* اليهودية بين دنيوية البابلية وسماوية العرفانية - الدور العراقي في اليهودية
صفحة 1 من اصل 1
* اليهودية بين دنيوية البابلية وسماوية العرفانية - الدور العراقي في اليهودية
اليهودية بين دنيوية البابلية وسماوية العرفانية
هذا هو برج بابل الذي قالت عنه التوراة: ((وكانَ لأهلِ الأرضِ كُلِّها لُغَةٌ واحدةٌ وكلامٌ واحدٌ. فلمَّا رحَلوا مِنَ المَشرقِ وَجدوا بُقعَةً في سَهلِ شِنْعارَ، فأقاموا هُناكَ. وقالَ بعضُهُم لِبعضٍ: «تعالَوا نصنَع لِبْنًا ونَشْوِيهِ شيُا»، فكانَ لهُمُ اللِّبْنُ بَدَلَ الحِجارَةِ والتُرابُ الأحمرُ بَدَلَ الطِّينِ. وقالوا: «تعالَوا نَبْنِ لنا مدينَةً وبُرجا رأسُهُ في السَّماءِ. وَنُقِمْ لنا اَسمًا فلا نتَشتَّتُ على وجهِ الأرضِ كُلِّها». ونَزَلَ الرّبُّ لِيَنظُرَ المدينَةَ والبُرج اللذَينِ كانَ بَنوا آدمَ يَبنونَهما، فقالَ الرّبُّ: «ها هُم شعبٌ واحدٌ، ولهُم جميعًا لُغَةٌ واحدةٌ! ما هذا الذي عَمِلوه إلاَ بِدايةً، ولن يصعُبَ علَيهم شيءٌ مِما يَنوونَ أنْ يعمَلوه! فلنَنزِلْ ونُبَلبِلْ هُناكَ لُغَتَهُم، حتى لا يفهَمَ بعضُهُم لُغَةَ بعضٍ».فشَتَّتَهُمُ الرّبُّ مِنْ هُناكَ على وجهِ الأرضِ كُلِّها، فكَفُّوا عَن بِناءِ المدينةِ. ولِهذا سُمِّيَت بابِلَ، لأنَّ الرّبَ هُناكَ بَلبَلَ لُغَةَ النَّاسِ جميعًا، ومِنْ هُناكَ شَتَّتَهُمُ الرّبُّ على وجهِ الأرضِ كُلِّها.)) سفر التكوين : 11
إن الخطأ الكبير الذي وقع به غالبية من تعاملوا مع موضوع اليهودية، انهم خلطوا بين نوعين من اليهودية:
ـ اليهودية الاصلية، أي يهودية العهد القديم والتلمود، وهي اليهودية الاصلية الرسمية التي نشأت في بابل وبقيت محصورة لحوالي ألف عام بين الجاليتين اليهوديتين في العراق وفلسطين، وهي يهودية بابلية دنيوية.
ـ اليهودية المحدثة، أي اليهودية الروحانية العرفانية التي نشأت خصوصاً في الاسكندرية وعالم البحر المتوسط. وتعود جذور هذا التحول الى فلسطين والعراق مع السيطرة اليونانية على المنطقة منذ القرن الرابع ق.م وقد تعزز هذا التحول نحو الروحانيات والفلسفة في الاسكندرية التي تحولت الى مركزاً أساسياً للنشاط الثقافي اليهودي. وقد بلغ هذا التطور الروحاني ـ الفلسفي ذروته في العصر الاسلامي في بغداد أولاً ثم خصوصاً في الاندلس مع مذهب القبالا، وهو المذهب الروحاني التصوفي (السماوي التوحيدي) المأخوذ من التصوف الاسلامي.
يهودية العهد القديم والتلمود
الديانة اليهودية، بصورة ما، تعتبر ديانة عراقية أولاً، مع بعض التأثيرات الكنعانية الفلسطينية. ويمكن تحديد الخواص البابلية في اليهودية كالتالي:
1- اليهودية عقيدة أرضية دنيوية وليست سماوية:
إن النقطة الاساسية التي تجمع بين العقيدة اليهودية والديانة العراقية (البابلية ـ الآشورية)، هي :
((الايمان بالحياة الدنيا فقط والاعتماد على رب سماوي جبار بانتظار المسيح المنقذ، أي تموز لدى العراقيين)). أي أن الديانتين العراقية واليهودية، ليست سماويتين، بل (دهريتين دنيويتين) لأنهما لا تؤمنان بالحياة الآخرى . فليس هنالك يوم حساب وجهنم وجنة موعودة، بل ان الانسان خيره وشره يلاقيه في حياته، ولا تخلده إلاّ أعماله ونسله. ويمكن اختصار هذه الفكرة بمقولة كلكامش الشهيرة: ((لقد قدرت الآلهة الفناء للانسان/ واستأثرت بخلود الحياة / فاملأ بطنك بملذات الطعام / وابتهج ماشئت ليل نهار/ فهذا هو نصيبنا من الدنيا)). لكن يتوجب التأكيد على انه رغم (دنيوية) الديانة العراقية، إلاّ أنها كانت (أخلاقية) تبتغي العدالة والانسانية، ويكفينا دليلاً (شريعة حمورابي).
ان العقيدة السماوية الحقيقية لم تبدأ مع اليهودية الاصلية، بل مع (العقيدة العرفانية ـ الغنوصية) التي تعتبر المسيحية والصابئية من أولى أديانها. هنالك خطأ كبير وقع فيه معظم مؤرخي اليهودية، عندما اعتقدوا إنها متأثرة بالديانة المصرية، إعتماداً على ادعاءات التوراة نفسها بأن المؤسس الأول لليهودية (النبي موسى) قد عاش في مصر. والحقيقة ان اليهودية الاولى خالية تماماً من جوهر الديانة المصرية: ((الأيمان بالحياة الاخرى ويوم البعث والحساب)). وهذا الايمان المصري هو الذي تبنته العرفانية. بينما (اليهودية) تحمل جوهر الديانة العراقية : الايمان بالحياة الدنيا فقط والاعتماد على رب سماوي جبار بانتظار المسيح ـ تموز ـ المنقذ. وان الحياة الأخرى مجهولة ويوم الحساب غائب. وإن روح الميت، كما في الديانة العراقية والكنعانية كذلك، تذهب الى (العالم السفلي) الذي يسمى بالعبرية (شيؤل) وقد ترجمت الى العربية بـ (الهاوية، والجب الاسفل، والحفرة السفلى). واليها يذهب الاخيار والاشرار دون أي ثواب وعقاب.(طالع: سفر الامثال27 : 207/ كذلك: أيوب10 : 21ـ 22 و7 : 9ـ 10 / كذلك التكوين 37 :36 ) والكثير من السور.
حتى مفهوم الجنة في اليهودية يماثل الديانة العراقية. فأن (جنة عدن) المذكورة في التوراة، هي جنة مفقودة منذ أن طرد منها (آدم)، وهي تمثل الماضي ولا توجد في المستقبل. وموقع هذه الجنة في العراق بين آشور والفرات. (التكوين2: 7-16 ). وهي شبيهة بجنة (دلمون) التي تحدث عنها السومريون. أما جنة المستقبل بالنسبة لليهودي هي (فلسطين الارض الموعودة). إن وعد اليهودية وعد أرضي وليس سماوي.
وأيضاً على طريقة العراقيين والكنعانيين، فأن الثواب والعقاب يتم في الحياة الدنيا وليس الآخرة، عبر زيادة الرزق والعمر والصحة: ((أكرم أباك وأمك لكي يطول عمرك في الارض التي يعطيك الرب الهك)). (الخروج 20 :12)و (( يا ابني لا تنس شريعتي ولا ينس قلبك وصاياي، فإنها تزيدك طول إيام وسني حياة وسلاماً)). (الامثال 3 : 1ـ2 ).
2- اليهودية عقيدة تعددية وليست توحيدية:
ثمة فكرة تاريخية خاطئة فرضت نفسها لأسباب عديدة، تعتقد بأن (اليهودية) تمثل قطيعة تامة مع الماضي (الوثني التعددي) وإنها تمثل ولادة مرحلة جديدة من الميراث الديني التوحيدي. لكن الدلائل التاريخية تشير الى العكس تماماً : ان اليهودية هي (خاتمة) لمرحلة (الوثنية) السابقة. صحيح إنها شكلياً تخلصت من تقديس (الأصنام) والصور، لكنها لم تتخلص من التعددية، كما يعترف بذلك كل من بحث في اليهودية. هنالك الأله (يهوه) الذي هو اله خاص باليهود وليس البشرية جمعاء. وهنالك أيضاً (ايلهم) وتعني حرفياً (الآلهة)، وهذا دليل على الاصل التعددي ليهودية التوراة.
ثم ان الأهم من كل هذا إن اليهودية تعتبر ان (يهوه) ربها القومي الخاص بها، وهذا يعني إنها تقر بأن لكل قوم إلههم الخاص، وهذا ينسف تماماً فكرة التجريد والتوحيد المبنية أساساً على الاعتقاد بوجود (رب واحد) لكل الأمم ولكل الكون. وهذه الفكرة المطلقة لم تتوضح إلاً فيما بعد في (العرفانية التوحيدية).
3- اليهودية عقيدة عرقية إنعزالية :
أما الخاصية الجوهرية الكبرى التي ميزت اليهودية عن جميع الاديان، إنها جعلت (الانتماء العرقي العبري اليهودي) أمراً إلهياً مقدساً. بل الاعظم من هذا، إنها آمنت بأن هذا (الانتماء القومي اليهودي) يجب أن يكون أمراً مقدساً من قبل الانسانية جمعاء!! والطريف إن اليهود قد كونوا هذه العقيدة القومية المقدسة في (بابل)، بل اقتبسوها من جوهر الديانة العراقية: عقيدة تموز المخَّلص.. كيف؟!ّ
إن عقيدة المخَّلص كانت جوهر الديانة العراقية منذ السومريين حتى مجيء المسيحية، أي خلال أكثر من 3000عام. وهذه العقيدة بأختصار، إن إله السماء (ايلو ـ العالي) يبعث (تموز ـ من السومري وتعني الابن المنبعث أو المخَّلص) ابنه أو روحه أو قوى خصبه الى الارض (عشتار) لكي يخصبها وينشر الحياة لدى البشر. وهذا يحصل عادة في مطلع الربيع (21نيسان) وهو بداية السنة العراقية. ثم يغيب عند أول الصيف والجفاف (شهر تموز) حيث يظل يعاني في (ظلمات العالم السفلي) من أجل العودة الى البشر ومنحهم الخصب، وتظل (عشتار ـ الهة الارض والخصب الانوثي) تكافح كل العام وتدخل العالم السفلي وتقنع الهة الموت بتحرير (تموز) الذي يعود من جديد لكي يخَّصب الارض ويعيد الحياة الى البشر. لهذا فأن العراقيين كانوا يصَلون طيلة العام من أجل (عشتار) لكي تعينها الآلهة وتتمكن من العودة بـ (تموز) المخَّلص مانح الخضرة والحياة([46]).
إن (عقيدة المنقذ ـ المهدي المنتظر) هذه، قد تبناها اليهود، أولاً بصورة مقاربة للبابليين، إذ تحول (تموز) الى (مشيح ـ المسيح) المخلص، الذي سيأتي لكي ينقذ اليهود (الارض ـ عشتار) من الذل والمنفى(الجفاف والقحط)([47]). لكن فيما بعد، وفي ظل حياة المنفى في بابل، تحولت هذه العقيدة على يد النبي (اشعيا الثاني 550ـ 540 ق.م ) الى عقيدة خلاص قومية ـ عالمية فيها الكثير من العجب والخيال. (نبوءة اشعيا 40 ـ55 ). فأن المسيح المنقذ صار اليهود أنفسهم، الذين يعانون عذابات المنفى، إذ اختارهم الرب قرباناً لخلاص البشرية، وهم (شعب الرب المختار) من أجل إنقاذ العالم: ((إني قد جعلتك نوراً للأمم لتكون خلاصي الى أقاصي الارض)) (نبوءة اشعيا : 49ـ6 ). وان الرب قد عاقبهم بالمنفى لأنهم ما كانوا أمناء لتلك الرسالة. وان خلاصهم يكمن في العودة الى (الارض الموعودة أورشليم) لكي تعود الحياة من جديد الى العالم أكمله، وينهض النور الازلي وتحج كل الامم الى المدينة المقدسة لعبادة الرب : ((فأنكم بفرح تخرجون وبسلام ترشدون والجبال والتلال تندفع بالترنيم أمامكم وجميع أشجار الصحراء تصفق بالأيدي... ويكون ذلك للرب إسماً وآية أبدية..)) (سفر أشعيا 55 : 12ـ13 ). علماً بأن هذه النبوءة تتحدث عن (رجل مخلص)، لهذا فقد فسرها المسيحيون فيما بعد بأنها تتحدث عن مجيء (المسيح المخلّص)، بينما أصر اليهود على انها تتحدث عن (اليهود) أنفسهم كمخلّصين للبشرية. وقد عزز التلمود هذه الفكرة، انه في عصر الخلاص (المشيحاني) سيصبح كل الناس عبيداً لجماعة اسرائيل.
لهذا، يحق القول، ان كان جوهر الاسلام والمسيحية، العمل الصالح في الحياة الدنيا من اجل استحقاق ملكوت السماء والجنة الموعودة، فأن جوهر اليهودية هو تقبل العذاب من أجل بلوغ (ملكوت الارض الموعودة ـ أورشليم) !!
إن تجربة المنفى البابلي حددت منذ البدأ جوهر التوراة وأخلاقيتها. الكاتب الأسرائيلي المتمرد (اسرائيل شاحاك) لخص تاريخ الاخلاق اليهودية كالتالي : من ناحية كره كل الناس غير اليهود (غيويوم ـ العوام) وخصوصاً الفلاحين لأنهم النقيض التام للمنفيين بسبب ارتباطهم المباشر والدائم بالأرض. كذلك التقرب من الحكام والمتنفذين والأغنياء والتقرب لهم مهما كانوا أجانب وغرباء عن اليهودية ودعم طغيانهم ضد شعوبهم. حسب (شاحاك) هذه خصال تاريخ الجماعات اليهودية في كل مكان وزمان، مع وجود استثناءات كثيرة، لكن تبقى أقلية. ان طبيعة اليهودية الانعزالية والاستعلائية وتقديس المنفى فرضت على اليهود دوراً محدداً في التاريخ، هو دور (وظيفي) أي دور الوسيط والمساعد الذي يقوم بأعمال ضرورية للمجتمع لكنها غير مقبولة اجتماعياً.
اليهودية والصراع المصري ـ العراقي
بما ان بلاد الشام عموماً وفلسطين خصوصاً كانت ساحة للصراع بين القوتين المتنافستين العراقية والمصرية، فأن التوراة تأثرت كثيراً بهذه المنافسة. يلاحظ أنه في الأجزاء البابلية من العهد القديم تلك الحكايات التي لا تخلوا من (النفاق) للعراقيين ضد خصومهم المصريين: قصة ابراهيم وسارة مع الفرعون، ثم يوسف وزليخة، ثم موسى والفرعون. بل إن قصة نوح مع ولديه سام وحام وخلق الجنسين الابيض والأسود، يمكن وضعها في هذا السياق العنصري ضد المصريين (أبناء حام!). من أكثر الأمثلة طرافة على رغبة هؤلاء المنفيين الفلسطينيين العبرانيين للتقرب من العراقيين، انهم ابتدعوا فكرة جدهم (ابراهيم) الذي نزح من (أور الكلدانيين) وكذلك زوجته سارة من نفس الأصل. ولكي يميزوا أنفسهم عن (القبائل البدوية) رغم انهم هم أنفسهم من أصول بدوية. قالوا بحكاية اسماعيل وأمه هاجر الجارية المصرية!! وللتعويض عن حالة الشعور بالضعف التي ظل يعاني منها هؤلاء المنفيين أمام أهل بابل، فأن التوراة لا تخلو من الحكايات البطولية والمفاخر الاسطورية : بطولات داود وشمشون وامبراطورية سليمان ومغامرته الشهيرة مع بلقيس.
اليهودية والعرفانية التوحيدية السماوية
إن اليهودية لم تبق معزولة عن التيار العرفاني الذي اكتسح منطقة المشرق بعد أن حل محل العقائد الدينية السابقة واستوعب العقائد الآسيوية واليونانية. وقد لعبت الجالية اليهودية في الاسكندرية دوراً مهماً في هذا النشاط العرفاني ـ الفلسفي، منذ القرن الثالث ق.م. فبعد أن اكتملت كتابة التوراة (اسفار موسى) في بابل في مطلع القرن الثاني ق.م، ثم ترجمته عام 150 ق.م الى اللغة اليونانية في الاسكندرية (الترجمة السبعينية)، أغلق ما يسمى بباب الوحي وأتخذت التوراة شكلها النهائي. لكن حركة البحث والاجتهاد استمرت خصوصاً في الاسكندرية بتأثير العرفانية المشرقية والفلسفة اليونانية، فظهرت الاسفار والكتابات الجديدة التي منحت بعداً توحيدياً روحياً لليهودية، مثل (سفر أخنوخ الاول / القرن ق.م) و(سفر عزرا الرابع / القرن الاول م). و(كتاب اليوبيليات / القرن 1 ق.م) و(وصايا الاسباط الاثنى عشر/ القرن 1 م) وكتب عديدة من أشهرها (نصوص قمران) وقد جهد هذا التيار الروحاني العرفاني، الى اصلاح النواقص الكبيرة في اليهودية :
· تخطي محدودية الرب (يهوه) الذي كان خاصاً باليهود، واعتبار الله رباً واحداً للخليقة جمعاء وهو معني بخلاص الانسان من عذابه. وهذا يعني التخفيف من التعصب الديني والعرقي والتقرب من المفهوم الانساني الشمولي.
· تبني فكرة الشيطان الكوني المسؤول عن إغواء الأنسان ودفعه للخطيئة. واعتبار التاريخ بغاية كبرى هي الخلاص من الشر والصعود الى ملكوت السماء والنور.
· الايمان بفكرة القيام ويوم الحساب والجنة والنار. وتوضيح فكرة المخَّلص (المسيح المنتظر).
· إعادة النظر بالموقف الاخلاقي الغامض في اليهودية. حيث احتوت التوراة على أحداث ومواقف لا أخلاقية وغير أنسانية نسبت الى الانبياء والشخصيات المقدسة. مثل أفعال الزنا والزنا بالمحارم وإبادة غير اليهود والخداع والغيرة، وغيرها الكثير الكثير من الامور اللاّ أخلاقية. وقد قام هذا التيار الجديد بالتأكيد على مسؤولية الانسان الاخلاقية وعدالة الاله، وجعل الاخلاق والانسانية ضرورية مثل الطقوس والشريعة([53]).
وقد بلغ هذا التيار العرفاني الروحاني ذروته في العصر الاسلامي مع تكون (مذهب القبالا) التصوفي، الذي أصبح مصدراً أساسياً معارضاً للتلمود.
لقد تجلى هذان التياران، الدنيوي والروحاني، في ظهور طائفتين في فلسطين :
ـ الفريسون، وهم متشددون ويسمون بالأحبار أو الربانيين، هم زهاد رهبانيون لا يتزوجون، لكنهم يحافظون على مذهبهم عن طريق التبني، يعتقدون بالبعث والملائكة وبالعالم الآخر.
- الصديقون، وهي تسمية تهكمية إذ تعني عكسها فهم ينكرون البعث والحساب والجنة والنار، ولا يعترفون بالتلمود، كما ينكرون الملائكة والمسيح المنتظر. وهم التيار الدنيوي الواقعي وقد شكلوا طبقة الاغنياء.
مذهب القبالا، أو التصوف اليهودي
(القبالا ـ קבלה) ومعناها(القبل والسابق، أي الموروث) وهو الاسم الذي يطلقه اليهود على تيار(العرفانية والتصوف) لديهم. والتصوفاليهودي يرتكز على كتابين مهمين الأول كتاب (نشيد الأنشاد) في العهد القديم والثانيكتاب (زوهار ـ الظهور) (זוהר) (المظهر والمفخرة). وينسب تأليف هذا الكتاب إلى الكاهن العراقي (شمعون بن يوخاي) من القرن الثاني للميلاد، ولكن المؤرخين يعتقدون بأنه من تأليف موسى الغرناطي (1250-1305 )، في الاندلس. ان (القبالا) أكثر روحانية وحرية في تفسير اليهودية وربطها بالعرفانية من تلك التي اتبعها الفلاسفة المتدينين اليهود مثل (ابن ميمون وابن غابيرول وإبراهيم ابن عزرا) وغيرهم. ومن الواضح انها متأثرة كثيراً بتيار الاشراق الاسلامي وفلسفة (ابن عربي). لكن من أهم خصوصيات هذه (القبالا) انها تميل الى السرية والسحروالاعتقاد بما يسمونه بـ (العلم السري)، وأعداد الحروف ورموز الطبيعة وألغاز الرياضيات. ويؤمنون بأن الذاتالالهية العليا (אינסוף) تتجلى من خلال (العوالم العشرة) (עשר הספירות). ويبدو إن هذه (القبالا) وكتابها (زوهار) قد بدأ يحل محل (التلمود) الذي خلق مشاكل كثيرة لليهود في العالم وخصوصاً في المجتمعات المسيحية وبَرَّرَ العنصرية ضدهم
الدور العراقي في تأسيس اليهودية
الشمعدان اليهودي بفروعه السبعة، ويعتقد اليهود انه رمز الشمعدان الأكبر القديم - المصنوع من الذهب الخالص الذي كان يوضع داخلخيمة الاجتماع في هيكل سليمان. وجاء في سفر زكريا (4 /11- 13) أن شعلاته السبعة - أعين الإله الجائلة في الأرض كلها. لكن بعض اليهود يعتقدون بأن شعلاته السبعةترمز إلى الكواكب السبعة. علماً بأن الرقم سبعة مقدس لدى العراقيين القدماء لأنهم كانوا يعبدون الكواكب المقدسة السبع التي كانت معروفة في تلك الحقبة
تدل جميع الوثائق الآثارية والتاريخية التي تم العثور عليها في الشرق الاوسط، على ان اليهود واليهودية قبل السبي البابلي (القرن السابع ق.م) لم يرد لهم إلاّ نتف عابرة وغامضة لا توحي بأية أهمية أو دور واضح. فليس هنالك أية إشارة تدل على وجود ديانة ما أسمها (اليهودية). وكل ما تذكره المصادر هي إشارات عابرة عن دويلات صغيرة (مشيخات) في فلسطين إسمها (إسرائيل) و (يهودا). يعني مثل جميع الدويلات التابعة التي تأسست في المنطقة عبر التاريخ، مثل مواب وادوم والبتراء والحضر وبصرى والحيرة، وغيرها.
ولم يدخل اليهود التاريخ السياسي والديني، إلاّ بعد السبي البابلي ومن خلال الدور الفعّال والحاسم للجالية اليهودية في بابل، بحيث يصح إن تأسيس اليهودية كديانة متكاملة تم في بابل، وان اليهودية تعتبر ديانة عراقية أولاً قبل أن تأخذ بعدها العرفاني الروحاني العالمي. يمكن تحديد الدور العراقي في تأسيس اليهودية بالمراحل الثلاثة التالية:
أولاً : تدوين الكتاب المقدس في بابل // ثانياً : قيام يهود بابل بنقل اليهودية الى فلسطين // ثالثاً : كتابة التلمود البابلي.
أولاً : تدوين الكتاب المقدس في بابل
إن (الكتاب المقدس ـ العهد القديم)يتكون من قسمين: (التوراة) وتضم الاسفار (أي الكتب أو النصوص) الخمسة الاولى التي تنسب الى النبي موسى. ثم اسفار الانبياء، وهي كتب أنبياء اليهود، ونصوص تاريخية وتسبيحية متنوعة، مثل (المزامير ـ الزبور) داود. ويدعي اليهود ان هذه الاسفار قد كتبت بالعبرية (فرع من الكنعانية الفلسطينية)، لكن الوثائق التاريخية تميل الى انها قد كتبت في بابل باللغة الآرامية الشرقية (العراقية).
يتفق غالبية الباحثين في تاريخ الكتاب المقدس، إنه قد كتب من قبل اليهود أثناء سبيهم في (بابل) بين القرن السابع حتى القرن الثالث ق.م. أو في أحسن الاحوال، انهم أعادوا كتابته بالاعتماد على ما ورثوه من لفافات متنوعة المصادر والتواريخ والحاوية على معلومات متناقضة ومتكررة، بالاضافة الى ما حفظته ذاكرتهم. ان هذا التناقض والتكرار في أخبار وحكايات التوراة هو الذي جلب انتباه الباحثين الاوربيين منذ القرن السادس عشر، بل إن أول من أعلن شَكَّه بأن كاتب التوراة هو (موسى)، الفيلسوف اليهودي (سبينوزا). لقد دونت باللغة الآرامية العراقية، وبالاعتماد على المصدرين التاليين:
1- الميراث الشفاهي الفلسطيني المحفوظ في ذاكرة العبرانيين من حكايات وأساطير ومعتقدات، جلبوها معهم من حياتهم السابقة في فلسطين. وهذا التراث الشعبي، حاله حال أي تراث شفاهي فيه الكثير من الصحيح والكثير الكثير من الخيالي والمضخم. ولنا مثال على ذلك السِيَرْ الشعبية العربية عن عنتر والبسوس وبني هلال، التي أخذت أحداثاً وشخصيات تاريخية حقيقية ولكن ضَخَمَتْها أضعاف وأضعاف وأعادة ترتيبها زمانياً ومكانياً. وهذا يفسر ما جرى مع التاريخ اليهودي الفلسطيني الوارد في التوراة عن خوارق النبي موسى وبطولات داود والملك سليمان الذي حكم الانس والجن، وغيرها من المآثر المضخمة والمتخيلة، والتي لم يتم العثور أي سند آثاري ولا تاريخي يؤكد صحتها. فالتوراة لها قيمة أدبية ودينية وتراثية، ولكنها لا يمكن أبداً أن تصلح كسند تاريخي.
2- الثقافة البابلية العراقية بجميع مخزونها العريق الديني والادبي والعلمي، التي شَكَلَّتْ المصدر الثاني الكبير أو ألمصهر الذي أعاد فيه اليهود صياغة ميراثهم الشفاهي وتجديده شكلاً ومضموناً. وبسبب تأثير الثقافة البابلية عليهم ونشوء نخبة متعلمة قرر اليهود حينها كتابة تاريخهم الشعبي وعقيدتهم الدينية الشفاهية، في كتاب أسموه (التوراة، أي التراث) وهذه التسمية بحد ذاتها تدلنا على الغاية من هذا الكتاب، أي (حفظ تراث الاسلاف).
وهذا يفسر إحتوء التوراة على الكثير من الميراثات العقائدية والثقافية العراقية، بحيث يصح القول ان التوراة أقرب ما يكون كتاباً بابلياً. إذ يتفق الباحثون على اقتباس التوراة للأمور التالية من الميراث العراقي القديم:
ـ اسطورة خلق الكون والانسان / جنة عدن والفردوس المفقود / الطوفان ونوح / قصة هابيل وقابيل / أصل الانسان واللغات وبرج بابل / طفولة سرجون وطفولة موسى / محاربة قوى الشر / غضب الرب وانزال الكوارث / العهد بين الرب والعبد / قوانين حمورابي والوصايا العشر / البكاء على تموز وانتظار المُخَلّصْ / أناشيد الزواج المقدس والمزامير ونشيد الانشاد / صبر أيوب / وغيرها من الحكايات والرموز التي لا تعَّد. أما من الناحية الدينية فأنهم اقتبسوا الكثير من الميراث العراقي ومعتقداته الدينية: اقتبسوا يوم (السبت) الذي كان يوم عطلة (سبوت وراحة) ونهاية الأسبوع لدى العراقيين. والطقوس والأزياء . أما عادة الختان فقد جلبها معهم اليهود من فلسطين وربما هي بتأثير مصري.
ثانياً : يهود بابل يعيدون تشكيل اليهودية في فلسطين
تمكن الفرس من اسقاط (بابل) سنة 539 ق.م التي كانت آخر دولة عراقية في العصر القديم. أصدر الملك قورش مرسوماً بدعوة اليهود وتشجيعهم من أجل الرجوع إلى ديارهم وإعادة بناء الهيكل في أورشليم، لكن غالبية اليهود رفضوا العودة، بل فقط فريق منهم بقيادة (زوربابيل) حفيد (يهوياقيم) ملك يهودا الأخير. هكذا جاءت القافلة الأولى الى فلسطين مؤلفة من عدة عشرات الآلاف من اليهود ومعهم الآلاف من عبيد بابل من غير اليهود. إن رفض الغالبية هجر بابل يعود الى أنهم كانوا يعيشون حياة رخاء، وخصوصاً الأثرياء منهم وأصحاب المناصب. كما إن غالبية الجيل الأول من السبي قد توفوا، حيث مضت أكثر من ستين عام على السبي، ولم يكن الجيل الثاني المولود في العراق يشعر بالحنين إلى فلسطين.
عزرا البابلي منجز الدين اليهودي
كان اليهود العائدون الى فلسطين، متعصبون حتى ضد إخوانهم الذين بقوا في فلسطين، بحيث عاملوهم باحتقار باعتبارهم منحرفين لأنهم قد تزاوجوا مع إخوتهم الكنعانيين. ولكن رغم ذلك التعصب والحماس، فأن مشروع إعادة بناء الهيكل ما كان ناجحاً، حتى بعد مرور أكثر من قرن على العودة. بعد ذلك قام (نحميا وعزرا) بمحاولة ثانية لترتيب حال اليهود هناك. في عام (444ق.م ) رحلا من بابل الى فلسطين وقد اصطحبا معهما ألف وسبعمائة يهودي بابلي. لقد تمكن (عزرا) بعد جهود كبيرة من إنشاء تنظيم ديني صارم أجبر يهود فلسطين بالقسم على التمسك بعهد موسى، ورفض تزويج بناتهم لغير اليهود، بل حتى التخلي عن زوجاتهم غير اليهوديات واعتبار نسلهم أبناء زنا. وصار الكهنة هم الحكام الآمرين. إن هذه المجموعة البابلية بقيادة عزرا هي التي قامت بكتابة ما سمي فيما بعد بـ (التلمود الفلسطيني). ومنذ ذلك الحين صارت اليهودية ديانة محدودة ومتميزة، تحمل صفات الانغلاق العرقي والديني. وأمست الطقوس الشكلية مقدسة وصارمة مثل يوم السبت والصلاة في هيكل أورشليم والاحتفال بالاعياد والمناسبات اليهودية المعروفة.
ثالثاً : كتابة التلمود الفلسطيني والبابلي
التلمود كتاب ضخم جمعت فيه أحاديث اليهود وأحكامهم وفقههم وكل كتاباتهم التي أعقبت انجاز التوراة، خلال حوالي ألف عام، أي من القرن الخامس (ق.م) حتى القرن الخامس الميلادي. إن كلمة (التلمود) تعني (التلمذة والتعلم).
لقد بقي العراق المقر الاساسي للديانة اليهودية، حتى بالنسبة ليهود فلسطين. فرغم انتقال الكثير من اليهود الى فلسطين (أرض الميعاد)، إلاّ أنهم بقوا دائماً متعلقين بأرض بابل، لهذا تراهم كانوا ما أن يتعرضوا الى ضائقة في فلسطين، سرعان ما يلجأوا الى العراق، وهنالك وقائع كثيرة تؤكد هذه الحالة. ففي سنة63 ق.م عندما سقطت الدولة المكابية اليهودية في فلسطين على يد الرومان، هاجر الآلاف من اليهود ولاسيما من رجال الدين إلى أرض بابل. لقد ظل علماء يهود بابل فعّالين حتى في المدارس اليهودية في فلسطين. فهاهو الرابي (أبا عريقا) ينتقل من العراق إلى فلسطين ويؤسّس أكاديمية (سورا) ويذكر عادة بلقبه الشائع (راب) كذلك (صموئيل) الفلكي والطبيب.
لقد ظهرت في بابل جماعة أطلق عليها (سوفريم) وتعني الكتّاب وهم الذين أولوا إهتماماًبكتابة التوراة والاحكام الدينية، ومن أبرزهم الكاتب عزرا الذي جاء الى فلسطين من بابل، في القرن الخامس ق. م ويعتبر أبرز شخصية ظهرت في أوساط اليهود بعد شخصية النبي موسى. إذ قام بتطوير العقيدة اليهودية من خلال استخراج نصوص من كتاب العهد القديم تعنىبمتطلبات المجتمع اليهودي، وكانت خطوته تلك بداية للسنة الشفوية. ثم راج بعد عزراأسلوب في تفسير وتأويل النصوص الدينية يسمى (مدراش) ومعناه (البحث والتتبع)، لأنالعلماء تتبعوا على ضوئه المعاني الكامنة في التوراة، بغية وضع الحلول لجميعالمسائل والمستجدات.
وكانت هناك مجموعتان من تلك الخلاصات، إحداها تكونت في فلسطين وتسمى تلمود أورشليم، والأخرى كتبت في العراق وتسمى التلمود البابلي، وهو أكثر استفاضة وأهمية. وبينما انتهى التلمود الفلسطيني بحدود عام 400 ق.م.، فإن التلمود البابلي قد ضم إضافات إلى نحو عام 500 م. إن التلمود البابلي ثلاثة أضعاف التلمود الفلسطيني، حيث تبلغ صفحاته أكثر من خمسة آلاف، وقد ترجم الى العديد من اللغات.
إذن يعتبر التلمود أشبه بدائرة معارف ضخمة بكل ما يتعلق بأسس الديانة اليهودية، وهو المصدر الاساسي للتشريع اليهودي. وبما أنه اكتمل بعد أنتشار المسيحية، فأنه يتضمن الطعن بالسيد عيسى المسيح، لهذا رفضهالمسيحيون، وبسببه عانى اليهود في اوربا من الاضطهاد، وكانت عملية حرق التلمود أمر شائع لدى الكاثوليك.
تحول اليهودية الى ديانة متميزة
من المعلوم انه حتى فترة السبي كانت تسمية (اليهود) خالية من المعنى الديني، إذ تعني (سكان يهودا ـ أورشليم) جنوب فلسطين ومع الزمن شملت أيضاً سكان (اسرائيل ـ السامرة) شمال فلسطين. لهذا فأن (يهود) بابل هم أول من بدأ بإضفاء الطابع العقائدي الديني على جاليتهم. في بابل اتخذت تسمية (اليهودية) معناً دينياً. وقد احتاجت عملية التأسيس الديني الاولى حوالي أربعة قرون (بين القرنين السابع والثالث ق.م) تمثلت بالتدوين التوراتي والجدال والتنظير البطيء. في القرن الثالث ق.م بدأت تسمية (اليهود) تتخذ معناً دينياً وإسماً لطائفة تمتلك عقيدة وكتاباً مقدساً أسمه (التوراة). أما أول من أشار بصورة رسمية وكتابية إلى (عقيدة اليهود) باليهودية هو المؤرخ اليهودي الفلسطيني (يوسيفوس فلافيوس ـ القرن الاول م) في الاسكندرية، وذلك بالمقارنة مع (الهيلينية): ((عقيدة أهل مقاطعة يهودا مقابل عقيدة سكان مقاطعة هيلاس)). فالمصطلح إذن بدء إسماً أقوامياً جغرافياً ثم بالتدريج في بابل اتخذ مضموناً دينياً.
يهود بابل ينشرون اليهودية في العالم
عام 334 ق.م تمكن الإسكندر المقدوني ( 356-323 ق.م) من القضاء على الدولة الايرانية، والسيطرة على العراق وعموم الشرق. وقد اختار (بابل) لتكون عاصمة امبراطوريته العالمية، لكن حلمه لم يتحقق حيث مات في بابل، المدينة التي كان يجلها. في هذه الحقبة اليونانية بدأت تبرز مراكز ثقافية يهودية جديدة منافسة لدور بابل، وبالذات (الاسكندرية) في مصر.
فقد نقل الاسكندر الكثير من يهود بابل وفلسطين الى مدنه الجديدة التي كوَنَّها، ومنها بالذات (مدينة الاسكندرية)، التي تحولت الى مركزاً أساسياً للثقافة اليونانية، وتحت ظلها انتعشت كذلك الثقافة اليهودية. كذلك قام الملك (أنطيوخس الثالث) (323 - 187 ق.م) خليفة الاسكندر، بنقل ألفي أسرة يهودية عراقية مع أجهزتها الحربية إلى ليديا وفريجيا في آسيا الصغرى لتأسيس حامية منهم هناك موالية لحكم السلوقيين. ومن هؤلاء بدأت الجاليات اليهودية تنتشر في اليونان وعموم البحر المتوسط.
يمكن القول إن (الاسكندرية) قد نقلت الديانة اليهودية الى المرحلة الرابعة المكملة للمراحل الثلاث السابقة. في الاسكندرية برزت شخصيات يهودية استوعبت جيداً الثقافة اليونانية ولعبت دوراً كبيراً في التأثير على الثقافة اليهودية وترجمة كتبها الى اليونانية، أمثال الفيلسوف (فيلون الاسكندري القرن الاول الميلادي) الذي أدخل الى اليهودية (العرفان ـ الغنوص) الاسكندري المسمى بـ (الافلاطونية الجديدة). كذلك المؤرخ الكبير(يوسيفوس فلافيوس ـ القرن الاول م)) وهو يهودي فلسطيني عاش في الاسكندرية وكتب تاريخ اليهود وعرف به عالمياً. كذلك قامت النخبة اليهودية هنالك في القرن الثالث ق.م ، بتكوين لجنة من سبعين شخصية لترجمة التوراة الى اليونانية، واستغرق هذا المشروع حوالي ثلاث قرون، حتى القرن الميلادي الاول، وسميت (الترجمة السبعينية) التي حولت التوراة الى مصدر ثقافي عالمي.
ظهور النخب اليهودية العراقية
( ان بابل كأس ذهب بيد الرب تسكر كل الارض . من خمرها شربت الامم)
(التوراة ـ أيرميا 51 : 7)
على عكس الصورة السائدة، ان يهود بابل ما كانوا مسبيين مضطهدين، بل هم مندمجين في المجتمع البابلي حتى بلغوا طبقاته العليا. وقد منحهم (نبوخذ نصر) أراض خصبة على الفرات وقدم لهم الدعم من أجل أن يسكنوا فيها ويعيشوا بسلام. ان المصادر التاريخية ومن ضمنها مصادر يهودية تعترف بأن (نبوخذ نصر) قد سمح للأسرى أن يصحبوا عائلاتهم وينقلوا معهم ممتلكاتهم ومواشيهم، وانه وهب اليهود أخصب مقاطعاته وأسكنهم فيها مثل منطقة (نفر) (نيبور) التي كانت تُعد من أغنى مقاطعات بابل، ومنحهم كذلك أوسع الحريات في العمل وممارسة طقوسهم الدينية، وكانت السلطات الحاكمة تعاملهم على أحسن وجه. ولقد استفاد اليهود كثيراً من الامتيازات التي منحهم إياها الكلدان، فأتقنوا الحرف والصناعات المختلفة، وتدرجوا في الطبقات العليا وعظم شأنهم بين البابليين. أصبحوا في غضون مدة وجيزة أغنى أهل بابل، فبعضهم امتلك الأراضي الزراعية والبعض الآخر كان يزرع بالفعل على الأراضي التي أقطعت لهم، وقد حفروا شبكة من جداول الري والقنوات لإيصال المياه السيحية إلى مزارعهم، وأنشأوا الحقول والبساتين ووجهوا عنايتهم لوقايتها من الغرق، فأقاموا السدود ونظموا أعمال الري على أحسن وجه، وقد اعتنوا عناية خاصة بتطهير الجداول والمبازل من الراسبات الغرينية، بحيث تحوَّلت هذه المنطقة إلى حقول مثمرة، وكان يعمل بعضهم في حقل التجارة، ويرى البعض أنه لولا أنبياء المهجر الذين كانوا لا ينفكون عن تنبيه اليهود إلى أخطار الانصهار وحثهم على ضرورة التفكير في العودة إلى يهوذا لانصهر اليهود في الشعب الكلداني إنصهاراً تاماً بسبب ما توافر لهم من رغد العيش والأمن والاستقرار.
إن النقطة المهمة التي تستحق التذكر، إن هؤلاء اليهود المسبيين في بابل، كانوا بغالبيتهم الساحقة من أفراد النخب العليا في فلسطين، من رجال دين ومتعلمين وحرفيين وغيرهم. علماً بأن هذا الاختيار النخبوي كان شائعاً في سياسة التهجير العراقية، لأن السيطرة على النخب العليا تسهل السيطرة على الناس والبلدان. لكن هذه النقطة بالذات كانت العامل الحاسم في جعل الجالية اليهودية في بابل، نشطة وفعالة وقادرة على الاستيعاب السريع والكبير للحضارة البابلية والصعود في نخب المجتمع البابلي العليا، وبالتالي التمكن من لعب الدور الحاسم بتأسيس العقيدة اليهودية. جميع دلائل التاريخ تؤكد هذه الصورة الايجابية :
ـ ان الثقافة اليهودية وكتبها ومدارسها ومبدعيها، نشأت في بابل. فيها ظهر نبيهم حزقيال (586و 538 ق. م) الذي كتب (سفر حزقيال). كذلك ظهر (النبي إشيعيا الثاني 550 وسنة 540 ق.م) الذي يعتبر من أهم اللذين طوَّروا اليهودية ومنحوها بعدها القومي والخلاصي. (طالع سفر إشعيا). كذلك قام (عزرا) بتنظيم اليهودية في فلسطين وجعلها ديناً محدداً بالطقوس والواجبات، وقام بجمع اسفار التوراة (القرن الخامس ق.م) ومات في العراق، كذلك (النبي ناحوم) الذي قاد حملة العودة الى فلسطين وأعاد بناء الهيكل. كما أسست في العراق معابد ومدارس دينية يهودية لعبت دوراً حاسماً في بناء الثقافة اليهودية. وان (الكتاب المقدس ـ العهد القديم)، قد كتبه فعلياً اليهود المقيمون في بابل، حيث استلهموا أولاً تراثهم الشفهي البدوي البدائي الذي جلبوه معهم من فلسطين، ومزجوه مع تراث الديانة العراقية (البابلية) وأساطيرها المعروفة، مثل أسطورة التكوين والطوفان وقصة موسى، وآدم وحواء. أما كتابهم التشريعي (التلمود البابلي) فقد كتبوه أيضاً في بابل مستلهمين الثقافة القانونية العراقية ومن أهمها (شريعة حمورابي).
ثم ان غالبية اليهود رفضوا العودة الى فلسطين، بعد سقوط بابل وتشجيع المحتلين الفرس لهم. بل ان بابل بقيت محطة إنقاذ لليهود حيث كانوا يلجأون إليها كلما سائت أحوالهم في فلسطين. لكن الموقف السلبي من بابل ظهر بعد سقوط بابل لدى بعض الأقليات المتعصبة، فأدعوا إنهم كانوا مسبيين مضطهدين في بابل : ((على ضفاف أنهاربابل جلسنا، وذرفنا الدموع حينما تذكرنا صهيون. / المزامير ـ 137 ـ1 )). وقد بلغ التعصب لدى هذه الأقلية المتشددة إلى حد أنهم دعوا إلى الانتقام من البابليين بل وحتى قتل أطفالهم :
(يا إبنة بابل الراحلة الى الخراب، طوبى لمن يجازيك ما كافأتينا به، طوبى لمن يمسك أطفالكِ ويضرب بهم الصخرةََ / المزامير 136 : 8: 9).
وأكبر دليل يدحض هذا الادعاء بمعاناة اليهود في بابل، إنهم استمروا باللجوء الى العراق، حتى قيل إن عددهم بلغ المليون، بعد خراب أورشليم على يد الرومان عام 70 م!.
إن دور النخب اليهودية البابلية الحاسم والقيادي في إبداع وتطوير اليهودية، لم يقتصر فقط على المرحلة الاولى للتأسيس الديني، بل استمرت على مراحل متواصلة عدة بلغت أكثر من 1500 عام، أي من الحقبة البابلية في القرن السابع ق.م حيث تكونت الجالية اليهودية في بابل، مروراً بالحقبة ألآرامية المسيحية في ظل السيطرة الخارجية الاجنبية، حتى الحقبة الحضارية العربية الاسلامية، الى أن أنتهى الدور اليهودي العراقي الابداعي مع انتهاء الدور الحضاري للعراقيين عموماً مع سقوط بغداد العباسية عام258 م
سياسة التهجير والسبي العراقية
عكس ما يشاع، فأن (سبي اليهود) الى (بابل) لم يكن حالة أستثنائية وخاصة باليهود وبغاية أستعبادهم، بل كان جزءاً من سياسة ظلت تمارسها السلطات العراقية، الآشورية ثم الكلدانية، طيلة قرون طويلة. فكان يتم نقل السكان من منطقة الى أخرى بطرق سلمية أو عقابية، من أجل تعمير الاراضي والمناطق. فمثلاً في القرن الثامن ق.م، تم نقل (30) ألف من سكان (حما) السورية الى المناطق الشرقية العراقية المحاذية لجبال زاغاروس من أجل تعميرها ولصد تسربات القبائل الجبلية، وبنفس الوقت قد تم نقل (18) ألف من سكان دجلة ليستوطنوا (حما) المسبية. في نفس هذا القرن أيضاً وعلى حملتين متتاليتين، تم نقل حوالي ربع مليون من سكان وسط وجنوب العراق من أنصار المتمردين الكلدان، أفراد وعوائل كاملة، الى شمال العراق، عقاباً لهم ومن أجل تعمير الاراضي والمستوطنات الجديدة. إن سياسة التهجير هذه كانت من القوة والاستمرارية بحيث بلغ عدد الذين تم نقلهم خلال ثلاثة قرون، داخل حدود الامبراطورية الآشورية التي شملت العراق والشام، (أربعة ملايين) شخص، أفراد وعوائل وعشائر. وهذا رقم هائل يدل على قوة سياسة التهجير المتبعة !
سبي اليهود
من المعلوم ان عموم بلاد الشام (بلاد الكنعانيين) وبالذات منطقة (فلسطين) ظلت دائما وفي كل حقب التاريخ ساحة صراع على النفوذ بين الدولتين العراقية والمصرية. وكانت هنالك دائماً أحزاب وأطراف من أنصار إحدى القوتين. إن عمليات سبي الفلسطينيين لم تشمل العبرانيين وحدهم كما يشاع، بل عموم شعوب منطقة الهلال الخصيب، بما فيهم سكان العراق. أما فلسطين فعمليات السبي شملت كنعانيين وعبرانيين وغيرهم، وانها تركزت على أنصار دويلة (يهودا ـ أورشليم) جنوب فلسطين، ودويلة (اسرائيل ـ السامرة) شمال فلسطين، بسبب ارتباطهما بمصر. تحدثنا المصادر التاريخية عن فترتين من عمليات السبي :
ـ الفترة الآشورية بين القرنين التاسع والسابع ق.م واشتملت على عدة حملات سبي ضد يهودا واسرائيل، وإن تركزت أكثر على (اسرائيل)، التي اختفت بعدها من الوجود عام 721 ق.م. وتتفق المصادر على رقم مبالغ بعدد المسبيين يبلغ عدة مئات من الآلاف! لكن ميزة هذه المرحلة ان المسبيين قد اختفوا من التاريخ لأنه تم توزيعهم في أنحاء المناطق الجبلية العراقية والايرانية، وذابوا وأصبحوا جزءاً من سكان المنطقة .
ـ الفترة الكلدانية، على يد (نبوخذ نصر)، في حملتين (597 و586 ق.م) وقد تركزت على(يهودا)، وقد بلغ عدد المسبيين أكثر من 50 ألف، بغالبيتهم من النخب العليا: ((كل الرؤساء وجميع جبابرة الناس ... وجميع الصناع والاقيان. ولم يبق أحد إلاّ مساكين شعب الارض)) (سفر الملوك الثاني 24 :14 ). في هذه المرحلة لم يتم تشتيتهم، بل جمعوا في منطقة بابل (وسط وجنوب العراق) مما سمح بتشكلهم كجالية متميزة. بما أنهم كانوا كلهم من سكان يهودا، لهذا شاعت تسمية (اليهود) كتسمية أقوامية وليست دينية، ولكن مع الزمن تحولوا الى طائفة دينية خاصة.
هذا هو برج بابل الذي قالت عنه التوراة: ((وكانَ لأهلِ الأرضِ كُلِّها لُغَةٌ واحدةٌ وكلامٌ واحدٌ. فلمَّا رحَلوا مِنَ المَشرقِ وَجدوا بُقعَةً في سَهلِ شِنْعارَ، فأقاموا هُناكَ. وقالَ بعضُهُم لِبعضٍ: «تعالَوا نصنَع لِبْنًا ونَشْوِيهِ شيُا»، فكانَ لهُمُ اللِّبْنُ بَدَلَ الحِجارَةِ والتُرابُ الأحمرُ بَدَلَ الطِّينِ. وقالوا: «تعالَوا نَبْنِ لنا مدينَةً وبُرجا رأسُهُ في السَّماءِ. وَنُقِمْ لنا اَسمًا فلا نتَشتَّتُ على وجهِ الأرضِ كُلِّها». ونَزَلَ الرّبُّ لِيَنظُرَ المدينَةَ والبُرج اللذَينِ كانَ بَنوا آدمَ يَبنونَهما، فقالَ الرّبُّ: «ها هُم شعبٌ واحدٌ، ولهُم جميعًا لُغَةٌ واحدةٌ! ما هذا الذي عَمِلوه إلاَ بِدايةً، ولن يصعُبَ علَيهم شيءٌ مِما يَنوونَ أنْ يعمَلوه! فلنَنزِلْ ونُبَلبِلْ هُناكَ لُغَتَهُم، حتى لا يفهَمَ بعضُهُم لُغَةَ بعضٍ».فشَتَّتَهُمُ الرّبُّ مِنْ هُناكَ على وجهِ الأرضِ كُلِّها، فكَفُّوا عَن بِناءِ المدينةِ. ولِهذا سُمِّيَت بابِلَ، لأنَّ الرّبَ هُناكَ بَلبَلَ لُغَةَ النَّاسِ جميعًا، ومِنْ هُناكَ شَتَّتَهُمُ الرّبُّ على وجهِ الأرضِ كُلِّها.)) سفر التكوين : 11
إن الخطأ الكبير الذي وقع به غالبية من تعاملوا مع موضوع اليهودية، انهم خلطوا بين نوعين من اليهودية:
ـ اليهودية الاصلية، أي يهودية العهد القديم والتلمود، وهي اليهودية الاصلية الرسمية التي نشأت في بابل وبقيت محصورة لحوالي ألف عام بين الجاليتين اليهوديتين في العراق وفلسطين، وهي يهودية بابلية دنيوية.
ـ اليهودية المحدثة، أي اليهودية الروحانية العرفانية التي نشأت خصوصاً في الاسكندرية وعالم البحر المتوسط. وتعود جذور هذا التحول الى فلسطين والعراق مع السيطرة اليونانية على المنطقة منذ القرن الرابع ق.م وقد تعزز هذا التحول نحو الروحانيات والفلسفة في الاسكندرية التي تحولت الى مركزاً أساسياً للنشاط الثقافي اليهودي. وقد بلغ هذا التطور الروحاني ـ الفلسفي ذروته في العصر الاسلامي في بغداد أولاً ثم خصوصاً في الاندلس مع مذهب القبالا، وهو المذهب الروحاني التصوفي (السماوي التوحيدي) المأخوذ من التصوف الاسلامي.
يهودية العهد القديم والتلمود
الديانة اليهودية، بصورة ما، تعتبر ديانة عراقية أولاً، مع بعض التأثيرات الكنعانية الفلسطينية. ويمكن تحديد الخواص البابلية في اليهودية كالتالي:
1- اليهودية عقيدة أرضية دنيوية وليست سماوية:
إن النقطة الاساسية التي تجمع بين العقيدة اليهودية والديانة العراقية (البابلية ـ الآشورية)، هي :
((الايمان بالحياة الدنيا فقط والاعتماد على رب سماوي جبار بانتظار المسيح المنقذ، أي تموز لدى العراقيين)). أي أن الديانتين العراقية واليهودية، ليست سماويتين، بل (دهريتين دنيويتين) لأنهما لا تؤمنان بالحياة الآخرى . فليس هنالك يوم حساب وجهنم وجنة موعودة، بل ان الانسان خيره وشره يلاقيه في حياته، ولا تخلده إلاّ أعماله ونسله. ويمكن اختصار هذه الفكرة بمقولة كلكامش الشهيرة: ((لقد قدرت الآلهة الفناء للانسان/ واستأثرت بخلود الحياة / فاملأ بطنك بملذات الطعام / وابتهج ماشئت ليل نهار/ فهذا هو نصيبنا من الدنيا)). لكن يتوجب التأكيد على انه رغم (دنيوية) الديانة العراقية، إلاّ أنها كانت (أخلاقية) تبتغي العدالة والانسانية، ويكفينا دليلاً (شريعة حمورابي).
ان العقيدة السماوية الحقيقية لم تبدأ مع اليهودية الاصلية، بل مع (العقيدة العرفانية ـ الغنوصية) التي تعتبر المسيحية والصابئية من أولى أديانها. هنالك خطأ كبير وقع فيه معظم مؤرخي اليهودية، عندما اعتقدوا إنها متأثرة بالديانة المصرية، إعتماداً على ادعاءات التوراة نفسها بأن المؤسس الأول لليهودية (النبي موسى) قد عاش في مصر. والحقيقة ان اليهودية الاولى خالية تماماً من جوهر الديانة المصرية: ((الأيمان بالحياة الاخرى ويوم البعث والحساب)). وهذا الايمان المصري هو الذي تبنته العرفانية. بينما (اليهودية) تحمل جوهر الديانة العراقية : الايمان بالحياة الدنيا فقط والاعتماد على رب سماوي جبار بانتظار المسيح ـ تموز ـ المنقذ. وان الحياة الأخرى مجهولة ويوم الحساب غائب. وإن روح الميت، كما في الديانة العراقية والكنعانية كذلك، تذهب الى (العالم السفلي) الذي يسمى بالعبرية (شيؤل) وقد ترجمت الى العربية بـ (الهاوية، والجب الاسفل، والحفرة السفلى). واليها يذهب الاخيار والاشرار دون أي ثواب وعقاب.(طالع: سفر الامثال27 : 207/ كذلك: أيوب10 : 21ـ 22 و7 : 9ـ 10 / كذلك التكوين 37 :36 ) والكثير من السور.
حتى مفهوم الجنة في اليهودية يماثل الديانة العراقية. فأن (جنة عدن) المذكورة في التوراة، هي جنة مفقودة منذ أن طرد منها (آدم)، وهي تمثل الماضي ولا توجد في المستقبل. وموقع هذه الجنة في العراق بين آشور والفرات. (التكوين2: 7-16 ). وهي شبيهة بجنة (دلمون) التي تحدث عنها السومريون. أما جنة المستقبل بالنسبة لليهودي هي (فلسطين الارض الموعودة). إن وعد اليهودية وعد أرضي وليس سماوي.
وأيضاً على طريقة العراقيين والكنعانيين، فأن الثواب والعقاب يتم في الحياة الدنيا وليس الآخرة، عبر زيادة الرزق والعمر والصحة: ((أكرم أباك وأمك لكي يطول عمرك في الارض التي يعطيك الرب الهك)). (الخروج 20 :12)و (( يا ابني لا تنس شريعتي ولا ينس قلبك وصاياي، فإنها تزيدك طول إيام وسني حياة وسلاماً)). (الامثال 3 : 1ـ2 ).
2- اليهودية عقيدة تعددية وليست توحيدية:
ثمة فكرة تاريخية خاطئة فرضت نفسها لأسباب عديدة، تعتقد بأن (اليهودية) تمثل قطيعة تامة مع الماضي (الوثني التعددي) وإنها تمثل ولادة مرحلة جديدة من الميراث الديني التوحيدي. لكن الدلائل التاريخية تشير الى العكس تماماً : ان اليهودية هي (خاتمة) لمرحلة (الوثنية) السابقة. صحيح إنها شكلياً تخلصت من تقديس (الأصنام) والصور، لكنها لم تتخلص من التعددية، كما يعترف بذلك كل من بحث في اليهودية. هنالك الأله (يهوه) الذي هو اله خاص باليهود وليس البشرية جمعاء. وهنالك أيضاً (ايلهم) وتعني حرفياً (الآلهة)، وهذا دليل على الاصل التعددي ليهودية التوراة.
ثم ان الأهم من كل هذا إن اليهودية تعتبر ان (يهوه) ربها القومي الخاص بها، وهذا يعني إنها تقر بأن لكل قوم إلههم الخاص، وهذا ينسف تماماً فكرة التجريد والتوحيد المبنية أساساً على الاعتقاد بوجود (رب واحد) لكل الأمم ولكل الكون. وهذه الفكرة المطلقة لم تتوضح إلاً فيما بعد في (العرفانية التوحيدية).
3- اليهودية عقيدة عرقية إنعزالية :
أما الخاصية الجوهرية الكبرى التي ميزت اليهودية عن جميع الاديان، إنها جعلت (الانتماء العرقي العبري اليهودي) أمراً إلهياً مقدساً. بل الاعظم من هذا، إنها آمنت بأن هذا (الانتماء القومي اليهودي) يجب أن يكون أمراً مقدساً من قبل الانسانية جمعاء!! والطريف إن اليهود قد كونوا هذه العقيدة القومية المقدسة في (بابل)، بل اقتبسوها من جوهر الديانة العراقية: عقيدة تموز المخَّلص.. كيف؟!ّ
إن عقيدة المخَّلص كانت جوهر الديانة العراقية منذ السومريين حتى مجيء المسيحية، أي خلال أكثر من 3000عام. وهذه العقيدة بأختصار، إن إله السماء (ايلو ـ العالي) يبعث (تموز ـ من السومري وتعني الابن المنبعث أو المخَّلص) ابنه أو روحه أو قوى خصبه الى الارض (عشتار) لكي يخصبها وينشر الحياة لدى البشر. وهذا يحصل عادة في مطلع الربيع (21نيسان) وهو بداية السنة العراقية. ثم يغيب عند أول الصيف والجفاف (شهر تموز) حيث يظل يعاني في (ظلمات العالم السفلي) من أجل العودة الى البشر ومنحهم الخصب، وتظل (عشتار ـ الهة الارض والخصب الانوثي) تكافح كل العام وتدخل العالم السفلي وتقنع الهة الموت بتحرير (تموز) الذي يعود من جديد لكي يخَّصب الارض ويعيد الحياة الى البشر. لهذا فأن العراقيين كانوا يصَلون طيلة العام من أجل (عشتار) لكي تعينها الآلهة وتتمكن من العودة بـ (تموز) المخَّلص مانح الخضرة والحياة([46]).
إن (عقيدة المنقذ ـ المهدي المنتظر) هذه، قد تبناها اليهود، أولاً بصورة مقاربة للبابليين، إذ تحول (تموز) الى (مشيح ـ المسيح) المخلص، الذي سيأتي لكي ينقذ اليهود (الارض ـ عشتار) من الذل والمنفى(الجفاف والقحط)([47]). لكن فيما بعد، وفي ظل حياة المنفى في بابل، تحولت هذه العقيدة على يد النبي (اشعيا الثاني 550ـ 540 ق.م ) الى عقيدة خلاص قومية ـ عالمية فيها الكثير من العجب والخيال. (نبوءة اشعيا 40 ـ55 ). فأن المسيح المنقذ صار اليهود أنفسهم، الذين يعانون عذابات المنفى، إذ اختارهم الرب قرباناً لخلاص البشرية، وهم (شعب الرب المختار) من أجل إنقاذ العالم: ((إني قد جعلتك نوراً للأمم لتكون خلاصي الى أقاصي الارض)) (نبوءة اشعيا : 49ـ6 ). وان الرب قد عاقبهم بالمنفى لأنهم ما كانوا أمناء لتلك الرسالة. وان خلاصهم يكمن في العودة الى (الارض الموعودة أورشليم) لكي تعود الحياة من جديد الى العالم أكمله، وينهض النور الازلي وتحج كل الامم الى المدينة المقدسة لعبادة الرب : ((فأنكم بفرح تخرجون وبسلام ترشدون والجبال والتلال تندفع بالترنيم أمامكم وجميع أشجار الصحراء تصفق بالأيدي... ويكون ذلك للرب إسماً وآية أبدية..)) (سفر أشعيا 55 : 12ـ13 ). علماً بأن هذه النبوءة تتحدث عن (رجل مخلص)، لهذا فقد فسرها المسيحيون فيما بعد بأنها تتحدث عن مجيء (المسيح المخلّص)، بينما أصر اليهود على انها تتحدث عن (اليهود) أنفسهم كمخلّصين للبشرية. وقد عزز التلمود هذه الفكرة، انه في عصر الخلاص (المشيحاني) سيصبح كل الناس عبيداً لجماعة اسرائيل.
لهذا، يحق القول، ان كان جوهر الاسلام والمسيحية، العمل الصالح في الحياة الدنيا من اجل استحقاق ملكوت السماء والجنة الموعودة، فأن جوهر اليهودية هو تقبل العذاب من أجل بلوغ (ملكوت الارض الموعودة ـ أورشليم) !!
إن تجربة المنفى البابلي حددت منذ البدأ جوهر التوراة وأخلاقيتها. الكاتب الأسرائيلي المتمرد (اسرائيل شاحاك) لخص تاريخ الاخلاق اليهودية كالتالي : من ناحية كره كل الناس غير اليهود (غيويوم ـ العوام) وخصوصاً الفلاحين لأنهم النقيض التام للمنفيين بسبب ارتباطهم المباشر والدائم بالأرض. كذلك التقرب من الحكام والمتنفذين والأغنياء والتقرب لهم مهما كانوا أجانب وغرباء عن اليهودية ودعم طغيانهم ضد شعوبهم. حسب (شاحاك) هذه خصال تاريخ الجماعات اليهودية في كل مكان وزمان، مع وجود استثناءات كثيرة، لكن تبقى أقلية. ان طبيعة اليهودية الانعزالية والاستعلائية وتقديس المنفى فرضت على اليهود دوراً محدداً في التاريخ، هو دور (وظيفي) أي دور الوسيط والمساعد الذي يقوم بأعمال ضرورية للمجتمع لكنها غير مقبولة اجتماعياً.
اليهودية والصراع المصري ـ العراقي
بما ان بلاد الشام عموماً وفلسطين خصوصاً كانت ساحة للصراع بين القوتين المتنافستين العراقية والمصرية، فأن التوراة تأثرت كثيراً بهذه المنافسة. يلاحظ أنه في الأجزاء البابلية من العهد القديم تلك الحكايات التي لا تخلوا من (النفاق) للعراقيين ضد خصومهم المصريين: قصة ابراهيم وسارة مع الفرعون، ثم يوسف وزليخة، ثم موسى والفرعون. بل إن قصة نوح مع ولديه سام وحام وخلق الجنسين الابيض والأسود، يمكن وضعها في هذا السياق العنصري ضد المصريين (أبناء حام!). من أكثر الأمثلة طرافة على رغبة هؤلاء المنفيين الفلسطينيين العبرانيين للتقرب من العراقيين، انهم ابتدعوا فكرة جدهم (ابراهيم) الذي نزح من (أور الكلدانيين) وكذلك زوجته سارة من نفس الأصل. ولكي يميزوا أنفسهم عن (القبائل البدوية) رغم انهم هم أنفسهم من أصول بدوية. قالوا بحكاية اسماعيل وأمه هاجر الجارية المصرية!! وللتعويض عن حالة الشعور بالضعف التي ظل يعاني منها هؤلاء المنفيين أمام أهل بابل، فأن التوراة لا تخلو من الحكايات البطولية والمفاخر الاسطورية : بطولات داود وشمشون وامبراطورية سليمان ومغامرته الشهيرة مع بلقيس.
اليهودية والعرفانية التوحيدية السماوية
إن اليهودية لم تبق معزولة عن التيار العرفاني الذي اكتسح منطقة المشرق بعد أن حل محل العقائد الدينية السابقة واستوعب العقائد الآسيوية واليونانية. وقد لعبت الجالية اليهودية في الاسكندرية دوراً مهماً في هذا النشاط العرفاني ـ الفلسفي، منذ القرن الثالث ق.م. فبعد أن اكتملت كتابة التوراة (اسفار موسى) في بابل في مطلع القرن الثاني ق.م، ثم ترجمته عام 150 ق.م الى اللغة اليونانية في الاسكندرية (الترجمة السبعينية)، أغلق ما يسمى بباب الوحي وأتخذت التوراة شكلها النهائي. لكن حركة البحث والاجتهاد استمرت خصوصاً في الاسكندرية بتأثير العرفانية المشرقية والفلسفة اليونانية، فظهرت الاسفار والكتابات الجديدة التي منحت بعداً توحيدياً روحياً لليهودية، مثل (سفر أخنوخ الاول / القرن ق.م) و(سفر عزرا الرابع / القرن الاول م). و(كتاب اليوبيليات / القرن 1 ق.م) و(وصايا الاسباط الاثنى عشر/ القرن 1 م) وكتب عديدة من أشهرها (نصوص قمران) وقد جهد هذا التيار الروحاني العرفاني، الى اصلاح النواقص الكبيرة في اليهودية :
· تخطي محدودية الرب (يهوه) الذي كان خاصاً باليهود، واعتبار الله رباً واحداً للخليقة جمعاء وهو معني بخلاص الانسان من عذابه. وهذا يعني التخفيف من التعصب الديني والعرقي والتقرب من المفهوم الانساني الشمولي.
· تبني فكرة الشيطان الكوني المسؤول عن إغواء الأنسان ودفعه للخطيئة. واعتبار التاريخ بغاية كبرى هي الخلاص من الشر والصعود الى ملكوت السماء والنور.
· الايمان بفكرة القيام ويوم الحساب والجنة والنار. وتوضيح فكرة المخَّلص (المسيح المنتظر).
· إعادة النظر بالموقف الاخلاقي الغامض في اليهودية. حيث احتوت التوراة على أحداث ومواقف لا أخلاقية وغير أنسانية نسبت الى الانبياء والشخصيات المقدسة. مثل أفعال الزنا والزنا بالمحارم وإبادة غير اليهود والخداع والغيرة، وغيرها الكثير الكثير من الامور اللاّ أخلاقية. وقد قام هذا التيار الجديد بالتأكيد على مسؤولية الانسان الاخلاقية وعدالة الاله، وجعل الاخلاق والانسانية ضرورية مثل الطقوس والشريعة([53]).
وقد بلغ هذا التيار العرفاني الروحاني ذروته في العصر الاسلامي مع تكون (مذهب القبالا) التصوفي، الذي أصبح مصدراً أساسياً معارضاً للتلمود.
لقد تجلى هذان التياران، الدنيوي والروحاني، في ظهور طائفتين في فلسطين :
ـ الفريسون، وهم متشددون ويسمون بالأحبار أو الربانيين، هم زهاد رهبانيون لا يتزوجون، لكنهم يحافظون على مذهبهم عن طريق التبني، يعتقدون بالبعث والملائكة وبالعالم الآخر.
- الصديقون، وهي تسمية تهكمية إذ تعني عكسها فهم ينكرون البعث والحساب والجنة والنار، ولا يعترفون بالتلمود، كما ينكرون الملائكة والمسيح المنتظر. وهم التيار الدنيوي الواقعي وقد شكلوا طبقة الاغنياء.
مذهب القبالا، أو التصوف اليهودي
(القبالا ـ קבלה) ومعناها(القبل والسابق، أي الموروث) وهو الاسم الذي يطلقه اليهود على تيار(العرفانية والتصوف) لديهم. والتصوفاليهودي يرتكز على كتابين مهمين الأول كتاب (نشيد الأنشاد) في العهد القديم والثانيكتاب (زوهار ـ الظهور) (זוהר) (المظهر والمفخرة). وينسب تأليف هذا الكتاب إلى الكاهن العراقي (شمعون بن يوخاي) من القرن الثاني للميلاد، ولكن المؤرخين يعتقدون بأنه من تأليف موسى الغرناطي (1250-1305 )، في الاندلس. ان (القبالا) أكثر روحانية وحرية في تفسير اليهودية وربطها بالعرفانية من تلك التي اتبعها الفلاسفة المتدينين اليهود مثل (ابن ميمون وابن غابيرول وإبراهيم ابن عزرا) وغيرهم. ومن الواضح انها متأثرة كثيراً بتيار الاشراق الاسلامي وفلسفة (ابن عربي). لكن من أهم خصوصيات هذه (القبالا) انها تميل الى السرية والسحروالاعتقاد بما يسمونه بـ (العلم السري)، وأعداد الحروف ورموز الطبيعة وألغاز الرياضيات. ويؤمنون بأن الذاتالالهية العليا (אינסוף) تتجلى من خلال (العوالم العشرة) (עשר הספירות). ويبدو إن هذه (القبالا) وكتابها (زوهار) قد بدأ يحل محل (التلمود) الذي خلق مشاكل كثيرة لليهود في العالم وخصوصاً في المجتمعات المسيحية وبَرَّرَ العنصرية ضدهم
الدور العراقي في تأسيس اليهودية
الشمعدان اليهودي بفروعه السبعة، ويعتقد اليهود انه رمز الشمعدان الأكبر القديم - المصنوع من الذهب الخالص الذي كان يوضع داخلخيمة الاجتماع في هيكل سليمان. وجاء في سفر زكريا (4 /11- 13) أن شعلاته السبعة - أعين الإله الجائلة في الأرض كلها. لكن بعض اليهود يعتقدون بأن شعلاته السبعةترمز إلى الكواكب السبعة. علماً بأن الرقم سبعة مقدس لدى العراقيين القدماء لأنهم كانوا يعبدون الكواكب المقدسة السبع التي كانت معروفة في تلك الحقبة
تدل جميع الوثائق الآثارية والتاريخية التي تم العثور عليها في الشرق الاوسط، على ان اليهود واليهودية قبل السبي البابلي (القرن السابع ق.م) لم يرد لهم إلاّ نتف عابرة وغامضة لا توحي بأية أهمية أو دور واضح. فليس هنالك أية إشارة تدل على وجود ديانة ما أسمها (اليهودية). وكل ما تذكره المصادر هي إشارات عابرة عن دويلات صغيرة (مشيخات) في فلسطين إسمها (إسرائيل) و (يهودا). يعني مثل جميع الدويلات التابعة التي تأسست في المنطقة عبر التاريخ، مثل مواب وادوم والبتراء والحضر وبصرى والحيرة، وغيرها.
ولم يدخل اليهود التاريخ السياسي والديني، إلاّ بعد السبي البابلي ومن خلال الدور الفعّال والحاسم للجالية اليهودية في بابل، بحيث يصح إن تأسيس اليهودية كديانة متكاملة تم في بابل، وان اليهودية تعتبر ديانة عراقية أولاً قبل أن تأخذ بعدها العرفاني الروحاني العالمي. يمكن تحديد الدور العراقي في تأسيس اليهودية بالمراحل الثلاثة التالية:
أولاً : تدوين الكتاب المقدس في بابل // ثانياً : قيام يهود بابل بنقل اليهودية الى فلسطين // ثالثاً : كتابة التلمود البابلي.
أولاً : تدوين الكتاب المقدس في بابل
إن (الكتاب المقدس ـ العهد القديم)يتكون من قسمين: (التوراة) وتضم الاسفار (أي الكتب أو النصوص) الخمسة الاولى التي تنسب الى النبي موسى. ثم اسفار الانبياء، وهي كتب أنبياء اليهود، ونصوص تاريخية وتسبيحية متنوعة، مثل (المزامير ـ الزبور) داود. ويدعي اليهود ان هذه الاسفار قد كتبت بالعبرية (فرع من الكنعانية الفلسطينية)، لكن الوثائق التاريخية تميل الى انها قد كتبت في بابل باللغة الآرامية الشرقية (العراقية).
يتفق غالبية الباحثين في تاريخ الكتاب المقدس، إنه قد كتب من قبل اليهود أثناء سبيهم في (بابل) بين القرن السابع حتى القرن الثالث ق.م. أو في أحسن الاحوال، انهم أعادوا كتابته بالاعتماد على ما ورثوه من لفافات متنوعة المصادر والتواريخ والحاوية على معلومات متناقضة ومتكررة، بالاضافة الى ما حفظته ذاكرتهم. ان هذا التناقض والتكرار في أخبار وحكايات التوراة هو الذي جلب انتباه الباحثين الاوربيين منذ القرن السادس عشر، بل إن أول من أعلن شَكَّه بأن كاتب التوراة هو (موسى)، الفيلسوف اليهودي (سبينوزا). لقد دونت باللغة الآرامية العراقية، وبالاعتماد على المصدرين التاليين:
1- الميراث الشفاهي الفلسطيني المحفوظ في ذاكرة العبرانيين من حكايات وأساطير ومعتقدات، جلبوها معهم من حياتهم السابقة في فلسطين. وهذا التراث الشعبي، حاله حال أي تراث شفاهي فيه الكثير من الصحيح والكثير الكثير من الخيالي والمضخم. ولنا مثال على ذلك السِيَرْ الشعبية العربية عن عنتر والبسوس وبني هلال، التي أخذت أحداثاً وشخصيات تاريخية حقيقية ولكن ضَخَمَتْها أضعاف وأضعاف وأعادة ترتيبها زمانياً ومكانياً. وهذا يفسر ما جرى مع التاريخ اليهودي الفلسطيني الوارد في التوراة عن خوارق النبي موسى وبطولات داود والملك سليمان الذي حكم الانس والجن، وغيرها من المآثر المضخمة والمتخيلة، والتي لم يتم العثور أي سند آثاري ولا تاريخي يؤكد صحتها. فالتوراة لها قيمة أدبية ودينية وتراثية، ولكنها لا يمكن أبداً أن تصلح كسند تاريخي.
2- الثقافة البابلية العراقية بجميع مخزونها العريق الديني والادبي والعلمي، التي شَكَلَّتْ المصدر الثاني الكبير أو ألمصهر الذي أعاد فيه اليهود صياغة ميراثهم الشفاهي وتجديده شكلاً ومضموناً. وبسبب تأثير الثقافة البابلية عليهم ونشوء نخبة متعلمة قرر اليهود حينها كتابة تاريخهم الشعبي وعقيدتهم الدينية الشفاهية، في كتاب أسموه (التوراة، أي التراث) وهذه التسمية بحد ذاتها تدلنا على الغاية من هذا الكتاب، أي (حفظ تراث الاسلاف).
وهذا يفسر إحتوء التوراة على الكثير من الميراثات العقائدية والثقافية العراقية، بحيث يصح القول ان التوراة أقرب ما يكون كتاباً بابلياً. إذ يتفق الباحثون على اقتباس التوراة للأمور التالية من الميراث العراقي القديم:
ـ اسطورة خلق الكون والانسان / جنة عدن والفردوس المفقود / الطوفان ونوح / قصة هابيل وقابيل / أصل الانسان واللغات وبرج بابل / طفولة سرجون وطفولة موسى / محاربة قوى الشر / غضب الرب وانزال الكوارث / العهد بين الرب والعبد / قوانين حمورابي والوصايا العشر / البكاء على تموز وانتظار المُخَلّصْ / أناشيد الزواج المقدس والمزامير ونشيد الانشاد / صبر أيوب / وغيرها من الحكايات والرموز التي لا تعَّد. أما من الناحية الدينية فأنهم اقتبسوا الكثير من الميراث العراقي ومعتقداته الدينية: اقتبسوا يوم (السبت) الذي كان يوم عطلة (سبوت وراحة) ونهاية الأسبوع لدى العراقيين. والطقوس والأزياء . أما عادة الختان فقد جلبها معهم اليهود من فلسطين وربما هي بتأثير مصري.
ثانياً : يهود بابل يعيدون تشكيل اليهودية في فلسطين
تمكن الفرس من اسقاط (بابل) سنة 539 ق.م التي كانت آخر دولة عراقية في العصر القديم. أصدر الملك قورش مرسوماً بدعوة اليهود وتشجيعهم من أجل الرجوع إلى ديارهم وإعادة بناء الهيكل في أورشليم، لكن غالبية اليهود رفضوا العودة، بل فقط فريق منهم بقيادة (زوربابيل) حفيد (يهوياقيم) ملك يهودا الأخير. هكذا جاءت القافلة الأولى الى فلسطين مؤلفة من عدة عشرات الآلاف من اليهود ومعهم الآلاف من عبيد بابل من غير اليهود. إن رفض الغالبية هجر بابل يعود الى أنهم كانوا يعيشون حياة رخاء، وخصوصاً الأثرياء منهم وأصحاب المناصب. كما إن غالبية الجيل الأول من السبي قد توفوا، حيث مضت أكثر من ستين عام على السبي، ولم يكن الجيل الثاني المولود في العراق يشعر بالحنين إلى فلسطين.
عزرا البابلي منجز الدين اليهودي
كان اليهود العائدون الى فلسطين، متعصبون حتى ضد إخوانهم الذين بقوا في فلسطين، بحيث عاملوهم باحتقار باعتبارهم منحرفين لأنهم قد تزاوجوا مع إخوتهم الكنعانيين. ولكن رغم ذلك التعصب والحماس، فأن مشروع إعادة بناء الهيكل ما كان ناجحاً، حتى بعد مرور أكثر من قرن على العودة. بعد ذلك قام (نحميا وعزرا) بمحاولة ثانية لترتيب حال اليهود هناك. في عام (444ق.م ) رحلا من بابل الى فلسطين وقد اصطحبا معهما ألف وسبعمائة يهودي بابلي. لقد تمكن (عزرا) بعد جهود كبيرة من إنشاء تنظيم ديني صارم أجبر يهود فلسطين بالقسم على التمسك بعهد موسى، ورفض تزويج بناتهم لغير اليهود، بل حتى التخلي عن زوجاتهم غير اليهوديات واعتبار نسلهم أبناء زنا. وصار الكهنة هم الحكام الآمرين. إن هذه المجموعة البابلية بقيادة عزرا هي التي قامت بكتابة ما سمي فيما بعد بـ (التلمود الفلسطيني). ومنذ ذلك الحين صارت اليهودية ديانة محدودة ومتميزة، تحمل صفات الانغلاق العرقي والديني. وأمست الطقوس الشكلية مقدسة وصارمة مثل يوم السبت والصلاة في هيكل أورشليم والاحتفال بالاعياد والمناسبات اليهودية المعروفة.
ثالثاً : كتابة التلمود الفلسطيني والبابلي
التلمود كتاب ضخم جمعت فيه أحاديث اليهود وأحكامهم وفقههم وكل كتاباتهم التي أعقبت انجاز التوراة، خلال حوالي ألف عام، أي من القرن الخامس (ق.م) حتى القرن الخامس الميلادي. إن كلمة (التلمود) تعني (التلمذة والتعلم).
لقد بقي العراق المقر الاساسي للديانة اليهودية، حتى بالنسبة ليهود فلسطين. فرغم انتقال الكثير من اليهود الى فلسطين (أرض الميعاد)، إلاّ أنهم بقوا دائماً متعلقين بأرض بابل، لهذا تراهم كانوا ما أن يتعرضوا الى ضائقة في فلسطين، سرعان ما يلجأوا الى العراق، وهنالك وقائع كثيرة تؤكد هذه الحالة. ففي سنة63 ق.م عندما سقطت الدولة المكابية اليهودية في فلسطين على يد الرومان، هاجر الآلاف من اليهود ولاسيما من رجال الدين إلى أرض بابل. لقد ظل علماء يهود بابل فعّالين حتى في المدارس اليهودية في فلسطين. فهاهو الرابي (أبا عريقا) ينتقل من العراق إلى فلسطين ويؤسّس أكاديمية (سورا) ويذكر عادة بلقبه الشائع (راب) كذلك (صموئيل) الفلكي والطبيب.
لقد ظهرت في بابل جماعة أطلق عليها (سوفريم) وتعني الكتّاب وهم الذين أولوا إهتماماًبكتابة التوراة والاحكام الدينية، ومن أبرزهم الكاتب عزرا الذي جاء الى فلسطين من بابل، في القرن الخامس ق. م ويعتبر أبرز شخصية ظهرت في أوساط اليهود بعد شخصية النبي موسى. إذ قام بتطوير العقيدة اليهودية من خلال استخراج نصوص من كتاب العهد القديم تعنىبمتطلبات المجتمع اليهودي، وكانت خطوته تلك بداية للسنة الشفوية. ثم راج بعد عزراأسلوب في تفسير وتأويل النصوص الدينية يسمى (مدراش) ومعناه (البحث والتتبع)، لأنالعلماء تتبعوا على ضوئه المعاني الكامنة في التوراة، بغية وضع الحلول لجميعالمسائل والمستجدات.
وكانت هناك مجموعتان من تلك الخلاصات، إحداها تكونت في فلسطين وتسمى تلمود أورشليم، والأخرى كتبت في العراق وتسمى التلمود البابلي، وهو أكثر استفاضة وأهمية. وبينما انتهى التلمود الفلسطيني بحدود عام 400 ق.م.، فإن التلمود البابلي قد ضم إضافات إلى نحو عام 500 م. إن التلمود البابلي ثلاثة أضعاف التلمود الفلسطيني، حيث تبلغ صفحاته أكثر من خمسة آلاف، وقد ترجم الى العديد من اللغات.
إذن يعتبر التلمود أشبه بدائرة معارف ضخمة بكل ما يتعلق بأسس الديانة اليهودية، وهو المصدر الاساسي للتشريع اليهودي. وبما أنه اكتمل بعد أنتشار المسيحية، فأنه يتضمن الطعن بالسيد عيسى المسيح، لهذا رفضهالمسيحيون، وبسببه عانى اليهود في اوربا من الاضطهاد، وكانت عملية حرق التلمود أمر شائع لدى الكاثوليك.
تحول اليهودية الى ديانة متميزة
من المعلوم انه حتى فترة السبي كانت تسمية (اليهود) خالية من المعنى الديني، إذ تعني (سكان يهودا ـ أورشليم) جنوب فلسطين ومع الزمن شملت أيضاً سكان (اسرائيل ـ السامرة) شمال فلسطين. لهذا فأن (يهود) بابل هم أول من بدأ بإضفاء الطابع العقائدي الديني على جاليتهم. في بابل اتخذت تسمية (اليهودية) معناً دينياً. وقد احتاجت عملية التأسيس الديني الاولى حوالي أربعة قرون (بين القرنين السابع والثالث ق.م) تمثلت بالتدوين التوراتي والجدال والتنظير البطيء. في القرن الثالث ق.م بدأت تسمية (اليهود) تتخذ معناً دينياً وإسماً لطائفة تمتلك عقيدة وكتاباً مقدساً أسمه (التوراة). أما أول من أشار بصورة رسمية وكتابية إلى (عقيدة اليهود) باليهودية هو المؤرخ اليهودي الفلسطيني (يوسيفوس فلافيوس ـ القرن الاول م) في الاسكندرية، وذلك بالمقارنة مع (الهيلينية): ((عقيدة أهل مقاطعة يهودا مقابل عقيدة سكان مقاطعة هيلاس)). فالمصطلح إذن بدء إسماً أقوامياً جغرافياً ثم بالتدريج في بابل اتخذ مضموناً دينياً.
يهود بابل ينشرون اليهودية في العالم
عام 334 ق.م تمكن الإسكندر المقدوني ( 356-323 ق.م) من القضاء على الدولة الايرانية، والسيطرة على العراق وعموم الشرق. وقد اختار (بابل) لتكون عاصمة امبراطوريته العالمية، لكن حلمه لم يتحقق حيث مات في بابل، المدينة التي كان يجلها. في هذه الحقبة اليونانية بدأت تبرز مراكز ثقافية يهودية جديدة منافسة لدور بابل، وبالذات (الاسكندرية) في مصر.
فقد نقل الاسكندر الكثير من يهود بابل وفلسطين الى مدنه الجديدة التي كوَنَّها، ومنها بالذات (مدينة الاسكندرية)، التي تحولت الى مركزاً أساسياً للثقافة اليونانية، وتحت ظلها انتعشت كذلك الثقافة اليهودية. كذلك قام الملك (أنطيوخس الثالث) (323 - 187 ق.م) خليفة الاسكندر، بنقل ألفي أسرة يهودية عراقية مع أجهزتها الحربية إلى ليديا وفريجيا في آسيا الصغرى لتأسيس حامية منهم هناك موالية لحكم السلوقيين. ومن هؤلاء بدأت الجاليات اليهودية تنتشر في اليونان وعموم البحر المتوسط.
يمكن القول إن (الاسكندرية) قد نقلت الديانة اليهودية الى المرحلة الرابعة المكملة للمراحل الثلاث السابقة. في الاسكندرية برزت شخصيات يهودية استوعبت جيداً الثقافة اليونانية ولعبت دوراً كبيراً في التأثير على الثقافة اليهودية وترجمة كتبها الى اليونانية، أمثال الفيلسوف (فيلون الاسكندري القرن الاول الميلادي) الذي أدخل الى اليهودية (العرفان ـ الغنوص) الاسكندري المسمى بـ (الافلاطونية الجديدة). كذلك المؤرخ الكبير(يوسيفوس فلافيوس ـ القرن الاول م)) وهو يهودي فلسطيني عاش في الاسكندرية وكتب تاريخ اليهود وعرف به عالمياً. كذلك قامت النخبة اليهودية هنالك في القرن الثالث ق.م ، بتكوين لجنة من سبعين شخصية لترجمة التوراة الى اليونانية، واستغرق هذا المشروع حوالي ثلاث قرون، حتى القرن الميلادي الاول، وسميت (الترجمة السبعينية) التي حولت التوراة الى مصدر ثقافي عالمي.
ظهور النخب اليهودية العراقية
( ان بابل كأس ذهب بيد الرب تسكر كل الارض . من خمرها شربت الامم)
(التوراة ـ أيرميا 51 : 7)
على عكس الصورة السائدة، ان يهود بابل ما كانوا مسبيين مضطهدين، بل هم مندمجين في المجتمع البابلي حتى بلغوا طبقاته العليا. وقد منحهم (نبوخذ نصر) أراض خصبة على الفرات وقدم لهم الدعم من أجل أن يسكنوا فيها ويعيشوا بسلام. ان المصادر التاريخية ومن ضمنها مصادر يهودية تعترف بأن (نبوخذ نصر) قد سمح للأسرى أن يصحبوا عائلاتهم وينقلوا معهم ممتلكاتهم ومواشيهم، وانه وهب اليهود أخصب مقاطعاته وأسكنهم فيها مثل منطقة (نفر) (نيبور) التي كانت تُعد من أغنى مقاطعات بابل، ومنحهم كذلك أوسع الحريات في العمل وممارسة طقوسهم الدينية، وكانت السلطات الحاكمة تعاملهم على أحسن وجه. ولقد استفاد اليهود كثيراً من الامتيازات التي منحهم إياها الكلدان، فأتقنوا الحرف والصناعات المختلفة، وتدرجوا في الطبقات العليا وعظم شأنهم بين البابليين. أصبحوا في غضون مدة وجيزة أغنى أهل بابل، فبعضهم امتلك الأراضي الزراعية والبعض الآخر كان يزرع بالفعل على الأراضي التي أقطعت لهم، وقد حفروا شبكة من جداول الري والقنوات لإيصال المياه السيحية إلى مزارعهم، وأنشأوا الحقول والبساتين ووجهوا عنايتهم لوقايتها من الغرق، فأقاموا السدود ونظموا أعمال الري على أحسن وجه، وقد اعتنوا عناية خاصة بتطهير الجداول والمبازل من الراسبات الغرينية، بحيث تحوَّلت هذه المنطقة إلى حقول مثمرة، وكان يعمل بعضهم في حقل التجارة، ويرى البعض أنه لولا أنبياء المهجر الذين كانوا لا ينفكون عن تنبيه اليهود إلى أخطار الانصهار وحثهم على ضرورة التفكير في العودة إلى يهوذا لانصهر اليهود في الشعب الكلداني إنصهاراً تاماً بسبب ما توافر لهم من رغد العيش والأمن والاستقرار.
إن النقطة المهمة التي تستحق التذكر، إن هؤلاء اليهود المسبيين في بابل، كانوا بغالبيتهم الساحقة من أفراد النخب العليا في فلسطين، من رجال دين ومتعلمين وحرفيين وغيرهم. علماً بأن هذا الاختيار النخبوي كان شائعاً في سياسة التهجير العراقية، لأن السيطرة على النخب العليا تسهل السيطرة على الناس والبلدان. لكن هذه النقطة بالذات كانت العامل الحاسم في جعل الجالية اليهودية في بابل، نشطة وفعالة وقادرة على الاستيعاب السريع والكبير للحضارة البابلية والصعود في نخب المجتمع البابلي العليا، وبالتالي التمكن من لعب الدور الحاسم بتأسيس العقيدة اليهودية. جميع دلائل التاريخ تؤكد هذه الصورة الايجابية :
ـ ان الثقافة اليهودية وكتبها ومدارسها ومبدعيها، نشأت في بابل. فيها ظهر نبيهم حزقيال (586و 538 ق. م) الذي كتب (سفر حزقيال). كذلك ظهر (النبي إشيعيا الثاني 550 وسنة 540 ق.م) الذي يعتبر من أهم اللذين طوَّروا اليهودية ومنحوها بعدها القومي والخلاصي. (طالع سفر إشعيا). كذلك قام (عزرا) بتنظيم اليهودية في فلسطين وجعلها ديناً محدداً بالطقوس والواجبات، وقام بجمع اسفار التوراة (القرن الخامس ق.م) ومات في العراق، كذلك (النبي ناحوم) الذي قاد حملة العودة الى فلسطين وأعاد بناء الهيكل. كما أسست في العراق معابد ومدارس دينية يهودية لعبت دوراً حاسماً في بناء الثقافة اليهودية. وان (الكتاب المقدس ـ العهد القديم)، قد كتبه فعلياً اليهود المقيمون في بابل، حيث استلهموا أولاً تراثهم الشفهي البدوي البدائي الذي جلبوه معهم من فلسطين، ومزجوه مع تراث الديانة العراقية (البابلية) وأساطيرها المعروفة، مثل أسطورة التكوين والطوفان وقصة موسى، وآدم وحواء. أما كتابهم التشريعي (التلمود البابلي) فقد كتبوه أيضاً في بابل مستلهمين الثقافة القانونية العراقية ومن أهمها (شريعة حمورابي).
ثم ان غالبية اليهود رفضوا العودة الى فلسطين، بعد سقوط بابل وتشجيع المحتلين الفرس لهم. بل ان بابل بقيت محطة إنقاذ لليهود حيث كانوا يلجأون إليها كلما سائت أحوالهم في فلسطين. لكن الموقف السلبي من بابل ظهر بعد سقوط بابل لدى بعض الأقليات المتعصبة، فأدعوا إنهم كانوا مسبيين مضطهدين في بابل : ((على ضفاف أنهاربابل جلسنا، وذرفنا الدموع حينما تذكرنا صهيون. / المزامير ـ 137 ـ1 )). وقد بلغ التعصب لدى هذه الأقلية المتشددة إلى حد أنهم دعوا إلى الانتقام من البابليين بل وحتى قتل أطفالهم :
(يا إبنة بابل الراحلة الى الخراب، طوبى لمن يجازيك ما كافأتينا به، طوبى لمن يمسك أطفالكِ ويضرب بهم الصخرةََ / المزامير 136 : 8: 9).
وأكبر دليل يدحض هذا الادعاء بمعاناة اليهود في بابل، إنهم استمروا باللجوء الى العراق، حتى قيل إن عددهم بلغ المليون، بعد خراب أورشليم على يد الرومان عام 70 م!.
إن دور النخب اليهودية البابلية الحاسم والقيادي في إبداع وتطوير اليهودية، لم يقتصر فقط على المرحلة الاولى للتأسيس الديني، بل استمرت على مراحل متواصلة عدة بلغت أكثر من 1500 عام، أي من الحقبة البابلية في القرن السابع ق.م حيث تكونت الجالية اليهودية في بابل، مروراً بالحقبة ألآرامية المسيحية في ظل السيطرة الخارجية الاجنبية، حتى الحقبة الحضارية العربية الاسلامية، الى أن أنتهى الدور اليهودي العراقي الابداعي مع انتهاء الدور الحضاري للعراقيين عموماً مع سقوط بغداد العباسية عام258 م
سياسة التهجير والسبي العراقية
عكس ما يشاع، فأن (سبي اليهود) الى (بابل) لم يكن حالة أستثنائية وخاصة باليهود وبغاية أستعبادهم، بل كان جزءاً من سياسة ظلت تمارسها السلطات العراقية، الآشورية ثم الكلدانية، طيلة قرون طويلة. فكان يتم نقل السكان من منطقة الى أخرى بطرق سلمية أو عقابية، من أجل تعمير الاراضي والمناطق. فمثلاً في القرن الثامن ق.م، تم نقل (30) ألف من سكان (حما) السورية الى المناطق الشرقية العراقية المحاذية لجبال زاغاروس من أجل تعميرها ولصد تسربات القبائل الجبلية، وبنفس الوقت قد تم نقل (18) ألف من سكان دجلة ليستوطنوا (حما) المسبية. في نفس هذا القرن أيضاً وعلى حملتين متتاليتين، تم نقل حوالي ربع مليون من سكان وسط وجنوب العراق من أنصار المتمردين الكلدان، أفراد وعوائل كاملة، الى شمال العراق، عقاباً لهم ومن أجل تعمير الاراضي والمستوطنات الجديدة. إن سياسة التهجير هذه كانت من القوة والاستمرارية بحيث بلغ عدد الذين تم نقلهم خلال ثلاثة قرون، داخل حدود الامبراطورية الآشورية التي شملت العراق والشام، (أربعة ملايين) شخص، أفراد وعوائل وعشائر. وهذا رقم هائل يدل على قوة سياسة التهجير المتبعة !
سبي اليهود
من المعلوم ان عموم بلاد الشام (بلاد الكنعانيين) وبالذات منطقة (فلسطين) ظلت دائما وفي كل حقب التاريخ ساحة صراع على النفوذ بين الدولتين العراقية والمصرية. وكانت هنالك دائماً أحزاب وأطراف من أنصار إحدى القوتين. إن عمليات سبي الفلسطينيين لم تشمل العبرانيين وحدهم كما يشاع، بل عموم شعوب منطقة الهلال الخصيب، بما فيهم سكان العراق. أما فلسطين فعمليات السبي شملت كنعانيين وعبرانيين وغيرهم، وانها تركزت على أنصار دويلة (يهودا ـ أورشليم) جنوب فلسطين، ودويلة (اسرائيل ـ السامرة) شمال فلسطين، بسبب ارتباطهما بمصر. تحدثنا المصادر التاريخية عن فترتين من عمليات السبي :
ـ الفترة الآشورية بين القرنين التاسع والسابع ق.م واشتملت على عدة حملات سبي ضد يهودا واسرائيل، وإن تركزت أكثر على (اسرائيل)، التي اختفت بعدها من الوجود عام 721 ق.م. وتتفق المصادر على رقم مبالغ بعدد المسبيين يبلغ عدة مئات من الآلاف! لكن ميزة هذه المرحلة ان المسبيين قد اختفوا من التاريخ لأنه تم توزيعهم في أنحاء المناطق الجبلية العراقية والايرانية، وذابوا وأصبحوا جزءاً من سكان المنطقة .
ـ الفترة الكلدانية، على يد (نبوخذ نصر)، في حملتين (597 و586 ق.م) وقد تركزت على(يهودا)، وقد بلغ عدد المسبيين أكثر من 50 ألف، بغالبيتهم من النخب العليا: ((كل الرؤساء وجميع جبابرة الناس ... وجميع الصناع والاقيان. ولم يبق أحد إلاّ مساكين شعب الارض)) (سفر الملوك الثاني 24 :14 ). في هذه المرحلة لم يتم تشتيتهم، بل جمعوا في منطقة بابل (وسط وجنوب العراق) مما سمح بتشكلهم كجالية متميزة. بما أنهم كانوا كلهم من سكان يهودا، لهذا شاعت تسمية (اليهود) كتسمية أقوامية وليست دينية، ولكن مع الزمن تحولوا الى طائفة دينية خاصة.
مواضيع مماثلة
» * رسالة كشف العيان - حروف الدور - ميزان الطبايع - سؤال بحروف الدور
» * الصهيونية غير اليهودية - منظمة "ايباك"- الهوية اليهودية
» * ترتيب البيت العراقي - العوامل المساعدة والمعرقلة لترتيب البيت العراقي.
» الدور و السنخية ادوات الالحاد بعد الصدفة والسببية
» * العراق عبر العصور : الحضارة البابلية
» * الصهيونية غير اليهودية - منظمة "ايباك"- الهوية اليهودية
» * ترتيب البيت العراقي - العوامل المساعدة والمعرقلة لترتيب البيت العراقي.
» الدور و السنخية ادوات الالحاد بعد الصدفة والسببية
» * العراق عبر العصور : الحضارة البابلية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى