الدور و السنخية ادوات الالحاد بعد الصدفة والسببية
صفحة 1 من اصل 1
الدور و السنخية ادوات الالحاد بعد الصدفة والسببية
فضلا عن سخف تصور (الصدفة) لكونه يخالف مبدأ (السببية) الضروري، وكذلك القول بالقانون الطبيعي، لمخالفته مبدأ السببية كذلك من وجه آخر كما تقدم؛ فإن هذه الأقوال تحتوى على تناقض آخر ذاتي!، إذ إنها تجعل نفس العالم خالقًا ومخلوقًا في وقت واحد، وهذا ما يسمى بالدور ، وهو باطل بالضرورة.
(ويقول عالم الطبيعة الأمريكي جورج إيرل ديفيس: (لو كان يمكن للكون أن يخلق نفسه فإن معنى ذلك أنه يتمتع بأوصاف الخالق، وفي هذه الحال سنضطر أن نؤمن بأن الكون هو الإله، وهكذا ننتهي إلى التسليم بوجود (الإله) ولكن إلهنا هذا سوف يكون عجيباً، إلهاً غيبياً ومادياً في آن واحد! إنني أفضل أن أؤمن بذلك الإله الذي خلق العالم المادي، وهو ليس بجزء من هذا الكون، بل هو حاكمه ومديره ومدبره، بدلاً من أن تبنى مثل هذه الخزعبلات) .
* وقد أشار القرآن العظيم لذلك الدليل في قوله تعالى {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]، فالاحتمال الثاني: (أم هم الخالقون) يقتضي الدور، وهو باطل.
4 ـ عدم التناسب ( السِّنْخِية ) :
تتضمن مذاهب الملاحدة فيما يتعلق بمبدأ العالم مغالطة عقلية صريحة أخرى، وهي مخالفة قاعدة تناسب العلة ( أو سنخية العلِّية)
فذلك الكون المخلوق على هذا الوجه من الحياة، والنظام، والعقل، والتدبير، لا يكون صادرًا عن قانون ضروري مجرد، أو مادة صماء، أو صدفة عشوائية، فهذا كمن يتصور أن جرثومة مجهرية، أو حيوانًا أعجمًا، أو طفلًا رضيعًا؛ يبرمج حاسوبًا ذكيًا، أو يصنع حفارًا جبارًا للتنقيب عن المعادن!، ولو ادُّعِيَ هذا في الواقع المشاهد لرُمِيَ بالجنون المطبق، فكيف بمَن يدعيه في الكون جملة أنه نشأ دفعة من العدم، فيجعل استمداد الوجود من العدم، أو يقول بقدم المادة، وأنها لم تسبق بعدم، لكنها تطورت وصممت كل ما في الكون من مخلوقات!
قال القاضي الباقلاني: (ويدل على أنه عالم: صدور الأفعال الحكيمة المتقنة الواقعة على أحسن ترتيب ونظام وإحكام وإتقان، وذلك لا يحصل إلا من عالم بها. ومن جوَّز صدور خط معلوم منظوم مرتب من غير عالم بالخطأ؛ كان عن المعقول خارجًا، وفي عمل الجهل والجًا!
ويدل على صحة ذلك أيضا: أنه حي، قادر، عالم؛ أنا لو جوزنا صدور أفعال محكمة متقنة من غير حي، عالم، قادر؛ لم نَدْرِ: لعل جميع ما يظهر لنا من أفعال الناس من الكتابة والصناعة وسائر الصنائع لعلها لنا منهم وهم أموات عجزة جهلة، ولعل لنا في هذه المسألة المناظر عليها ميت عاجز) !
كما يجدر أن السنخية لا تقتضي أن تكون العلة من جنس المعلول مطلقًا، أو أن تشابهه في كل صفاته، أو تماثله من كل وجه، لكن القدر المتحقق منها يجب أن يكون في إثبات التناسب، والإعطاء عن وجدان لا عن عدم، وهذا يظهر في حديث خلق آدم على صورة الله تعالى ، بل لو سلم أن السنخية تقتضي المشابهة في الجنس - وهو ليس بلازم - فتخصيص الباري تعالى بعدم مشابهة خلقه وتنزيهه عن كل نقص ثابت بأدلة العقل والنقل على سبيل القطع.كما أن السنخية لا تخالف استحقاق الصانع رتبة أعلى من المصنوع، بل ثبت بالعقل والنقل أن كل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه اتصف به المخلوق فوصف خالقه به أولى على ما هو معروف في مظانه .
قال شيخ الإسلام: (وهكذا كل ما في المخلوقات من قوة وشدة تدل على أن الله أقوى وأشد، وما فيها من علم يدل على أن الله أعلم، وما فيها من علم وحياة يدل على أن الله أولى بالعلم والحياة.
وهذه طريقة يقر بها عامة العقلاء، حتى الفلاسفة يقولون: كل كمال في المعلول فهو من العلة) .
* ويستنبط بعضهم السنخية من القرآن الكريم، من قوله تعالى: { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84]، وفيه بحث.
ومن قوله: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35]، لأنها دالة أن فاقد الشيء لا يعطيه، وفاقد الهداية لا يمكنه الهداية، وهذا أقرب مما قبله.
الدور - الصدفة - والعبثية من ( مخلفات الملحدين )
وهذا هو المستوى الثاني من مخالفات الملحدين في السببية، إذ لا يعرف أن أحدًا أنكر العلِّية إنكارًا تامًا إلا هيوم - وفي درجة أقل منه ما ذكرناه من نقد كانط للإجراء السببي - والمستوى الثاني الذي نذكره هو فيما يتعلق بما تقتضيه العلِّية.
فالمذاهب الإلحادية تدور على القول بنشوء العالم إما على سبيل الصدفة، وإما على سبيل القانون الضروري.
* الصدفة :
ـ ليس المراد بالصدفة أن العالم نشأ من لا شيء، أو دون علة، ولكن المراد منها أن العالم قد وُجد نتيحة سلسلة من التفاعلات الطويلة، دون تنظيم أو تخطيط سابق، ويمثل ذلك بجلاء ما يقوله هكسلي عن نشأة الكون: (لو جلست ستة من القردة على آلات كاتبة، وظلت تضرب على حروفها لملايين السنين فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير! فكذلك كان الكون الموجود الآن نتيجة لعمليات عمياء، ظلت تدور في المادة لبلايين السنين)!!!.
ـ ويستحق هذا الهراء تعليقًا ساخرًا كتعليق كونكلين: (إنّ القول إن الحياة وجدت نتيجة حادث اتفاقي شبيه في مغزاه بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة انفجار صدفي يقع في مطبعة) ، بل إنه في حقيقة الأمر لا يعدو كونه (من قبيل اللغو المثير، بكل ما تحويه هذه الكلمة من معان) على حد تعبير وحيد الدين خان.
ـ ورغم ظهور بطلان هذا القول وسخفه، إلا أنه مما يبطل القول بالمصادفة بهذا المفهوم ما يعرف بـ (برهان العناية) ، أو (برهان النظم)، وحاصله: أن العالم مُصمم بحيث يتلاءم مع حاجات الإنسان، فإن الإنسان حين يجوع، فإن في الطبيعة من المواد ما يسمح بتجاوز الجوع وسده، وكذا العطش، وكذا الجنس، ومثل ذلك التصميم العمدي المعتنى فيه بتكامل الوجود يستحيل أن يكون خبط عشواء.
يقول الدكتور فرانك ألن عالم الطبيعة البيولوجية: (إن ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صورًا عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية).
وكذلك يقول العالم كريسي موريسون : (إنّ جميع مقومات الحياة الحقيقية ما كان يمكن أن يوجد على كوكب واحد في وقت واحد بمحض المصادفة).
ويستفيض المتخصصون في مجالات الفيزياء والكيمياء والفضاء في بيان أوجه تلك العناية، التي تصل في بعض الأحيان أن تخلف جزء كيميائي معين، أو زيادة طفيفة لحركة الأرض، أو مسافة الشمس، ونحو ذلك؛ تؤدي إلى نهاية الحياة على ظهر الأرض فورًا !
وأكتفي هنا بنقل كلام لموريسون، يقول: (إنّ حجم الكرة الأرضية وبُعدها عن الشمس، ودرجة حرارة الشمس وأشعتها الباعثة للحياة، وسمك قشرة الأرض وكمية الماء، ومقدار ثاني أوكسيد الكربون وحجم النتروجين وظهور الإنسان وبقاؤه على قيد الحياة، كل أولاء تدلّ على خروج النظام من الفوضى، وعلى التصميم والقصد، كما تدلّ على أنّه طبقًا للقوانين الحسابية الصارمة ما كان يمكن حدوث كل ذلك مصادفة في وقت واحد على كوكب واحد مرة في بليون مرة، «كان يمكن أن يحدث هكذا» ولكن لم يحدث هكذا بالتأكيد !
وحين تكون الحقائق هكذا قاطعة وحين نعترف - كما ينبغي لنا - بخواص عقولنا التي ليست مادية فهل في الإمكان أن نغفل البرهان، ونؤمن بمصادفة واحدة في بليون ونزعم أنّنا وكل ما عدانا، نتائج المصادفة.
لقد رأينا أنّ هناك ٩٩٩/٩٩٩/٩٩٩ فرصة ضد واحد، ضد الاعتقاد بأنّ جميع الأُمور تحدث مصادفة» .
ـ كذلك من الأوجه الدالة على بطلان المصادفة بهذا المعنى البرهان الرياضي، يقول العالم الأمريكي الشهير كريسي موريسون: («لو تناولت عشر قطع، وكتبت عليها الأعداد من واحد إلى عشرة ثم رميتها في جيبك وخلطتها خلطًا جيدًا ثم حاولت أن تخرج منها الواحد إلى العاشر بالترتيب العددي بحيث تلقي كل قطعة في جيبك بعد تناولها مرة أُخرى.
فإمكان أن تتناول القطعة رقم (1) في المحاولة الأُولى هو واحد على عشرة، وإمكان أن تتناول القطعة رقم (١) و (٢) متتابعين هو بنسبة واحد على مائة، وفرصة سحب القطع التي عليها أرقام (١ و ٢ و ٣) متتالية هي بنسبة واحد على ألف، وفرصة سحب (١ و ٢ و ٣ و ٤) متوالية هي بنسبة واحد على عشرة آلاف، وهكذا حتى تصبح فرصة سحب القطع بترتيبها الأوّل من ١ إلى ١٠ هي بنسبة واحد من عشرة بلايين محاولة) .
* وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك الدليل صراحة، في غير ما آية، مثل: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) } [النبأ: 6-7]-إلى قوله- {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) } [النبأ: 16]، ومثل قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا (61) } [الفرقان 61] إلى قوله تعالى: {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) } [الفرقان 62]، ومثل قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) } [عبس: 24]، وقوله {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، وقوله {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3].
ومن الآيات الواضحات في ذلك في سورة الواقعة، قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: 57 - 59].
وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الواقعة: 62 - 74].
فكل تلك الآيات العظيمة من الأدلة القرآنية - وهي أدلة عقلية بحسب المحتوى - تتناول مسألة العناية، والنظام في الكون، وأن هذا دليل حاسم على أن الكون مخلوق لخالق حكيم عظيم.
(ويقول عالم الطبيعة الأمريكي جورج إيرل ديفيس: (لو كان يمكن للكون أن يخلق نفسه فإن معنى ذلك أنه يتمتع بأوصاف الخالق، وفي هذه الحال سنضطر أن نؤمن بأن الكون هو الإله، وهكذا ننتهي إلى التسليم بوجود (الإله) ولكن إلهنا هذا سوف يكون عجيباً، إلهاً غيبياً ومادياً في آن واحد! إنني أفضل أن أؤمن بذلك الإله الذي خلق العالم المادي، وهو ليس بجزء من هذا الكون، بل هو حاكمه ومديره ومدبره، بدلاً من أن تبنى مثل هذه الخزعبلات) .
* وقد أشار القرآن العظيم لذلك الدليل في قوله تعالى {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]، فالاحتمال الثاني: (أم هم الخالقون) يقتضي الدور، وهو باطل.
4 ـ عدم التناسب ( السِّنْخِية ) :
تتضمن مذاهب الملاحدة فيما يتعلق بمبدأ العالم مغالطة عقلية صريحة أخرى، وهي مخالفة قاعدة تناسب العلة ( أو سنخية العلِّية)
فذلك الكون المخلوق على هذا الوجه من الحياة، والنظام، والعقل، والتدبير، لا يكون صادرًا عن قانون ضروري مجرد، أو مادة صماء، أو صدفة عشوائية، فهذا كمن يتصور أن جرثومة مجهرية، أو حيوانًا أعجمًا، أو طفلًا رضيعًا؛ يبرمج حاسوبًا ذكيًا، أو يصنع حفارًا جبارًا للتنقيب عن المعادن!، ولو ادُّعِيَ هذا في الواقع المشاهد لرُمِيَ بالجنون المطبق، فكيف بمَن يدعيه في الكون جملة أنه نشأ دفعة من العدم، فيجعل استمداد الوجود من العدم، أو يقول بقدم المادة، وأنها لم تسبق بعدم، لكنها تطورت وصممت كل ما في الكون من مخلوقات!
قال القاضي الباقلاني: (ويدل على أنه عالم: صدور الأفعال الحكيمة المتقنة الواقعة على أحسن ترتيب ونظام وإحكام وإتقان، وذلك لا يحصل إلا من عالم بها. ومن جوَّز صدور خط معلوم منظوم مرتب من غير عالم بالخطأ؛ كان عن المعقول خارجًا، وفي عمل الجهل والجًا!
ويدل على صحة ذلك أيضا: أنه حي، قادر، عالم؛ أنا لو جوزنا صدور أفعال محكمة متقنة من غير حي، عالم، قادر؛ لم نَدْرِ: لعل جميع ما يظهر لنا من أفعال الناس من الكتابة والصناعة وسائر الصنائع لعلها لنا منهم وهم أموات عجزة جهلة، ولعل لنا في هذه المسألة المناظر عليها ميت عاجز) !
كما يجدر أن السنخية لا تقتضي أن تكون العلة من جنس المعلول مطلقًا، أو أن تشابهه في كل صفاته، أو تماثله من كل وجه، لكن القدر المتحقق منها يجب أن يكون في إثبات التناسب، والإعطاء عن وجدان لا عن عدم، وهذا يظهر في حديث خلق آدم على صورة الله تعالى ، بل لو سلم أن السنخية تقتضي المشابهة في الجنس - وهو ليس بلازم - فتخصيص الباري تعالى بعدم مشابهة خلقه وتنزيهه عن كل نقص ثابت بأدلة العقل والنقل على سبيل القطع.كما أن السنخية لا تخالف استحقاق الصانع رتبة أعلى من المصنوع، بل ثبت بالعقل والنقل أن كل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه اتصف به المخلوق فوصف خالقه به أولى على ما هو معروف في مظانه .
قال شيخ الإسلام: (وهكذا كل ما في المخلوقات من قوة وشدة تدل على أن الله أقوى وأشد، وما فيها من علم يدل على أن الله أعلم، وما فيها من علم وحياة يدل على أن الله أولى بالعلم والحياة.
وهذه طريقة يقر بها عامة العقلاء، حتى الفلاسفة يقولون: كل كمال في المعلول فهو من العلة) .
* ويستنبط بعضهم السنخية من القرآن الكريم، من قوله تعالى: { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84]، وفيه بحث.
ومن قوله: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35]، لأنها دالة أن فاقد الشيء لا يعطيه، وفاقد الهداية لا يمكنه الهداية، وهذا أقرب مما قبله.
الدور - الصدفة - والعبثية من ( مخلفات الملحدين )
وهذا هو المستوى الثاني من مخالفات الملحدين في السببية، إذ لا يعرف أن أحدًا أنكر العلِّية إنكارًا تامًا إلا هيوم - وفي درجة أقل منه ما ذكرناه من نقد كانط للإجراء السببي - والمستوى الثاني الذي نذكره هو فيما يتعلق بما تقتضيه العلِّية.
فالمذاهب الإلحادية تدور على القول بنشوء العالم إما على سبيل الصدفة، وإما على سبيل القانون الضروري.
* الصدفة :
ـ ليس المراد بالصدفة أن العالم نشأ من لا شيء، أو دون علة، ولكن المراد منها أن العالم قد وُجد نتيحة سلسلة من التفاعلات الطويلة، دون تنظيم أو تخطيط سابق، ويمثل ذلك بجلاء ما يقوله هكسلي عن نشأة الكون: (لو جلست ستة من القردة على آلات كاتبة، وظلت تضرب على حروفها لملايين السنين فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير! فكذلك كان الكون الموجود الآن نتيجة لعمليات عمياء، ظلت تدور في المادة لبلايين السنين)!!!.
ـ ويستحق هذا الهراء تعليقًا ساخرًا كتعليق كونكلين: (إنّ القول إن الحياة وجدت نتيجة حادث اتفاقي شبيه في مغزاه بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة انفجار صدفي يقع في مطبعة) ، بل إنه في حقيقة الأمر لا يعدو كونه (من قبيل اللغو المثير، بكل ما تحويه هذه الكلمة من معان) على حد تعبير وحيد الدين خان.
ـ ورغم ظهور بطلان هذا القول وسخفه، إلا أنه مما يبطل القول بالمصادفة بهذا المفهوم ما يعرف بـ (برهان العناية) ، أو (برهان النظم)، وحاصله: أن العالم مُصمم بحيث يتلاءم مع حاجات الإنسان، فإن الإنسان حين يجوع، فإن في الطبيعة من المواد ما يسمح بتجاوز الجوع وسده، وكذا العطش، وكذا الجنس، ومثل ذلك التصميم العمدي المعتنى فيه بتكامل الوجود يستحيل أن يكون خبط عشواء.
يقول الدكتور فرانك ألن عالم الطبيعة البيولوجية: (إن ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صورًا عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية).
وكذلك يقول العالم كريسي موريسون : (إنّ جميع مقومات الحياة الحقيقية ما كان يمكن أن يوجد على كوكب واحد في وقت واحد بمحض المصادفة).
ويستفيض المتخصصون في مجالات الفيزياء والكيمياء والفضاء في بيان أوجه تلك العناية، التي تصل في بعض الأحيان أن تخلف جزء كيميائي معين، أو زيادة طفيفة لحركة الأرض، أو مسافة الشمس، ونحو ذلك؛ تؤدي إلى نهاية الحياة على ظهر الأرض فورًا !
وأكتفي هنا بنقل كلام لموريسون، يقول: (إنّ حجم الكرة الأرضية وبُعدها عن الشمس، ودرجة حرارة الشمس وأشعتها الباعثة للحياة، وسمك قشرة الأرض وكمية الماء، ومقدار ثاني أوكسيد الكربون وحجم النتروجين وظهور الإنسان وبقاؤه على قيد الحياة، كل أولاء تدلّ على خروج النظام من الفوضى، وعلى التصميم والقصد، كما تدلّ على أنّه طبقًا للقوانين الحسابية الصارمة ما كان يمكن حدوث كل ذلك مصادفة في وقت واحد على كوكب واحد مرة في بليون مرة، «كان يمكن أن يحدث هكذا» ولكن لم يحدث هكذا بالتأكيد !
وحين تكون الحقائق هكذا قاطعة وحين نعترف - كما ينبغي لنا - بخواص عقولنا التي ليست مادية فهل في الإمكان أن نغفل البرهان، ونؤمن بمصادفة واحدة في بليون ونزعم أنّنا وكل ما عدانا، نتائج المصادفة.
لقد رأينا أنّ هناك ٩٩٩/٩٩٩/٩٩٩ فرصة ضد واحد، ضد الاعتقاد بأنّ جميع الأُمور تحدث مصادفة» .
ـ كذلك من الأوجه الدالة على بطلان المصادفة بهذا المعنى البرهان الرياضي، يقول العالم الأمريكي الشهير كريسي موريسون: («لو تناولت عشر قطع، وكتبت عليها الأعداد من واحد إلى عشرة ثم رميتها في جيبك وخلطتها خلطًا جيدًا ثم حاولت أن تخرج منها الواحد إلى العاشر بالترتيب العددي بحيث تلقي كل قطعة في جيبك بعد تناولها مرة أُخرى.
فإمكان أن تتناول القطعة رقم (1) في المحاولة الأُولى هو واحد على عشرة، وإمكان أن تتناول القطعة رقم (١) و (٢) متتابعين هو بنسبة واحد على مائة، وفرصة سحب القطع التي عليها أرقام (١ و ٢ و ٣) متتالية هي بنسبة واحد على ألف، وفرصة سحب (١ و ٢ و ٣ و ٤) متوالية هي بنسبة واحد على عشرة آلاف، وهكذا حتى تصبح فرصة سحب القطع بترتيبها الأوّل من ١ إلى ١٠ هي بنسبة واحد من عشرة بلايين محاولة) .
* وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك الدليل صراحة، في غير ما آية، مثل: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) } [النبأ: 6-7]-إلى قوله- {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) } [النبأ: 16]، ومثل قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا (61) } [الفرقان 61] إلى قوله تعالى: {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) } [الفرقان 62]، ومثل قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) } [عبس: 24]، وقوله {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، وقوله {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3].
ومن الآيات الواضحات في ذلك في سورة الواقعة، قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: 57 - 59].
وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الواقعة: 62 - 74].
فكل تلك الآيات العظيمة من الأدلة القرآنية - وهي أدلة عقلية بحسب المحتوى - تتناول مسألة العناية، والنظام في الكون، وأن هذا دليل حاسم على أن الكون مخلوق لخالق حكيم عظيم.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى