* قصص قصيرة :لست انا - وسمي - الارنب مانو- شبح جدي- سفرة برية - المعطف - انزلاق الزمن
صفحة 1 من اصل 1
* قصص قصيرة :لست انا - وسمي - الارنب مانو- شبح جدي- سفرة برية - المعطف - انزلاق الزمن
انا لست انا ...! فمن اكون انا ...؟
كتب : طارق فتحي
عندما ابحث عن ذاتي أجد نفسي تتصارع مع إرادتي .. ابحث عن شئ مفقود ولكن لا أجده .. كل مااتمناه يتحول إلى سراب في غمضه عين .. أكاد اشك في نفسي أكاد اشك بروحي .لا اعلم من هذا الذي يكون في داخلي ..شئ غريب يجرح شعوري ..ويتفنن بتعذيبي ..ويستلذ بآهاتي ..
هي روحي التي لم افهمها يومآ ما . أو روح غيري التي اعتبرها روحي
ان تسلسلي بين اخوتي هو الثالث . وقد سبق ان اجهضت والدتي بطفلا ذكراً, لم يتم شهره الثامن بعد . وعلى العادة الجارية في الدين الاسلامي ولا اعلم ان كانت موجودة في الاديان الاخرى ام لا يجب تسمية المولود قبل دفنه وبذلك اسمته عائلتي ( طارق ) وتم دفنه بحسب الشريعة الاسلامية .
وبعد ما يزيد عن العام ونيف وضعت والدتي مولوداً آخر ذكراًآخر . وهو كاتب هذا المقال واسموني طارق ايضاً . ودارت الايام والسنين وعلمت مؤخراً اني اكتسبت اسم اخي الذي يكبرني بعام واحد . وعلمت ايضاً ان الله توفاه قبل ولادته بشهراً واحداَ .
فاذا كنت انا احمل اسم اخي طارق , فمن اكون انا ؟ وما هو اسمي ؟
فاذا كنت انا .! لست انا .؟ فمن اكون انا .؟
ما هي ماهية الروح التي امتلكها وروح من هي ؟
فان كانت روحه فلا بأس بذلك , وان كانت هي روحي فلا بأس بذلك ايضاً ولكن البأس كل البأس ان تكون روحانا نحن الاثنين قد حلت في جسدي , مَن يدري .؟ واذا كانت روح اخي طارق حلت في جسدي , فاين روحي اذاً.؟ ام انا بلا روح وبلا اسم فقط مجرد جسم . وان كانت هي روحي الحقيقية هي التي حلت في جسدي , فما اسمي اذاً.؟ روحان في جسد واحد لا يستقيم الامر لهما بتدبيره , وربما يستقيم ذلك ولكننا نخشى البوح به . فتارة اجدني ذكياً خارقاً للعادة , وتارة اجد نفسي لا افقه قولاً ولا عملاً .
فانا بجسدي واخي طارق بروحه , كيف سيكون حالنا والى ماذا سوف يؤول مآلنا . طارق الميت الحي ام طارق الحي الميت . انها تلاقي الاضداد في الاعداد قبل الاستعداد ليوم التعداد . اي روح تحاسب وايهما تسامح ايهما تعاقب وايهما تثاب وما الذي ينسب الي من الاعمال ان كنت مجهول الهوية والاسم بين البشر . اعالم آخر معتبر , هل تدبرت الامر . ان كنت انا لست انا , فمن اكون انا اذاً ؟
ظلت هذه الافكار تتصارع معي في مراحل الصبا والشباب فمررت في احوال غريبة واجواء عجيبة حتى اني كنت اكلم اشباحي وارى من خلالهم عالم آخر بعدَ آخر برزخ آخر . وما اطلبه في يقظتي اراه في منامي عيانا جهارا ليلا ونهارا. فبات العقل عندي مستودعا لعوالمي لاناتي وآهاتي في سبيل حل جميع مشكلاتي . وليت الامر اقتصر على ذلك , فكم صديقاً عرفته يتحدث مع اخي طارق ويهملني حتى اتركه واقول له انت لست ملهمي وتبعثرت التناقضات في جميع عروق دمي حتى حانت ساعة في يوم له القلب يدمي وليس لات مندمي .
في يوم ما ليس كسائر الايام استيقظت من منامي واجتمعنا خلقا كثيرا من الانام في وئام وكانت وجهتنا بركة ماءٍ لها غورٍ مظلم في الاعماق . نروم تعلم السباحة كأننا في سياحة وفي لحظة ما غرقت انا فكانت النياحة ولفني الموت زمنا لا اعلم قدره . كل ما اذكره اني عدت الى الحياة في الوقت الذي كان فيه والدي قد ارسل من يحفر قبري . جرياً على عادة ( اكرام الميت دفنه ) . نعم هذا هو قدري ان يحفر قبري ولا انزل في حفرتي . ووهبت حياة ثانية ربما للمرة الثانية او الثالثة ولا زلت لغاية يومنا هذا لا اعلم كم مت وكم احييت حتى ضننت نفسي اني خالداً .
وبعد هذه الحادثة الموجعة عاد اليَ رشدي وتنبهت لامري جيدا وانا صافي الذهن متوقد الفكر متحفزا نشطاً محباً شغوفاً لكل امرٍ. فعلمت في سري ان الذي مات غرقاً ولم يدفن في قبري هو طارق اخي وعلمت اذ ذاك كم هو غبي كاد ان يضيعني بغباءه ويشتتني في افكاره ويسحبني الى مهالكه فحمدت الله وشكرته . ولازلت لغاية هذا اليوم احمده واشكره وسلمت له امري بالكلية على الفطرة السليمة . وتركت كل عاهاتي السقيمة بعد ان اصبحت رجلاً ذا قيمة بين الرجال انال محبتهم في الحال فسبحان مغير الاحوال من حال الى حال .
ولكن هاجس اسمي لا زال يؤرقني فانا لست انا فمن اكون انا ؟؟؟؟
وسمي بالزي الرسمي
بقلم : طارق فتحي
في ستينيات القرن الماضي كنا طلاب في المرحلة الاعدادية وعلى غرار افلام الستينيات ( الاصدقاء الثلاثة ) و ( الفرسان الثلاثة ) و ( ثلاثي اضواء المسرح ) ( واحنا الثلاثة ) ومسايرةً لهذه الموجة من الافلام كنا اصدقاء ثلاثة وزملاء في الدراسة وبنفس الصف الواحد انا وخالد مونكي و وسمي . ونرتاد المدرسة بنفس الزي الرسمي لثلاثتنا .
كنا اشقياء بطفولة بريئة نحب المرح والحياة بقوة وغالباً ما كنا نسير في شارع السعدون احد شوارع بغداد العريقة حيث تغلبنا شقاوتنا في تصرفاتنا فنعاكس الباعة وبعض المارة ونتهكم على ما يحلو لنا من الناس وكنا سعداء للغاية حتى وصولنا الى الباب الشرقي ونتفرق كلٍ الى حال سبيله .
لا تفلت منا صغيرة او كبيرة دون التعليق عليها والتهكم بها وكانت اغلب المقالب يقوم بها الزميل خالد مونكي هكذا كنا نلقبه كونه شخص فارع الطول . طويل الذراعين . محني الظهر . متهدل الارجل . ويشبه القرود في مشيته وانتصاب قامته الى حد ما وهو صاحب مقالب لا تخطر على بال احد وكنت في حينها كثير النقد لتصرفاته الرعناء .
وفي عصر ذات يوم دق جرس المدرسة معلناً انتهاء الدوام الرسمي لهذا اليوم . فخرجنا جميعاً نتبعثر في شوارع بغداد وازقتها واحياناً نعرج على شارع ابي نؤاس الشارع الرديف لنهر دجلة الخالد . وكنا كالعادة نحث الخطى سيراً نحو مبتغانا الباب الشرقي . وعندها يبدأ الزميل خالد مونكي كعادته في معاكسة الباعة المتجولين والمارة . هذه المعاكسات نسلم منها تارة وتارة اخرى نذيق بها عذاب سوء تصرفاتنا .
وبينما نحن نسير في الجانب الايمن من شارع السعدون باتجاه الباب الشرقي وصلنا الى ساحة النصر ووقفنا ثلاثتنا عند الاشارة نروم العبور الى الجانب الاخر من الشارع حيث سينما النجوم لنقرأ اعلاناتها ونتطلع الى الافلام التي تقدمها لهذا الاسبوع او الاسبوع القادم . سيما وان هناك مقهى قد افترشت جزاً كبيراً من الرصيف بمقاعدها التراثية المتهالكة التي تعج بكبار السن المبهجين الذين يسرون الناظر اليهم . ومشهد المقهى هو البروتوكول الثابت الذي لا يفوته خالد مونكي مهما كانت الظروف .
واثناء انتظارنا للاشارة الخضراء متهيئين للعبور وقف امامنا رجل عجوز وهو يرتجف من شدة ضعفه مسندا نفسه على عكازة القديم قدم الدهر كله . ووقف تماما ً امام خالد مونكي العملاق . فالتف خالد مونكي اليً وقال ( شوف همه يتحارشون بيً) وضحكنا جميعاً وأضاءة الاشارة الخضراء واخذ الكل يجري مسرعي الخطى بغية الوصول الى الرصيف الوسطي بآمان . فما كان من خالد هذا الا ان حمل الرجل العجوز معة ككيس بطاطا وعبر به الى الجزرة الوسطية وانزله الارض بسلام وآمان .
وبينما نحن بانتظار الاشارة الخضراء للعبور الى الصوب الاخر من الشارع خر الرجل العجوز ارضاً هو وعكازه واذا به جثة هامدة لا حراك فيها وساد الهرج والمرج في الشارع وانتقل جميع رواد المقهى التي على الرصيف الى وسط الشارع بدافع حب الفضول ومشاهدة ما يجري وانقطع سير المركبات وتعالت صرخات القوم وامتزجت مع منبهات السيارات وسادت فوضى عارمه المكان واختلط الحابل بالنابل . فانتبه رجل المرور لما يحدث وكان يقف بجانبنا تماماً ممسكاً بعمود نور ضخم في قاعدته جهاز هاتف كبيرالحجم اسود اللون .
وفي خضم هذه الفوضى العارمة طلب خالد مونكي من وسمي ان يتصل بالاسعاف الفوري وبينما كان الشرطي منشغلاً بابعاد المارة والسماح لتدفق المركبات الصغيرة بالسير وفض الزحام . اخذ وسمي الهاتف واتصل بالاسعاف الفوري . وبعد مرور ما يقارب العشرة دقائق بدأ لنا سماع صوت سيارة الاسعاف الفوري من بعيد . واجتهد شرطي المرور بفض الاشتباك والاختناق المروري وفض الزحام ليسهل سير المركبات وانسيابيتها لتحلق سيارة الاسعاف الفورى وتنقذ هذا العجوز المسكين وتنقله الى اقرب مشفى للطواري ان كان هناك بصيص امل في انقاذه واعادته الى الحياة . وكانت الجماهير تتحرك كخلية نحل فقدت صوابها والامر الجيد الوحيد الذي حصل في حينها هو ان احداً لم يجرؤ على مس العجوز الملقى على الارض بلا حراك خوفاً من المسآلة من القانون .
وقد بدى سماع صوت صفارات الانذار للاسعاف الفوري غير بعيدة عنا وفي هذه اللحظة الحرجة تحرك الرجل العجوز ونهض من بين الاموات وعم الصمت المكان وخيم هدؤ وسكينة رائعين على الجميع وهم محدقين احداقهم فاغرين فاههم لا يلون على شيء ولا يفهمون ما حدث كان الطير فوق رؤسهم كنوع من المعجزة او الاعجوبة التي قلما تتكرر . وعبر الرجل العجوز الشارع لحالة غير مكترث بتجمهر الناس من حوله ومن حول المكان الذي هو فيه وتبعه بضع عشرات من الناس حتى انه اختفي باحد الازقة المطلة على شارع ابي نؤاس .
وهنا التفت خالد الى زميله وسمي يحثه على ان يسقط نفسه على الارض ممثلاً دور الميت بدل الرجل العجوز . وعندما اعترض وسمي على مشورة زميله خالد . رد عليه خالد بالقول انت يا وسمي من اتصل بالشرطة واعطيتهم أسمك وعنوان المدرسة واسمها وعندما لم يجد رجال الاسعاف شئيا سياخذونك الى مركز الشرطة بتهمة البلاغ الكاذب او التلاعب مع جهات حكومية رسمية وهناك عقوبات شديدة اما الغرامة المالية او الحبس . وهنا اخذ وسمي يرتجف من الرعب والخوف بعد سماع كلمات زميله خالد مونكي . والحق اقول لكم ان وسمي كان شخصاً جباناً جداً ( اجبن من اسماعيل ياسين بخمس دقايق ) .
وفعلاً عمل وسمي بمشورة خالد واسقط نفسه ارضاً بمكان الرجل العجوز تماماً ممثلاً دور الميت باتقان بعد ان سلم كتبه التي بمعيته الى زميلنا خالد مونكي . الغريب في الامر ان احداً لم ينتبه لما قمنا به من تمثيلية رائعة كانت مخلوطة بشيء من الخوف ومن باب التهكم والمهاترة مع الناس كعادة الزميل خالد دوماً . ففي هذا الوسط من الهرج والمرج والاصوات النشاز الصاخبة وحركة خلية النحل المجنونة كان من الطبيعي ان لا ينتبه احداً لما قمنا به والناس يتوافدون على وسمي وهو ملقى على الارض ويترحمون عليه ولا يدرون بامر العجوز بتاتاً ظناً منهم ان وسمي هو الشخص المعني الذي من اجله وصلت سيارة الاسعاف الفوري للمكان الذي هو فيه .
وكان الناس ينظرون الى وسمي بنوع من الذهول ويرفعون اعينهم باتجاهنا نحن انا وزميلي خالد فقلت لخالد لماذا ينظرون الينا فانحنى نحوي بكل ادب واحترام غير معهودين منه . وقال لي نحن الثلاثة نرتدي نفس الملابس انه الزي الرسمي لنا نحن الاصدقاء الثلاثة ففهمت العبارة واجبته بالاشارة .
وصلت سيارة الاسعاف الفوري المكان ونزل منها شخصان يرتديان ملاءات بيضاء وهم يجرون حمالة طويلة بيضاء انزلوها الارض وحملوا وسمي عليها ورفعوها الى داخل السيارة من الباب الخلفي . وسألوا الناس المتجمهرة على الحدث من منكم يعرفه فرفعنا انا وخالد ايدينا بالايجاب ونظروا الينا ملياً ولولا زينا الرسمي الذي يشبه تماماً زي وسمي لما اخذونا معهم اصلا .
ومر بعض الوقت ووصلنا مشفى الطواري القديمة في بداية شارع الشيخ عمر . وبعد ان هبطنا منها جميعاً أخذوا وسمي مسرعين نحو غرفة العمليات وتركونا في الممر حيث ممنوع علينا الدخول الى صالة العمليات . فتهالكنا انا وخالد على مقعد خشبي قديم ثلمت اجزاء منه قد رصف بجانب احد جدران الممر الطويل في المشفى المؤدي الى صالة العمليات , ونحن نقلب بكتب وسمي التي بين ايدينا ونقرأ مذكراته المضحكة التي كان يكتبها على اغلفة كتبه من الداخل . وكنا نضحك في سرنا كيف سيتفاجأ الاطباء بعودة وسمي الى الحياة وقد ينسبون ذلك الى انفسهم للتبجح والغرور . او ربما ستنكشف لعبتنا خصوصاً ان وسمي جبان لدرجة الخجل ولربما يشي بنا وتكون العواقب وخيمة ويتصلون بالمدرسة . فطرحت على خالد فكرة الهروب من المشفى والنفاذ بجلودنا سالمين غانمين ولا احد يعلم بامرنا ولكن فاجئني خالد ببطولاته السوبرمانية واخلاصة للصداقة وانه يضحي بنفسه من اجلنا والا لماذا ( نحن الاصدقاء الثلاثة ) نرتدي نفس الزي الرسمي وما الى ذلك من خطب الخيال العلمي الذي يجيدها خالد تمام الاجادة .
فاضطررت للبقاء وانا تتقاذفني الهموم والشكوك والخوف مما قد يحصل وماذا لو علمت المدرسة بامر شقاوتنا هذه وماذا لو علموا اهلي امي وابي ياللهول ان ما نقوم به كارثة غير محسوبة النتائج . فخيم علينا الصمت والسكون اطبق على جميع جوارحنا وحواسنا .
فاذا بازيز صوت باب يفتح واطل منه طبيب مغطى بالكامل بلباس غرفة العمليات واتجه صوبنا وهو ينزع عن رأسة قلنسوته ويميط الثام عن انفه وفمة ليقول لنا . انا لله وانا اليه راجعون . البقاء في حياتكم . لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم . وقال الطبيب مخاطباً كلانا من منكم يعرف عنوانه لنخبر اهله بوفاته . فضحك خالد ضحكة هستيرية بصوته الاجش العالي وحكى للطبيب ما قمنا به من عمل وبالتفصيل الممل وبانه هو الذي اوعز لوسمي ان يتخذ دور العجوز الميت الحي .
وقال خالد دكتور ارجوا ان لا تمازحنا رجاءاً . ظناً منه ان وسمي عندما نهض من نومته اخبر الدكتور بكل التفاصيل واراد الدكتور ان يلقننا درساً قاسياً لن ننساه ما حيينا .
ولكن الطبيب فاجئنا ونهر خالد بشدة وقال له انا طبيب لا امازح في الموت . ما اسم زميلكم فقال له خالد ان اسمه وسمي واردفه ثانية وعلى عجل . دكتور وسمي بالزي الرسمي . واخذنا نبكي بلوعة وحرقة ومرارة على وسمي وكيف اصبح الخيال حقيقة واقعة قد وقعت فعلا . الى رحمة الله يا وسمي ستلقى ربك بالزي الرسمي .
الارنب مانو
بقلم : طارق فتحي
كان في دار احد اقاربنا ارنباً كبيراً من المطاط الملون ذو اذنان كبيرتان وبقامة طفل يضعه في المطبخ فوق البراد . وكانت جلساتنا معاً لا تحلو الا في المطبخ حيث الطعام وفير لنتناول ما لذ لنا وطاب من المأكولات والمشروبات .
وفي يوم ما وبينما كنا نتحدث حول مواضيع مختلفة حرك الارنب مانو احدى اذنيه الكبيرتين وتدلىت الاذن على وجهه مغطياً عينية الشمال وبما ان رسمت هيئة الارنب كانت مبتسمه . فظهر كأن الامر مانو يغمزني بين الحين والآخر .
فقلت لقريبي ان الارنب تحرك من ذاته . فرد عليً مفسراً الامر فيزيائياً وطبيعياً واعتذرت منه بعد ان اعتقدت بجوابه العلمي الرصين حيث عدنا الى تجاذب اطراف الحديث مرة ثانية .
وذات ليلة ذهبت اليه مساءاً وجلسنا كعادتنا في المطبخ بعيداً عن الاطفال واهل الدار . تحرك الارنب مانو بشكل ملفت للنظر بحيث انه ادار وجنته وتهطلت اذناه الكبيرتان وانحنى كمن يؤدي التحية بخشوع فافزعني ما شاهدت ونهضت من فوري واعتذرت من قريبي وذهبت مسرعاً الى دارنا .
وفي اليوم التالي التقينا معاً في حديقة دارنا وعاتبني بشدة على سوء تصرفي معه امس مساءاً فقلت له ارنبكم هذا فيه سر عجيب وامر غريب وانت تفسر الامر لي كأنه شيء طبيعي الحرارة والبرودة وغير ذلك . وبعدها لم اعد ادخل دار قريبي لاي سبب كان . وذات يوم وبعد مرور اشهر قلائل اتى قريبي الى دارنا مكفهر الوجه جاحظاً عيناه متقطعة انفاسه وكان على هيئة مخيفة جدا ً .
وبعد السلام والتحية قلت له ما الخبر. قال زوجتي شاهدت الارنب مانو وهو يمر من امام باب غرفة نومها متوجهاً الى غرفة اختي الصغيرة , ولما ذهبت مسرعة الخطى سمعت اختي تغني وبعد ان تنصتت جيدا فاذا بها تغني مع الارنب مانو وكانت تسمع صوت غناء اختي دون صوت الارنب مانو . عندها قررت اقتحام الغرفة واذا بها تجد احتي ممسكة بلعبة ارنب صغيرة مصنوعة من الفرو الابيض وهي تغني حيث ابتسمت لزوجتي وقالت لها وهي تغني ان الارنب مانو اعطاها هذه اللعبة الصغيرة .
وعندها جن جنونها فذهبت من فورها الى المطبخ فوجدت الارنب مانو على حاله وهيئته فوق البراد . فقلت طيب . لماذا هذا الخوف اذاً والجزع الذي بادي على محياك . ؟ فقال اني اعرف زوجتي جيداً وهي لا تعتقد في هكذا امور ولا تؤمن اطلاقاً في مثل هذه المواضيع . وهذا يعني ان كلامها معي حقيقىة قد وقعت لا محالة وانت اول من تنبه للامر .
فقلت له طيب . هل استطيع ان اكلم اختك الصغيرة حول الموضوع . فرد عليً بكل سرور وفي الحقيقة زوجتي هي التي بعثتني اليك .
وعندما حل مساء هذا اليوم ذهبت الى دار قريبي حيث غرفة اخته وكم كانت المفاجئة مدهشة وعقدت لساني اذ وجدت الامر مانو ينتصب بقامته في الزاوية القريبة من خلف سري الطفلة قريباً من رأسها .
فقلت له ما هذا .؟ قال هذا بحسب رغبة اختي جلبنا لها الارنب مانو من المطبخ الى غرفتها وهي تقول مانو اخبرني بذلك . وهي تقول ايضاً عندما تعد من الواحد ولغاية الاربعة يتحرك مانو ويتكلم معها ويعد ( 1-2-3-4 ) مكرراً العد معها .
عندها كنت استمع وانا اقف في وسط باب غرفة اخته الصغيرة وبين الفينة والاخرى كنت استرق النظر نحو الارنب مانو كأني انتظر ان يكلمني الارنب هذا كان هاجسي في لحظتها .وبعد ان خاب ظني ودعت الصغيرة وهي مستلقية على سريرها ومانو خلف رأسها في منتصباً في الزاوية . وعندما اطفاء مصباح النور رأيت مانو وقد تحرك من مكانه وعدت مباشرة الى اضاءة المصباح فاذا بي اجده في مكانه ولم يتحرك قيد انملة . وكررت الامر مرتين وثلاثة فهمس قريبي في اذني ماذا رأيت .؟ لماذا تفعل ذلك .؟ فلم اجد له جواباً ولم ارد عليه .
وبعدها جلسنا معاً انا وقريبي وزوجته في الصالة وارتشفنا الشاي على حكايات شبيه ومماثلة . وختاماً قلت لهم . لماذا لا ترمون الارنب مانو وتتخلصون منه . فقالت زوجة قريبي نعم قررت ذلك في احد الليالي واذا بي اشاهده يمر من امام باب غرفة نومي مثلما اخبرك قريبك . ومنذ ذلك الوقت وطفلتنا تبكي بحرقة ومرارة وتصرخ عالياً وتريد ان نجلب لها مانو الى غرفتها . وهي التي لم تكن تعره اهتمامها من قبل مطلقاً . وهذا امر غريب وفيه السر عجيب لتصرفات طفلتنا ونحن خائفون جداً عليها . ونحن دائماً نسمعها تغني مع مانو وتعد معه ( 1-2-3-4) ويحدث ذلك مراراً وتكراراً ليلاً ونهاراً . ولا اخفي عليك مشاعري احسست بداخلي ان الارنب مانو يكرهني بشدة عظيمة اذ اني حاولت معه عدة مرات التخلص منه حتى اني في احد المرات ثقبت بطنه بابرة كانت في يدي لانه كان يصدر اصوات مخيفة ينكمش ثم ينتفخ وبين هذا وذاك تصدر الاصوات كان شخصاً ما يهمس في اذني بكلام مبهم وغامض وغير مفهوم .
وامهلتم وقتاً ريثما اتفكر بالامر ودعوتهم الى ترك الامور على حالها ريثما نجد حلاً مناسباً للموضوع . وعدت ادراجي الى دارنا وانا مستغرق بالكلية في الاخبار العقلية لا النقلية ( كيف .. ولماذ .. ومتى .. واين ..) تلك الكلمات التي ما انفكت البشرية تلهج بها في قارات العالم هذه الكلمات الازلية . وعندها انتبهت الى مسألة الاعداد فقلت في سري السر يكمن في الاعداد بما ان الارنب مانو لم يتكلم ولم يسمعه احد ان تكلم . فقمت بجمع هذه الاعداد (1+2+3+4=10) فقلت الحاصل عشرة ولا اعلم ما سر هذا الرقم .
تناولت عشائي على عجل واخبرت والدتي اني ذاهب الى دار قريبنا لامر ما . بعدما قررت في نفسي الذهاب الى دار قريبي وتناول موضوع الطفلة حيث دلفت الى دارهم متحمساً للامر . وبعد سكون الهيئة واعتدال احوالي ذهبنا جميعا الى غرفة الصغيرة فقلت لهم السر يكمن في العدد والمعدود وحاصل جمع الاعداد هو (عشرة) ولا اعلم ما سر هذا العدد وعلاقته بابنتكم وحانت مني التفاته الى الارنب مانو واشحت بوجهي نحو الطفلة متحفزاً الحديث معها . فرايت وجها نصفه تماما على هيئة الجمجمة حيث نصف صف الاسنان بارزة تماما بفكيها العلوي والسفلي ومحجر العين اليسرى كبيرا جدا يلفة الظلام الدامس . ونصف الايمن من الوجه لاتبدوا عليه اية ملامح بشرية وهو مغطى بالكامل بالسواد التام . ففزعت من هيئتها كثيراً . فخرجت مسرعاً من عندهم لا الوي على شيء .
ومرت الايام والشهور والسنون وانتقل قريبي للسكن في محافظة بعيدة عن بغداد . وذات يوم طرق بابنا قريب هذا وعلامات المشيب بادية عليه فادخلناه وجلس في ضيافتنا وتجاذبنا اطراف الحديث عن الايام الخوالي حلوها ومرها وتلك التي قضيناها معاً . فصمت برهة من الزمن وأخذ يبكي بشدة كطفل اضاع لعبته . فاستغربت للامر اول وهلة . وقلت له , ما الخبر .؟
قال عندما رايتكم تثيرون في الحنين للايام الخوالي تذكرت ابنتي وقصتها مع الارنب مانو . فقلت له عسى ما شر ماذا يبكيك .؟ قال اتعلم ان ابنتي توفيت تماما بعد عشر سنوات تماما بعد ان رمينا الارنب مانو واعتقدنا اننا تخلصنا منه . فعجبت من كلامه . وقلت له من فوري كيف توفيت ابنتك .؟
قال دهستها سيارة مسرعة مارة فوق رأسها وكانت هيئتها مرعبة جداً فنصف وجهها جمجمة فقط والنصف الاخر تجمدت فيه الدماء فاصبح اسود قاتم لا يفصح عن معالمه .
فعقدت الدهشة لساني وهو يوصف تماما مارأيته على ابنتهم في حينها وكان سبب تعجبي هو اني لم اذكر لهم مارأيت على محيا وجه ابنتهم احتراما لهم ولم اكلم احد به حتى الساعة . وكان حادث ابنتهم ووصف ابيها للحادث ولحال ابنته تماما كما رايتها منذ عشر سنوات خلت عيانا جهارا في دارهم .
شبح جدي يظهر لي بشكل جدي
بقلم : طارق فتحي
كنت قد اعجبت بالفن التشكيلي ايما اعجاب وكان مرد هذا الاعجاب هو الاخ الاكبر لأحد اصدقاء الصبا والشباب وهو ( الفنان علاء الدين فوزي ) تغمده الله بواسع رحمته . وأخذت انقب جهدي في تعلم هذا النوع من الفن وشاءت الصدف العجيبة التي دائما ما تحدث معي ان يكون زميلي الذي اتقاسم مقعد الدراسة المتوسطة معه هو الزميل الفنان المرحوم ( مؤيد نعمة ) رائد فن الكاركتير العراقي وصاحب عمود طبق الاصل في مجلة الف باء العراقية .
فاخذنا نتجاذب اطراف الحديث حول فن الرسم التشكيلي وحفظنا اسماء اساطين هذا النوع من الفن الراقي . وكان اتجاه زميلي المرحوم مؤيد نعمة نحو فن الكاركتير وانا كنت ارغب في الفن الطبيعي . وكثيراً ما كنا نتبارى معاً على سبورة الصف.
ودرست جانباً نظريات وقوانين وقواعد فن الرسم الطبيعي الكلاسيكي دون المرور بالتجربة التجريدية والتكعيبية وغيرها من المدارس الفنية . وفي احد المقالات قرأت ان عين الانسان هي بمثابة الكامرة التي تصور كل شيء واي شيء . ومن خلال العين ترى احياناً ما لايراه غيرك من البشر . وعلمت لاحقاً ان هناك نظريات وقواعد في ترويض البصر وبما يسمى بالجلاء البصري فنهلت من مثل هذه المعلومات الشيء الكثير .
وقد صدق حدسي واخذت برؤية اشياء لا يمكن لغير العين المدربة جيداً ان تراها . فكنت اذا جلست الى الحمام ارى صور ووجوه كثيرة على الارضية وعلى الجدران منها ماهو ثابت لا يتغير ومنها ماهو يتغير في حال طرفت العين ومنها ما يتغير باستمرار حتى مع التحديق المستمر . وكذلك اخذت اجسد لوحات في الغيوم وصور طبيعة معكوسة على قدح فيه ماء . وكنت ارى اشياء غريبة وعجيبة وانا اسير على ارضية شارع مبلط بالاسفلت , وكأن ما حصل معي شيئاً جنونياً من حيث اني اخذت انظر الى الاشياء على غير حقيقتها .
وكنت ايضاً اصف صور مقدمات السيارات في الستينات من القرن الماضي وتشبيهها بالبنات والصبايا الجميلات تارة وبالعجائز والمسنات تارة اخرى . ولم اكتفي عند هذا الحد بل اخذت احلل شخصية موديل كل سيارة اعتمادا على الشبه الكبير بينها وبين هيئات بعض البشر رجالاً ونساءاً . وكأنني كنت اتعامل مع كائنات حية معتمدا على الدوائر والخطوط والمنحيات التي يرسمها هيكل وبدن السيارة في مخيلتي .
قد لا يجروا احداً الى التطرق نحو هكذا مواضيع ولكني اني اذكر ما حصل معي بجرآة وشجاعة متناهيتين ولا يهمني الا النجاة بعقلي بعد ان تم اعتقال عقول اقراني بقصد او بدون قصد .
وذات ليلة دهماء كنت مستلقياً على سريري انظر الى حالي بعد ان تبدلت احوالي وانا اقلب بصري على جدران غرفتي ناصعة البياض ورحلت بعيداً في آلة الزمن خاصتي حيث وفورة الشباب وقوة الحياة والسعادة الفطرية التي ما انفكت تلاحقني
واذا بي اشاهد من فوري اشباح تظهر على الجدران لتملأ المكان فضحكت في سري وقلت الله يرحم ايام زمان اشتقت لاشباحي . السلام عليكم ايتها الاشباح الروحانية والارواح النورانية . واذا باثنان من هولاء الاشباح تم تجسيدهم بشكل ثلاثي الابعاد وبهيئات مجسمة تشبه الى حد بعيد الاشكال الحقيقية والواقعية وجلس احدهم قرب قدماي واما الاخر فسار خلفي واحسست به الا انني لم اراه .
فتكلمت مع اشباحي وانا اراهم بصورة جيدة وحفظت اشكالهم وصورهم في مخيلتي وقد عرفوا انفسهم وانسابهم لي والعجيب في الامر كان الهدوء والسكينة والوقار بادية على محياهم ولجمال صورهم وهيئتهم الرائعة لم تنفر منهم نفسي ولا خطر على قلبي خوف او وجل . وكان عقلي يحلل في الامر رويداً رويداً وكان شاهدا معي على ما ارى . وغفوت مع اشباحي وطمست في نوم عميق .
وفي الصباح الباكر واثناء الافطار الصباحي اعطيت اوصاف مارأيت لوالدتي وبعد ان استمعت الي جيداً . قالت لي نعم هولاء هم اجدادك وسمتهم لي باسمائهم وبنفس انسابهم , فهل كانوا حقا هم اشباح الجدران .؟ الذين يملاءون المكان .
كانت لي سفرة برية .. لا يعلم بها الا رب البرية
بقلم : طارق فتحي
لقد سنحت لي فرصة السفر الى خارج العراق وكنت قد استبشرت خيرا سيما وخطر على بالي رؤية اولادي بعد فراق دام طويلا لم ارهم فيها
ومن متطلبات السفر ومنح الاقامة في بلدان اوربا عمل صورة قيد مترجمة ومصدقة من الخارجية العراقية وهكذا بدأت جولتي وكنت حينها في تركيا - اسطنبول وما ادراك ما اسطنبول كل شيء فيها زاهي.. السماء والارض تتباهي باشجار ونخيل بواسق وزهور تنتشر على الشاطي والجو الربيعي يجعل منك شابا في عمر الزهور وتشعر بانك شفيت من جميع الامراض العضوية منها والنفسية واصبحت امام صورة لا يمكن ان تغفل عنها حيث الجمال المبثوث هنا وهناك في الطرقات والساحات والمتنزهات وجمال الوان الناس ورقي تصرفاتهم وانسانيتهم العالية ينسونك حتى اسمك .
كل هذا الجمال تركته وراء ظهري .. ما العمل ؟ توجب علي العودة الى بغداد فقفلت عائدا الى العراق بسفرة برية دامت 36 ساعة منها سبع ساعات على الحدود العراقية التركية ( ابراهيم الخليل ) بدواعي امنية ؟
ولك ان تتخيل قضاء سبع ساعات في برية موحشة وظلام حالك ولا يسمح لك بمغادرة الباص بدواعي امنية وعند انتشار اول تباشير النهار تحرك الباص اللعين وليس له من معين.. وما ان عبرنا المضيق حتى تلقتنا هفوف رياح السموم وقبل ان نقبل نحن تراب العراق كعراقيين مخلصيين له الحب في الوجدان .. قبلتنا اتربة العراق الجميل وكانت بادرة حسن نية منها مشكورة عليه.
وصلت اربيل في ساعات النهار المتأخرة وكانت مدينة جميلة تنهض من جديد بحلتها العصرية وشوارعها الدائرية وبحرارة غير عادية ارتبطت معها بعلاقات ودية حيث بت ليلتي فيها .. وفي الصباح المتأخر ايضاً قمت انا ومضيفي في جولة سياحية بدواعي ترفيهية .. وبعد زيارة خاطفة للاماكن السياحية قفلنا عائدين الى البيت وبدت لي ان المدينة جميلة من نواحي عدة ولكن شتان بينها وبين ما خبرت في اسطنبول من جمال طبيعي رائع وأخآذ ..غادرت مضيفي مودعا اياه لاتمام جولتي الى بغداد فانطلقت من الكراج البري باتجاه كركوك فوجدتها مدينة محيرة حيث اعمال البناء واكساء الشوارع والجسور لم تنتهي والكل في حركة دؤوب كانهم خلية نحل ومع ارتفاع درجات الحرارة وازدياد كثافة الغبار الكوني المسلط على العراق وحسب , تناولت طعامي في مطعم سياحي صاحبه رجل عصامي وما ان التهمت كالوحش الجائع نفرا من الكباب حتى تناولت الباب هروبا منه الى كراج بغداد
وما ان دلفت بوابة الكراج الوهمية حتى تجمع حولي البوهيمية بشرا قد اختلطت روائحهم بغبار العراق المقدس وانفاسهم تلهث بروائح غير زكية واشكالهم الغريبة كانهم مصاصوا دماء نهضوا لتوهم من الاموات . كل شيء فيهم يعلوه التراب من اخمص اقدامهم حتى فوق رموش اعينهم وكانت الهيئات تبدوا متوحشة للوهلة الاولى . وبعد معركة حامية الوطيس استطعت ان ارد حقيبتي من احدهم بعدما تمسك بها ليعلن فوزه على اقرانه من السواق المساكين . جلست متهالكا على مقعدي والحيرة تلفني والدهشة تاخذني في كل شيء .
اغلقوا النوافذ جميعها لئلا يعبث بكم التراب . فكان للسائق ما اراد وهو يعلن ذلك بكل فخر واعتزاز . وحشرت مع الناس و ( حشر مع الناس عيد ) وما هي الا لحظات بعد الانطلاق وغلق النوافذ والابواب حتى بدأت تتسرب رائحة الموت كثعبان خرج للتو من وكره . واخذت الروائح تصدح في المكان فالتفت ذات اليمين واذا بامراة مسنة تزن الاف الاطنان تذكرك بعمالقة العصر الحجري القديم تفوح منها عطور كريستيان ديور وفيجي ووان مان شو . فتنفست الصعداء كمن فلت من بين الاعداء فالتفت ذات الشمال وما ادراك ما في ذات الشمال روح ورياحين تهالك فيه رجل مسن ايضاً لولا انه يرمش بعينيه بين الفينة والاخرى لحسبته من الاموات قد اختلطت ملامحه بعذاب السنين التي مرت عليه وتركت اثاراً بارزة للعيان من انهار وجبال ووديان وانفاق حفرت على وجهه لا تكاد تميز فيه شيء يمت للبشر بصلة فقلت في سري ( المعذبون في الارض ) وكانت رائحة التبغ تفوح منه بغزارة منقطعة النظير . فاكتفيت بما وضعت نفسي فيه من مأزق ولم اتفرس بوجوه القوم خشية ان يصيبني الغثيان .
وفي الطريق توقف السائق بعد ان سبقتنا سيارة للشرطة المحلية .. واخبروا الجميع بسلوك درب وجيع .. بين تلول عالية شامخة من مقالع للحصى والحجارة وكانت البشارة .. قد اتت على عجل وغرست السيارة في الوحل بالعجل . وبعد كفاح ما يزيد عن الساعة طرق سمعنا ما كنا نخشى سماعه .. اصوات اطلاقات نارية صمت لها الاذان البشرية وخفقت لها قلوب اعتى الرجال وتبدلت احوالنا اوحالا . فاطبق الصمت الرهيب علينا من كل جوانبه ولم نسمع فيها سوى خفقات القلب الوجيف
ولمحت قومي ورمقتهم بنظرة عين حائرة فكانت بحق صورة مؤلمة الحرارة شديدة والعرق يتصبب على وجوه الجميع والغبار يتباهى بمروره فوق اجسادنا ولا نملك حق الرد بابعاده عنا والملابس متسخة تعلوها الاتربة والاوحال وبادت الاشكال اشبه بتماثيل نحتت بيد خبير بحيث لو سقط احدهم ارضا لداس عليه صاحبه دون ان يشعر به كونه اصبح شبحا من جنس الطبيعة المحيطة به . وترى الناس سكارى وما هم بسكارى والخوف والهلع والرعب والجهد والتعب والنصب والهيئة شبه البشرية والملابس الموحلة كل ذلك جعل من عوامل الطبيعة ان تكون هي الفائزة بالضربة القاضية
وعادت السكينة الى النفوس الحزينة , واستمرت الرحلة ونحن جلوس , منهم من انطلق بحريته ومنهم من كان محبوس , فهتف السائق هيا اجمعوا الفلوس , ها نحن قد وصلنا بغداد فاستقبلنا الناموس , بقرصاته التي كانت كحد الموس, والالم والجوع ينخر فينا كحشرة السوس , فهذا وسواسه موسوس , وذاك ذو وجه عبوس , وهذا كانه رجل ممسوس , وكانت هيئاتنا تنفر منها الطباع والنفوس , فهذا هو الناموس .
وما ان وصلت بغداد حتى شاهدت العجب العجاب مستنقعات من المياه الثقيلة روائحها تزكم العقول قبل الانوف . اهوار ومستنقعات مترامية الاطراف تحيط بمنفذ بغداد - كركوك الشمالي , وحتى حدود بغداد الداخلية , وهيئة وشكل ومكان المنفذ كانها منطقة خرجت للتو من حرب كونية , الارض هرمة خربة تعلوها تلول من الازبال تارة وتلول من الانقاض تارة اخرى . وابخرة بجميع الوان الطيف الشمسي تتصاعد من هنا وهناك ودخان اسود كثيف يلف المكان من جراء حرق الاطارات المطاطية لدفع غائلة البعوض وتجنب قرصاته الحادة والمحرقة والروائح التي تذكرك بروائح الموتى والهيئة تدل على انك عل مشارف نهاية العالم .
وحللت ضيفا في دار اخي والالم يعتصرني مما رايت وكانت الصدمة قوية جدا واخذتني البهته طويلا. وبعد الاستحمام والراحة البدنية . ما شعرت الا ان احدهم قام بعملية المساج والتدليك لقدماي المتورمتان من جراء السفر . وصدمت منهم لانهم كانوا اناس طبيعيين جداً في تصرفاتهم نحوي ولا يهمهم الحر والبق والغبار والروائح الكريهة والاصوات المزعجة وهدير الرصاص بين الفينة والاخرى .. .
المعطف
طارق فتحي
قصة حقيقة وقعت احداثها في العام 1956 جرت احداثه في منطقة الفضل ببغداد . في يوم شتائي ممطر واصوات البرق والرعد تصم الاذان بين الحين والآخر , تحلقنا انا واخي الذي يكبرني بعامين حول والدي مطمئنين في احضانه الدافئة والخوف والرعب أخذ منا مأخذه كوننا ساكنين جدد في هذه الدار والمنطقة .
سمعنا طرقا عنيفا على باب دارنا فقفزنا كالسناجب الى اخضان والدتي عندما نهض ابي مسرعا لاستطلاع الامر ومعرفة من الطارق في مثل هذه الليلة الحالكة الظلام الا من بصيص نور باهت ياتي من عمود الكهرباء البعيد نسبيا عن باب دارنا.
تفضل .. تفضل ايها الشيخ الجليل . فانزاحت ستارة الباب من طرف يد والدي واذا بشخص بهي الطلعة كبير السن ذو لحية بيضاء يقطر منها الماء ضخم الجثة عريض المنكبين لم يتعرف عليه احد من في الدار حتى والدي .
صدمت والدتي من تصرفات ابي فاخذت تلملم نفسها وتغطي وجهها وراسها بشال اسود ( الفوطة ) فقربه والدي منا كثيرا واصبح الجميع متحلقين حول منقلة الشواء وبعض اعواد الخشب مع الفخم ترمي بحرارتها وضيائها الباهت المتحرك مما اضاف على هيئة الرجل الكثير من الرهبة والخشوع لنا جميعا .
وبعدان اكل القليل من الطعام وارتشف كوب او كوبان من الشاي قال لوالدي كنت غائبا في مكان بعيد جدا ولفترة طويلة من الزمن واتيت الليلة لارى ولدي فقالوا لي انه هاجر الى اسطمبول وانست نارا عدنكم فطرقت بابكم فجزاكم الله عنا بالف خير . واني اشعر بتعب شديد ارغب ان اخلد الى النوم لو سمحتم لي .
فتنحى والدي عنا قليلا ورتب له مكانه في احد الغرف الشاغرة في دارنا واتى بمعطفه الوحيد والمميز عنده والبسه للشيخ حتى يتقي البرد اثناء نومه دخل الشيخ الى الغرفة واغلق ابي الباب عليه . وهنا جرت مشادة هامسة بين والدي وامي اذ عاتبته كيف يؤي الى دارنا رجل غريبا لا نعرفه في مثل هذه الليلة المظلمة .
حين شارفت النار على الانتهاء وذبول خيوط الضوء فيها اخذتنا امي الى غرفة نومها وبعد حين دخل ابي غرفتنا ونمنا جميعا نوما عميقا . وفي الصباح الباكر نهضنا على اصوات جلبة عملها والدي وهو يفتش عن الضيف الشيخ العجوز في ارجاء المنزل . فقالت له والدتي مابك تدور في المنزل ما خطبك . فرد عليها ابي انه لم يجد اثراً للشيخ المسن في الدار . فردت امي اظن انه خجل او لعله استحي ان يوقظك من النوم ليودعك فانسحب بهدوء وولى الى وجهته التي يرومها .
في عصر هذا اليوم اصطحبني والدي معه الى مقهى كبيرة تقع عند مدخل شارع الفضل. واثناء جلوسنا في المقهى تقدم خضير البقال باتجاه والدي وسلم عليه وجلس بجانبه واخذوا يتجاذبون اطراف الحديث فذكر له والدي ما حدث معنا ليلة امس من امر الرجل الغريب الذي دق بابنا وبات عندنا حتى صباح هذا اليوم. وما ان اخذ ابي يوصف للجميع هذه الشخصية العجيبة والمريبة في آن واحد حتى تحلق حولة اغلب رجال المقهى من كبار السن من اهل المنطقة الذين لم يغادروها مطلقا وولدوا فيها ابا عن جد .
فاذا بهم يصيح صائحهم بان الشيخ المسن ما هو الا الشيخ هادي امام جامع الفضل ابن سهل انه متوفي منذ خمسون عاما مضت ,وانا اعرفه جيدا عندما كان يصطحبني والدي للصلاة في الجامع ووصف الرجل له صحيح وهو يحمل اثر على خده الايسر ( حبة بغداد ) نسميها باللهجة المحلية ( اخت ).
واشتعل الجدال بين الحضور بين مصدق ومكذب لوالدي واقسم ابي بان الخبر صحيح كما رواه لهم وعلامة صدقه انه اعطاه المعطف الوحيد الذي يملكة ليدفيء نفسه . وفي خضم احتدام النقاش حيث سادت الفوضى في المقهى وعلى حين غرة صمت الجميع واعتدلوا في اماكنهم المخصصة لهم اثر دخول شخص ضخم الجثة طويل القامة على محياه الوقار فعرفنا بعدئذ انه مختار محلة الفضل .
فانكر المختار ما يحصل في المقهى ولان والدي حديث عهد بينهم لم يصدقه او يكذبه احداً من الحضور . وضع المختار قدح الشاي امامه واختار خمس من الرجال كبار السن من الموثوق بهم من الامناء واخذونا انا ووالدي الى مقبرة الغزالي حيث قبر الشيخ المسن امام الجامع الحاج هادي معروف لدي الجميع .
كانت الصدمة عنيفة وقاسية على الجميع بمن فيهم والدي والمختار اذ شاهدوا معطف ابي فوق قبره وساد الصمت الجميع كأن الطير فوق رؤوسهم . فحمل المختار المعطف وقال لوالدي هل هذا معطفك .؟ فرد عليه ابي بالايجاب فدفعه الى ابي . وعاد الجميع مذهولين الى المقهى الا ان والدي اصطحبني معه الى البيت مباشرة .
مع اني بالكاد اذكر ذلك ولا اعلم هل وفقت في السرد ام لا .؟
انزلاق الزمن
طارق فتحي
في اواخر الثلاثينات من عمري وانا منهمك على مكتبي في صالة الدار ادون بعض الملاحظات المستقاة من مخطوطة ( احجار القمر ) في محاولة مني ان افهم بعض مصطلحات القوم وايجاد العلاقة السببية بينها وبين ما يقوله العلم الحديث معللا ذلك بالظواهر الفيزيائية والكيميائية وبالنواميس السماوية والقوانين الارضية .
في العادة كنت اجلس الى مكتبي كل يوم بعد الساعة العاشرة مساءا عندما يكون كل من في البيت نائم حينها الاطفال وامهم والجميع . عندها ابدأ بممارسة طقوس القراءة من تحضير الشاي ودفتر الملاحظات واقلام الحبر باركر وشيفر والمحبرة مع ورق النشاف الذي يجفف الحبر السائل بسرعة فائقة كي لا تتسخ الاوراق .
انغمست في القراءة لا اعلم كم من الوقت استغرقني ذلك وانا ادون الملاحظات الغريبة التي ترد في المخطوطة بين الحين والاخر . شعرت بثقل كبير في مؤخرة راسي كدت ان افقد فيه الوعي لولا تداركت الامر باعداد كوب من الشاي الساخن . فمددت يدي الى ترمز الشاي من امامي واذا بي اتفاجأ بيدي الصغيرة كانها يد طفل في العاشرة من عمره بيضاء ملساء لاشعر فيها واصابع دقيقة باظافرنظيفة قصت بعناية ودراية . فتملكتني الدهشة وعقد ما رأيت لساني وتملكني خوف شديد وانا اطوح بيدي مركزا بصري على يدي الصغيرة هذه . علي اكون اتوهم الاشياء ولكن دون جدوى .
فالتفت الى الصالة فاذا بي استنكر ما رايت .؟ ليس هناك شيء اسمه صاله بل حوش شبه كبير مفتوح السقف يفضي الى سماء سوداء مدلهمة مرصعة بالنجوم وكاني داخل قبة فلكية ورأيت نفس غرف دار اهلي القديمة والسرداب الذين يحيطون بالحوش المفتوح . فقمت من مجلسي وذهبت لغرفة امي وابي فاذا بي اراهما نائمين وهما بعمر الشباب . فاخذني الهلع والخوف الشديد انها دارنا القديمة في منطقة الفضل في بغداد .
خرجت مسرعا الى دار جارتنا وكانت تدعى ( رسمية ) تعمل مضمدة صحية في مشفى المجيدية سابقا المشفى الجمهوري حاليا . شابة في الثلاثينيات من عمرها عزباء . كنت احبها كثيرا حيث كنا اطفال تعلقنا بها لدماثة خلقها معنا انا واخوتي حتى كنا احيانا نسرها ونهتم بها اكثر من امنا . وكانت لي خصوصية عالية معها وتشعرني دائما اني المفضل لديها حتى انها كانت تاخذني معها الى السوق دون اخوتي الاخرين .توفيت رحمها الله في حينها بمرض خبيث لم يمهلها طويلا .
طرقت باب جارتنا رسمية بشدة عدة مرات فخرجت لي بابتسامة عريضة ووجه ملائكي فاحتضنتها واخذت ابكي على كتفها وهي تربت على ظهري وتهون علي وقالت الحمد لله اني رايتك قبل ان اغادر فانتهى عملي هنا اليوم . فاخذت اقبلها قبلات جنونية لاتعد ولاتحصى وقلت لها غدا سوف آتي لاودعك .
لن انسى تاريخ صباح اليوم التالي ما حييت ولن ينسى الشعب العراقي هذا التاريخ ايضا انه الرابع عشر من تموز من العام 1958 م. بديهي اني لم اودع رسمية صباح اليوم التالي اذ وجدوها ميته في الفراش وانشغل الكبار في تجهيزها ودفنها بعد ذلك .
عدت الى دارنا القديمة ورايت مكتبي على حاله فارتميت على كرسي واخذت اجهش بالكاء الشديد ولربما اصدرت اصواتا عالية وانا ابكى بحرقة وشوق وحنين ومرارة على رسمية.
طارق .. طارق .. طارق .. مابالك تبكي بشدة وصوت نحيبك كاد ان يوقظ اطفالنا وانت ممسك بكوب الشاي الساخن . سوف تجننك هذه المخطوطات اللعينة . اما انت فلا بأس عليك تجنن براحتك ولكن ما ذنبي وذنب اطفالنا اتود ان تجننهم هم الاخرين ايضاً .
حينها عاد الى رشدي واذا بي ممسكا بكوب الشاي الساخن الذي لا زالت الابخرة تتصاعد منه . فما استطعت ان اخبر زوجتي باي شيء وكيف اني انزلقت بالزمن الى الماضي البعيد وودعت احب انسانة الى قلبي في حينها الممرضة رسمية .
كتب : طارق فتحي
عندما ابحث عن ذاتي أجد نفسي تتصارع مع إرادتي .. ابحث عن شئ مفقود ولكن لا أجده .. كل مااتمناه يتحول إلى سراب في غمضه عين .. أكاد اشك في نفسي أكاد اشك بروحي .لا اعلم من هذا الذي يكون في داخلي ..شئ غريب يجرح شعوري ..ويتفنن بتعذيبي ..ويستلذ بآهاتي ..
هي روحي التي لم افهمها يومآ ما . أو روح غيري التي اعتبرها روحي
ان تسلسلي بين اخوتي هو الثالث . وقد سبق ان اجهضت والدتي بطفلا ذكراً, لم يتم شهره الثامن بعد . وعلى العادة الجارية في الدين الاسلامي ولا اعلم ان كانت موجودة في الاديان الاخرى ام لا يجب تسمية المولود قبل دفنه وبذلك اسمته عائلتي ( طارق ) وتم دفنه بحسب الشريعة الاسلامية .
وبعد ما يزيد عن العام ونيف وضعت والدتي مولوداً آخر ذكراًآخر . وهو كاتب هذا المقال واسموني طارق ايضاً . ودارت الايام والسنين وعلمت مؤخراً اني اكتسبت اسم اخي الذي يكبرني بعام واحد . وعلمت ايضاً ان الله توفاه قبل ولادته بشهراً واحداَ .
فاذا كنت انا احمل اسم اخي طارق , فمن اكون انا ؟ وما هو اسمي ؟
فاذا كنت انا .! لست انا .؟ فمن اكون انا .؟
ما هي ماهية الروح التي امتلكها وروح من هي ؟
فان كانت روحه فلا بأس بذلك , وان كانت هي روحي فلا بأس بذلك ايضاً ولكن البأس كل البأس ان تكون روحانا نحن الاثنين قد حلت في جسدي , مَن يدري .؟ واذا كانت روح اخي طارق حلت في جسدي , فاين روحي اذاً.؟ ام انا بلا روح وبلا اسم فقط مجرد جسم . وان كانت هي روحي الحقيقية هي التي حلت في جسدي , فما اسمي اذاً.؟ روحان في جسد واحد لا يستقيم الامر لهما بتدبيره , وربما يستقيم ذلك ولكننا نخشى البوح به . فتارة اجدني ذكياً خارقاً للعادة , وتارة اجد نفسي لا افقه قولاً ولا عملاً .
فانا بجسدي واخي طارق بروحه , كيف سيكون حالنا والى ماذا سوف يؤول مآلنا . طارق الميت الحي ام طارق الحي الميت . انها تلاقي الاضداد في الاعداد قبل الاستعداد ليوم التعداد . اي روح تحاسب وايهما تسامح ايهما تعاقب وايهما تثاب وما الذي ينسب الي من الاعمال ان كنت مجهول الهوية والاسم بين البشر . اعالم آخر معتبر , هل تدبرت الامر . ان كنت انا لست انا , فمن اكون انا اذاً ؟
ظلت هذه الافكار تتصارع معي في مراحل الصبا والشباب فمررت في احوال غريبة واجواء عجيبة حتى اني كنت اكلم اشباحي وارى من خلالهم عالم آخر بعدَ آخر برزخ آخر . وما اطلبه في يقظتي اراه في منامي عيانا جهارا ليلا ونهارا. فبات العقل عندي مستودعا لعوالمي لاناتي وآهاتي في سبيل حل جميع مشكلاتي . وليت الامر اقتصر على ذلك , فكم صديقاً عرفته يتحدث مع اخي طارق ويهملني حتى اتركه واقول له انت لست ملهمي وتبعثرت التناقضات في جميع عروق دمي حتى حانت ساعة في يوم له القلب يدمي وليس لات مندمي .
في يوم ما ليس كسائر الايام استيقظت من منامي واجتمعنا خلقا كثيرا من الانام في وئام وكانت وجهتنا بركة ماءٍ لها غورٍ مظلم في الاعماق . نروم تعلم السباحة كأننا في سياحة وفي لحظة ما غرقت انا فكانت النياحة ولفني الموت زمنا لا اعلم قدره . كل ما اذكره اني عدت الى الحياة في الوقت الذي كان فيه والدي قد ارسل من يحفر قبري . جرياً على عادة ( اكرام الميت دفنه ) . نعم هذا هو قدري ان يحفر قبري ولا انزل في حفرتي . ووهبت حياة ثانية ربما للمرة الثانية او الثالثة ولا زلت لغاية يومنا هذا لا اعلم كم مت وكم احييت حتى ضننت نفسي اني خالداً .
وبعد هذه الحادثة الموجعة عاد اليَ رشدي وتنبهت لامري جيدا وانا صافي الذهن متوقد الفكر متحفزا نشطاً محباً شغوفاً لكل امرٍ. فعلمت في سري ان الذي مات غرقاً ولم يدفن في قبري هو طارق اخي وعلمت اذ ذاك كم هو غبي كاد ان يضيعني بغباءه ويشتتني في افكاره ويسحبني الى مهالكه فحمدت الله وشكرته . ولازلت لغاية هذا اليوم احمده واشكره وسلمت له امري بالكلية على الفطرة السليمة . وتركت كل عاهاتي السقيمة بعد ان اصبحت رجلاً ذا قيمة بين الرجال انال محبتهم في الحال فسبحان مغير الاحوال من حال الى حال .
ولكن هاجس اسمي لا زال يؤرقني فانا لست انا فمن اكون انا ؟؟؟؟
وسمي بالزي الرسمي
بقلم : طارق فتحي
في ستينيات القرن الماضي كنا طلاب في المرحلة الاعدادية وعلى غرار افلام الستينيات ( الاصدقاء الثلاثة ) و ( الفرسان الثلاثة ) و ( ثلاثي اضواء المسرح ) ( واحنا الثلاثة ) ومسايرةً لهذه الموجة من الافلام كنا اصدقاء ثلاثة وزملاء في الدراسة وبنفس الصف الواحد انا وخالد مونكي و وسمي . ونرتاد المدرسة بنفس الزي الرسمي لثلاثتنا .
كنا اشقياء بطفولة بريئة نحب المرح والحياة بقوة وغالباً ما كنا نسير في شارع السعدون احد شوارع بغداد العريقة حيث تغلبنا شقاوتنا في تصرفاتنا فنعاكس الباعة وبعض المارة ونتهكم على ما يحلو لنا من الناس وكنا سعداء للغاية حتى وصولنا الى الباب الشرقي ونتفرق كلٍ الى حال سبيله .
لا تفلت منا صغيرة او كبيرة دون التعليق عليها والتهكم بها وكانت اغلب المقالب يقوم بها الزميل خالد مونكي هكذا كنا نلقبه كونه شخص فارع الطول . طويل الذراعين . محني الظهر . متهدل الارجل . ويشبه القرود في مشيته وانتصاب قامته الى حد ما وهو صاحب مقالب لا تخطر على بال احد وكنت في حينها كثير النقد لتصرفاته الرعناء .
وفي عصر ذات يوم دق جرس المدرسة معلناً انتهاء الدوام الرسمي لهذا اليوم . فخرجنا جميعاً نتبعثر في شوارع بغداد وازقتها واحياناً نعرج على شارع ابي نؤاس الشارع الرديف لنهر دجلة الخالد . وكنا كالعادة نحث الخطى سيراً نحو مبتغانا الباب الشرقي . وعندها يبدأ الزميل خالد مونكي كعادته في معاكسة الباعة المتجولين والمارة . هذه المعاكسات نسلم منها تارة وتارة اخرى نذيق بها عذاب سوء تصرفاتنا .
وبينما نحن نسير في الجانب الايمن من شارع السعدون باتجاه الباب الشرقي وصلنا الى ساحة النصر ووقفنا ثلاثتنا عند الاشارة نروم العبور الى الجانب الاخر من الشارع حيث سينما النجوم لنقرأ اعلاناتها ونتطلع الى الافلام التي تقدمها لهذا الاسبوع او الاسبوع القادم . سيما وان هناك مقهى قد افترشت جزاً كبيراً من الرصيف بمقاعدها التراثية المتهالكة التي تعج بكبار السن المبهجين الذين يسرون الناظر اليهم . ومشهد المقهى هو البروتوكول الثابت الذي لا يفوته خالد مونكي مهما كانت الظروف .
واثناء انتظارنا للاشارة الخضراء متهيئين للعبور وقف امامنا رجل عجوز وهو يرتجف من شدة ضعفه مسندا نفسه على عكازة القديم قدم الدهر كله . ووقف تماما ً امام خالد مونكي العملاق . فالتف خالد مونكي اليً وقال ( شوف همه يتحارشون بيً) وضحكنا جميعاً وأضاءة الاشارة الخضراء واخذ الكل يجري مسرعي الخطى بغية الوصول الى الرصيف الوسطي بآمان . فما كان من خالد هذا الا ان حمل الرجل العجوز معة ككيس بطاطا وعبر به الى الجزرة الوسطية وانزله الارض بسلام وآمان .
وبينما نحن بانتظار الاشارة الخضراء للعبور الى الصوب الاخر من الشارع خر الرجل العجوز ارضاً هو وعكازه واذا به جثة هامدة لا حراك فيها وساد الهرج والمرج في الشارع وانتقل جميع رواد المقهى التي على الرصيف الى وسط الشارع بدافع حب الفضول ومشاهدة ما يجري وانقطع سير المركبات وتعالت صرخات القوم وامتزجت مع منبهات السيارات وسادت فوضى عارمه المكان واختلط الحابل بالنابل . فانتبه رجل المرور لما يحدث وكان يقف بجانبنا تماماً ممسكاً بعمود نور ضخم في قاعدته جهاز هاتف كبيرالحجم اسود اللون .
وفي خضم هذه الفوضى العارمة طلب خالد مونكي من وسمي ان يتصل بالاسعاف الفوري وبينما كان الشرطي منشغلاً بابعاد المارة والسماح لتدفق المركبات الصغيرة بالسير وفض الزحام . اخذ وسمي الهاتف واتصل بالاسعاف الفوري . وبعد مرور ما يقارب العشرة دقائق بدأ لنا سماع صوت سيارة الاسعاف الفوري من بعيد . واجتهد شرطي المرور بفض الاشتباك والاختناق المروري وفض الزحام ليسهل سير المركبات وانسيابيتها لتحلق سيارة الاسعاف الفورى وتنقذ هذا العجوز المسكين وتنقله الى اقرب مشفى للطواري ان كان هناك بصيص امل في انقاذه واعادته الى الحياة . وكانت الجماهير تتحرك كخلية نحل فقدت صوابها والامر الجيد الوحيد الذي حصل في حينها هو ان احداً لم يجرؤ على مس العجوز الملقى على الارض بلا حراك خوفاً من المسآلة من القانون .
وقد بدى سماع صوت صفارات الانذار للاسعاف الفوري غير بعيدة عنا وفي هذه اللحظة الحرجة تحرك الرجل العجوز ونهض من بين الاموات وعم الصمت المكان وخيم هدؤ وسكينة رائعين على الجميع وهم محدقين احداقهم فاغرين فاههم لا يلون على شيء ولا يفهمون ما حدث كان الطير فوق رؤسهم كنوع من المعجزة او الاعجوبة التي قلما تتكرر . وعبر الرجل العجوز الشارع لحالة غير مكترث بتجمهر الناس من حوله ومن حول المكان الذي هو فيه وتبعه بضع عشرات من الناس حتى انه اختفي باحد الازقة المطلة على شارع ابي نؤاس .
وهنا التفت خالد الى زميله وسمي يحثه على ان يسقط نفسه على الارض ممثلاً دور الميت بدل الرجل العجوز . وعندما اعترض وسمي على مشورة زميله خالد . رد عليه خالد بالقول انت يا وسمي من اتصل بالشرطة واعطيتهم أسمك وعنوان المدرسة واسمها وعندما لم يجد رجال الاسعاف شئيا سياخذونك الى مركز الشرطة بتهمة البلاغ الكاذب او التلاعب مع جهات حكومية رسمية وهناك عقوبات شديدة اما الغرامة المالية او الحبس . وهنا اخذ وسمي يرتجف من الرعب والخوف بعد سماع كلمات زميله خالد مونكي . والحق اقول لكم ان وسمي كان شخصاً جباناً جداً ( اجبن من اسماعيل ياسين بخمس دقايق ) .
وفعلاً عمل وسمي بمشورة خالد واسقط نفسه ارضاً بمكان الرجل العجوز تماماً ممثلاً دور الميت باتقان بعد ان سلم كتبه التي بمعيته الى زميلنا خالد مونكي . الغريب في الامر ان احداً لم ينتبه لما قمنا به من تمثيلية رائعة كانت مخلوطة بشيء من الخوف ومن باب التهكم والمهاترة مع الناس كعادة الزميل خالد دوماً . ففي هذا الوسط من الهرج والمرج والاصوات النشاز الصاخبة وحركة خلية النحل المجنونة كان من الطبيعي ان لا ينتبه احداً لما قمنا به والناس يتوافدون على وسمي وهو ملقى على الارض ويترحمون عليه ولا يدرون بامر العجوز بتاتاً ظناً منهم ان وسمي هو الشخص المعني الذي من اجله وصلت سيارة الاسعاف الفوري للمكان الذي هو فيه .
وكان الناس ينظرون الى وسمي بنوع من الذهول ويرفعون اعينهم باتجاهنا نحن انا وزميلي خالد فقلت لخالد لماذا ينظرون الينا فانحنى نحوي بكل ادب واحترام غير معهودين منه . وقال لي نحن الثلاثة نرتدي نفس الملابس انه الزي الرسمي لنا نحن الاصدقاء الثلاثة ففهمت العبارة واجبته بالاشارة .
وصلت سيارة الاسعاف الفوري المكان ونزل منها شخصان يرتديان ملاءات بيضاء وهم يجرون حمالة طويلة بيضاء انزلوها الارض وحملوا وسمي عليها ورفعوها الى داخل السيارة من الباب الخلفي . وسألوا الناس المتجمهرة على الحدث من منكم يعرفه فرفعنا انا وخالد ايدينا بالايجاب ونظروا الينا ملياً ولولا زينا الرسمي الذي يشبه تماماً زي وسمي لما اخذونا معهم اصلا .
ومر بعض الوقت ووصلنا مشفى الطواري القديمة في بداية شارع الشيخ عمر . وبعد ان هبطنا منها جميعاً أخذوا وسمي مسرعين نحو غرفة العمليات وتركونا في الممر حيث ممنوع علينا الدخول الى صالة العمليات . فتهالكنا انا وخالد على مقعد خشبي قديم ثلمت اجزاء منه قد رصف بجانب احد جدران الممر الطويل في المشفى المؤدي الى صالة العمليات , ونحن نقلب بكتب وسمي التي بين ايدينا ونقرأ مذكراته المضحكة التي كان يكتبها على اغلفة كتبه من الداخل . وكنا نضحك في سرنا كيف سيتفاجأ الاطباء بعودة وسمي الى الحياة وقد ينسبون ذلك الى انفسهم للتبجح والغرور . او ربما ستنكشف لعبتنا خصوصاً ان وسمي جبان لدرجة الخجل ولربما يشي بنا وتكون العواقب وخيمة ويتصلون بالمدرسة . فطرحت على خالد فكرة الهروب من المشفى والنفاذ بجلودنا سالمين غانمين ولا احد يعلم بامرنا ولكن فاجئني خالد ببطولاته السوبرمانية واخلاصة للصداقة وانه يضحي بنفسه من اجلنا والا لماذا ( نحن الاصدقاء الثلاثة ) نرتدي نفس الزي الرسمي وما الى ذلك من خطب الخيال العلمي الذي يجيدها خالد تمام الاجادة .
فاضطررت للبقاء وانا تتقاذفني الهموم والشكوك والخوف مما قد يحصل وماذا لو علمت المدرسة بامر شقاوتنا هذه وماذا لو علموا اهلي امي وابي ياللهول ان ما نقوم به كارثة غير محسوبة النتائج . فخيم علينا الصمت والسكون اطبق على جميع جوارحنا وحواسنا .
فاذا بازيز صوت باب يفتح واطل منه طبيب مغطى بالكامل بلباس غرفة العمليات واتجه صوبنا وهو ينزع عن رأسة قلنسوته ويميط الثام عن انفه وفمة ليقول لنا . انا لله وانا اليه راجعون . البقاء في حياتكم . لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم . وقال الطبيب مخاطباً كلانا من منكم يعرف عنوانه لنخبر اهله بوفاته . فضحك خالد ضحكة هستيرية بصوته الاجش العالي وحكى للطبيب ما قمنا به من عمل وبالتفصيل الممل وبانه هو الذي اوعز لوسمي ان يتخذ دور العجوز الميت الحي .
وقال خالد دكتور ارجوا ان لا تمازحنا رجاءاً . ظناً منه ان وسمي عندما نهض من نومته اخبر الدكتور بكل التفاصيل واراد الدكتور ان يلقننا درساً قاسياً لن ننساه ما حيينا .
ولكن الطبيب فاجئنا ونهر خالد بشدة وقال له انا طبيب لا امازح في الموت . ما اسم زميلكم فقال له خالد ان اسمه وسمي واردفه ثانية وعلى عجل . دكتور وسمي بالزي الرسمي . واخذنا نبكي بلوعة وحرقة ومرارة على وسمي وكيف اصبح الخيال حقيقة واقعة قد وقعت فعلا . الى رحمة الله يا وسمي ستلقى ربك بالزي الرسمي .
الارنب مانو
بقلم : طارق فتحي
كان في دار احد اقاربنا ارنباً كبيراً من المطاط الملون ذو اذنان كبيرتان وبقامة طفل يضعه في المطبخ فوق البراد . وكانت جلساتنا معاً لا تحلو الا في المطبخ حيث الطعام وفير لنتناول ما لذ لنا وطاب من المأكولات والمشروبات .
وفي يوم ما وبينما كنا نتحدث حول مواضيع مختلفة حرك الارنب مانو احدى اذنيه الكبيرتين وتدلىت الاذن على وجهه مغطياً عينية الشمال وبما ان رسمت هيئة الارنب كانت مبتسمه . فظهر كأن الامر مانو يغمزني بين الحين والآخر .
فقلت لقريبي ان الارنب تحرك من ذاته . فرد عليً مفسراً الامر فيزيائياً وطبيعياً واعتذرت منه بعد ان اعتقدت بجوابه العلمي الرصين حيث عدنا الى تجاذب اطراف الحديث مرة ثانية .
وذات ليلة ذهبت اليه مساءاً وجلسنا كعادتنا في المطبخ بعيداً عن الاطفال واهل الدار . تحرك الارنب مانو بشكل ملفت للنظر بحيث انه ادار وجنته وتهطلت اذناه الكبيرتان وانحنى كمن يؤدي التحية بخشوع فافزعني ما شاهدت ونهضت من فوري واعتذرت من قريبي وذهبت مسرعاً الى دارنا .
وفي اليوم التالي التقينا معاً في حديقة دارنا وعاتبني بشدة على سوء تصرفي معه امس مساءاً فقلت له ارنبكم هذا فيه سر عجيب وامر غريب وانت تفسر الامر لي كأنه شيء طبيعي الحرارة والبرودة وغير ذلك . وبعدها لم اعد ادخل دار قريبي لاي سبب كان . وذات يوم وبعد مرور اشهر قلائل اتى قريبي الى دارنا مكفهر الوجه جاحظاً عيناه متقطعة انفاسه وكان على هيئة مخيفة جدا ً .
وبعد السلام والتحية قلت له ما الخبر. قال زوجتي شاهدت الارنب مانو وهو يمر من امام باب غرفة نومها متوجهاً الى غرفة اختي الصغيرة , ولما ذهبت مسرعة الخطى سمعت اختي تغني وبعد ان تنصتت جيدا فاذا بها تغني مع الارنب مانو وكانت تسمع صوت غناء اختي دون صوت الارنب مانو . عندها قررت اقتحام الغرفة واذا بها تجد احتي ممسكة بلعبة ارنب صغيرة مصنوعة من الفرو الابيض وهي تغني حيث ابتسمت لزوجتي وقالت لها وهي تغني ان الارنب مانو اعطاها هذه اللعبة الصغيرة .
وعندها جن جنونها فذهبت من فورها الى المطبخ فوجدت الارنب مانو على حاله وهيئته فوق البراد . فقلت طيب . لماذا هذا الخوف اذاً والجزع الذي بادي على محياك . ؟ فقال اني اعرف زوجتي جيداً وهي لا تعتقد في هكذا امور ولا تؤمن اطلاقاً في مثل هذه المواضيع . وهذا يعني ان كلامها معي حقيقىة قد وقعت لا محالة وانت اول من تنبه للامر .
فقلت له طيب . هل استطيع ان اكلم اختك الصغيرة حول الموضوع . فرد عليً بكل سرور وفي الحقيقة زوجتي هي التي بعثتني اليك .
وعندما حل مساء هذا اليوم ذهبت الى دار قريبي حيث غرفة اخته وكم كانت المفاجئة مدهشة وعقدت لساني اذ وجدت الامر مانو ينتصب بقامته في الزاوية القريبة من خلف سري الطفلة قريباً من رأسها .
فقلت له ما هذا .؟ قال هذا بحسب رغبة اختي جلبنا لها الارنب مانو من المطبخ الى غرفتها وهي تقول مانو اخبرني بذلك . وهي تقول ايضاً عندما تعد من الواحد ولغاية الاربعة يتحرك مانو ويتكلم معها ويعد ( 1-2-3-4 ) مكرراً العد معها .
عندها كنت استمع وانا اقف في وسط باب غرفة اخته الصغيرة وبين الفينة والاخرى كنت استرق النظر نحو الارنب مانو كأني انتظر ان يكلمني الارنب هذا كان هاجسي في لحظتها .وبعد ان خاب ظني ودعت الصغيرة وهي مستلقية على سريرها ومانو خلف رأسها في منتصباً في الزاوية . وعندما اطفاء مصباح النور رأيت مانو وقد تحرك من مكانه وعدت مباشرة الى اضاءة المصباح فاذا بي اجده في مكانه ولم يتحرك قيد انملة . وكررت الامر مرتين وثلاثة فهمس قريبي في اذني ماذا رأيت .؟ لماذا تفعل ذلك .؟ فلم اجد له جواباً ولم ارد عليه .
وبعدها جلسنا معاً انا وقريبي وزوجته في الصالة وارتشفنا الشاي على حكايات شبيه ومماثلة . وختاماً قلت لهم . لماذا لا ترمون الارنب مانو وتتخلصون منه . فقالت زوجة قريبي نعم قررت ذلك في احد الليالي واذا بي اشاهده يمر من امام باب غرفة نومي مثلما اخبرك قريبك . ومنذ ذلك الوقت وطفلتنا تبكي بحرقة ومرارة وتصرخ عالياً وتريد ان نجلب لها مانو الى غرفتها . وهي التي لم تكن تعره اهتمامها من قبل مطلقاً . وهذا امر غريب وفيه السر عجيب لتصرفات طفلتنا ونحن خائفون جداً عليها . ونحن دائماً نسمعها تغني مع مانو وتعد معه ( 1-2-3-4) ويحدث ذلك مراراً وتكراراً ليلاً ونهاراً . ولا اخفي عليك مشاعري احسست بداخلي ان الارنب مانو يكرهني بشدة عظيمة اذ اني حاولت معه عدة مرات التخلص منه حتى اني في احد المرات ثقبت بطنه بابرة كانت في يدي لانه كان يصدر اصوات مخيفة ينكمش ثم ينتفخ وبين هذا وذاك تصدر الاصوات كان شخصاً ما يهمس في اذني بكلام مبهم وغامض وغير مفهوم .
وامهلتم وقتاً ريثما اتفكر بالامر ودعوتهم الى ترك الامور على حالها ريثما نجد حلاً مناسباً للموضوع . وعدت ادراجي الى دارنا وانا مستغرق بالكلية في الاخبار العقلية لا النقلية ( كيف .. ولماذ .. ومتى .. واين ..) تلك الكلمات التي ما انفكت البشرية تلهج بها في قارات العالم هذه الكلمات الازلية . وعندها انتبهت الى مسألة الاعداد فقلت في سري السر يكمن في الاعداد بما ان الارنب مانو لم يتكلم ولم يسمعه احد ان تكلم . فقمت بجمع هذه الاعداد (1+2+3+4=10) فقلت الحاصل عشرة ولا اعلم ما سر هذا الرقم .
تناولت عشائي على عجل واخبرت والدتي اني ذاهب الى دار قريبنا لامر ما . بعدما قررت في نفسي الذهاب الى دار قريبي وتناول موضوع الطفلة حيث دلفت الى دارهم متحمساً للامر . وبعد سكون الهيئة واعتدال احوالي ذهبنا جميعا الى غرفة الصغيرة فقلت لهم السر يكمن في العدد والمعدود وحاصل جمع الاعداد هو (عشرة) ولا اعلم ما سر هذا العدد وعلاقته بابنتكم وحانت مني التفاته الى الارنب مانو واشحت بوجهي نحو الطفلة متحفزاً الحديث معها . فرايت وجها نصفه تماما على هيئة الجمجمة حيث نصف صف الاسنان بارزة تماما بفكيها العلوي والسفلي ومحجر العين اليسرى كبيرا جدا يلفة الظلام الدامس . ونصف الايمن من الوجه لاتبدوا عليه اية ملامح بشرية وهو مغطى بالكامل بالسواد التام . ففزعت من هيئتها كثيراً . فخرجت مسرعاً من عندهم لا الوي على شيء .
ومرت الايام والشهور والسنون وانتقل قريبي للسكن في محافظة بعيدة عن بغداد . وذات يوم طرق بابنا قريب هذا وعلامات المشيب بادية عليه فادخلناه وجلس في ضيافتنا وتجاذبنا اطراف الحديث عن الايام الخوالي حلوها ومرها وتلك التي قضيناها معاً . فصمت برهة من الزمن وأخذ يبكي بشدة كطفل اضاع لعبته . فاستغربت للامر اول وهلة . وقلت له , ما الخبر .؟
قال عندما رايتكم تثيرون في الحنين للايام الخوالي تذكرت ابنتي وقصتها مع الارنب مانو . فقلت له عسى ما شر ماذا يبكيك .؟ قال اتعلم ان ابنتي توفيت تماما بعد عشر سنوات تماما بعد ان رمينا الارنب مانو واعتقدنا اننا تخلصنا منه . فعجبت من كلامه . وقلت له من فوري كيف توفيت ابنتك .؟
قال دهستها سيارة مسرعة مارة فوق رأسها وكانت هيئتها مرعبة جداً فنصف وجهها جمجمة فقط والنصف الاخر تجمدت فيه الدماء فاصبح اسود قاتم لا يفصح عن معالمه .
فعقدت الدهشة لساني وهو يوصف تماما مارأيته على ابنتهم في حينها وكان سبب تعجبي هو اني لم اذكر لهم مارأيت على محيا وجه ابنتهم احتراما لهم ولم اكلم احد به حتى الساعة . وكان حادث ابنتهم ووصف ابيها للحادث ولحال ابنته تماما كما رايتها منذ عشر سنوات خلت عيانا جهارا في دارهم .
شبح جدي يظهر لي بشكل جدي
بقلم : طارق فتحي
كنت قد اعجبت بالفن التشكيلي ايما اعجاب وكان مرد هذا الاعجاب هو الاخ الاكبر لأحد اصدقاء الصبا والشباب وهو ( الفنان علاء الدين فوزي ) تغمده الله بواسع رحمته . وأخذت انقب جهدي في تعلم هذا النوع من الفن وشاءت الصدف العجيبة التي دائما ما تحدث معي ان يكون زميلي الذي اتقاسم مقعد الدراسة المتوسطة معه هو الزميل الفنان المرحوم ( مؤيد نعمة ) رائد فن الكاركتير العراقي وصاحب عمود طبق الاصل في مجلة الف باء العراقية .
فاخذنا نتجاذب اطراف الحديث حول فن الرسم التشكيلي وحفظنا اسماء اساطين هذا النوع من الفن الراقي . وكان اتجاه زميلي المرحوم مؤيد نعمة نحو فن الكاركتير وانا كنت ارغب في الفن الطبيعي . وكثيراً ما كنا نتبارى معاً على سبورة الصف.
ودرست جانباً نظريات وقوانين وقواعد فن الرسم الطبيعي الكلاسيكي دون المرور بالتجربة التجريدية والتكعيبية وغيرها من المدارس الفنية . وفي احد المقالات قرأت ان عين الانسان هي بمثابة الكامرة التي تصور كل شيء واي شيء . ومن خلال العين ترى احياناً ما لايراه غيرك من البشر . وعلمت لاحقاً ان هناك نظريات وقواعد في ترويض البصر وبما يسمى بالجلاء البصري فنهلت من مثل هذه المعلومات الشيء الكثير .
وقد صدق حدسي واخذت برؤية اشياء لا يمكن لغير العين المدربة جيداً ان تراها . فكنت اذا جلست الى الحمام ارى صور ووجوه كثيرة على الارضية وعلى الجدران منها ماهو ثابت لا يتغير ومنها ماهو يتغير في حال طرفت العين ومنها ما يتغير باستمرار حتى مع التحديق المستمر . وكذلك اخذت اجسد لوحات في الغيوم وصور طبيعة معكوسة على قدح فيه ماء . وكنت ارى اشياء غريبة وعجيبة وانا اسير على ارضية شارع مبلط بالاسفلت , وكأن ما حصل معي شيئاً جنونياً من حيث اني اخذت انظر الى الاشياء على غير حقيقتها .
وكنت ايضاً اصف صور مقدمات السيارات في الستينات من القرن الماضي وتشبيهها بالبنات والصبايا الجميلات تارة وبالعجائز والمسنات تارة اخرى . ولم اكتفي عند هذا الحد بل اخذت احلل شخصية موديل كل سيارة اعتمادا على الشبه الكبير بينها وبين هيئات بعض البشر رجالاً ونساءاً . وكأنني كنت اتعامل مع كائنات حية معتمدا على الدوائر والخطوط والمنحيات التي يرسمها هيكل وبدن السيارة في مخيلتي .
قد لا يجروا احداً الى التطرق نحو هكذا مواضيع ولكني اني اذكر ما حصل معي بجرآة وشجاعة متناهيتين ولا يهمني الا النجاة بعقلي بعد ان تم اعتقال عقول اقراني بقصد او بدون قصد .
وذات ليلة دهماء كنت مستلقياً على سريري انظر الى حالي بعد ان تبدلت احوالي وانا اقلب بصري على جدران غرفتي ناصعة البياض ورحلت بعيداً في آلة الزمن خاصتي حيث وفورة الشباب وقوة الحياة والسعادة الفطرية التي ما انفكت تلاحقني
واذا بي اشاهد من فوري اشباح تظهر على الجدران لتملأ المكان فضحكت في سري وقلت الله يرحم ايام زمان اشتقت لاشباحي . السلام عليكم ايتها الاشباح الروحانية والارواح النورانية . واذا باثنان من هولاء الاشباح تم تجسيدهم بشكل ثلاثي الابعاد وبهيئات مجسمة تشبه الى حد بعيد الاشكال الحقيقية والواقعية وجلس احدهم قرب قدماي واما الاخر فسار خلفي واحسست به الا انني لم اراه .
فتكلمت مع اشباحي وانا اراهم بصورة جيدة وحفظت اشكالهم وصورهم في مخيلتي وقد عرفوا انفسهم وانسابهم لي والعجيب في الامر كان الهدوء والسكينة والوقار بادية على محياهم ولجمال صورهم وهيئتهم الرائعة لم تنفر منهم نفسي ولا خطر على قلبي خوف او وجل . وكان عقلي يحلل في الامر رويداً رويداً وكان شاهدا معي على ما ارى . وغفوت مع اشباحي وطمست في نوم عميق .
وفي الصباح الباكر واثناء الافطار الصباحي اعطيت اوصاف مارأيت لوالدتي وبعد ان استمعت الي جيداً . قالت لي نعم هولاء هم اجدادك وسمتهم لي باسمائهم وبنفس انسابهم , فهل كانوا حقا هم اشباح الجدران .؟ الذين يملاءون المكان .
كانت لي سفرة برية .. لا يعلم بها الا رب البرية
بقلم : طارق فتحي
لقد سنحت لي فرصة السفر الى خارج العراق وكنت قد استبشرت خيرا سيما وخطر على بالي رؤية اولادي بعد فراق دام طويلا لم ارهم فيها
ومن متطلبات السفر ومنح الاقامة في بلدان اوربا عمل صورة قيد مترجمة ومصدقة من الخارجية العراقية وهكذا بدأت جولتي وكنت حينها في تركيا - اسطنبول وما ادراك ما اسطنبول كل شيء فيها زاهي.. السماء والارض تتباهي باشجار ونخيل بواسق وزهور تنتشر على الشاطي والجو الربيعي يجعل منك شابا في عمر الزهور وتشعر بانك شفيت من جميع الامراض العضوية منها والنفسية واصبحت امام صورة لا يمكن ان تغفل عنها حيث الجمال المبثوث هنا وهناك في الطرقات والساحات والمتنزهات وجمال الوان الناس ورقي تصرفاتهم وانسانيتهم العالية ينسونك حتى اسمك .
كل هذا الجمال تركته وراء ظهري .. ما العمل ؟ توجب علي العودة الى بغداد فقفلت عائدا الى العراق بسفرة برية دامت 36 ساعة منها سبع ساعات على الحدود العراقية التركية ( ابراهيم الخليل ) بدواعي امنية ؟
ولك ان تتخيل قضاء سبع ساعات في برية موحشة وظلام حالك ولا يسمح لك بمغادرة الباص بدواعي امنية وعند انتشار اول تباشير النهار تحرك الباص اللعين وليس له من معين.. وما ان عبرنا المضيق حتى تلقتنا هفوف رياح السموم وقبل ان نقبل نحن تراب العراق كعراقيين مخلصيين له الحب في الوجدان .. قبلتنا اتربة العراق الجميل وكانت بادرة حسن نية منها مشكورة عليه.
وصلت اربيل في ساعات النهار المتأخرة وكانت مدينة جميلة تنهض من جديد بحلتها العصرية وشوارعها الدائرية وبحرارة غير عادية ارتبطت معها بعلاقات ودية حيث بت ليلتي فيها .. وفي الصباح المتأخر ايضاً قمت انا ومضيفي في جولة سياحية بدواعي ترفيهية .. وبعد زيارة خاطفة للاماكن السياحية قفلنا عائدين الى البيت وبدت لي ان المدينة جميلة من نواحي عدة ولكن شتان بينها وبين ما خبرت في اسطنبول من جمال طبيعي رائع وأخآذ ..غادرت مضيفي مودعا اياه لاتمام جولتي الى بغداد فانطلقت من الكراج البري باتجاه كركوك فوجدتها مدينة محيرة حيث اعمال البناء واكساء الشوارع والجسور لم تنتهي والكل في حركة دؤوب كانهم خلية نحل ومع ارتفاع درجات الحرارة وازدياد كثافة الغبار الكوني المسلط على العراق وحسب , تناولت طعامي في مطعم سياحي صاحبه رجل عصامي وما ان التهمت كالوحش الجائع نفرا من الكباب حتى تناولت الباب هروبا منه الى كراج بغداد
وما ان دلفت بوابة الكراج الوهمية حتى تجمع حولي البوهيمية بشرا قد اختلطت روائحهم بغبار العراق المقدس وانفاسهم تلهث بروائح غير زكية واشكالهم الغريبة كانهم مصاصوا دماء نهضوا لتوهم من الاموات . كل شيء فيهم يعلوه التراب من اخمص اقدامهم حتى فوق رموش اعينهم وكانت الهيئات تبدوا متوحشة للوهلة الاولى . وبعد معركة حامية الوطيس استطعت ان ارد حقيبتي من احدهم بعدما تمسك بها ليعلن فوزه على اقرانه من السواق المساكين . جلست متهالكا على مقعدي والحيرة تلفني والدهشة تاخذني في كل شيء .
اغلقوا النوافذ جميعها لئلا يعبث بكم التراب . فكان للسائق ما اراد وهو يعلن ذلك بكل فخر واعتزاز . وحشرت مع الناس و ( حشر مع الناس عيد ) وما هي الا لحظات بعد الانطلاق وغلق النوافذ والابواب حتى بدأت تتسرب رائحة الموت كثعبان خرج للتو من وكره . واخذت الروائح تصدح في المكان فالتفت ذات اليمين واذا بامراة مسنة تزن الاف الاطنان تذكرك بعمالقة العصر الحجري القديم تفوح منها عطور كريستيان ديور وفيجي ووان مان شو . فتنفست الصعداء كمن فلت من بين الاعداء فالتفت ذات الشمال وما ادراك ما في ذات الشمال روح ورياحين تهالك فيه رجل مسن ايضاً لولا انه يرمش بعينيه بين الفينة والاخرى لحسبته من الاموات قد اختلطت ملامحه بعذاب السنين التي مرت عليه وتركت اثاراً بارزة للعيان من انهار وجبال ووديان وانفاق حفرت على وجهه لا تكاد تميز فيه شيء يمت للبشر بصلة فقلت في سري ( المعذبون في الارض ) وكانت رائحة التبغ تفوح منه بغزارة منقطعة النظير . فاكتفيت بما وضعت نفسي فيه من مأزق ولم اتفرس بوجوه القوم خشية ان يصيبني الغثيان .
وفي الطريق توقف السائق بعد ان سبقتنا سيارة للشرطة المحلية .. واخبروا الجميع بسلوك درب وجيع .. بين تلول عالية شامخة من مقالع للحصى والحجارة وكانت البشارة .. قد اتت على عجل وغرست السيارة في الوحل بالعجل . وبعد كفاح ما يزيد عن الساعة طرق سمعنا ما كنا نخشى سماعه .. اصوات اطلاقات نارية صمت لها الاذان البشرية وخفقت لها قلوب اعتى الرجال وتبدلت احوالنا اوحالا . فاطبق الصمت الرهيب علينا من كل جوانبه ولم نسمع فيها سوى خفقات القلب الوجيف
ولمحت قومي ورمقتهم بنظرة عين حائرة فكانت بحق صورة مؤلمة الحرارة شديدة والعرق يتصبب على وجوه الجميع والغبار يتباهى بمروره فوق اجسادنا ولا نملك حق الرد بابعاده عنا والملابس متسخة تعلوها الاتربة والاوحال وبادت الاشكال اشبه بتماثيل نحتت بيد خبير بحيث لو سقط احدهم ارضا لداس عليه صاحبه دون ان يشعر به كونه اصبح شبحا من جنس الطبيعة المحيطة به . وترى الناس سكارى وما هم بسكارى والخوف والهلع والرعب والجهد والتعب والنصب والهيئة شبه البشرية والملابس الموحلة كل ذلك جعل من عوامل الطبيعة ان تكون هي الفائزة بالضربة القاضية
وعادت السكينة الى النفوس الحزينة , واستمرت الرحلة ونحن جلوس , منهم من انطلق بحريته ومنهم من كان محبوس , فهتف السائق هيا اجمعوا الفلوس , ها نحن قد وصلنا بغداد فاستقبلنا الناموس , بقرصاته التي كانت كحد الموس, والالم والجوع ينخر فينا كحشرة السوس , فهذا وسواسه موسوس , وذاك ذو وجه عبوس , وهذا كانه رجل ممسوس , وكانت هيئاتنا تنفر منها الطباع والنفوس , فهذا هو الناموس .
وما ان وصلت بغداد حتى شاهدت العجب العجاب مستنقعات من المياه الثقيلة روائحها تزكم العقول قبل الانوف . اهوار ومستنقعات مترامية الاطراف تحيط بمنفذ بغداد - كركوك الشمالي , وحتى حدود بغداد الداخلية , وهيئة وشكل ومكان المنفذ كانها منطقة خرجت للتو من حرب كونية , الارض هرمة خربة تعلوها تلول من الازبال تارة وتلول من الانقاض تارة اخرى . وابخرة بجميع الوان الطيف الشمسي تتصاعد من هنا وهناك ودخان اسود كثيف يلف المكان من جراء حرق الاطارات المطاطية لدفع غائلة البعوض وتجنب قرصاته الحادة والمحرقة والروائح التي تذكرك بروائح الموتى والهيئة تدل على انك عل مشارف نهاية العالم .
وحللت ضيفا في دار اخي والالم يعتصرني مما رايت وكانت الصدمة قوية جدا واخذتني البهته طويلا. وبعد الاستحمام والراحة البدنية . ما شعرت الا ان احدهم قام بعملية المساج والتدليك لقدماي المتورمتان من جراء السفر . وصدمت منهم لانهم كانوا اناس طبيعيين جداً في تصرفاتهم نحوي ولا يهمهم الحر والبق والغبار والروائح الكريهة والاصوات المزعجة وهدير الرصاص بين الفينة والاخرى .. .
المعطف
طارق فتحي
قصة حقيقة وقعت احداثها في العام 1956 جرت احداثه في منطقة الفضل ببغداد . في يوم شتائي ممطر واصوات البرق والرعد تصم الاذان بين الحين والآخر , تحلقنا انا واخي الذي يكبرني بعامين حول والدي مطمئنين في احضانه الدافئة والخوف والرعب أخذ منا مأخذه كوننا ساكنين جدد في هذه الدار والمنطقة .
سمعنا طرقا عنيفا على باب دارنا فقفزنا كالسناجب الى اخضان والدتي عندما نهض ابي مسرعا لاستطلاع الامر ومعرفة من الطارق في مثل هذه الليلة الحالكة الظلام الا من بصيص نور باهت ياتي من عمود الكهرباء البعيد نسبيا عن باب دارنا.
تفضل .. تفضل ايها الشيخ الجليل . فانزاحت ستارة الباب من طرف يد والدي واذا بشخص بهي الطلعة كبير السن ذو لحية بيضاء يقطر منها الماء ضخم الجثة عريض المنكبين لم يتعرف عليه احد من في الدار حتى والدي .
صدمت والدتي من تصرفات ابي فاخذت تلملم نفسها وتغطي وجهها وراسها بشال اسود ( الفوطة ) فقربه والدي منا كثيرا واصبح الجميع متحلقين حول منقلة الشواء وبعض اعواد الخشب مع الفخم ترمي بحرارتها وضيائها الباهت المتحرك مما اضاف على هيئة الرجل الكثير من الرهبة والخشوع لنا جميعا .
وبعدان اكل القليل من الطعام وارتشف كوب او كوبان من الشاي قال لوالدي كنت غائبا في مكان بعيد جدا ولفترة طويلة من الزمن واتيت الليلة لارى ولدي فقالوا لي انه هاجر الى اسطمبول وانست نارا عدنكم فطرقت بابكم فجزاكم الله عنا بالف خير . واني اشعر بتعب شديد ارغب ان اخلد الى النوم لو سمحتم لي .
فتنحى والدي عنا قليلا ورتب له مكانه في احد الغرف الشاغرة في دارنا واتى بمعطفه الوحيد والمميز عنده والبسه للشيخ حتى يتقي البرد اثناء نومه دخل الشيخ الى الغرفة واغلق ابي الباب عليه . وهنا جرت مشادة هامسة بين والدي وامي اذ عاتبته كيف يؤي الى دارنا رجل غريبا لا نعرفه في مثل هذه الليلة المظلمة .
حين شارفت النار على الانتهاء وذبول خيوط الضوء فيها اخذتنا امي الى غرفة نومها وبعد حين دخل ابي غرفتنا ونمنا جميعا نوما عميقا . وفي الصباح الباكر نهضنا على اصوات جلبة عملها والدي وهو يفتش عن الضيف الشيخ العجوز في ارجاء المنزل . فقالت له والدتي مابك تدور في المنزل ما خطبك . فرد عليها ابي انه لم يجد اثراً للشيخ المسن في الدار . فردت امي اظن انه خجل او لعله استحي ان يوقظك من النوم ليودعك فانسحب بهدوء وولى الى وجهته التي يرومها .
في عصر هذا اليوم اصطحبني والدي معه الى مقهى كبيرة تقع عند مدخل شارع الفضل. واثناء جلوسنا في المقهى تقدم خضير البقال باتجاه والدي وسلم عليه وجلس بجانبه واخذوا يتجاذبون اطراف الحديث فذكر له والدي ما حدث معنا ليلة امس من امر الرجل الغريب الذي دق بابنا وبات عندنا حتى صباح هذا اليوم. وما ان اخذ ابي يوصف للجميع هذه الشخصية العجيبة والمريبة في آن واحد حتى تحلق حولة اغلب رجال المقهى من كبار السن من اهل المنطقة الذين لم يغادروها مطلقا وولدوا فيها ابا عن جد .
فاذا بهم يصيح صائحهم بان الشيخ المسن ما هو الا الشيخ هادي امام جامع الفضل ابن سهل انه متوفي منذ خمسون عاما مضت ,وانا اعرفه جيدا عندما كان يصطحبني والدي للصلاة في الجامع ووصف الرجل له صحيح وهو يحمل اثر على خده الايسر ( حبة بغداد ) نسميها باللهجة المحلية ( اخت ).
واشتعل الجدال بين الحضور بين مصدق ومكذب لوالدي واقسم ابي بان الخبر صحيح كما رواه لهم وعلامة صدقه انه اعطاه المعطف الوحيد الذي يملكة ليدفيء نفسه . وفي خضم احتدام النقاش حيث سادت الفوضى في المقهى وعلى حين غرة صمت الجميع واعتدلوا في اماكنهم المخصصة لهم اثر دخول شخص ضخم الجثة طويل القامة على محياه الوقار فعرفنا بعدئذ انه مختار محلة الفضل .
فانكر المختار ما يحصل في المقهى ولان والدي حديث عهد بينهم لم يصدقه او يكذبه احداً من الحضور . وضع المختار قدح الشاي امامه واختار خمس من الرجال كبار السن من الموثوق بهم من الامناء واخذونا انا ووالدي الى مقبرة الغزالي حيث قبر الشيخ المسن امام الجامع الحاج هادي معروف لدي الجميع .
كانت الصدمة عنيفة وقاسية على الجميع بمن فيهم والدي والمختار اذ شاهدوا معطف ابي فوق قبره وساد الصمت الجميع كأن الطير فوق رؤوسهم . فحمل المختار المعطف وقال لوالدي هل هذا معطفك .؟ فرد عليه ابي بالايجاب فدفعه الى ابي . وعاد الجميع مذهولين الى المقهى الا ان والدي اصطحبني معه الى البيت مباشرة .
مع اني بالكاد اذكر ذلك ولا اعلم هل وفقت في السرد ام لا .؟
انزلاق الزمن
طارق فتحي
في اواخر الثلاثينات من عمري وانا منهمك على مكتبي في صالة الدار ادون بعض الملاحظات المستقاة من مخطوطة ( احجار القمر ) في محاولة مني ان افهم بعض مصطلحات القوم وايجاد العلاقة السببية بينها وبين ما يقوله العلم الحديث معللا ذلك بالظواهر الفيزيائية والكيميائية وبالنواميس السماوية والقوانين الارضية .
في العادة كنت اجلس الى مكتبي كل يوم بعد الساعة العاشرة مساءا عندما يكون كل من في البيت نائم حينها الاطفال وامهم والجميع . عندها ابدأ بممارسة طقوس القراءة من تحضير الشاي ودفتر الملاحظات واقلام الحبر باركر وشيفر والمحبرة مع ورق النشاف الذي يجفف الحبر السائل بسرعة فائقة كي لا تتسخ الاوراق .
انغمست في القراءة لا اعلم كم من الوقت استغرقني ذلك وانا ادون الملاحظات الغريبة التي ترد في المخطوطة بين الحين والاخر . شعرت بثقل كبير في مؤخرة راسي كدت ان افقد فيه الوعي لولا تداركت الامر باعداد كوب من الشاي الساخن . فمددت يدي الى ترمز الشاي من امامي واذا بي اتفاجأ بيدي الصغيرة كانها يد طفل في العاشرة من عمره بيضاء ملساء لاشعر فيها واصابع دقيقة باظافرنظيفة قصت بعناية ودراية . فتملكتني الدهشة وعقد ما رأيت لساني وتملكني خوف شديد وانا اطوح بيدي مركزا بصري على يدي الصغيرة هذه . علي اكون اتوهم الاشياء ولكن دون جدوى .
فالتفت الى الصالة فاذا بي استنكر ما رايت .؟ ليس هناك شيء اسمه صاله بل حوش شبه كبير مفتوح السقف يفضي الى سماء سوداء مدلهمة مرصعة بالنجوم وكاني داخل قبة فلكية ورأيت نفس غرف دار اهلي القديمة والسرداب الذين يحيطون بالحوش المفتوح . فقمت من مجلسي وذهبت لغرفة امي وابي فاذا بي اراهما نائمين وهما بعمر الشباب . فاخذني الهلع والخوف الشديد انها دارنا القديمة في منطقة الفضل في بغداد .
خرجت مسرعا الى دار جارتنا وكانت تدعى ( رسمية ) تعمل مضمدة صحية في مشفى المجيدية سابقا المشفى الجمهوري حاليا . شابة في الثلاثينيات من عمرها عزباء . كنت احبها كثيرا حيث كنا اطفال تعلقنا بها لدماثة خلقها معنا انا واخوتي حتى كنا احيانا نسرها ونهتم بها اكثر من امنا . وكانت لي خصوصية عالية معها وتشعرني دائما اني المفضل لديها حتى انها كانت تاخذني معها الى السوق دون اخوتي الاخرين .توفيت رحمها الله في حينها بمرض خبيث لم يمهلها طويلا .
طرقت باب جارتنا رسمية بشدة عدة مرات فخرجت لي بابتسامة عريضة ووجه ملائكي فاحتضنتها واخذت ابكي على كتفها وهي تربت على ظهري وتهون علي وقالت الحمد لله اني رايتك قبل ان اغادر فانتهى عملي هنا اليوم . فاخذت اقبلها قبلات جنونية لاتعد ولاتحصى وقلت لها غدا سوف آتي لاودعك .
لن انسى تاريخ صباح اليوم التالي ما حييت ولن ينسى الشعب العراقي هذا التاريخ ايضا انه الرابع عشر من تموز من العام 1958 م. بديهي اني لم اودع رسمية صباح اليوم التالي اذ وجدوها ميته في الفراش وانشغل الكبار في تجهيزها ودفنها بعد ذلك .
عدت الى دارنا القديمة ورايت مكتبي على حاله فارتميت على كرسي واخذت اجهش بالكاء الشديد ولربما اصدرت اصواتا عالية وانا ابكى بحرقة وشوق وحنين ومرارة على رسمية.
طارق .. طارق .. طارق .. مابالك تبكي بشدة وصوت نحيبك كاد ان يوقظ اطفالنا وانت ممسك بكوب الشاي الساخن . سوف تجننك هذه المخطوطات اللعينة . اما انت فلا بأس عليك تجنن براحتك ولكن ما ذنبي وذنب اطفالنا اتود ان تجننهم هم الاخرين ايضاً .
حينها عاد الى رشدي واذا بي ممسكا بكوب الشاي الساخن الذي لا زالت الابخرة تتصاعد منه . فما استطعت ان اخبر زوجتي باي شيء وكيف اني انزلقت بالزمن الى الماضي البعيد وودعت احب انسانة الى قلبي في حينها الممرضة رسمية .
مواضيع مماثلة
» * قصص قصيرة : معاملة الجواز- تصدق ليس للكفن جيوب - تفائلوا بالخير- سفرة للبنات
» * قصص قصيرة : جنون حمهوري - قصص رعب قصيرة جدا - خروج الروح وعودتها
» * قلل -غرورالكافر-ناديتو-قناع-خادمات-اختلاط-المسك- طفولة كلب-دكة-كبوة- المعطف
» * قصص قصيرة - تكسي بغداد : من ( 11- 23 )
» * قصص قصيرة - تكسي بغداد : من ( 1- 10 )
» * قصص قصيرة : جنون حمهوري - قصص رعب قصيرة جدا - خروج الروح وعودتها
» * قلل -غرورالكافر-ناديتو-قناع-خادمات-اختلاط-المسك- طفولة كلب-دكة-كبوة- المعطف
» * قصص قصيرة - تكسي بغداد : من ( 11- 23 )
» * قصص قصيرة - تكسي بغداد : من ( 1- 10 )
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى