناء الذي يجتمع بين جدرانه المؤمنون لأداة الصلاة. الكنيسة هي جماعة المؤمنين نفسها. وبالتالي، فإن هذه الكنيسة ليست بحاجة إلى بناء، إذ يمكن للمؤمنين أن يجتمعوا في حديقة عامة أو أي مكان آخر، وحيث يجتمعون تكون هناك كنيسة. الكنيسة ليست بحاجة إلى كاهن، إذ يمكن للمؤمنين أن يختاروا من بينهم أي رجل صالح حكيم ومطلع ليرأس اجتماعهم. بعبارة أخرى، إن جماعة المؤمنين هي الكنيسة سواء كان هناك كاهن أم لم يكن، وسواء كان هناك بناء أو لم يكن. وجود كاهن داخل بناء تحيط به أربعة جدران دون مجموعة المؤمنين لن يشكل كنيسة.
هنا لا بد لي من الاستدراك قبل أن يرى البعض في كلامي دعوة إلى الفوضى. إني لأستدرك وأقول، إن القول بعدم الحاجة إلى راع أو رئيس هو أمر يخالف طبيعة المجتمعات البشرية لا بل حتى طبيعة بعض الجماعات الحيوانية الذكية التي لا يمكن لها أن تستمر في الوجود دون قيادة.
الدولة بحاجة إلى رئيس والجيش بحاجة إلى قائد والفريق الرياضي بحاجة إلى مشرف والمؤسسة التجارية بحاجة إلى مدير وجماعة المؤمنين بحاجة إلى راعٍ سواء كان لقبه كاهناً أو قسيساً أو معلماً. ولكن إذا كان الرئيس في العالم ـ الحرّ منه طبعاً ـ معرضاً للعزل حين يسيء استخدام السلطة التي عُهِدت إليه، وإذا كان مدير الشركة معرضاً للطرد حين يخون الأمانة التي ربطت بعنقه، وإذا قائد الجيش معرضاً للمحاكمة والسجن حين يتعاون مع الأعداء أو يقود جنوده بتهور إلى معركة خاسرة.. إذا كان هذا عقاب الحكام والقادة والمسئولين الزمنيين، فحريّ أن يكون عقاب القادة الروحيين الذين يخونون الأمانة والذين لا يحترمون القوانين التي يعظون هم أنفسهم بها عقاباً أشدّ وأعظم.
*********
ربما يعترض بعض المتحفظين بقولهم أنه من العار أن نقوم بنشر الغسيل الوسخ أمام الناس. إلى هؤلاء أقول: إنه من العار أن لا يُنشرَ الغسيل الوسخ والأفضل لهذا الغسيل الوسخ أن ينشر ليتطهر بأشعة الشمس قبل أن يعرّض الجسد لمختلف الأمراض. إضافة إلى ذلك، إذا كانت أخبار الفساد في العصور الماضية تنتشر بسرعة الحصان، فهي اليوم تنتشر بسرعة الضوء، وتجاهلها ليس إلا كتجاهل النعامة للخطر المقبل عليها بدفن رأسها تحت الرمال.
إلى هؤلاء أقول أيضاً: إن أعداء المسيحية لا يجدون شيئاً في تعاليمها يستغلونه للهجوم عليها، فيستعيضون عن ذلك بمهاجمتها عن طريق إظهار رجال الدين المسيئين بتصرفاتهم إلى تعاليمها وكأنهم هم الدين المسيحي.
خلال السنوات الثلاثة التي قضاها المسيح على الأرض مع التلاميذ، علمهم كيف يكونوا خداماً للمؤمنين لا أرباباً، وقام بغسل أقدامهم ليقرن قوله بالفعل. قال لهم: "من أراد أن يكون فيكم كبيراً فليكن لكم خادماً، ومن أراد أن يكون فيكم أوَّلَ فليكن لكم عبداً" (متى 20 : 27)
إنّ من يعتقد بأن الكنيسة كمؤسسة وسلطة ليست بحاجة إلى إصلاح، فكأنه يقول بأنها معصومة عن الخطأ، وهذا القول بحد ذاته هو الخطأ عينه. ما علينا إلا أن نفتح كتب التاريخ ونطالع صحف الحاضر!
إنه لمن المؤسف أن يكون هناك من يعتقد بخطأ توجيه النقد إلى السلطة الكنسية علناً، لأن السكوت عن الخطأ خطأ أكبر، والحديث عنه سراً لا يؤدي إلى نتيجة، فالاعتراف بوجود الخطأ لا عيب فيه، إنما العيب هو في السكوت عنه.
تعليق على مجادلة الأنبا جرجي
ما دفعني للكتابة إليكم هم قراءتي للمقال المعنون بـ "مجادلة الأنبا جرجي مع الشيوخ المسلمين" المنشور في مجلتكم بتاريخ 18/ 3/ 2004، والحقيقة أن هذه المجادلة - سواء أكان لها أساس تاريخي حقيقي أم لا- ذات قيمة كبيرة لأي مهتم بموضوع الحوار بين الأديان (كجزء من الحوار بين الثقافات المختلفة) وهو أمر لا تزال له بلا شك أهمية كبيرة في واقعنا الحضاري والثقافي حتى الآن، والقيمة الكبرى لهذه المجادلة هي أنها تثبت للمسلمين الجاهلين بحقيقة دينهم واستناداً لأساسين لا يمكن أن يرفضوهما الأول هو كتابهم المقدس (القرآن) والثاني هو المنطق العقلي البحت، تثبت لهم صحة العقائد الأساسية للدين المسيحي.
لكن ما حزَّ في نفسي وأنا أقرأ هذه المجادلة طرحها لموضوع خلافي بين الطوائف المسيحية له تاريخ سيء كعامل شقاق أساسي في الكنيسة التي كانت واحدة، وأعني موضوع الطبيعتين (ولاحقاً الفعلين أو الإرادتين) عند السيِّد المسيح، وكنتُ أتمنى لو لم تحتوِ المجادلة على ما احتوتُه بخصوص هذا الموضوع واكتفت بإثبات الحقائق الإيمانية المسيحية الأساسية التي يتفق عليها جميع المسيحيين.
أنا لستُ مختصاً باللاهوت (في الحقيقة أنا طبيب بشري)، لكن باعتبار أن كثيراً من الذين سيقرؤون المجادلة سيظنون أن موضوع "الطبيعتين" كما طُرح فيها هو من الحقائق الإيمانية العقائدية للدين المسيحي (خاصةً مع تأكيد توطئة المجادلة - التي أعتقد أنها من تأليف الراهب المرسل الكاثوليكي الذي قام بتحريرها - على سلامة عقيدة الراهب جرجي باعتباره من الروم الملكيين كاثوليكيّ المعتقد)، فإنني وجدتُ نفسي مضطراً للتعقيب على هذا الأمر.
إن أيّ دارس للتاريخ الكنسي يعرف أن هذا الموضوع أثير لأول مرة في الكنيسة عند محاولة بطريرك القسطنطينية نسطوريوس في القرن الخامس الميلادي تفسير سر التجسّد بطريقة خاصة، وهذا ما أدى لاحقاً لانشقاقات كنسية عديدة بلغت ذروتها في المجمع سيئ الذكر مجمع خلقيدونية عام 451 م الذي شقّ الكنيسة الواحدة وأضعف الإمبراطورية البيزنطية بالصراعات والاضطهادات الدينية خلال القرن السادس الميلادي، الأمر الذي كان العامل الأساسي لاحقاً في سقوط سورية ومصر بسهولة بيد المسلمين، هذا مع عدم إغفال دور الراهب النسطوري بحيرا في النشوء الفكري للإسلام في القرن السابع الميلادي.
ما سأذكرُه ليس فتحاً جديداً للجدال الذي اكتسب سمعة سيئة عندما سُمي جدلاً بيزنطياً، لكنني سأستخدم نفس المجادلة موضوع المقال لتوضيح بعض النقاط؛ أعتقد أن الأنبا جرجي كان موفّقاً للغاية في مثاله الذي طرحه لتوضيح ضرورة آلام المسيح لتحقيق فداء الإنسان دون الإخلال بعدالة الله، وأذكّر أنه شبَّه في هذا المثال تجسّد السيِّد المسيح بتسربل الملك بزي العبيد ليظهر للعبد الشرير بصورة عابر طريق عادي، وأسمح لنفسي بأن أضيف للقصة من عندي أن الملك عندما تنكَّر بزي العبيد أوكل لأحد عبيده الأخيار تسيير شؤون المملكة وأعطاه السلطة باسم الملك بل أنه سمح له بارتداء الزي الملكي لكي تعرف الرعايا أن سلطته شرعية كونها مستمدّة من السلطة الملكية الأساسية، وأسأل الآن هل تغيّرت الطبيعة الأساسية للملك (أي جوهره) عندما تسربل بزي العبيد؟!! ألم يبقَ هو الملك حتى عندما ظهر للناس كعبد فقير؟!! وبنفس الوقت هل تغيّرت الطبيعة الأساسية للعبد الخيّر (أي جوهره) عندما ارتدى الثوب الملكي؟!! هل أصبح هو الملك لظهوره بهذا الثوب؟!! في كلتا الحالتين هناك علاقة بين المُلك (الذي تُقصَد به هنا الطبيعة الإلهية) وبين العبودية (التي تُقصَد بها الطبيعة البشرية)، وفي كلتاهما يخالف الجوهر الحقيقي للأمور المظهر الخارجي لها، لكن شتّان ما بين الحالتين!!!
لا أظنّ أن هدفي من هذه التشبيهات خافٍ على أحد، فما أقصده أن العلاقة بين الطبيعتين كانت عند تجسّد السيّد المسيح –حسب المعتقد المسيحي- هي كحالة الملك الذي ظهر بصورة العبد مع بقاء طبيعته الواحدة (أي جوهره الإلهي المساوٍ للآب حسب ما يؤمن كل مسيحي) كما هي "عظيمٌ هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد" (تيموثاوس3،16)، لم تكن العلاقة بين الطبيعتين حين التجسّد أبداً كحالة عبد خيّر سُمح له بأن يرتدي الزي الملكي وأن يمارس السلطة الملكية (مؤقتاً) وأن يظهر للناس كأنه الملك، الحالة الثانية يمكن تشبيهها بما حدث مع بولس الرسول عندما قام بقوة الروح القدس بشفاء الرجل المقعد في مدينة لسترة حيث ظنّ الناس هناك أنه إله "إنّ الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا" (أعمال 14، 12) لكنها حتماً ليست حالة تجسّد السيِّد المسيح، وكما سيبقى الملك ملكاً حتى لو تسربل بزي العبيد، وسيبقى العبد عبداً ولو لبس الزي الملكي، ظلّ سيدنا يسوع المسيح عند تجسّده هو الله (بجوهره وطبيعته الواحدة)، وظلّ بولس الرسول إنساناً (بجوهره وطبيعته الواحدة) حتى عند قيامه بالمعجزات باسم يسوع الناصري.
إن الحديث عن الطبيعتين بدلاً عن الجوهر الإلهي والطبيعة الواحدة في السيّد المسيح بعد التجسّد سوف يؤدي حتماً للخلط بين الحالتين المختلفتين للعلاقة بين الطبيعتين الإلهية والبشرية اللتين ذكرتُهما أعلاه واللتين يجب التمييز بينهما تماماً، وهذا ما نراه في الحقيقة في المثال غير الموفَّق الذي جاء على لسان الأنبا جرجي في المجادلة موضوع كلامنا حين تكلم عن الطبيعتين فشبَّه اتحادهما خلال التجسّد بالسيف الذي تمَّت تحميته بالنار فاكتسب السيف فعل النار حيث يقول (كذلك الجسد.. صار يفعل فعل اللاهوت)، هذا المثال غير الموفَّق برأينا يمكن تطبيقه على حالة بولس المذكورة أعلاه وحالة كل الأنبياء والرسُل الذين قاموا بمعجزات (أي فعل لاهوتي) مع بقاء طبيعتهم الأساسية بشرية (كما يبقى السيف سيفاً حتى لو تمَّت تحميتُه بالنار) ولا يجوز تطبيقه إطلاقاً على حالة تجسّد السيِّد المسيح. إن الخلط والالتباس اللذين يؤدي إليهما تمثيل كهذا لسر التجسّد (وهو كما رأينا نتيجة لاستخدام مفهوم الطبيعتين في السيِّد المسيح) يمكن أن يؤدي للانزلاق إلى ما انزلق إليه بعض أتباع نسطوريوس (ومنهم الراهب بحيرا المشهور على الأرجح) حين غالوا في تأكيد فصل الطبيعتين بعد التجسّد لدرجة أن أتباعهم اللامباشرين (تلاميذ بحيرا) رفضوا الاعتراف بألوهية السيّد المسيح، فأصبح السيّد المسيح عندهم إنساناً ذا طبيعة بشرية حلَّ عليه قبسٌ إلهي (طبيعة إلهية) فصار يقوم بأفعال لاهوتية، وقد رفض هؤلاء الاعتراف بالمسيح أبناً وحيداً لله، لأن هذا التعبير يتضمن حتماً أن جوهر المسيح مساوٍ لجوهر الآب كما أن جوهر أي أبن مماثل لجوهر أبيه. إن خطر هذا الانزلاق هذا الانحراف الكامل عن إيمان الكنيسة المسيحية هو الذي جعل آباءنا قديماً يرفضون الصيغة الخلقيدونية عن الطبيعتين في السيِّد المسيح (ويدفعون بدمائهم ثمن هذا الرفض).
إن خطأ نسطوريوس الأساسي كان حين حاول أن يدرك بعقله الإنساني المحدود ماهية الطبيعة الإلهية غير المحدودة، وأنا شخصياً لا أعتقد أنه كان إنساناً سيئاً بل أعتقد أنه كان صالحاً وكان مسيحياً يؤمن بالحقائق الإيمانية الأساسية وبالتالي بألوهية السيِّد المسيح، لكننا كبشر أي ذوي طبيعة بشرية (وأحدنا حتماً نسطوريوس نفسه) نستطيع نوعاً ما أن ندرك (ولو بطريقة مبهمة أحياناً) ماذا تعني هذه الطبيعة، ندرك صفاتها وندرك قدراتها وندرك الحدود التي لا تستطيع أن تتجاوزها، ولكن هل نستطيع أن ندرك ماهية الطبيعة الإلهية؟!! لقد ظنَّ نسطوريوس (والخلقيدونيون من بعده) مثلاً أن الإحساس بالألم انتقاص من الطبيعة الإلهية، فأصرّوا على مفهوم الطبيعتين بعد الاتحاد ليجنّبوا الطبيعة الإلهية (التي قولبوها حسب عقلهم الخاص) هذا النقص المزعوم، والحقيقة أن نسطوريوس كان منسجماً مع ذاته عندما قال بالأقنومين في السيّد المسيح أكثر من الخلقيدونيين الذين كانت صيغتهم عن الأقنوم الواحد (وبالتالي الجوهر الواحد) والطبيعتين غير المختلطتين في السيِّد المسيح بعد الاتحاد تحمل تناقضاً داخلياً مع ذاتها (وأنا أستعير هنا تعبيراً لمار سويريوس بطريرك أنطاكيا الشرعي في القرن السادس الميلادي)، قد يقول البعض أنني عندما أرفض تعبير الطبيعتين في السيِّد المسيح بعد الاتحاد، وأصرّ على الطبيعة الواحدة والجوهر الواحد الإلهي (المساوي للآب) في السيّد المسيح، أخلط ما بين كلمة الطبيعة وكلمة الجوهر، وأنا أرجو أن يتطوع هذا البعض ليفهمني ما هو الفرق الحقيقي بين هاتين الكلمتين؛ وقد يتهمنى آخرون ممن اعتادوا على تسمية معتقد أمثالي بالمونوفيزيتية أنني أنكر إنسانية السيّد المسيح، وأجيبهم بأننا –كما قلتُ أعلاه- بشر ندرك ماهية الطبيعة البشرية وندرك الحدود التي لا نستطيع أن نتجاوزها فنصبح كالآلهة، لكن من قال لهم بأن الطبيعة الإلهية التي لا نستطيع إدراكها ولا نعرف حدودها لا تستطيع أن تتمثل كل ما في الطبيعة البشرية الانسانية؟ وبالتالي من قال لهم أن السيّد المسيح الله الكلمة المساوي للآب في الجوهر والطبيعة عندما ظهر بالجسد وصار إنساناً كاملاً فيه كل صفاتنا (عدا الخطيئة) فإن ذلك يعني أنه أصبح ذا طبيعتين (أو لاحقاً كائناً فصامياً ذا إرادتين)؟!! هذا الكلام ليس دعوة للا أدرية أو اللاعقلانية عند مناقشة الأمور الإيمانية، فاللجوء لهذين المذهبين الفلسفيين لن يفيدنا كمسيحيين إذا أردنا مجادلة أتباع الأديان الأخرى، لكن بنفس الوقت يجب ألا نرتكب خطأ الآباء القدماء ومنهم آباء مجمع خلقيدونية وكذلك نسطوريوس المسكين الذين أدّى إصرارهم على ادعاء معرفة صفات الطبيعة الإلهية لنتائج تعاكس تماماً ما كانوا يتوخون.
أذكّر هنا أن نزع الألوهية عن السيّد المسيح على يد الأتباع اللامباشرين لنسطوريوس كانت نتيجته أن فقَد الدين (وحتماً لا أقصد هنا الدين المسيحي) دوره التوجيهي الأخلاقي الإنساني كضمير جمعي في المجتمع، فالدين يجب أن يكون كالمنارة يهدي الجميع إلى الدرب الصحيح نحو الله الذي هو الخير المطلق، ولقد كانت تعاليم السيّد المسيح وأعماله على الأرض بالفعل تمثّل هذه المنارة، فكما يدل ضوء المنارة السفن على الطريق الصحيح في عرض البحر (دون أن يستلزم ذلك بالضرورة أن تصل هذه السفن إلى هذه المنارة) تدلّنا هذه التعاليم وهذه الأعمال (وبالخاصة محبته المطلقة للجميع حتى الأعداء منهم وتضحيته بذاته من أجل خلاص البشرية) على ما يجب أن نسعى إليه ونبتغي تحقيقه (حتى لو عجزنا عن الوصول الفعلي لهذا الأمر باعتبارنا بشراً ضعفاء لا يمكن أن نُقارن بالرب الإله)، بدل ذلك أصبح الدين للأسف الشديد تشريعاً لعقائد غريبة تقدّس الغرائز الحيوانية وتدعو لإفناء الآخر فكرياً وجسدياً.
دكتور س. ش.
الأب متى المسكين: أبٌ لي
لست ممن يتشيعون لفئة مسيحية ضد فئة أخرى لأني أرى في هذا تقييداً لحريتي، ولم أقصد أن أتعرف بالأب متى المسكين كمعلم لي من باب الخروج عما يألفه عوام الناس. ذهبت ذات مرة لزيارة المرحوم حلمي صديقي، وبعد أن أكلنا وجبة شهية وأودعني سلامة الله ترك معي مجموعة من الكتب الصغيرة وشريطاً كان هو بداية تعرفي بهذا الصوت المميز والذي لم أعرفه من قبل. أخذت الشريط واستمعت إليه وكثيرا ما ترد إليّ الشرائط من هنا وهناك ممن يرغبون في دعمي في إيماني المسيحي والتي كانت انتقالاً كبيراً من خارج المسيحية إلى المسيحية برحابها المتسعة ومسيحها الرأس. عندما تسمع عظة للأب متى المسكين (وهو لا يحب أن يرى نفسه واعظاً بل إنساناً له عِشرة بالمسيح يأخذك خطوة خطوة إلى أن يصل بك للمسيح وجها لوجه) تجد أن تعليمه مختلفاً. إنه لا يقدم لك نصائح وإرشادات لأنه ما أكثر الواجبات والفرائض التي يلقنها المعلمون لمريديهم، بل هو يأخذك ويقف بك بهدوء أمام وجه المسيح وحبه المتدفق وكأنه يميط حجابا من نوعٍ ما جانبا، فتنكشف لك هذه الأمور المحجوبة، فترى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ترى ما قاله ربنا لـ مرثا: إنْ آمنت ترين مجد الله (يوحنا 11:40). عندما تسمع الأب متى المسكين تشعر أنك (وقد انتقلت أنا نقلة جذرية من دين الآباء والأجداد الذي فُطرت أنا عليه) بأنه يغمرك حب شديد يأخذ بمجامع قلبك تجاه هذا المسيح الذي يحدثك عنه الأب متى وتقول: أريد هذا المسيح. أريده الآن. و تذهب خارجا كطفل يجري هنا وهناك أو كهذا الإبن الضال الذي يهرول للقاء أبيه فتخرّ أمام المسيح ساجدا: ربي وإلهي. كل هذا و الآب متى المسكين يقف جانبا في براءة الطفل ويشاهد حب الله يتدفق وكأنه المحيط يندفق دفقا في قلب المؤمن "لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا".
كنت أتهيب الأرثوذكسية وأخشى أنها ردة من دين تركته إلى دين جديد أستبدلها بها ولكن بقراءة الأب متى المسكين وسماعه عرفت أن الأرثوذكسية ليست دين ولكن هي دعوة لمعرفة الإله المتجسد كي نصير نحن أبناء وبنات الله وهذا هو إمتياز "التألّه" في شراكة للطبيعة الإلهية (2 بطرس 1: 3 و4). أمام الأب متى المسكين الكاهن الأرثوذكسي لن نخشى أن يتهمنا أحد بتهمة الجمود لأن الطقس هنا يصبح مكشوفاً بكل رموزه العميقة المكتنزة بالمعاني، ونعرف أن إيماننا ليس مسائل حسابية ولكنه مليء بالإشارات والدلائل ذات المعاني العميقة، وفي كل ممارسة طقسية نجد سر المسيح مخبئا وعلينا أن نسعى مبتهجين لكشفه أو هو بالأحرى يكشف لنا عن نفسه بنفسه في السرّ؛ والمسيحية هنا هي مسيحية سرائرية حيث الجملة الواحدة في بساطتها التي يفهمها أي طفل هي أيضا مركبة وذات بعدٍ أكثر من واحد. عندها نعرف أن إيماننا المسيحي ليس مجرد "عقائد" و "أركان إيمان" بل هو إيمان سرائري كله أسرار يهمس فيها صوت المسيح بقوله: "الذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي" (يوحنا 14: 21). هنا المعرفة قائمة على وجود الحب أولا وبدون الحب لن نعرف أسرار الإيمان، ولتقل كتب العقائد ما شاءت فالإيمان المسيحي هنا ليس أركاناً وفرائضَ إيمانٍ بل هو "سر الرب" و الذي هو لخائفيه.
أيضا بهرني الأب متى المسكين في حبه الصادق والواثق للمسلمين، وشتان بين الحب عن ثقةٍ وصدقِ نفسٍ والحب عن مبدأ "مجبر أخاك لا بطل". لا تملك أمامه أن ترى الناس بتقسيمات عقائدية: هذا إلى الجنة و ذاك إلى النار..، بل ترى الخليقة كلها مشمولة في حب الله الأبدي الأزلي وجميعهم "ذريته". هنا يستعلن خلاص المسيح للجميع بأني يعلن النور عن ذاته والنور هنا يقوم بعمله دون حاجة إلى أبواق وصراخ الوعاظ وحسب المؤمن عندئذ أن يثبت في اتحاده بالمسيح والمسيح يجذب الناس إليه.
تعلمت منه أن المسيحي الحقيقي يطبق حرفيا وصايا المسيح فهي ليست لزمن غابر تحتمل المجاز بل هي وصايا حرفية، وعندما يطلب منا أن نصفح حتى وإن لم نشعر بالصفح فهذا إلزام لنا وعلينا وإلا بقينا في الظلمة الخارجية حيث البكاء وصرير الأسنان. عندها نفهم جيدا معنى انتصار الصليب وأن نغلب ذواتنا كما يؤكد في تعليمه وإلا فكلامنا عن قيامة المسيح وغلبته يصبح مجرد شعارات فارغة.
عند الأب متى المسكين، التنسّك ليس جهاداً فردياً بل جهاد النعمة كما علم القديس مار إسحق السرياني، فكما أن الخلاص بالنعمة فكذلك الجهاد يكون أيضا بالنعمة، وعندها علينا أن نذكر ما قاله لي ذاك القبطي العجوز: "يا بني إجمد فيه وهو ها يجمد فيك". لا نتكل في جهادنا على مفهوميتنا أو محاولاتنا الفردية بل الرب نفسه يعمل فينا، والرب نفسه يصلي فينا بروحه، والرب نفسه يجدد إنساننا الباطن العتيق.
مع الأب متى المسكين أحببت الإنجيل وأردت أن آكله أكلا وأقرأه مرارا وتكرارا فأجد أني أمام "غمر ينادي غمر" وكلام أبعاده عميقة بلا حدود وفيها صوت ربنا لبطرس: يا بطرس ابعد إلى العمق. مع الأب متى المسكين لن نقرأ الآية ونقف عند المعنى الظاهر لنا بل سنجد المسيح أيقونة الآب يكشف لنا وجه الله الجميل فيها، ونريد من خلال الآية أن ندخل لقلب المسيح ونقيم هناك. كم أنا شاكر أن تكرم صديقي روماني وأكرمني في عطائه بمجموعة سي دي "أقراص مدمجة" لجميع عظات الأب متى المسكين. ويا للعار أن هذا الكنز عندي ولا أغترف منه من يوم إلى يوم أو من أسبوع لأسبوع، ولا عجب فيما يتبع ذلك من قحط روحي وجفاف وسلوك جسداني. نحن بحاجة إلى معلمين ومرشدين مثل الأب متى حتى يأخذوا بيدنا إلى المسيح مباشرة ونتعلم أن ننتصر على غضبنا وأن لا نثأر لذواتنا بل ليكون شعارنا دوما كما قال الأب متى في تفسيره لرسالة أفسس مقتبسا آية إشعياء النبي: "حقي عند الرب" (إشعيا 49: 4) وحسبنا إله كهذا وهو نفسه كفاية جميع حقوقنا وما نريد. هذا الرجل على مثال المسيح يرفض أن ينشق بل يخضع خضوع المسيح الكامل لمن اضطهدوه وحرقوا كتبه وازدروا بها متحدثا بكل احترام وحب ووقار لمن يرأسوه وآبائه في الرهبنة، فعرفنا أن المسيح حقا هو خضوع التواضع لا غطرسة الاعتداد بالذات ورد الصاع بمثله مما يؤدي للشقاق والانقسام والمسيح يضم كنيسته إلى وحدته السرائرية مع أبيه.
تيموثاوس إبراهيم،
مواضيع مماثلة
» * قصص قصيرة : الميت الحي - التواجد المزدوج - تجربة تحضير الارواح - تصديق عقد زواج
» زواج البنت البائر وموافقه الاهل على الشريك الشيخ الروحانى محمد القبيسي 0020101500317
» * قصص القرآن - يونس - نساء من القرآن - زواج عمر وهجرته - وفاة فاطمة
» زواج البنت البائر وموافقه الاهل على الشريك الشيخ الروحانى محمد القبيسي 0020101500317
» * قصص القرآن - يونس - نساء من القرآن - زواج عمر وهجرته - وفاة فاطمة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى