* نشأة الكون والمجموعة الشمسية - الاوتار الفائقة ولانهائية الكون
صفحة 1 من اصل 1
* نشأة الكون والمجموعة الشمسية - الاوتار الفائقة ولانهائية الكون
نشأة الكون والمجموعة الشمسية
منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض وهو يتساءل عن اصل الأشياء وأسباب تكونها وكيفية تكونها، ومن التساؤلات المهمة والقديمة والتي شغلت الأذهان هو السؤال المتعلق بأصل الكون. وقد ظهرت العديد من الأفكار والآراء بعضها يعد أساطير وبعضها الآخر أصبح أفكار غير واقعية وبعضها نظريات عفا عليها الزمن. والنظرية الحديثة التي تفسر اصل الكون والتي لاقت رواجاً بين العلماء هي (نظرية الانفجار العظيم). أما النظرية التي تفسر أصل المجموعة الشمسية فهي (النظرية السديمية)، وهي تعد جزءاً من نظرية الانفجار العظيم ولكننا فضلنا دراستها على حدة لتسهيل عملية الفهم لدى القارئ. أما فيما يتعلق بنشوء القمر، والذي يعد مهماً بالنسبة لنا لأنه التابع الوحيد للأرض، فأن هناك العديد من النظريات التي حاولت أن تفسر نشأته، ولكن أبرزها وأكثرها حداثة وقبولاً في الأوساط العلمية هي (نظرية التصادم). وسوف نتطرق إلى كل من هذه النظريات الثلاث (نظرية الانفجار العظيم، والنظرية السديمية، ونظرية التصادم) بشيء من التفصيل في المقالات اللاحقة :
أولاً: نظرية الانفجار العظيم (Big Bang Theory):
تمهيد: الانفجار العظيم حادث كوني وقع قبل (15 بليون) سنة عندما كان الكون كله مضغوطاً في جزيء ذري واحد بشكل نقطة واحدة أطلق عليها العلماء اسم (الذرة البدائية) أو (الحساء الكوني). وأن حجم هذه النقطة كان يساوي الصفر وكتلتها لا نهائية. أي أن الكون كان عبارة عن طاقة خالصة. وأن الصيغة النهائية التي يمكن اختصار النظرية بها هي: أنه قبل (15) بليون سنة وقع انفجاراً هائلاً في ذرة بدائية كانت تحتوي على مجموع المادة والطاقة. وفي اللحظات الأولى من الانفجار الهائل ارتفعت درجة الحرارة إلى عدة تريليونات، حيث خلقت فيها أجزاء الذرات، ومن هذه الأجزاء خلقت الذرات، وهي ذرات الهيدروجين والهليوم، ومن هذه الذرات تألف الغبار الكوني الذي نشأت منه المجرات فيما بعد، ثم تكونت النجوم والكواكب ـ وما زالت تتكون ـ وفي غضون ذلك كان الكون وما زال في حالة تمدد وتوسع، وبذلك فان الانفجار العظيم أدى ليس فقط إلى ظهور جزيئات ذرية جديدة بل إلى وجود مفهومي الزمان والمكان اللذين كان يستحيل الحديث عنهما قبل المادة.
أدلة حدوث الانفجار العظيم:هناك عدد من الظواهر التي تشير إلى حدوث الانفجار العظيم:
(1) الاتساع المستمر للكون (Continuously Expanding of Universe): لاحظ العلماء بأنه في كل مكان من الكون هناك مجرات (Galaxies) تتباعد إحداها عن الأخرى بسرعات هائلة جداً. فمنذ بداية القرن التاسع عشر لاحظ علماء الفضاء وجود خطوط داكنة بين ألوان الطيف الشمسي لدى تحليلهم لضوء الشمس. ومع تطور معدات رصد الفضاء والنجوم ظلت هذه الخطوط ماثلة، وتبين فيما بعد أن هذه الخطوط تشير إلى انبعاث الهيدروجين من النجوم، وأثبت الفيزيائي الفرنسي (أرمان فيزو) أن الأجسام السماوية تترك عند تحليل طيفها لوناً أكثر احمراراً في حال كانت تقترب من مركز المراقبة، ولكنه يميل إلى الأزرق عندما تبتعد.
وعمل أدوين هابل (Edwin Hubble) في النصف الأول من القرن العشرين على تطوير هذه الاكتشافات. وقد توصل هابل باستخدام تلسكوبه الشهير (تلسكوب هابل) من التوصل إلى فكرة توسع الكون إذ أكد أن النجوم والمجرات تبتعد عن مركز الرصد والذي هو الأرض، وكذلك تبتعد عن بعضها البعض. وبعد مجموعة من المقارنات وصل إلى وضع قانون عرف باسمه مفاده (إن سرعة النجم تتناسب تناسباً طردياً مع مربع المسافة التي تفصلنا عنه، أي أن النجم كلما كان بعيداً كلما ازدادت سرعة ابتعاده عنا). كما أن المجرات تبتعد عن بعضها البعض أيضاً. وقد حاول العلماء تشبيه هذه الظاهرة بانفجار قنبلة، فشظاياها تبدأ بطيئة ثم تتسارع ومن ثم تتباطأ، وكل شظية سوف تبتعد عن البقية بنفس الطريقة.
ولكي نفهم الفكرة أكثر، احضر بالون وارسم عليه مجموعة من النقاط. اعتبر البالون هو الكون والنقاط هي المجرات، أبدأ بنفخ البالون، سترى أن النقاط كلها تبتعد عن بعضها، وكلما ازداد اتساع البالون كلما ازداد بعد النقاط أكثر. وهذا ما يحدث في الكون بالضبط.
وقد كان انشتاين في البدء من مؤيدي فكرة الكون الساكن (غير المتوسع) الذي تتوزع المادة فيه بصورة متساوية، لذلك اضطر إلى أن يضيف إلى أحد معادلاته الرياضية رقماً يدعى بالثابت الكوني
(Cosmological Constant) لتكون معادلته منسجمة مع ما هو معتقد في ذلك الوقت من سكون الكون، لكن حساباته برهنت له ما يناقض فكرته الأصلية تماماً وانتهى به المطاف إلى تأكيد أن الكون قابل للتوسع والانكماش مما دفعه إلى تعديل نظريته الأولى وتبنى تصور عن كون كروي من أربعة أبعاد. وقد قال انشتاين عن الثابت الكوني انه (اكبر خطأ في حياتي).
(2) الخلفية الإشعاعية (Background Radiation): في عام (1948) توصل العالم (جورج كاموف) (George Gamov)، وهو فيزيائي أمريكي من اصل روسي، إلى فكرة جديدة تتعلق بالانفجار الكبير، مفادها أنه إذا كان الكون قد تشكل فجأة فأن الانفجار كان عظيماً ويفترض أن تكون هناك كمية قليلة محددة من الإشعاع تخلفت عن هذا الانفجار والأكثر من ذلك يجب أن تكون متجانسة عبر الكون كله.
وبعد عقدين من الزمن كان هناك برهان رصدي قريب لحدس كاموف، ففي عام (1964) قام باحثان يعملان في مختبرات شركة بل للتليفونات بمدينة نيوجرسي هما (آرنو بنزياس) (Arno Penziaz) و (روبرت ويلسون) (Robert Wilson) بإجراء تجربة تتعلق بالاتصال اللاسلكي وبالصدفة عثرا على إشارات راديوية منتظمة الخواص، قادمة من كافة الاتجاهات في السماء وفي كل الأوقات وبصورة مستمرة. وفُسرت هذه الإشارات الراديوية على أنها بقية الإشعاع الذي نتج عن عملية الانفجار الكوني العظيم. وقد قدرت درجة حرارة تلك البقية الإشعاعية بحوالي ثلاث درجات مئوية، ومنح بنزياس و ويلسون جائزة نوبل لاكتشافهم هذا.
وقد تحققت وكالة ناسا (NASA) الأمريكية عام (1989) من النتائج التي توصل أليها كل من ينزياس وويلسن عن الخلفية الإشعاعية للكون بواسطة إرسال قمر صناعي إلى الفضاء أسموه (COBE) وهو مختصر لعبارة
(Cosmic Background Explorer) والتي تعني (مستكشف الخلفية الإشعاعية) كان الغرض من إرساله التحري عن الموجات الكونية الدقيقة (Cosmic Microwave) وزودته بأحدث الأجهزة الحساسة، واحتاج هذا القمر إلى ثماني دقائق فقط للعثور على هذا الإشعاع وقياسه، بلغ ارتفاع هذا القمر (600 كم) حول الأرض، وقد وجد أن درجة حرارة الخلفية الإشعاعية للكون بأقل من ثلاث درجات مئوية (تحديداً 2.735 مئوية). وقد أثبتت هذه الدراسة تجانس مادة الكون وتساويه التام في الخواص قبل الانفجار وبعده، أي من اللحظة الأولى لعملية الانفجار الكوني العظيم وانتشار الإشعاع في كل من المكان والزمان مع احتمال وجود أماكن تركزت فيها المادة الخفية التي تعرف باسم المادة الداكنة (Dark Matter). كذلك قام هذا القمر الصناعي بتصوير بقايا الدخان الكوني الناتج عن عملية الانفجار العظيم على أطراف الجزء المدرك من الكون (على بعد عشرة مليارات من السنين الضوئية) وأثبتت أنها حالة دخانية معتمة سادت الكون قبل تكون المجرات.
(3) كمية غازيّ الهيدروجين والهليوم في الكون: تشير الدراسات الحديثة عن توزيع العناصر المعروفة في الجزء المدرك من الكون إلى أن غاز الهيدروجين يكون أكثر قليلاً من (74%) من مادة الكون، ويليه في النسبة غاز الهليوم الذي يكون حوالي (24%) من تلك المادة. ومعنى ذلك أن أخف عنصرين يكونان معاً أكثر من (98%) من مادة الكون المنظور، أما بقية العناصر مجتمعة (عدد العناصر المكتشفة هو 105 عنصر) فتكون أقل من (2%) من مادة الكون. وهذه الأرقام تدعم نظرية الانفجار العظيم، إذ أن جورج كاموف استطاع بطرق حسابية أن يتوصل إلى هذه النسب من قبل أن يتم حسابها بالطرق التجريبية بعشرات السنين. فضلاً عن ذلك، فان هذه النسب تؤكد أن للكون بداية، لأنه لو كان الكون بلا بداية فمعنى ذلك أن كل غاز الهيدروجين يجب أن يكون قد احترق وتحول إلى غاز الهليوم.
مراحل نشأة الكون:يمكن تقسيم نشوء الكون وتطوره وفق نظرية الانفجار العظيم إلى خمسة مراحل رئيسة هي:
المرحلة الأولى:وهي المرحلة التي تسبق الزمن (10^-43). يطلق على هذه المرحلة بمرحلة التفرد (Singularity) ففي هذه المرحلة لا وجود للذرات والجسيمات الأولية، فكلها مندمجة لتشكل شيئاً ما غامضاً لا يمكن معرفة كنهه، هذه المرحلة لا تخضع لأي قانون فيزيائي وتبقى مرحلة غامضة لا تفسرها الرياضيات الفيزيائية، فالعلماء عاجزين عن وصف أو تخيل أي شيء عقلاني أو مما يمكن قبوله عقلاً فيما يتعلق بزمن الصفر المطلق، حينما لم يكن هناك شيء قد حدث بعد. وراء الزمن المذكور الذي هو (10^-43) يقع زمن بلانك (Planck Time) الشهير، الذي سمي بهذا الاسم نسبة للعالم الفيزيائي الشهير ماكس بلانك (Max Planck)، هذا الزمن يمثل نقطة من الزمن لا احد يعرف ما حدث قبلها، وهي في نظرية الانفجار العظيم متمثلة بما قبل الزمن (10^-43) ثانية. وهو الأمر الذي دعا العلماء إلى تسمية نقطة الزمن هذه بالحائط. وكان ماكس بلانك أول من أشار إلى استحالة تفسير الذرات في المرحلة التي تكون فيها الجاذبية متطرفة.
المرحلة الثانية: تبدأ من (10^-43) ثانية ولغاية (1) ثانية. في زمن مقداره (10^-43) حدث الانفجار العظيم. وكان قطر الكون (10^-33) سنتيمتر، أي اصغر من قطر نواة الذرة الذي يبلغ (10^-13) سنتيمتر. القوى الأربعة الموجودة الآن في الكون (القوة النووية الشديدة، والقوة النووية الضعيفة، والقوة الكهرومغناطيسية، وقوة الجاذبية) كانت متحدة مع بعضها مكونة نوع واحد من الطاقة، أما الحرارة فكانت تبلغ (10^+32) كالفن أي اكبر من حرارة الشمس التي تبلغ (6000) درجة مئوية عند السطح و(20) مليون درجة مئوية في المركز. ودرجة حرارة الكون هذه تعد حدود الحرارة القصوى التي تنهار وراءها جميع القوانين الفيزيائية التي نعرفها. أما مادة الكون فكانت مكونة من قسيمات بدائية غير موجودة الآن، وهي أسلاف الكاركات (Quarks) التي تعد احد عناصر المادة. وكانت هذه القسيمات البدائية تتفاعل فيما بينها بشكل مستمر، وكان الكون يكبر ويتمدد بشكل دائم.
من (10^-35) ثانية ولغاية (10^-32) ثانية، تضخم الكون بمقدار (10^+50) مرة عن حجمه الأصلي، فمن حجم اقل من نواة الذرة إلى حجم كرة قطرها (10) سنتيمترات. وهذا التوسع الهائل اكبر من التوسع الذي حصل من حينها إلى الآن، فمعدل التضخم الآن صار ضعيفاً نسبياً فهو بمقدار (10^+9)، بعبارة أخرى نقول أن فارق الحجم الموجود بين الجزء الأولي للكون وبين الكرة هو أكبر نسبياً من الفارق بين الكرة وبين حجم الكون الآن.
يستمر توسع الكون وبرودته، ويحصل شيء مهم في الفترة ما بين (10^-11) ثانية إلى (10^-15) ثانية، إذ تختفي جميع القسيمات البدائية تاركة المجال للبارتيكولات (Particules) وهي اصغر الأجزاء المكونة للمادة المعروفة الآن، كما أن القوى الأربعة أخذت بالتفكك والانفصال، وتم ذلك عند درجة حرارة مقدارها (10^+15) كالفن.
نتيجة لاستمرار توسع الكون وانخفاض درجة حرارته، وعند الزمن (10^-10) ثانية وما بعده فان العديد من الدقائق بدأت بالتكون. هذه الدقائق تدعى بـ (Baryons) وتتضمن الفوتونات (Photons) ونيوترينوات (Neutrinos) والاليكترونات (Electrons) والكواركات (Quarks) والتي سوف تصبح المادة التي تبنى منها كتلة المادة والأحياء التي نعرفها اليوم. وكان حجم الكون ألف ضعف حجمه السابق، أي أن حجمه أصبح بحجم مجموعتنا الشمسية.
المرحلة الثالثة: من (1) ثانية إلى (3) دقائق، كانت درجة حرارة الكون أكثر من (10) بليون درجة مئوية. درجة الحرارة هذه يمكن الوصول أليها في انفجارات القنابل النيتروجينية. وفي هذه المرحلة كان الكون مؤلف من فوتونات والكترونات، والجزيئات الذرية الفرعية مثل النيوترون والبروتونات. ومع استمرار الانخفاض في درجة الحرارة فان البروتونات، أصبحت أكثر شيوعاً حتى وصلت نسبتها حوالي سبعة أضعاف النيوترونات. اتحد كل نيوترون مع بروتون ليشكلا زوجاً يدعى بالدوتيريوم (Deuterom) التي تجمعت لتكون نوى عنصر الهليوم، الذي يحتوي على بروتونين ونيوترونين، واستمرت هذه العملية حتى اندمجت كل النيوترونات مع البروتونات لتكوين الهليوم، أي اختفت جميع النيوترونات من الكون. وهذا يعني أن الهليوم يشكل تقريباً ربع مكونات الكون.
المرحلة الرابعة: من (3) دقائق إلى (100 مليون) سنة، لم تتكون الذرات ألا بعد (300 ألف) سنة، وانخفضت درجات الحرارة إلى (3000) كلفن، مما سمح لذرات الهيدروجين بالظهور والبقاء دون فناء. وبعد برودة الكون ظهرت الذرات المتعادلة (Atoms Neutral) بكثرة. وكان الكون أصغر مما هو عليه الآن بكثير جداً وتجمعت الذرات المتعادلة مكونة غيوماً غازية، من هذه الغيوم الغازية ظهرت النجوم الأولية وغدا الكون شفافاً وأصبح الضوء ينطلق لسنوات ضوئية دون مواجهة خطر الامتصاص ولم تكن الرؤية ممكنة قبل ذلك الوقت لأن الضوء كان يُمتص مما يجعل رصده ـ لو قدر أن رصد ـ مستحيلاً. وبعد حوالي (32 مليون سنة) بعد عملية الانفجار العظيم إلى اليوم بدأ خلق أغلب العناصر المعروفة لنا (وهي أكثر من مئة وخمسة عناصر) بعملية الاندماج النووي في داخل النجوم حتى تكون عنصر الحديد في داخل المستعمرات المتوهجة العظمى، وتكونت العناصر الأعلى وزناً من نوى ذرات الحديد باصطيادها اللبنات الأولية للمادة المنتشرة في صفحة السماء.
المرحلة الخامسة: من (100 مليون) سنة إلى (الوقت الحاضر)، عندما بلغ الكون خمس حجمه الحالي تشكلت المجرات الفتية (Galaxies Young) من تجمع النجوم. وعندما بلغ الكون نصف حجمه الحالي تكونت المجاميع الشمسية (Solar Systems) التي تتكون من نجم يدور حوله عدد من الكواكب في مدارات خاصة بكل كوكب، أما منظومتنا الشمسية المسماة بدرب اللبانة (Milky Way) فقد تكونت بعد (10 بليون) سنة من حدوث الانفجار العظيم، عندما كان حجم الكون ثلثي حجمه الحالي. الكيفية التي تكونت بها الأنظمة أو المجاميع الشمسية فسرت وفق النظرية السديمية التي أصبحت اليوم جزءً من نظرية الانفجار العظيم،
الكون بين الفيزياء والميتافيزياء
علينا عند الحديث عن وجود دائم للكون، ألا ننخدع بالاعتبارات الميتافيزيائية أو اللاهوتية التي غالبًا ما تطرح في مثل هذه المناسبة. فليس ثمة سبب حقيقي لمناقشتها باسم الكونيات المعاصرة لأن هذه الأخيرة لا تتضمن مثل هذه الاعتبارات. ويعرف الفيزيائيون أن الانفجار الكبير نفسه لا يوافق أبدًا مفهوم الخلق بل هو مجرد مرحلة مرَّ بها الكون. بعبارة أخرى، حتى لو كان ثمة قائل إن الكون مر بلحظة بداية هي الانفجار الكبير فإن ذلك ليس سوى بناء نظري وليس لحظة حقيقية أطلقت الزمن الفيزيائي.
هناك دراسات كثيرة تحاول بناء شكلانية قادرة على وصف الكون البدئي بشكل أكمل. ولا يتورع الفيزيائيون الذين يحاولون وصف هذه المرحلة الفائقة الحرارة والكثافة بتجريب كافة الفرضيات والتصورات: وأهمها لا شك أن الزمكان يملك أكثر من أربعة أبعاد، وهو على المستوى الأقل من سوية بلانك يكون متقطعًا غير متصل. كما أنه يكون نظريًا قابلاً للاشتقاق من شيء ليس بزمكان أصلاً. إنها طرق مختلفة ليست بعد سوى طروحات لكنها تتجرأ بإرجاع الزمن إلى ما قبل اللحظة صفر، فليس ثمة بالنسبة لها نقطة فرادة.
في كافة الأحوال، فإن الحسابات تظهر لنا عالمًا كان قد سبق وجودنا وكوننا: قد يكون فراغًا كموميًا، أو قد يكون هذا الغشاء العائم في زمكان من عشرة أبعاد، وربما أكثر، أو أيضًا كونًا في حالة انضغاط يعود فيرتد على نفسه عندما تصل كثافته إلى قيمة لا يمكن تجاوزها، هذا إضافة إلى كل التصورات الأخرى بين هذه المقترحات التي قد تكون أكثر خيالية وجنونًا أحيانًا. يقود ذلك إلى نتيجتين. الأولى أن ما وجد قبل كوننا لم يكن عدمًا. ووفق هذه النماذج كان ثمة كائن دائمًا ولم يكن ثمة عدم أبدًا. وبالتالي فإن فكرة الخلق من العدم لم تحدث مطلقًا. والنتيجة الثانية هي أن هذه الأشياء السابقة لوجود كوننا لا تنفصل عن كوننا بقدر ما هي متضمنة فيه، بمعنى أنها لم تكن أسبابًا أولية لوجوده، خارجة عنه، وأدت إلى ظهوره بمجرد إشارة أو حركة. إن السمة الوحيدة التي تميزها عن العناصر الأخرى المشكلة للكون هي أنها ولَّدت كل ما يوجد إضافة إليها، إنما دون أن نستطيع معرفة أصل وجودها هي نفسها. فمن أين يأتي الفراغ الكمومي؟ لا أحد يعرف، والأغشية؟ لا أحد يستطيع الإجابة. ومن أين جاء الكون قبل الانفجار الكبير؟ إنه لغز قد لا نستطيع حله أبدًا...
لا تزال إذن مسألة معرفة إذا كان للكون أصل وبداية أم لا مسألة مفتوحة. فلا أحد يستطيع حتى اللحظة البرهان علميًا أنه كان ثمة أصل للكون، ولا أحد أيضًا قادر على البرهان علميًا أنه لم يكن ثمة أصل للكون.
إذا كانت قد وجدت بداية للكون والعلم لم يستطع حتى الآن تحديدها، فهذا يعني أن الكون كان مسبوقًا بغياب كامل للكائن. وهذا يشير إلى أنه نتج عن انفصال خارج العدم، انفصال لا يمكن وصفه بحال من الأحوال، وإلا لكي نفسر كيف لم يعد العدم عدمًا يكون علينا إعطاءه خصائص ستميزه بمجرد وجودها فلا يعود العدم عدمًا. أما إذا لم يكن للكون بداية، فهذا يعني أن الكائن كان موجودًا دائمًا ولم يكن ثمة عدم أبدًا. وهذا يعني أن مسألة أصل الكون لا معنى لها، أو أنها كانت مسألة مطروحة بطريقة خاطئة، لكننا في هذه الحال نستبدلها بسؤال آخر، سؤال أكثر انغلاقًا بما لا يقاس، وهو سؤال الكائن نفسه: لماذا كان الكائن بدلاً من العدم؟
الكون أغشية تتصادم فيما بينها
اقترح فنزيانو سيناريو ما قبل الانفجار الكبير هذا مع زملائه في عام 1991، وكان أول محاولة لتطبيق نظرية الأوتار على الكوزمولوجيا. وقد أثار العديد من الانتقادات، ولا تزال الدراسات جارية عليه لمعرفة ما إذا كانت هذه الانتقادات قد وضعت يدها فعلاً على بعض الصدوع الخطيرة في بنائه النظري.
أما النموذج الرئيسي الآخر الذي يصف الكون قبل الانفجار الكبير فهو يوصف بسيناريو الانقلاب ekpyrotique (من اللفظة اليونانية التي تعني الانقلاب الكبير conflagration). وقد طُوّر منذ عام 2001 على يد نيل توروك N. Turok من جامعة كامبريدج وبول ستاينهارد P. Steinhardt من جامعة برينستون، وهو يرتكز على فكرة أن كوننا هو عبارة عن غشاء D-brane يعوم في جوار غشاء آخر مثله في فضاء من بعد أعلى. إن الفضاء الذي يفصل الغشاءين يتصرف مثل نابض يقودهما إلى الدخول في حالة تصادم في الوقت الذي يكونان فيه في حالة انضغاط. وتتحول طاقة التصادم إلى مادة وإشعاع. وهذا هو الانفجار الكبير. وفي إحدى تنويعات هذا السيناريو، تتم التصادمات بطريقة دورية. فيلتقي غشاءان، ويرتدان ويتباعدان قبل أن يعودا فيسقطان أحدهما على الآخر وهكذا دواليك. وبين هذه التصادمات، تتوسع الأغشية بشكل مستمر باستثناء مرحلة انضغاط تأتي مباشرةً قبل الصدمة. ويتباطأ التوسع عندما تنفصل الأغشية ويتسارع عندما تعود لتتقارب من جديد. إن المرحلة الحالية من تسارع التوسع الكوني (المكتشفة منذ بضعة سنوات فقط أثناء رصد سوبرنوفا بعيدة) تشير ربما إلى تصادم قادم لكوننا مع كون آخر.
ويشترك هذا السيناريو مع السيناريو السابق في نقاط عدة. فكلاهما يبدأ مع كون واسع وبارد وشبه خاو وفارغ، وكلاهما يجدان صعوبة في تفسير الانتقال بين المرحلتين ما قبل وما بعد الانفجار الكبير. أما رياضيًا، فإن الاختلاف الرئيسي بينهما يكمن في سلوك حقل الديلاتون. ففي سيناريو ما قبل الانفجار الكبير يكون للديلاتون قيمة ابتدائية منخفضة جدًا، بحيث تكون القوى الأساسية ضعيفة، وتزداد قيمته تدريجيًا مع الكثافة. أما في السيناريو الانقلابي، فالعكس هو الصحيح، حيث ينتج التصادم عندما تكون كثافة القوى في حدها الأدنى.
لقد أثار هذا الضعف للقوى الطبيعية الأمل في التوصل إلى تحليل الارتداد من خلال التقنيات الكلاسيكية المتوفرة والمعروفة. لكن للأسف، في التنويعات الحالية عندما يقترب غشاءان إلى درجة التصادم ينهار البعد الذي يفصلهما بحيث أن الفرادة تصبح أمرًا لا مفر منه. وهناك عقبة ثانية حيث يجب تحقيق الشروط البدئية بشكل دقيق لكي نستطيع أن نحل مشكلة المسائل الكونية الكلاسيكية. على سبيل المثال قبل الصدم يجب أن يكون الغشاءان شبه متوازيين، وإلا فإنهما لا ينتجان الانفجار الكبير المتجانس جدًا كما هو حالة كوننا.
وإذا تركنا جانبًا صعوبة تشذيب هذين السيناريوهين من وجهة نظر رياضية، فإن الفيزيائيين يبحثون منذ الآن عن نتائج قابلة للرصد تدعم أحدهما على الأقل. وللوهلة الأولى، فإن النموذجين يستدعيان تخمينات ميتافيزيائية أكثر منها نظريات فيزيائية. مع ذلك، من الممكن لتفاصيل من عصر ما قبل الانفجار الكبير أن يكون لها نتائج قابلة للرصد، تمامًا كتلك التي تتعلق بفترة التضخم الذي حصل مباشرة بعد الانفجار الكبير. إن التخلخلات الطفيفة التي لوحظت في الحرارة واستقطاب الإشعاع الخلفي للكون يقدمان اختبارات تجريبية على ذلك.
تُفسَّر تخلخلات الحرارة على أنها علامة على الأمواج الصوتية التي انتشرت في البلازما البدئية خلال 380000 سنة سابقة لإصدار إشعاع الخلفية الكونية. ويثبت انتظام هذه التخلخلات أن الأمواج الصوتية كانت قد تولدت في اللحظة نفسها. وتتفق النماذج الثلاث، "التضخمي" و"ما قبل الانفجار الكبير" و"الانقلابي"، مع هذا الشرط الرصدي وبالتالي فإنها تتجاوز هذا الامتحان الأول بنجاح. وقد ولدت الأمواج الصوتية في اللحظة نفسها بواسطة تخلخلات كمومية مضخمة خلال مرحلة التوسع المتسارع.
بالمقابل، فإن كل نموذج من النماذج السابقة يتنبأ بتوزع نوعي للتخلخلات. وتبين الأرصاد أن سعة التخلخلات كبيرة الحجم الزاوي تكون ثابتة، في حين نلاحظ وجود ذرى على مستويات التخلخلات الصغيرة. إن النموذج التضخمي يُنتج بشكل مطابق هذا التوزع. فخلال التضخم تغيَّر انحناء الزمكان بشكل بطيء. وهكذا فإن تخلخلات مختلفة الحجوم تولدت ضمن ظروف مماثلة، وبالتالي فإن طيف التخلخل البدئي يكون ثابتًا أو لامتغيرًا بالنسبة لمستوى معين. وتنتج الذرى على المستويات الصغيرة من تناوب التخلخلات البدئية، في تتمة تاريخ الكون. وفي علم كونيات الأوتار، يتطور انحناء الزمكان بسرعة كبيرة جدًا، الأمر الذي يزيد من سعة التخلخلات على المستوى الصغير. مع ذلك، فإن صيرورات أخرى تعدّل هذه الظاهرة: ففي سيناريو الانقلاب الكوني، يُنتج انضغاط الأغشية طيف تخلخل غير متبدل المستوى؛ وفي نموذج ما قبل الانفجار الكبير، يتدخل حقل كمومي يسمى كرفاتون curvaton. وهذا يعني أن النماذج الثلاثة تتفق حتى الآن مع الأرصاد.
إن استقطاب الخلفية الإشعاعية الكونية يقدم لنا اختبارًا آخر. فعلى عكس النماذج الأخرى يتنبأ نموذج التضخم بأن الأمواج الثقالية ساهمت في تخلخلات الحرارة. ولا بد أن بعض هذه الأمواج الثقالية قد ترك بصمته في استقطاب إشعاع الخلفية الكونية. ويمكن لأرصاد القمر الصناعي بلانك التابع لوكالة الفضاء الأوروبية أن يرصد مثل هذا الأثر إذا كان موجودًا. واكتشافه سيقدم حجة هامة لصالح التضخم.
وتحليل الخلفية الإشعاعية الكونية ليس الطريقة الوحيدة لاختبار هذه النظريات. فسيناريو ما قبل الانفجار الكبير يتنبأ بإصدار أمواج ثقالية، يمكن لبعضها أن يكون قابلاً للرصد بواسطة كواشف الأمواج الثقالية مثل فيرغو Virgo. ومن جهة أخرى، بما أن السيناريو الانقلابي وسيناريو ما قبل الانفجار الكبير يتضمنان تغيرات في حقل الديلاتون، المتزاوج مع الحقل الكهرمغنطيسي، فإنهما يتنبآن بوجود تخلخلات في الحقل المغنطيسي على المستوى الكبير. ويمكن اكتشاف آثار هذه التخلخلات في الحقول المغنطيسية المجرية.
متى بدأ الزمن إذن؟ لا يقدم العلم حتى اللحظة إجابة على هذا السؤال، لكنه يطرح نظريتين على الأقل قابلتين للاختبار والتجربة وتؤكدان بشكل متماسك حتى الآن أن الكون – وبالتالي الزمن – كان موجودًا قبل الانفجار الكبير. فإذا كان أحد هذين السيناريوهين صحيحًا، فهذا يعني أن الكون كان موجودًا دائمًا.
الكون مقلوبًا
باختفاء الفرادة singularité، فليس ثمة ما يمنع من تصور أن الكون كان موجودًا قبل الانفجار الكبير. وبجمع التناظرات التي تدخلها نظرية الأوتار مع تناظر انعكاس الزمن، ووفقه فإن معادلات الفيزياء تعمل في الاتجاهين نحو الماضي أو نحو المستقبل لا فرق، توصل العلماء إلى تصور علوم كونية جديدة، لا يكون الانفجار الكبير فيها هو البداية، بل مجرد حالة انتقالية عنيفة بين حاليتن للكون: قبله كان التوسع يتسارع، وبعده بدأ التوسع يتباطأ. وأهمية هذا التصور أنه يأخذ بعين الاعتبار بشكل آلي أفكار النموذج التضخمي، أي وجود فترة تضخم متسارعة قادرة على تبرير تجانس الكون. إن ما يسبب التسارع بعد الانفجار الكبير هو التضخم في النظرية المعيارية للكون. أما في النظرية الكونية المرتكزة على الأوتار فإن التسارع ينتج قبل الانفجار الكبير وينتج عن تناظرات النظرية نفسها.
إن الشروط التي سادت في جوار الانفجار الكبير كانت فائقة الحدية بحيث أن أحدًا لا يعرف كيف يحل المعادلات التي تصفها. مع ذلك، فقد جازف نظريو الأوتار بوصف بعض مظاهر الكون السابق للانفجار الكبير. وهناك نموذجان على الأقل تتم دراستهما اليوم. الأول معروف باسم سيناريو "ما قبل الانفجار الكبير"، وهو يشير إلى أن الكون السابق للانفجار الكبير عبارة عن صورة في المرآة للكون سابق لهذا الحدث. فالكون يمتد أبديًا في المستقبل كما في الماضي. فمنذ زمن لانهائي كان الكون شبه خاو ولا يشتمل سوى على غاز نادر من الإشعاعات والمادة. أما قوى الطبيعة، التي يضبطها حقل الديلاتون dilaton، فكانت ضعيفة جدًا بحيث أن جسيمات هذا الغاز كانت لا تتفاعل أو تكاد فيما بينها. ومع الوقت، نجحت القوى في الغلبة والتكثف وبدأت المادة في التشكل. وبدأت بعض المناطق بتجميع هذه المادة على حساب مناطق أخرى. وأصبحت الكثافة فيها عالية إلى درجة أن ثقوبًا سوداء تشكلت فيها. وقد انعزلت المادة التي انفصلت في هذه الثقوب عن باقي الكون مما أدى إلى انشطار الكون إلى عدة أقسام منفصلة غير متصلة. وفي قلب كل ثقب أسود من هذه الثقوب كانت الكثافة المادية ترتفع أكثر فأكثر. وعندما بلغت الكثافة والحرارة والانحناء القيم القصوى التي تسمح بها نظرية الأوتار، قامت هذه الكميات بعملية "ارتداد"، وبدأت تتناقص. وليس الانفجار الكبير سوى اللحظة التي حدث فيها هذا الانقلاب. وأصبح داخل أحد هذه الثقوب السوداء هو كوننا الحالي!
الأوتار تقفز على نشوء الكون
ثمة اليوم مقاربتان واعدتان كما يبدو. الأولى هي الجاذبية الكمومية ذات العقد، وهي تحتفظ في بنائها بالجزء الأساسي من النظرية النسبية – أي الطبيعة الديناميكية للزمكان واللاتغير بالنسبة لمنظومة الإحداثيات أو المرجعية المستخدمة – وهي تطبق هذه المبادئ في إطار الفيزياء الكمومية. ويتألف الزمكان الناتج عنها من قطع ضئيلة لا تتجزأ. وقد شهدت الثقالة الكمومية ذات الأربطة كما يطلق عليها أو ذات التخاريم أو العقد، خلال السنوات الأخيرة تقدمًا في نواحٍ عديدة، لكنها ربما ليست جذرية بدرجة كافية لتحل المسائل التي تطرحها مسألة تكميم الثقالة.
أما المقاربة الثانية، والتي ترتكز عليها السيناريوهات المطروحة هنا، فهي نظرية الأوتار. وقد ظهرت بداياتها في عام 1968 عندما اقترحها غابرييل فنزيانو لوصف تفاعلات مكونات النواة الذرية. ولم تعد هذه الأفكار للظهور إلا في الثمانينيات لتصبح نظرية أساسية في توحيد النظريتين الكمومية والنسبية العامة.
ترتكز الفكرة الأساسية في نظرية الأوتار على أن المركبات الرئيسية للمادة ليست نقطية، بل وحيدة البعد، على شكل أوتار لا ثخانة لها. وتهتز هذه الأوتار مثل أوتار الكمان، ويعكس التنوع الكبير في عالم الجسيمات، حيث يكون لكل جسيم خصائصه وسماته، مختلف أنماط اهتزاز هذه الأوتار. وتسمح القوانين الكمومية لهذه الأوتار المهتزة والتي لا كتلة لها بوصف الجسيمات وتفاعلاتها، وهي تولِّد خصائص جديدة لها تأثير عميق على نظرياتنا الكونية.
بداية، فإن آثارًا كمومية تفرض على الأوتار حجمًا أدنى من رتبة 10-34 م. وهذا الكم (كوانتم) الذي لا يمكن اختزاله لأصغر منه، ونسميه ls، هو ثابتة جديدة في الطبيعة، إلى جانب سرعة الضوء وثابتة بلانك. ويلعب هذا الثابت في نظرية الأوتار دورًا حاسمًا إذ يفرض حدًا للكميات التي بدونه يمكن أن تسعى إلى الصفر أو إلى اللانهاية.
ثانيًا، هناك الطاقة الخاصة بأنماط معينة من اهتزازات الأوتار والموافقة لكتل الجسيمات. من جهة أخرى، فإن هذه الاهتزازات تمنح للأوتار عزمًا حركيًا جوهريًا، هو ما يسمى باللف الذاتي أو spin. ويمكن للأوتار أن تكتسب عدة واحدات للف الذاتي مع بقاء كتلتها معدومة: بل يمكن أن تمثل بوزونات، وهي جسيمات رسولة لقوى أساسية (مثل الفوتونات بالنسبة للكهرمغنطيسية). وتاريخيًا، كان اكتشاف أنماط اهتزاز للف الذاتي المساوي لاثنين، والمطابقة مع الجسيم المفترض أنه يحمل التفاعل الثقالي، الغرافيتون graviton، هو ما أقنع الفيزيائيين بأهمية نظرية الأوتار في تكميم قوة الثقالة.
ثالثًا، إن معادلات نظرية الأوتار لا تكون متجانسة إلا إذا كان الفضاء ذا تسعة أبعاد بدلاً من ثلاثة، وكانت الأبعاد الستة الإضافية ملتفة على مسافات غاية في الصغر.
رابعًا، إن الثوابت التي تصف كثافة القوى الأساسية، مثل ثابتة الجاذبية أو الشحنة الكهربائية، لا تعود محددة أو مثبتة بشكل عشوائي، بل تظهر في نظرية الأوتار على شكل حقول تتغير قيمتها خلال الزمن. وأحد هذه الحقول، ويسمى ديلاتون dilaton، يلعب دورًا خاصًا، فهو يحدُّ تطور الحقول الأخرى، ويحدد كثافة كافة التفاعلات. وخلال مراحل كونية مختلفة أمكن لثوابت الفيزياء أن تشهد تغيرات طفيفة. ويحاول علماء الفيزياء الفلكية اليوم اكتشاف وقياس هذه التغيرات الضئيلة من خلال رصدهم للكون البعيد.
عندما يضبط التناظر اللانهاية
وأخيرًا، فقد كشفت الأوتار عن وجود تناظرات جديدة في الطبيعة، هي الثنائيات، التي تحول بشكل جذري فهمنا الحدسي لسلوك الأجسام على مستويات فائقة الصغر. وأحد هذه التناظرات، وهو تناظر T-duality، يربط بين الأبعاد الإضافية الصغيرة والكبيرة. ويرتبط هذا التناظر بأكبر تنوع من الحركات الممكنة بالنسبة للأوتار، قياسًا إلى جسيمات نقطية. إذا أخذنا على سبيل المثال وترًا مغلقًا (أي حلقة) ينتقل في فضاء ذي بعدين حيث أحد هذين البعدين ينطوي بشكل دائرة صغيرة. يكافئ هذا الفراغ سطح أسطوانة. ويمكن لهذا الوتر إضافة إلى اهتزازه أن ينتقل على السطح، بل وأن يلتف مرة أو أكثر حول أسطوانة، تمامًا مثل مطاط يضم ورقة ملفوفة.
يسهم كل من الاهتزاز والانتقال والالتفاف في الطاقة الكلية للوتر. وتتعلق طاقة النمطين الأخيرين بحجم الأسطوانة التي يتم الانتقال والالتفاف حولها. وتتناسب طاقة الالتفاف مع قطر الأسطوانة: فكلما كان هذا القطر أكبر كان على الوتر أن يكون مشدودًا أكثر لكي يلتفَّ، بحيث أنه يختزن المزيد من الطاقة. بالمقابل، فإن طول البعد الملتف، أي انتقال الوتر يترجم بطاقة تتناسب عكسًا مع نصف قطر الأسطوانة: فكلما كانت هذه الأخيرة أثخن كلما كان الوتر أقدر على الانتقال عليها "بسلاسة أكبر" (نتذكر هنا أن علاقات الريبة في الميكانيك الكمومي تمنع جسيمًا متموضعًا بدقة من أن يكون في حالة راحة. وبالتالي فإن جسيمًا محددًا يكون في حالة حركة بسرعة عالية جدًا، في حين أن جسيمًا غير متموضع بدقة كبيرة ينتقل "بسلاسة وبهدوء" أكثر). وعلى أسطوانة أضيق يتطلب التفاف الوتر طاقة أقل، في حين أن انتقاله يكون أكثر حركية ويعطي طاقة أكبر للمنظومة. فإذا استبدلنا أسطوانة قطرها R بأسطوانة قطرها 1/R (حيث يعتبر الواحد هو الطول الأقصر للأوتار)، فإن سلسلة حالات الطاقة الناتجة بواسطة النمطين يتم تبادلها، لكن مجموع الحالات يظل متطابقًا. وبالنسبة لمراقب خارجي، فإن الأبعاد الكبيرة الملتفة تكون فيزيائيًا مكافئة للأبعاد الصغيرة ذات القطر المقلوب.
يمكن أن نفهم بسهولة أكبر الثنائية T-duality في إطار فضاءات مزودة ببعد دائري ذي حجم منته، بل وهي تطبق أيضًا على ثلاثة أبعاد لانهائية من الفضاء العادي. فليس حجم الفضاء مأخوذًا بمجمله ما يهمنا، بل ما يسمى معامل درجته، أي العلاقة بين تباعد الأجسام التي كان يحتويها في تاريخ محدد وتباعدها الحالي. ووفق T-duality فإن كونًا يكون فيه معامل الدرجة صغيرًا جدًا يعني أنه مكافئ لكون معامل الدرجة فيه كبير جدًا. ومثل هذا التناظر لا يوجد في النسبية العامة. إنه تناظر يتأتى عن الإطار الموحد لنظرية الأوتار.
اعتقد نظريو الأوتار طيلة سنوات أن الـT-duality لا تنطبق إلا على الأوتار المغلقة. وفي عام 1995، بين جوزيف بولشينسكي J. Polchinsky من جامعة سانتا بربارا أنها تظل صحيحة بالنسبة للأوتار المفتوحة، بتطبيق شروط تسمى شروط ديريشليه Dirichlet على أطراف هذه الأوتار: فإضافة إلى عكس أقطار الأبعاد الملتفة، علينا أن نثبت أو نحدد أطراف الأوتار ضمن عدد معين من الأبعاد. وهكذا، فإن نهايات وتر يمكن أن تطفو حرة في ثلاثة من الأبعاد الفضائية العشرة في حين أن حركتها في الأبعاد السبعة الأخرى تكون محجوزة أو ثابتة. تشكل هذه الأبعاد الثلاثة الحرة فضاءً تحتيًا يسمى الغشاء membrane أو D-brane. وفي عام 1996، تصور كل من بيتر هورافا P. Horava من جامعة روتجرز، وإدوارد ويتن E. Witten من معهد الدراسات المتقدمة في برنستون، أن كوننا قابع على أحد هذه الأغشية D-brane ثلاثية الأبعاد. ويمكن أن تفسر لنا الحركية الجزئية للإلكترونات وللجسيمات الأخرى لماذا لا نستطيع أن نلحظ الأبعاد العشرة للفضاء.
إن خصائص الأوتار تلتقي كلها على نقطة واحدة، فهي لا تحب اللانهاية. وبما أنها لا تستطيع أن تُقلَّص إلى نقطة، فإنها تحذف التناقضات التي يسببها مثل هذا الانهيار. إن حجمها غير المعدوم، كما والتناظرات الجديدة المرتبطة بها، تفرض حدودًا عليا على الكميات الفيزيائية التي تتقاطع إلى أجل غير مسمى في النظريات الكلاسيكية، وحدودًا دنيا على الكميات التي تتناقص بحيث لا يمكنها النزول تحت حد معين. وعندما نسقط فيلم التاريخ الكوني بشكل معاكس، فإن الزمكان ينضغط ونصف قطر التفاف كافة الأبعاد يضيق. ووفق نظريي الأوتار فإن T-duality تمنع نصف الانحناء من التناقص حتى الصفر ومن توليد نقطة فرادة الانفجار الكبير. وعندما يصل هذا الانضغاط إلى الطول الأدنى الممكن، فإنه يصبح فيزيائيًا مكافئًا لتوسع في المكان، ومن هنا يعود نصف قطر الانحناء إلى التزايد. إن الـT-duality تجعل الانهيار يعود فينتفض في حالة توسع جديد.
تجانس غريب بين نظرية النسبية العامة وعلماء الكونيات
قادت نظرية النسبية العامة علماء الكونيات المعاصرين إلى نتيجة مشابهة للقائلين بنظرية الخلق اللاهوتية، حيث يولد الكون والزمان معًا، وحيث ليس ثمة قبل ذلك شيء. وفي هذا الإطار لا يكون المكان والزمان مطلقين وثابتين بل ديناميكيين ومتغيرين ويتأثران ويتشوهان بالمادة. وعلى مستوى المسافات الكونية ينحني الفضاء، ويمتد أو ينضغط أو يتكور على مر الزمن، حاملاً المادة معه. وقد أكد علماء الفلك خلال عشرينيات القرن الماضي، بعد اكتشاف أدوين هبل للمجرات، أن كوننا في حالة توسع حيث تبتعد المجرات عن بعضها بعضًا. وكان من نتائج هذا التوسع أن الزمان لا يمكن أن يمتد بلا نهاية نحو الماضي. فإذا عكسنا تسلسل أحداث تاريخ الكون نحو الوراء، نرى أن المجرات ستتقارب في هذا المشهد من بعضها بعضًا حتى تلتقي في نقطة لامتناهية الصغر، تسمى فرادة. وهكذا فإن كافة المجرات – أو بالأحرى ما تشكلت منه – كانت قائمة في نقطة حجمها صفر. وتكون الكثافة والحرارة بل وانحناء الزمكان في هذه النقطة لانهائيًا. فالفرادة هي الحد الكارثي الذي لا نستطيع بعده متابعة تسلسل تاريخنا وأصولنا الكونية.
يطرح هذا السيناريو أسئلة كثيرة. وهو يبدو بشكل خاص غير متوافق كثيرًا مع أن الكون يبدو متجانسًا على المستوى الكبير في كافة الاتجاهات. فلكي يكون للكون الشكل نفسه تقريبًا في كافة اتجاهاته لا بد أن يكون شكل من التفاعل قد تأسس بين المناطق المتباعدة في المكان بحيث تكون خصائصها قد تناغمت وتجانست مع بعضها بعضًا. غير أن ذلك يتعارض مع المعطيات الرصدية لتوسع الكون. لقد تحرر الضوء منذ 13,7 مليار سنة (إنه الخلفية الإشعاعية الكونية المرصودة اليوم في مجال الأمواج الميكروية). ونجد اليوم كيفما توجهنا في الكون من حولنا مجرات تبعد عنا مسافات كبيرة جدًا تصل إلى 13 مليار سنة ضوئية. وهذا يعني أنه توجد مجرات في الاتجاهات المتعاكسة تبعد عن بعضها مسافة تصل إلى أكثر من 25 مليار سنة ضوئية. بالنتيجة، هذا يعني أن هذه المناطق لم تكن متصلة فيما بينها يومًا من الأيام، إذ لم تتوفر لها الفرصة ولا الوقت لتتبادل الضوء ولا المادة كذلك. وهذا يعني أن كثافتها وحرارتها وخصائص أخرى لها لم يمكن لها أن تتجانس فيما بينها، أي أن تتبادل المعلومات وتطور بالتالي منظومات متجانسة.
مع ذلك، فإن خصائص مجرة درب التبانة تتطابق تقريبًا مع خصائص المجرات البعيدة. وهذا التجانس يمكن أن يكون مجرد مصادفة. لكن من الصعب القبول أن عشرات آلاف الأجزاء من أقسام صورة الخلفية الإشعاعية الكونية، المتطابقة إحصائيًا، كانت منذ البداية الكونية ذات خصائص متطابقة. ثمة تفسيران أكثر طبيعية لذلك: فإما كان الكون في لحظاته الأولى أصغر بكثير مما تفترضه علوم الكونيات الكلاسيكية، أو أن هذا الكون أقدم مما تقول به علوم الكونيات. وفي الحالتين، كان يمكن لجزئين متباعدين في الفضاء الكوني قبل صدرو الإشعاع الكوني أن يتفاعلا ويتبادلا المعلومات.
يفضل علماء الفيزياء الفلكية الفرضية الأولى. فلا بد أن الكون شهد فترة توسع هائلة، تسمى التضخم inflation، في بداية الكون الأولى. أما قبل هذه الفترة، فقد كانت كافة مناطق الكون قريبة جدًا من بعضها بحيث أن خصائصها استطاعت أن تتجانس فيما بينها. ثم خلال مرحلة التضخم، انطلق التوسع الكوني وبدأ الكون يتمدد بسرعة أعلى من سرعة الضوء. وهكذا فقد تم عزل مختلف أجزاء الكون عن بعضها بعضًا. وبعد جزء ضئيل من الثانية انتهى التضخم ليستمر التوسع الكوني بشكل أكثر هدوءًا. وعاد الاستقرار بين المجرات وتبادل المعلومات فيما بينها تدريجيًا فيما كان الضوء يلتقط أنفاسه ويعوض تأخره الناجم عن التضخم. وقد أدخل الفيزيائيون في سبيل تفسير هذا التضخم الهائل حقل قوة جديدة هو حقل التضخم، وقد ولَّد هذا الحقل قوة جاذبية طاردة (عكس الجاذبة) فائقة الشدة في اللحظات الأولى التي تلت الانفجار الكبير. وعلى عكس الجاذبية، فإن التضخم يسرِّع التوسع الكوني. فبعد جزء من الثانية من الانفجار الكبير، اختفت القوة الطاردة واستنفذت واستعادة الجاذبية سيطرتها على الكون الوليد. اقترحت هذه النظرية في عام 1981 وكان بطلها الفيزيائي آلان غوث Alan Guth، مما سمح بتفسير عدد كبير من الأرصاد. مع ذلك، فإن بعض الصعوبات النظرية لا تزال تواجه هذه النظرية حتى الآن، وأولها طبيعة التضخم نفسه.
أما الطريقة الثانية في حل هذه المشكلة فأقل كلاسيكية واعتيادًا: ذلك أنها تقترح كونًا أقدم بكثير مما هو متنبأ به. فإذا لم يكن الزمن قد بدأ قبل الانفجار الكبير، وإذا كانت فترة طويلة قد سبقت بداية مرحلة التوسع الكوني الحالية، فإن ذلك يعني أن الكون كان قد نال وقته الكافي والطويل جدًا لكي يتجانس. يلغي مثل هذا السيناريو أيضًا الصعوبة التي تطرحها نقطة الفرادة التي تنبثق عندما نحاول تعميم النظرية النسبية أو مدها إلى أبعد من مجال تطبيقها. وفي الواقع، عند الاقتراب من الانفجار الكبير يكون المسيطر على المادة الآثار الكمومية وليس التفاعلات الجهارية التي تحكمها النسبية التي لا يعود لها أي تأثير بما في ذلك جاذبيتها. ولكي نكتشف ما الذي حصل فعلاً على الفيزيائيين أن يستعيضوا عن النظرية النسبية العامة بنظرية كمومية للجاذبية. وهذا ما عمل عليه الفيزيائيون منذ عهد أينشتين إنما دون أن يحققوا نجاحًا يذكر حتى منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض وهو يتساءل عن اصل الأشياء وأسباب تكونها وكيفية تكونها، ومن التساؤلات المهمة والقديمة والتي شغلت الأذهان هو السؤال المتعلق بأصل الكون. وقد ظهرت العديد من الأفكار والآراء بعضها يعد أساطير وبعضها الآخر أصبح أفكار غير واقعية وبعضها نظريات عفا عليها الزمن. والنظرية الحديثة التي تفسر اصل الكون والتي لاقت رواجاً بين العلماء هي (نظرية الانفجار العظيم). أما النظرية التي تفسر أصل المجموعة الشمسية فهي (النظرية السديمية)، وهي تعد جزءاً من نظرية الانفجار العظيم ولكننا فضلنا دراستها على حدة لتسهيل عملية الفهم لدى القارئ. أما فيما يتعلق بنشوء القمر، والذي يعد مهماً بالنسبة لنا لأنه التابع الوحيد للأرض، فأن هناك العديد من النظريات التي حاولت أن تفسر نشأته، ولكن أبرزها وأكثرها حداثة وقبولاً في الأوساط العلمية هي (نظرية التصادم). وسوف نتطرق إلى كل من هذه النظريات الثلاث (نظرية الانفجار العظيم، والنظرية السديمية، ونظرية التصادم) بشيء من التفصيل في المقالات اللاحقة :
أولاً: نظرية الانفجار العظيم (Big Bang Theory):
تمهيد: الانفجار العظيم حادث كوني وقع قبل (15 بليون) سنة عندما كان الكون كله مضغوطاً في جزيء ذري واحد بشكل نقطة واحدة أطلق عليها العلماء اسم (الذرة البدائية) أو (الحساء الكوني). وأن حجم هذه النقطة كان يساوي الصفر وكتلتها لا نهائية. أي أن الكون كان عبارة عن طاقة خالصة. وأن الصيغة النهائية التي يمكن اختصار النظرية بها هي: أنه قبل (15) بليون سنة وقع انفجاراً هائلاً في ذرة بدائية كانت تحتوي على مجموع المادة والطاقة. وفي اللحظات الأولى من الانفجار الهائل ارتفعت درجة الحرارة إلى عدة تريليونات، حيث خلقت فيها أجزاء الذرات، ومن هذه الأجزاء خلقت الذرات، وهي ذرات الهيدروجين والهليوم، ومن هذه الذرات تألف الغبار الكوني الذي نشأت منه المجرات فيما بعد، ثم تكونت النجوم والكواكب ـ وما زالت تتكون ـ وفي غضون ذلك كان الكون وما زال في حالة تمدد وتوسع، وبذلك فان الانفجار العظيم أدى ليس فقط إلى ظهور جزيئات ذرية جديدة بل إلى وجود مفهومي الزمان والمكان اللذين كان يستحيل الحديث عنهما قبل المادة.
أدلة حدوث الانفجار العظيم:هناك عدد من الظواهر التي تشير إلى حدوث الانفجار العظيم:
(1) الاتساع المستمر للكون (Continuously Expanding of Universe): لاحظ العلماء بأنه في كل مكان من الكون هناك مجرات (Galaxies) تتباعد إحداها عن الأخرى بسرعات هائلة جداً. فمنذ بداية القرن التاسع عشر لاحظ علماء الفضاء وجود خطوط داكنة بين ألوان الطيف الشمسي لدى تحليلهم لضوء الشمس. ومع تطور معدات رصد الفضاء والنجوم ظلت هذه الخطوط ماثلة، وتبين فيما بعد أن هذه الخطوط تشير إلى انبعاث الهيدروجين من النجوم، وأثبت الفيزيائي الفرنسي (أرمان فيزو) أن الأجسام السماوية تترك عند تحليل طيفها لوناً أكثر احمراراً في حال كانت تقترب من مركز المراقبة، ولكنه يميل إلى الأزرق عندما تبتعد.
وعمل أدوين هابل (Edwin Hubble) في النصف الأول من القرن العشرين على تطوير هذه الاكتشافات. وقد توصل هابل باستخدام تلسكوبه الشهير (تلسكوب هابل) من التوصل إلى فكرة توسع الكون إذ أكد أن النجوم والمجرات تبتعد عن مركز الرصد والذي هو الأرض، وكذلك تبتعد عن بعضها البعض. وبعد مجموعة من المقارنات وصل إلى وضع قانون عرف باسمه مفاده (إن سرعة النجم تتناسب تناسباً طردياً مع مربع المسافة التي تفصلنا عنه، أي أن النجم كلما كان بعيداً كلما ازدادت سرعة ابتعاده عنا). كما أن المجرات تبتعد عن بعضها البعض أيضاً. وقد حاول العلماء تشبيه هذه الظاهرة بانفجار قنبلة، فشظاياها تبدأ بطيئة ثم تتسارع ومن ثم تتباطأ، وكل شظية سوف تبتعد عن البقية بنفس الطريقة.
ولكي نفهم الفكرة أكثر، احضر بالون وارسم عليه مجموعة من النقاط. اعتبر البالون هو الكون والنقاط هي المجرات، أبدأ بنفخ البالون، سترى أن النقاط كلها تبتعد عن بعضها، وكلما ازداد اتساع البالون كلما ازداد بعد النقاط أكثر. وهذا ما يحدث في الكون بالضبط.
وقد كان انشتاين في البدء من مؤيدي فكرة الكون الساكن (غير المتوسع) الذي تتوزع المادة فيه بصورة متساوية، لذلك اضطر إلى أن يضيف إلى أحد معادلاته الرياضية رقماً يدعى بالثابت الكوني
(Cosmological Constant) لتكون معادلته منسجمة مع ما هو معتقد في ذلك الوقت من سكون الكون، لكن حساباته برهنت له ما يناقض فكرته الأصلية تماماً وانتهى به المطاف إلى تأكيد أن الكون قابل للتوسع والانكماش مما دفعه إلى تعديل نظريته الأولى وتبنى تصور عن كون كروي من أربعة أبعاد. وقد قال انشتاين عن الثابت الكوني انه (اكبر خطأ في حياتي).
(2) الخلفية الإشعاعية (Background Radiation): في عام (1948) توصل العالم (جورج كاموف) (George Gamov)، وهو فيزيائي أمريكي من اصل روسي، إلى فكرة جديدة تتعلق بالانفجار الكبير، مفادها أنه إذا كان الكون قد تشكل فجأة فأن الانفجار كان عظيماً ويفترض أن تكون هناك كمية قليلة محددة من الإشعاع تخلفت عن هذا الانفجار والأكثر من ذلك يجب أن تكون متجانسة عبر الكون كله.
وبعد عقدين من الزمن كان هناك برهان رصدي قريب لحدس كاموف، ففي عام (1964) قام باحثان يعملان في مختبرات شركة بل للتليفونات بمدينة نيوجرسي هما (آرنو بنزياس) (Arno Penziaz) و (روبرت ويلسون) (Robert Wilson) بإجراء تجربة تتعلق بالاتصال اللاسلكي وبالصدفة عثرا على إشارات راديوية منتظمة الخواص، قادمة من كافة الاتجاهات في السماء وفي كل الأوقات وبصورة مستمرة. وفُسرت هذه الإشارات الراديوية على أنها بقية الإشعاع الذي نتج عن عملية الانفجار الكوني العظيم. وقد قدرت درجة حرارة تلك البقية الإشعاعية بحوالي ثلاث درجات مئوية، ومنح بنزياس و ويلسون جائزة نوبل لاكتشافهم هذا.
وقد تحققت وكالة ناسا (NASA) الأمريكية عام (1989) من النتائج التي توصل أليها كل من ينزياس وويلسن عن الخلفية الإشعاعية للكون بواسطة إرسال قمر صناعي إلى الفضاء أسموه (COBE) وهو مختصر لعبارة
(Cosmic Background Explorer) والتي تعني (مستكشف الخلفية الإشعاعية) كان الغرض من إرساله التحري عن الموجات الكونية الدقيقة (Cosmic Microwave) وزودته بأحدث الأجهزة الحساسة، واحتاج هذا القمر إلى ثماني دقائق فقط للعثور على هذا الإشعاع وقياسه، بلغ ارتفاع هذا القمر (600 كم) حول الأرض، وقد وجد أن درجة حرارة الخلفية الإشعاعية للكون بأقل من ثلاث درجات مئوية (تحديداً 2.735 مئوية). وقد أثبتت هذه الدراسة تجانس مادة الكون وتساويه التام في الخواص قبل الانفجار وبعده، أي من اللحظة الأولى لعملية الانفجار الكوني العظيم وانتشار الإشعاع في كل من المكان والزمان مع احتمال وجود أماكن تركزت فيها المادة الخفية التي تعرف باسم المادة الداكنة (Dark Matter). كذلك قام هذا القمر الصناعي بتصوير بقايا الدخان الكوني الناتج عن عملية الانفجار العظيم على أطراف الجزء المدرك من الكون (على بعد عشرة مليارات من السنين الضوئية) وأثبتت أنها حالة دخانية معتمة سادت الكون قبل تكون المجرات.
(3) كمية غازيّ الهيدروجين والهليوم في الكون: تشير الدراسات الحديثة عن توزيع العناصر المعروفة في الجزء المدرك من الكون إلى أن غاز الهيدروجين يكون أكثر قليلاً من (74%) من مادة الكون، ويليه في النسبة غاز الهليوم الذي يكون حوالي (24%) من تلك المادة. ومعنى ذلك أن أخف عنصرين يكونان معاً أكثر من (98%) من مادة الكون المنظور، أما بقية العناصر مجتمعة (عدد العناصر المكتشفة هو 105 عنصر) فتكون أقل من (2%) من مادة الكون. وهذه الأرقام تدعم نظرية الانفجار العظيم، إذ أن جورج كاموف استطاع بطرق حسابية أن يتوصل إلى هذه النسب من قبل أن يتم حسابها بالطرق التجريبية بعشرات السنين. فضلاً عن ذلك، فان هذه النسب تؤكد أن للكون بداية، لأنه لو كان الكون بلا بداية فمعنى ذلك أن كل غاز الهيدروجين يجب أن يكون قد احترق وتحول إلى غاز الهليوم.
مراحل نشأة الكون:يمكن تقسيم نشوء الكون وتطوره وفق نظرية الانفجار العظيم إلى خمسة مراحل رئيسة هي:
المرحلة الأولى:وهي المرحلة التي تسبق الزمن (10^-43). يطلق على هذه المرحلة بمرحلة التفرد (Singularity) ففي هذه المرحلة لا وجود للذرات والجسيمات الأولية، فكلها مندمجة لتشكل شيئاً ما غامضاً لا يمكن معرفة كنهه، هذه المرحلة لا تخضع لأي قانون فيزيائي وتبقى مرحلة غامضة لا تفسرها الرياضيات الفيزيائية، فالعلماء عاجزين عن وصف أو تخيل أي شيء عقلاني أو مما يمكن قبوله عقلاً فيما يتعلق بزمن الصفر المطلق، حينما لم يكن هناك شيء قد حدث بعد. وراء الزمن المذكور الذي هو (10^-43) يقع زمن بلانك (Planck Time) الشهير، الذي سمي بهذا الاسم نسبة للعالم الفيزيائي الشهير ماكس بلانك (Max Planck)، هذا الزمن يمثل نقطة من الزمن لا احد يعرف ما حدث قبلها، وهي في نظرية الانفجار العظيم متمثلة بما قبل الزمن (10^-43) ثانية. وهو الأمر الذي دعا العلماء إلى تسمية نقطة الزمن هذه بالحائط. وكان ماكس بلانك أول من أشار إلى استحالة تفسير الذرات في المرحلة التي تكون فيها الجاذبية متطرفة.
المرحلة الثانية: تبدأ من (10^-43) ثانية ولغاية (1) ثانية. في زمن مقداره (10^-43) حدث الانفجار العظيم. وكان قطر الكون (10^-33) سنتيمتر، أي اصغر من قطر نواة الذرة الذي يبلغ (10^-13) سنتيمتر. القوى الأربعة الموجودة الآن في الكون (القوة النووية الشديدة، والقوة النووية الضعيفة، والقوة الكهرومغناطيسية، وقوة الجاذبية) كانت متحدة مع بعضها مكونة نوع واحد من الطاقة، أما الحرارة فكانت تبلغ (10^+32) كالفن أي اكبر من حرارة الشمس التي تبلغ (6000) درجة مئوية عند السطح و(20) مليون درجة مئوية في المركز. ودرجة حرارة الكون هذه تعد حدود الحرارة القصوى التي تنهار وراءها جميع القوانين الفيزيائية التي نعرفها. أما مادة الكون فكانت مكونة من قسيمات بدائية غير موجودة الآن، وهي أسلاف الكاركات (Quarks) التي تعد احد عناصر المادة. وكانت هذه القسيمات البدائية تتفاعل فيما بينها بشكل مستمر، وكان الكون يكبر ويتمدد بشكل دائم.
من (10^-35) ثانية ولغاية (10^-32) ثانية، تضخم الكون بمقدار (10^+50) مرة عن حجمه الأصلي، فمن حجم اقل من نواة الذرة إلى حجم كرة قطرها (10) سنتيمترات. وهذا التوسع الهائل اكبر من التوسع الذي حصل من حينها إلى الآن، فمعدل التضخم الآن صار ضعيفاً نسبياً فهو بمقدار (10^+9)، بعبارة أخرى نقول أن فارق الحجم الموجود بين الجزء الأولي للكون وبين الكرة هو أكبر نسبياً من الفارق بين الكرة وبين حجم الكون الآن.
يستمر توسع الكون وبرودته، ويحصل شيء مهم في الفترة ما بين (10^-11) ثانية إلى (10^-15) ثانية، إذ تختفي جميع القسيمات البدائية تاركة المجال للبارتيكولات (Particules) وهي اصغر الأجزاء المكونة للمادة المعروفة الآن، كما أن القوى الأربعة أخذت بالتفكك والانفصال، وتم ذلك عند درجة حرارة مقدارها (10^+15) كالفن.
نتيجة لاستمرار توسع الكون وانخفاض درجة حرارته، وعند الزمن (10^-10) ثانية وما بعده فان العديد من الدقائق بدأت بالتكون. هذه الدقائق تدعى بـ (Baryons) وتتضمن الفوتونات (Photons) ونيوترينوات (Neutrinos) والاليكترونات (Electrons) والكواركات (Quarks) والتي سوف تصبح المادة التي تبنى منها كتلة المادة والأحياء التي نعرفها اليوم. وكان حجم الكون ألف ضعف حجمه السابق، أي أن حجمه أصبح بحجم مجموعتنا الشمسية.
المرحلة الثالثة: من (1) ثانية إلى (3) دقائق، كانت درجة حرارة الكون أكثر من (10) بليون درجة مئوية. درجة الحرارة هذه يمكن الوصول أليها في انفجارات القنابل النيتروجينية. وفي هذه المرحلة كان الكون مؤلف من فوتونات والكترونات، والجزيئات الذرية الفرعية مثل النيوترون والبروتونات. ومع استمرار الانخفاض في درجة الحرارة فان البروتونات، أصبحت أكثر شيوعاً حتى وصلت نسبتها حوالي سبعة أضعاف النيوترونات. اتحد كل نيوترون مع بروتون ليشكلا زوجاً يدعى بالدوتيريوم (Deuterom) التي تجمعت لتكون نوى عنصر الهليوم، الذي يحتوي على بروتونين ونيوترونين، واستمرت هذه العملية حتى اندمجت كل النيوترونات مع البروتونات لتكوين الهليوم، أي اختفت جميع النيوترونات من الكون. وهذا يعني أن الهليوم يشكل تقريباً ربع مكونات الكون.
المرحلة الرابعة: من (3) دقائق إلى (100 مليون) سنة، لم تتكون الذرات ألا بعد (300 ألف) سنة، وانخفضت درجات الحرارة إلى (3000) كلفن، مما سمح لذرات الهيدروجين بالظهور والبقاء دون فناء. وبعد برودة الكون ظهرت الذرات المتعادلة (Atoms Neutral) بكثرة. وكان الكون أصغر مما هو عليه الآن بكثير جداً وتجمعت الذرات المتعادلة مكونة غيوماً غازية، من هذه الغيوم الغازية ظهرت النجوم الأولية وغدا الكون شفافاً وأصبح الضوء ينطلق لسنوات ضوئية دون مواجهة خطر الامتصاص ولم تكن الرؤية ممكنة قبل ذلك الوقت لأن الضوء كان يُمتص مما يجعل رصده ـ لو قدر أن رصد ـ مستحيلاً. وبعد حوالي (32 مليون سنة) بعد عملية الانفجار العظيم إلى اليوم بدأ خلق أغلب العناصر المعروفة لنا (وهي أكثر من مئة وخمسة عناصر) بعملية الاندماج النووي في داخل النجوم حتى تكون عنصر الحديد في داخل المستعمرات المتوهجة العظمى، وتكونت العناصر الأعلى وزناً من نوى ذرات الحديد باصطيادها اللبنات الأولية للمادة المنتشرة في صفحة السماء.
المرحلة الخامسة: من (100 مليون) سنة إلى (الوقت الحاضر)، عندما بلغ الكون خمس حجمه الحالي تشكلت المجرات الفتية (Galaxies Young) من تجمع النجوم. وعندما بلغ الكون نصف حجمه الحالي تكونت المجاميع الشمسية (Solar Systems) التي تتكون من نجم يدور حوله عدد من الكواكب في مدارات خاصة بكل كوكب، أما منظومتنا الشمسية المسماة بدرب اللبانة (Milky Way) فقد تكونت بعد (10 بليون) سنة من حدوث الانفجار العظيم، عندما كان حجم الكون ثلثي حجمه الحالي. الكيفية التي تكونت بها الأنظمة أو المجاميع الشمسية فسرت وفق النظرية السديمية التي أصبحت اليوم جزءً من نظرية الانفجار العظيم،
الكون بين الفيزياء والميتافيزياء
علينا عند الحديث عن وجود دائم للكون، ألا ننخدع بالاعتبارات الميتافيزيائية أو اللاهوتية التي غالبًا ما تطرح في مثل هذه المناسبة. فليس ثمة سبب حقيقي لمناقشتها باسم الكونيات المعاصرة لأن هذه الأخيرة لا تتضمن مثل هذه الاعتبارات. ويعرف الفيزيائيون أن الانفجار الكبير نفسه لا يوافق أبدًا مفهوم الخلق بل هو مجرد مرحلة مرَّ بها الكون. بعبارة أخرى، حتى لو كان ثمة قائل إن الكون مر بلحظة بداية هي الانفجار الكبير فإن ذلك ليس سوى بناء نظري وليس لحظة حقيقية أطلقت الزمن الفيزيائي.
هناك دراسات كثيرة تحاول بناء شكلانية قادرة على وصف الكون البدئي بشكل أكمل. ولا يتورع الفيزيائيون الذين يحاولون وصف هذه المرحلة الفائقة الحرارة والكثافة بتجريب كافة الفرضيات والتصورات: وأهمها لا شك أن الزمكان يملك أكثر من أربعة أبعاد، وهو على المستوى الأقل من سوية بلانك يكون متقطعًا غير متصل. كما أنه يكون نظريًا قابلاً للاشتقاق من شيء ليس بزمكان أصلاً. إنها طرق مختلفة ليست بعد سوى طروحات لكنها تتجرأ بإرجاع الزمن إلى ما قبل اللحظة صفر، فليس ثمة بالنسبة لها نقطة فرادة.
في كافة الأحوال، فإن الحسابات تظهر لنا عالمًا كان قد سبق وجودنا وكوننا: قد يكون فراغًا كموميًا، أو قد يكون هذا الغشاء العائم في زمكان من عشرة أبعاد، وربما أكثر، أو أيضًا كونًا في حالة انضغاط يعود فيرتد على نفسه عندما تصل كثافته إلى قيمة لا يمكن تجاوزها، هذا إضافة إلى كل التصورات الأخرى بين هذه المقترحات التي قد تكون أكثر خيالية وجنونًا أحيانًا. يقود ذلك إلى نتيجتين. الأولى أن ما وجد قبل كوننا لم يكن عدمًا. ووفق هذه النماذج كان ثمة كائن دائمًا ولم يكن ثمة عدم أبدًا. وبالتالي فإن فكرة الخلق من العدم لم تحدث مطلقًا. والنتيجة الثانية هي أن هذه الأشياء السابقة لوجود كوننا لا تنفصل عن كوننا بقدر ما هي متضمنة فيه، بمعنى أنها لم تكن أسبابًا أولية لوجوده، خارجة عنه، وأدت إلى ظهوره بمجرد إشارة أو حركة. إن السمة الوحيدة التي تميزها عن العناصر الأخرى المشكلة للكون هي أنها ولَّدت كل ما يوجد إضافة إليها، إنما دون أن نستطيع معرفة أصل وجودها هي نفسها. فمن أين يأتي الفراغ الكمومي؟ لا أحد يعرف، والأغشية؟ لا أحد يستطيع الإجابة. ومن أين جاء الكون قبل الانفجار الكبير؟ إنه لغز قد لا نستطيع حله أبدًا...
لا تزال إذن مسألة معرفة إذا كان للكون أصل وبداية أم لا مسألة مفتوحة. فلا أحد يستطيع حتى اللحظة البرهان علميًا أنه كان ثمة أصل للكون، ولا أحد أيضًا قادر على البرهان علميًا أنه لم يكن ثمة أصل للكون.
إذا كانت قد وجدت بداية للكون والعلم لم يستطع حتى الآن تحديدها، فهذا يعني أن الكون كان مسبوقًا بغياب كامل للكائن. وهذا يشير إلى أنه نتج عن انفصال خارج العدم، انفصال لا يمكن وصفه بحال من الأحوال، وإلا لكي نفسر كيف لم يعد العدم عدمًا يكون علينا إعطاءه خصائص ستميزه بمجرد وجودها فلا يعود العدم عدمًا. أما إذا لم يكن للكون بداية، فهذا يعني أن الكائن كان موجودًا دائمًا ولم يكن ثمة عدم أبدًا. وهذا يعني أن مسألة أصل الكون لا معنى لها، أو أنها كانت مسألة مطروحة بطريقة خاطئة، لكننا في هذه الحال نستبدلها بسؤال آخر، سؤال أكثر انغلاقًا بما لا يقاس، وهو سؤال الكائن نفسه: لماذا كان الكائن بدلاً من العدم؟
الكون أغشية تتصادم فيما بينها
اقترح فنزيانو سيناريو ما قبل الانفجار الكبير هذا مع زملائه في عام 1991، وكان أول محاولة لتطبيق نظرية الأوتار على الكوزمولوجيا. وقد أثار العديد من الانتقادات، ولا تزال الدراسات جارية عليه لمعرفة ما إذا كانت هذه الانتقادات قد وضعت يدها فعلاً على بعض الصدوع الخطيرة في بنائه النظري.
أما النموذج الرئيسي الآخر الذي يصف الكون قبل الانفجار الكبير فهو يوصف بسيناريو الانقلاب ekpyrotique (من اللفظة اليونانية التي تعني الانقلاب الكبير conflagration). وقد طُوّر منذ عام 2001 على يد نيل توروك N. Turok من جامعة كامبريدج وبول ستاينهارد P. Steinhardt من جامعة برينستون، وهو يرتكز على فكرة أن كوننا هو عبارة عن غشاء D-brane يعوم في جوار غشاء آخر مثله في فضاء من بعد أعلى. إن الفضاء الذي يفصل الغشاءين يتصرف مثل نابض يقودهما إلى الدخول في حالة تصادم في الوقت الذي يكونان فيه في حالة انضغاط. وتتحول طاقة التصادم إلى مادة وإشعاع. وهذا هو الانفجار الكبير. وفي إحدى تنويعات هذا السيناريو، تتم التصادمات بطريقة دورية. فيلتقي غشاءان، ويرتدان ويتباعدان قبل أن يعودا فيسقطان أحدهما على الآخر وهكذا دواليك. وبين هذه التصادمات، تتوسع الأغشية بشكل مستمر باستثناء مرحلة انضغاط تأتي مباشرةً قبل الصدمة. ويتباطأ التوسع عندما تنفصل الأغشية ويتسارع عندما تعود لتتقارب من جديد. إن المرحلة الحالية من تسارع التوسع الكوني (المكتشفة منذ بضعة سنوات فقط أثناء رصد سوبرنوفا بعيدة) تشير ربما إلى تصادم قادم لكوننا مع كون آخر.
ويشترك هذا السيناريو مع السيناريو السابق في نقاط عدة. فكلاهما يبدأ مع كون واسع وبارد وشبه خاو وفارغ، وكلاهما يجدان صعوبة في تفسير الانتقال بين المرحلتين ما قبل وما بعد الانفجار الكبير. أما رياضيًا، فإن الاختلاف الرئيسي بينهما يكمن في سلوك حقل الديلاتون. ففي سيناريو ما قبل الانفجار الكبير يكون للديلاتون قيمة ابتدائية منخفضة جدًا، بحيث تكون القوى الأساسية ضعيفة، وتزداد قيمته تدريجيًا مع الكثافة. أما في السيناريو الانقلابي، فالعكس هو الصحيح، حيث ينتج التصادم عندما تكون كثافة القوى في حدها الأدنى.
لقد أثار هذا الضعف للقوى الطبيعية الأمل في التوصل إلى تحليل الارتداد من خلال التقنيات الكلاسيكية المتوفرة والمعروفة. لكن للأسف، في التنويعات الحالية عندما يقترب غشاءان إلى درجة التصادم ينهار البعد الذي يفصلهما بحيث أن الفرادة تصبح أمرًا لا مفر منه. وهناك عقبة ثانية حيث يجب تحقيق الشروط البدئية بشكل دقيق لكي نستطيع أن نحل مشكلة المسائل الكونية الكلاسيكية. على سبيل المثال قبل الصدم يجب أن يكون الغشاءان شبه متوازيين، وإلا فإنهما لا ينتجان الانفجار الكبير المتجانس جدًا كما هو حالة كوننا.
وإذا تركنا جانبًا صعوبة تشذيب هذين السيناريوهين من وجهة نظر رياضية، فإن الفيزيائيين يبحثون منذ الآن عن نتائج قابلة للرصد تدعم أحدهما على الأقل. وللوهلة الأولى، فإن النموذجين يستدعيان تخمينات ميتافيزيائية أكثر منها نظريات فيزيائية. مع ذلك، من الممكن لتفاصيل من عصر ما قبل الانفجار الكبير أن يكون لها نتائج قابلة للرصد، تمامًا كتلك التي تتعلق بفترة التضخم الذي حصل مباشرة بعد الانفجار الكبير. إن التخلخلات الطفيفة التي لوحظت في الحرارة واستقطاب الإشعاع الخلفي للكون يقدمان اختبارات تجريبية على ذلك.
تُفسَّر تخلخلات الحرارة على أنها علامة على الأمواج الصوتية التي انتشرت في البلازما البدئية خلال 380000 سنة سابقة لإصدار إشعاع الخلفية الكونية. ويثبت انتظام هذه التخلخلات أن الأمواج الصوتية كانت قد تولدت في اللحظة نفسها. وتتفق النماذج الثلاث، "التضخمي" و"ما قبل الانفجار الكبير" و"الانقلابي"، مع هذا الشرط الرصدي وبالتالي فإنها تتجاوز هذا الامتحان الأول بنجاح. وقد ولدت الأمواج الصوتية في اللحظة نفسها بواسطة تخلخلات كمومية مضخمة خلال مرحلة التوسع المتسارع.
بالمقابل، فإن كل نموذج من النماذج السابقة يتنبأ بتوزع نوعي للتخلخلات. وتبين الأرصاد أن سعة التخلخلات كبيرة الحجم الزاوي تكون ثابتة، في حين نلاحظ وجود ذرى على مستويات التخلخلات الصغيرة. إن النموذج التضخمي يُنتج بشكل مطابق هذا التوزع. فخلال التضخم تغيَّر انحناء الزمكان بشكل بطيء. وهكذا فإن تخلخلات مختلفة الحجوم تولدت ضمن ظروف مماثلة، وبالتالي فإن طيف التخلخل البدئي يكون ثابتًا أو لامتغيرًا بالنسبة لمستوى معين. وتنتج الذرى على المستويات الصغيرة من تناوب التخلخلات البدئية، في تتمة تاريخ الكون. وفي علم كونيات الأوتار، يتطور انحناء الزمكان بسرعة كبيرة جدًا، الأمر الذي يزيد من سعة التخلخلات على المستوى الصغير. مع ذلك، فإن صيرورات أخرى تعدّل هذه الظاهرة: ففي سيناريو الانقلاب الكوني، يُنتج انضغاط الأغشية طيف تخلخل غير متبدل المستوى؛ وفي نموذج ما قبل الانفجار الكبير، يتدخل حقل كمومي يسمى كرفاتون curvaton. وهذا يعني أن النماذج الثلاثة تتفق حتى الآن مع الأرصاد.
إن استقطاب الخلفية الإشعاعية الكونية يقدم لنا اختبارًا آخر. فعلى عكس النماذج الأخرى يتنبأ نموذج التضخم بأن الأمواج الثقالية ساهمت في تخلخلات الحرارة. ولا بد أن بعض هذه الأمواج الثقالية قد ترك بصمته في استقطاب إشعاع الخلفية الكونية. ويمكن لأرصاد القمر الصناعي بلانك التابع لوكالة الفضاء الأوروبية أن يرصد مثل هذا الأثر إذا كان موجودًا. واكتشافه سيقدم حجة هامة لصالح التضخم.
وتحليل الخلفية الإشعاعية الكونية ليس الطريقة الوحيدة لاختبار هذه النظريات. فسيناريو ما قبل الانفجار الكبير يتنبأ بإصدار أمواج ثقالية، يمكن لبعضها أن يكون قابلاً للرصد بواسطة كواشف الأمواج الثقالية مثل فيرغو Virgo. ومن جهة أخرى، بما أن السيناريو الانقلابي وسيناريو ما قبل الانفجار الكبير يتضمنان تغيرات في حقل الديلاتون، المتزاوج مع الحقل الكهرمغنطيسي، فإنهما يتنبآن بوجود تخلخلات في الحقل المغنطيسي على المستوى الكبير. ويمكن اكتشاف آثار هذه التخلخلات في الحقول المغنطيسية المجرية.
متى بدأ الزمن إذن؟ لا يقدم العلم حتى اللحظة إجابة على هذا السؤال، لكنه يطرح نظريتين على الأقل قابلتين للاختبار والتجربة وتؤكدان بشكل متماسك حتى الآن أن الكون – وبالتالي الزمن – كان موجودًا قبل الانفجار الكبير. فإذا كان أحد هذين السيناريوهين صحيحًا، فهذا يعني أن الكون كان موجودًا دائمًا.
الكون مقلوبًا
باختفاء الفرادة singularité، فليس ثمة ما يمنع من تصور أن الكون كان موجودًا قبل الانفجار الكبير. وبجمع التناظرات التي تدخلها نظرية الأوتار مع تناظر انعكاس الزمن، ووفقه فإن معادلات الفيزياء تعمل في الاتجاهين نحو الماضي أو نحو المستقبل لا فرق، توصل العلماء إلى تصور علوم كونية جديدة، لا يكون الانفجار الكبير فيها هو البداية، بل مجرد حالة انتقالية عنيفة بين حاليتن للكون: قبله كان التوسع يتسارع، وبعده بدأ التوسع يتباطأ. وأهمية هذا التصور أنه يأخذ بعين الاعتبار بشكل آلي أفكار النموذج التضخمي، أي وجود فترة تضخم متسارعة قادرة على تبرير تجانس الكون. إن ما يسبب التسارع بعد الانفجار الكبير هو التضخم في النظرية المعيارية للكون. أما في النظرية الكونية المرتكزة على الأوتار فإن التسارع ينتج قبل الانفجار الكبير وينتج عن تناظرات النظرية نفسها.
إن الشروط التي سادت في جوار الانفجار الكبير كانت فائقة الحدية بحيث أن أحدًا لا يعرف كيف يحل المعادلات التي تصفها. مع ذلك، فقد جازف نظريو الأوتار بوصف بعض مظاهر الكون السابق للانفجار الكبير. وهناك نموذجان على الأقل تتم دراستهما اليوم. الأول معروف باسم سيناريو "ما قبل الانفجار الكبير"، وهو يشير إلى أن الكون السابق للانفجار الكبير عبارة عن صورة في المرآة للكون سابق لهذا الحدث. فالكون يمتد أبديًا في المستقبل كما في الماضي. فمنذ زمن لانهائي كان الكون شبه خاو ولا يشتمل سوى على غاز نادر من الإشعاعات والمادة. أما قوى الطبيعة، التي يضبطها حقل الديلاتون dilaton، فكانت ضعيفة جدًا بحيث أن جسيمات هذا الغاز كانت لا تتفاعل أو تكاد فيما بينها. ومع الوقت، نجحت القوى في الغلبة والتكثف وبدأت المادة في التشكل. وبدأت بعض المناطق بتجميع هذه المادة على حساب مناطق أخرى. وأصبحت الكثافة فيها عالية إلى درجة أن ثقوبًا سوداء تشكلت فيها. وقد انعزلت المادة التي انفصلت في هذه الثقوب عن باقي الكون مما أدى إلى انشطار الكون إلى عدة أقسام منفصلة غير متصلة. وفي قلب كل ثقب أسود من هذه الثقوب كانت الكثافة المادية ترتفع أكثر فأكثر. وعندما بلغت الكثافة والحرارة والانحناء القيم القصوى التي تسمح بها نظرية الأوتار، قامت هذه الكميات بعملية "ارتداد"، وبدأت تتناقص. وليس الانفجار الكبير سوى اللحظة التي حدث فيها هذا الانقلاب. وأصبح داخل أحد هذه الثقوب السوداء هو كوننا الحالي!
الأوتار تقفز على نشوء الكون
ثمة اليوم مقاربتان واعدتان كما يبدو. الأولى هي الجاذبية الكمومية ذات العقد، وهي تحتفظ في بنائها بالجزء الأساسي من النظرية النسبية – أي الطبيعة الديناميكية للزمكان واللاتغير بالنسبة لمنظومة الإحداثيات أو المرجعية المستخدمة – وهي تطبق هذه المبادئ في إطار الفيزياء الكمومية. ويتألف الزمكان الناتج عنها من قطع ضئيلة لا تتجزأ. وقد شهدت الثقالة الكمومية ذات الأربطة كما يطلق عليها أو ذات التخاريم أو العقد، خلال السنوات الأخيرة تقدمًا في نواحٍ عديدة، لكنها ربما ليست جذرية بدرجة كافية لتحل المسائل التي تطرحها مسألة تكميم الثقالة.
أما المقاربة الثانية، والتي ترتكز عليها السيناريوهات المطروحة هنا، فهي نظرية الأوتار. وقد ظهرت بداياتها في عام 1968 عندما اقترحها غابرييل فنزيانو لوصف تفاعلات مكونات النواة الذرية. ولم تعد هذه الأفكار للظهور إلا في الثمانينيات لتصبح نظرية أساسية في توحيد النظريتين الكمومية والنسبية العامة.
ترتكز الفكرة الأساسية في نظرية الأوتار على أن المركبات الرئيسية للمادة ليست نقطية، بل وحيدة البعد، على شكل أوتار لا ثخانة لها. وتهتز هذه الأوتار مثل أوتار الكمان، ويعكس التنوع الكبير في عالم الجسيمات، حيث يكون لكل جسيم خصائصه وسماته، مختلف أنماط اهتزاز هذه الأوتار. وتسمح القوانين الكمومية لهذه الأوتار المهتزة والتي لا كتلة لها بوصف الجسيمات وتفاعلاتها، وهي تولِّد خصائص جديدة لها تأثير عميق على نظرياتنا الكونية.
بداية، فإن آثارًا كمومية تفرض على الأوتار حجمًا أدنى من رتبة 10-34 م. وهذا الكم (كوانتم) الذي لا يمكن اختزاله لأصغر منه، ونسميه ls، هو ثابتة جديدة في الطبيعة، إلى جانب سرعة الضوء وثابتة بلانك. ويلعب هذا الثابت في نظرية الأوتار دورًا حاسمًا إذ يفرض حدًا للكميات التي بدونه يمكن أن تسعى إلى الصفر أو إلى اللانهاية.
ثانيًا، هناك الطاقة الخاصة بأنماط معينة من اهتزازات الأوتار والموافقة لكتل الجسيمات. من جهة أخرى، فإن هذه الاهتزازات تمنح للأوتار عزمًا حركيًا جوهريًا، هو ما يسمى باللف الذاتي أو spin. ويمكن للأوتار أن تكتسب عدة واحدات للف الذاتي مع بقاء كتلتها معدومة: بل يمكن أن تمثل بوزونات، وهي جسيمات رسولة لقوى أساسية (مثل الفوتونات بالنسبة للكهرمغنطيسية). وتاريخيًا، كان اكتشاف أنماط اهتزاز للف الذاتي المساوي لاثنين، والمطابقة مع الجسيم المفترض أنه يحمل التفاعل الثقالي، الغرافيتون graviton، هو ما أقنع الفيزيائيين بأهمية نظرية الأوتار في تكميم قوة الثقالة.
ثالثًا، إن معادلات نظرية الأوتار لا تكون متجانسة إلا إذا كان الفضاء ذا تسعة أبعاد بدلاً من ثلاثة، وكانت الأبعاد الستة الإضافية ملتفة على مسافات غاية في الصغر.
رابعًا، إن الثوابت التي تصف كثافة القوى الأساسية، مثل ثابتة الجاذبية أو الشحنة الكهربائية، لا تعود محددة أو مثبتة بشكل عشوائي، بل تظهر في نظرية الأوتار على شكل حقول تتغير قيمتها خلال الزمن. وأحد هذه الحقول، ويسمى ديلاتون dilaton، يلعب دورًا خاصًا، فهو يحدُّ تطور الحقول الأخرى، ويحدد كثافة كافة التفاعلات. وخلال مراحل كونية مختلفة أمكن لثوابت الفيزياء أن تشهد تغيرات طفيفة. ويحاول علماء الفيزياء الفلكية اليوم اكتشاف وقياس هذه التغيرات الضئيلة من خلال رصدهم للكون البعيد.
عندما يضبط التناظر اللانهاية
وأخيرًا، فقد كشفت الأوتار عن وجود تناظرات جديدة في الطبيعة، هي الثنائيات، التي تحول بشكل جذري فهمنا الحدسي لسلوك الأجسام على مستويات فائقة الصغر. وأحد هذه التناظرات، وهو تناظر T-duality، يربط بين الأبعاد الإضافية الصغيرة والكبيرة. ويرتبط هذا التناظر بأكبر تنوع من الحركات الممكنة بالنسبة للأوتار، قياسًا إلى جسيمات نقطية. إذا أخذنا على سبيل المثال وترًا مغلقًا (أي حلقة) ينتقل في فضاء ذي بعدين حيث أحد هذين البعدين ينطوي بشكل دائرة صغيرة. يكافئ هذا الفراغ سطح أسطوانة. ويمكن لهذا الوتر إضافة إلى اهتزازه أن ينتقل على السطح، بل وأن يلتف مرة أو أكثر حول أسطوانة، تمامًا مثل مطاط يضم ورقة ملفوفة.
يسهم كل من الاهتزاز والانتقال والالتفاف في الطاقة الكلية للوتر. وتتعلق طاقة النمطين الأخيرين بحجم الأسطوانة التي يتم الانتقال والالتفاف حولها. وتتناسب طاقة الالتفاف مع قطر الأسطوانة: فكلما كان هذا القطر أكبر كان على الوتر أن يكون مشدودًا أكثر لكي يلتفَّ، بحيث أنه يختزن المزيد من الطاقة. بالمقابل، فإن طول البعد الملتف، أي انتقال الوتر يترجم بطاقة تتناسب عكسًا مع نصف قطر الأسطوانة: فكلما كانت هذه الأخيرة أثخن كلما كان الوتر أقدر على الانتقال عليها "بسلاسة أكبر" (نتذكر هنا أن علاقات الريبة في الميكانيك الكمومي تمنع جسيمًا متموضعًا بدقة من أن يكون في حالة راحة. وبالتالي فإن جسيمًا محددًا يكون في حالة حركة بسرعة عالية جدًا، في حين أن جسيمًا غير متموضع بدقة كبيرة ينتقل "بسلاسة وبهدوء" أكثر). وعلى أسطوانة أضيق يتطلب التفاف الوتر طاقة أقل، في حين أن انتقاله يكون أكثر حركية ويعطي طاقة أكبر للمنظومة. فإذا استبدلنا أسطوانة قطرها R بأسطوانة قطرها 1/R (حيث يعتبر الواحد هو الطول الأقصر للأوتار)، فإن سلسلة حالات الطاقة الناتجة بواسطة النمطين يتم تبادلها، لكن مجموع الحالات يظل متطابقًا. وبالنسبة لمراقب خارجي، فإن الأبعاد الكبيرة الملتفة تكون فيزيائيًا مكافئة للأبعاد الصغيرة ذات القطر المقلوب.
يمكن أن نفهم بسهولة أكبر الثنائية T-duality في إطار فضاءات مزودة ببعد دائري ذي حجم منته، بل وهي تطبق أيضًا على ثلاثة أبعاد لانهائية من الفضاء العادي. فليس حجم الفضاء مأخوذًا بمجمله ما يهمنا، بل ما يسمى معامل درجته، أي العلاقة بين تباعد الأجسام التي كان يحتويها في تاريخ محدد وتباعدها الحالي. ووفق T-duality فإن كونًا يكون فيه معامل الدرجة صغيرًا جدًا يعني أنه مكافئ لكون معامل الدرجة فيه كبير جدًا. ومثل هذا التناظر لا يوجد في النسبية العامة. إنه تناظر يتأتى عن الإطار الموحد لنظرية الأوتار.
اعتقد نظريو الأوتار طيلة سنوات أن الـT-duality لا تنطبق إلا على الأوتار المغلقة. وفي عام 1995، بين جوزيف بولشينسكي J. Polchinsky من جامعة سانتا بربارا أنها تظل صحيحة بالنسبة للأوتار المفتوحة، بتطبيق شروط تسمى شروط ديريشليه Dirichlet على أطراف هذه الأوتار: فإضافة إلى عكس أقطار الأبعاد الملتفة، علينا أن نثبت أو نحدد أطراف الأوتار ضمن عدد معين من الأبعاد. وهكذا، فإن نهايات وتر يمكن أن تطفو حرة في ثلاثة من الأبعاد الفضائية العشرة في حين أن حركتها في الأبعاد السبعة الأخرى تكون محجوزة أو ثابتة. تشكل هذه الأبعاد الثلاثة الحرة فضاءً تحتيًا يسمى الغشاء membrane أو D-brane. وفي عام 1996، تصور كل من بيتر هورافا P. Horava من جامعة روتجرز، وإدوارد ويتن E. Witten من معهد الدراسات المتقدمة في برنستون، أن كوننا قابع على أحد هذه الأغشية D-brane ثلاثية الأبعاد. ويمكن أن تفسر لنا الحركية الجزئية للإلكترونات وللجسيمات الأخرى لماذا لا نستطيع أن نلحظ الأبعاد العشرة للفضاء.
إن خصائص الأوتار تلتقي كلها على نقطة واحدة، فهي لا تحب اللانهاية. وبما أنها لا تستطيع أن تُقلَّص إلى نقطة، فإنها تحذف التناقضات التي يسببها مثل هذا الانهيار. إن حجمها غير المعدوم، كما والتناظرات الجديدة المرتبطة بها، تفرض حدودًا عليا على الكميات الفيزيائية التي تتقاطع إلى أجل غير مسمى في النظريات الكلاسيكية، وحدودًا دنيا على الكميات التي تتناقص بحيث لا يمكنها النزول تحت حد معين. وعندما نسقط فيلم التاريخ الكوني بشكل معاكس، فإن الزمكان ينضغط ونصف قطر التفاف كافة الأبعاد يضيق. ووفق نظريي الأوتار فإن T-duality تمنع نصف الانحناء من التناقص حتى الصفر ومن توليد نقطة فرادة الانفجار الكبير. وعندما يصل هذا الانضغاط إلى الطول الأدنى الممكن، فإنه يصبح فيزيائيًا مكافئًا لتوسع في المكان، ومن هنا يعود نصف قطر الانحناء إلى التزايد. إن الـT-duality تجعل الانهيار يعود فينتفض في حالة توسع جديد.
تجانس غريب بين نظرية النسبية العامة وعلماء الكونيات
قادت نظرية النسبية العامة علماء الكونيات المعاصرين إلى نتيجة مشابهة للقائلين بنظرية الخلق اللاهوتية، حيث يولد الكون والزمان معًا، وحيث ليس ثمة قبل ذلك شيء. وفي هذا الإطار لا يكون المكان والزمان مطلقين وثابتين بل ديناميكيين ومتغيرين ويتأثران ويتشوهان بالمادة. وعلى مستوى المسافات الكونية ينحني الفضاء، ويمتد أو ينضغط أو يتكور على مر الزمن، حاملاً المادة معه. وقد أكد علماء الفلك خلال عشرينيات القرن الماضي، بعد اكتشاف أدوين هبل للمجرات، أن كوننا في حالة توسع حيث تبتعد المجرات عن بعضها بعضًا. وكان من نتائج هذا التوسع أن الزمان لا يمكن أن يمتد بلا نهاية نحو الماضي. فإذا عكسنا تسلسل أحداث تاريخ الكون نحو الوراء، نرى أن المجرات ستتقارب في هذا المشهد من بعضها بعضًا حتى تلتقي في نقطة لامتناهية الصغر، تسمى فرادة. وهكذا فإن كافة المجرات – أو بالأحرى ما تشكلت منه – كانت قائمة في نقطة حجمها صفر. وتكون الكثافة والحرارة بل وانحناء الزمكان في هذه النقطة لانهائيًا. فالفرادة هي الحد الكارثي الذي لا نستطيع بعده متابعة تسلسل تاريخنا وأصولنا الكونية.
يطرح هذا السيناريو أسئلة كثيرة. وهو يبدو بشكل خاص غير متوافق كثيرًا مع أن الكون يبدو متجانسًا على المستوى الكبير في كافة الاتجاهات. فلكي يكون للكون الشكل نفسه تقريبًا في كافة اتجاهاته لا بد أن يكون شكل من التفاعل قد تأسس بين المناطق المتباعدة في المكان بحيث تكون خصائصها قد تناغمت وتجانست مع بعضها بعضًا. غير أن ذلك يتعارض مع المعطيات الرصدية لتوسع الكون. لقد تحرر الضوء منذ 13,7 مليار سنة (إنه الخلفية الإشعاعية الكونية المرصودة اليوم في مجال الأمواج الميكروية). ونجد اليوم كيفما توجهنا في الكون من حولنا مجرات تبعد عنا مسافات كبيرة جدًا تصل إلى 13 مليار سنة ضوئية. وهذا يعني أنه توجد مجرات في الاتجاهات المتعاكسة تبعد عن بعضها مسافة تصل إلى أكثر من 25 مليار سنة ضوئية. بالنتيجة، هذا يعني أن هذه المناطق لم تكن متصلة فيما بينها يومًا من الأيام، إذ لم تتوفر لها الفرصة ولا الوقت لتتبادل الضوء ولا المادة كذلك. وهذا يعني أن كثافتها وحرارتها وخصائص أخرى لها لم يمكن لها أن تتجانس فيما بينها، أي أن تتبادل المعلومات وتطور بالتالي منظومات متجانسة.
مع ذلك، فإن خصائص مجرة درب التبانة تتطابق تقريبًا مع خصائص المجرات البعيدة. وهذا التجانس يمكن أن يكون مجرد مصادفة. لكن من الصعب القبول أن عشرات آلاف الأجزاء من أقسام صورة الخلفية الإشعاعية الكونية، المتطابقة إحصائيًا، كانت منذ البداية الكونية ذات خصائص متطابقة. ثمة تفسيران أكثر طبيعية لذلك: فإما كان الكون في لحظاته الأولى أصغر بكثير مما تفترضه علوم الكونيات الكلاسيكية، أو أن هذا الكون أقدم مما تقول به علوم الكونيات. وفي الحالتين، كان يمكن لجزئين متباعدين في الفضاء الكوني قبل صدرو الإشعاع الكوني أن يتفاعلا ويتبادلا المعلومات.
يفضل علماء الفيزياء الفلكية الفرضية الأولى. فلا بد أن الكون شهد فترة توسع هائلة، تسمى التضخم inflation، في بداية الكون الأولى. أما قبل هذه الفترة، فقد كانت كافة مناطق الكون قريبة جدًا من بعضها بحيث أن خصائصها استطاعت أن تتجانس فيما بينها. ثم خلال مرحلة التضخم، انطلق التوسع الكوني وبدأ الكون يتمدد بسرعة أعلى من سرعة الضوء. وهكذا فقد تم عزل مختلف أجزاء الكون عن بعضها بعضًا. وبعد جزء ضئيل من الثانية انتهى التضخم ليستمر التوسع الكوني بشكل أكثر هدوءًا. وعاد الاستقرار بين المجرات وتبادل المعلومات فيما بينها تدريجيًا فيما كان الضوء يلتقط أنفاسه ويعوض تأخره الناجم عن التضخم. وقد أدخل الفيزيائيون في سبيل تفسير هذا التضخم الهائل حقل قوة جديدة هو حقل التضخم، وقد ولَّد هذا الحقل قوة جاذبية طاردة (عكس الجاذبة) فائقة الشدة في اللحظات الأولى التي تلت الانفجار الكبير. وعلى عكس الجاذبية، فإن التضخم يسرِّع التوسع الكوني. فبعد جزء من الثانية من الانفجار الكبير، اختفت القوة الطاردة واستنفذت واستعادة الجاذبية سيطرتها على الكون الوليد. اقترحت هذه النظرية في عام 1981 وكان بطلها الفيزيائي آلان غوث Alan Guth، مما سمح بتفسير عدد كبير من الأرصاد. مع ذلك، فإن بعض الصعوبات النظرية لا تزال تواجه هذه النظرية حتى الآن، وأولها طبيعة التضخم نفسه.
أما الطريقة الثانية في حل هذه المشكلة فأقل كلاسيكية واعتيادًا: ذلك أنها تقترح كونًا أقدم بكثير مما هو متنبأ به. فإذا لم يكن الزمن قد بدأ قبل الانفجار الكبير، وإذا كانت فترة طويلة قد سبقت بداية مرحلة التوسع الكوني الحالية، فإن ذلك يعني أن الكون كان قد نال وقته الكافي والطويل جدًا لكي يتجانس. يلغي مثل هذا السيناريو أيضًا الصعوبة التي تطرحها نقطة الفرادة التي تنبثق عندما نحاول تعميم النظرية النسبية أو مدها إلى أبعد من مجال تطبيقها. وفي الواقع، عند الاقتراب من الانفجار الكبير يكون المسيطر على المادة الآثار الكمومية وليس التفاعلات الجهارية التي تحكمها النسبية التي لا يعود لها أي تأثير بما في ذلك جاذبيتها. ولكي نكتشف ما الذي حصل فعلاً على الفيزيائيين أن يستعيضوا عن النظرية النسبية العامة بنظرية كمومية للجاذبية. وهذا ما عمل عليه الفيزيائيون منذ عهد أينشتين إنما دون أن يحققوا نجاحًا يذكر حتى منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
مواضيع مماثلة
» * تبؤات جوجل - غرائب الكون - مجرات الكون - العبقري جاسون - الصة .حون الطائر
» * نظرة عامة - نظرية الاوتار
» * نظرية الأوتار الفائقة
» * الفلك و استكشاف الفضاء - ممن تتكون المجموعة الشمسية
» * معلومات عن نشوء المجموعة الشمسية وكواكبها ونجومها واسرارها
» * نظرة عامة - نظرية الاوتار
» * نظرية الأوتار الفائقة
» * الفلك و استكشاف الفضاء - ممن تتكون المجموعة الشمسية
» * معلومات عن نشوء المجموعة الشمسية وكواكبها ونجومها واسرارها
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى