* تفسير سورة النور 4
صفحة 1 من اصل 1
* تفسير سورة النور 4
اعداد : طارق فتحي
فوائد عامة :
1- إثبات أن الله نور السماوات والأرض .
2- عظم نور الله في قلب المؤمن .
3- قال السعدي : ” ووجه هذا المثل الذي ضربه الله ، وتطبيقه على حالة المؤمن ، ونور الله في قلبه ، أن فطرته التي فطر عليها ، بمنزلة الزيت الصافي ، ففطرته صافية ، مستعدة للتعاليم الإلهية ، والعمل المشروع، فإذا وصل إليه العلم والإيمان، اشتغل ذلك النور في قلبه ، بمنزلة إشعال النار ، فتيلة ذلك المصباح ، وهو صافي القلب ، من سوء القصد ، وسوء الفهم عن الله ، إذا وصل إليه الإيمان اضاء إضاءة عظيمة ، لصفائه من الكدورات ، وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية ، فيجتمع له ، نور الفطرة ، ونور الإيمان ، ونور العلم ، وصفاء المعرفة ، نور على نور “ . ( تفسير السعدي : 517 ) .
4- استحباب طلب الهداية من الله عز وجل .
5- الحكمة من ضرب الأمثال .
6- عموم علم الله عز وجل في كل شيء .
ـــــــــــــــــــــــــ
قال تعالى : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) ) .
------------------------------------
( في بيوت أذن الله أن ترفع ) لما ضرب الله تعالى مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم ، بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقد من زيت طيب ، ذكر محلها وهي المساجد ، فقال تعالى :
( في بيوت ) أي المساجد ( أذن الله ) أي أمر وقضى ( أن ترفع ) والرفع قسمان :
- الرفع الحسي : وهو بناءها وعمارتها .
- الرفع المعنوي : وذلك يكون بأداء عبادة الله بها وصونها عما ينجسها حسياً أو معنوياً .
والمعنوي أهم وأعظم ، لأن الأصل أن المساجد بنيت لذلك .
ولهذا كان مسجد الرسول مبنياً بالجريد والنخل ، ومع ذلك كانت عمارته أعظم من اليوم ، وإن كانت عمارته الحسية اليوم أعظم من ذلك اليوم .
وقد جاء الحث على بناء المساجد :
عن عثمان قال : قال رسول الله : ( من بنى مسجداً لله بنى الله له مسجداً مثله ) . متفق عليه
( ويذكر فيها اسمه ) أي اسم الله ، من تلاوة للقرآن ، والتوحيد ، والصلاة ، والتسبيح ، والتكبير ، وطلب العلم .
( يسبح له فيها بالغدو والآصال ) اختلف في معنى ( يسبح ) :
فقيل : هو التسبيح المعروف ، وهو قول القائل : سبحان الله .
وقيل : إنه الصلاة ، وهذا الظاهر ، ويدخل فيه القول السابق .
لأن التسبيح يكون بالصلاة .
( بالغدو والآصال ) الغدو أول النهار ، والآصال آخر النهار .
وعلى القول أن المراد بالتسبيح الصلاة قالوا : هي صلاة الصبح والعصر .
وخص سبحانه هذين الوقتين لفضلهما وشرفهما كما دلت على ذلك السنة .
قال : ( من صلى البردين دخل الجنة ) .
وقال : ( لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ) .
( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) أي رجال لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم ، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم ، لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق .
قوله ( رجال ) مفهومه أن المرأة لا يلزمها صلاة الجماعة في المسجد .
وقد قال : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن ) .
قوله ( رجال ) وصفهم بالرجولة التي تدل على الثناء العظيم الكبير ، وليس المراد بالرجال أي ليسوا نساء ، بل المراد أنهم رجال عظماء ، أصحاب همم عالية وليسوا من الكسالى .
كما نقول : فلان رجل ، أي صاحب أمور طيبة وأخلاق عالية ، كالكرم والشجاعة وغيرها .
قوله ( رجال ) ينبغي على المسلم أن يجتهد أن يكون من أهل هذه الصفة ، بأن يحوز على المواصفات التي ذكرها في هؤلاء الرجال .
الإنسان يفرح بمدح إنسان مثله حين يقول عنه : ( إنك رجل ) فكيف لا يفرح بمدح الجبار العظيم العزيز ؟
( لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) قال بعض العلماء : إن المراد بالتجارة هنا الشراء ، بدليل مقابلتهما بالبيع ، لكن هذا القول ضعيف .
لأن الشراء مفهوم من البيع ، إذ لا يوجد بيع إلا بشراء .
فالراجح أن المراد بالتجارة عموم التجارة ، من بيع وشراء وانشغال بها وعدها وغير ذلك ، ويكون عطف البيع عليها من باب عطف الخاص على العام ، لأن البيع هو أكثر التجارة ، ولأن الإلتهـاء به أشد .
قوله ( لا تلهيهم تجارة ولا بيع ) فيه تحريم أن ينشغل الإنسان بالتجارة والبيع عن ذكر الله .
كما قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) .
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) .
قوله ( لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) لَمَ لَمْ يقل لا يبيعون ولا يشترون ؟
قال السعدي : ” فهؤلاء الرجال ، وإن اتجروا وباعوا واشتروا ، فإن ذلك لا محذور فيه ، لكنه لا تلهيهم تلك ، بأن يقدموها ويؤثروها على ذكر الله “ .
الجواب : أنهم مع كونهم يبيعون ويشترون ، لكن هذا البيع والشراء لا يلهيهم عن ذكر الله .
قوله ( عن ذكر الله ) قيل : المراد الصلاة ، لكن هذا ضعيف ، لأن الله عطف الصلاة على الذكر ، فقال : (لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) والأصل في العطف المغايرة .
والصواب أن تفسير الذكر هو العموم .
( وإقام الصلاة ) المراد بإقامة الصلاة أداؤها بإتمام أركانها وواجباتها وشروطها ، وبتدبر وحضور قلب وخشوع ، وليس مجرد فعلها ، لأن الله لم يقل ( ويفعلون الصلاة ، أو يأتون الصلاة ) .
- وهذه الصلاة بتدبر وخشوع هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، كما قال تعالى : (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) .
فإن الله علق حكم نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر بشرط إقامتها ، وليس فقط أداؤها [ والحكم المعلق بوصف يزيد بزيادته وينقص بنقصه ] فعلى قدر إقامة العبد لصلاته على قدر ما تؤثر فيه فتنهاه عن الفحشاء والمنكر ، وبهذا يزول الإشكال الذي يورده البعض : وهو أن كثيراً من المصلين لا تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر .
( وإيتاء الزكاة ) أي ويعطون الزكاة المفروضة .
والزكاة : مال مقدر شرعاً لطائفة مخصوصة .
قوله ( وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) كثيراً ما يقرن الله عز وجل بين الصلاة والزكاة :
وقيل : الصلاة رأس العبادات البدنية ، والزكاة رأس العبادات المالية .
وقيل : إن الصلاة حق الله وعبادته ، وهي مشتملة على توحيد الثناء عليه وتحميده ، والإنفاق هو من الإحسان إلى المخلوقين المتعدي إليهم ، وسعادة العبد دائرة بين الأمرين : إخلاصه لمعبوده ، وسعيه في نفع الخلق .
قوله ( وإقام الصلاة ) بعض سير السلف في الصلاة والمحافظة عليها .
عن نافع ( أن ابن عمر كان إذا فاتته العشاء في جماعـة أحيا ليلة ) .
وعن سعيد بن المسيب قال ( ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد ) .
وقال محمد بن واسع ( مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوم ماتت أمي ) .
( يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ) أي يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار ، أي من شدة الفزع وعظمة الأهوال .
تتقلب القلوب : معنى تقلب القلوب هو حركتها من أماكنها من شدة الخوف ، كما قال تعالى : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) .
وأما تقلب الأبصار : هو زيغوغتها ودورانها بالنظر في جميع الجهات من شدة الخوف ، كما قال تعالى : (فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) .
قوله ( يخافون يوماً ... ) ذكر تعالى أن من صفات هؤلاء الرجال الذين يسبحون له في المساجد بالغدو والآصال أنهم يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار لشدة هوله .
كما قال تعالى : (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ . أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ) .
وقال تعالى : (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ) .
وقال تعالى : (إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) أي شديد .
وقال تعالى : (يَخَافُونَ يَوْماً ...) .
كيفية النجاة من أهوال وشدائد يوم القيامة :
أولاً : إطعام الطعام لوجه الله .
كما قال تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً . إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً . فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ) .
ثانياً : إنظار المعسر .
قال : ( من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينظر عن معسر أو يضع عنه ) . رواه مسلم
قوله ( يخافون يوماً ... ) يجب على المسلم أن يحذر كل الحذر من يوم القيامة .
(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ) .
(يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) .
ويقول الرسل لأقوامهم : (إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) .
وقال نوح : (فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) .
يوم القيامة لو علمت بهوله لفررت من أهل ومن أوطان
قوله ( تتقلب فيه القلوب والأبصار ) من أهوال وأوصاف ذلك اليوم :
قوله : (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) أي جالسة على الركب .
وقال تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) .
وقال تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) .
وقال تعالى : (قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ) .
وقال تعالى : (يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) .
وقال تعالى (يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ) .
وقال تعالى : (كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) .
وقال تعالى : (يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً) .
( ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ) اللام لام التعليل متعلقة بمحذوف ، أي أنهم فعلوا ما فعلوا من الأعمال الصالحة لأجل الجزاء ، أي لأجل أن يجزيهم الله .
( ويزيدهم من فضله ) أي يتقبل منهم الحَسَن ويضاعفه لهم ، والمراد بالزيادة هنا مضاعفة الحسنات .
كما قال تعالى : (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) .
وقال تعالى : (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا) .
( يرزق من يشاء بغير حساب ) أي يعطي العطاء من شاء من خلقه عطاء واسعاً بدون حد ولا عد ، يقال : فلان ينفق بغير حساب ، أي يوسع كأنه لا يحسب ما ينفقه .
قوله ( بغير حساب ) المراد به ما جرت به عادة العرب من التعبير عن الكثرة ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) .
قوله ( بغير حساب ) يتضمن ما قبله من الوعد بالزيادة ، فإن عطاءه لا نهاية له فهو يعطيه من غير أن يحاسبه على ما أعطاه أو من غير أن يحتسب ما أعطاه .
قوله ( يخافون يوماً ... ) في هذه الآيات أثنى الله على المؤمنين الذين يفعلون الطاعات ويتقربون إلى الله سبحانه بها ، ومع هذا يخافون من عذابه ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ. أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) .
فهم يعملون ما يعملون من الطاعات والقربات وقلوبهم وجلة وخائفة تعظيماً لله عز وجل ، وخوفاً من عقابه .
فوائد عامة :
1- فضل المساجد .
وقد قال النبي : ( أفضل البقاع المساجد ) .
2- الأمر بعمارة المساجد العمارة المعنوية والحسية ، والمعنوية أهم .
3- فضل ذكر الله صباحاً ومساءً .
4- أن من صفات الرجال العظماء الذين أثنى الله عليهم :
أولاً : لا تلهيهم تجارتهم عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة .
ثانياً : أنهم يخافون ويشفقون من يوم القيامة .
5- ذم من أشغلته التجارة عن ذكر الله .
6- أن من أشغلته التجارة عن ذكر الله ليس من الرجال .
7- شدة أهوال يوم القيامة .
8- إثبات الجزاء .
9- بيان فضل الله وأنه يجزي ويضاعف للمحسنين .
10- أن الله هو الرزاق للعالمين .
قال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40) ) .
------------------------------------
( والذين كفروا ) بربهم وكذبوا برسله .
والكفر : هو عدم الإيمان بالله ورسوله ، وأعظمه جحد الوحدانية .
( أعمالهم ) المراد بالأعمال أعمال الخير التي يعملها الكفار في الدنيا يحسبون أنها تنفعهم في الآخرة ، كالصدقة والصلة والبر والإحسان إلى الآخرين .
( كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً ) السراب : ما يرى في الفلاة منبسطاً على وجه الأرض في وقت الظهيرة يسرب كأنه ماء يجري .
ويضرب المثل بالسراب للشيء الذي لا حقيقة له .
بقيعة : القيعة جمع قاع ، وهو المكان المطمئن من الأرض المنبسطة .
يحسبه : يظنه .
الظمآن : هو العطشان الشديد العطش الذي اشتدت حاجته إلى الماء .
مثل الله تعالى الكفار الذين يعملون بعض الأعمال التي يرجون نفعها عند الله ، فلم يجدوا ثواب ما عملوا عنده في الآخرة ، مع شدة طمعهم في ذلك، بعطشان اشتدَّ عطشه يرى السراب من بعيد فيظنه ماء فيطمع فيه، فإذا وصل عنده لم يجده شيئاً .
قوله ( الظمآن ) خص سبحانه الظمآن بالذكر مع أن غير الظمآن يراه لتحقيق التشبيه المبني على الطمع والحاجة في كل من المشبه والمشبه به ، فالكافر بحاجة إلى الأعمال الصالحة في الآخرة مثل احتياج الظمآن إلى الماء في الدنيا .
( حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ) الضمير في ( جاءه ) و ( لم يجده شيئاً ) يعود على الظمآن .
والضمير المنصوب يعود على السراب ، والمعنى : حتى إذا جاء الظمآن مكان السراب وموضعه لم يجده شيئاً نافعاً .
قال السعدي : ” كذلك أعمال الكفار بمنزلة السراب ، تُرى ويظنها الجاهل الذي لا يدري الأمور ، أعمالاً نافعة ، فتغيره صورتها وغلبة خيالها ، ويحسبها هو أيضاً أعمالاً نافعة لهواه ، وهو أيضاً محتاج إليها ، كاحتياج الظمآن للماء ، حتى إذا قدم على أعماله يوم الجزاء وجدها ضائعة ولم يجدها شيئاً “ .
( ووجد الله عنده فوفاه حسابه ) قال ابن الجوزي : ” قوله ( ووجد الله عنده ) أي قدم على الله ( فوفاه حسابه ) أي جازاه بعمله وأعطاه حسابه كاملاً موفوراً ، وهذا في الظاهر خبر عن الظمآن ، والمراد به الخبر عن الكافر .
قوله ( حتى إذا جاءه ) يدل على أن هناك شيئاً وقع على المجيء ، مع أنه قال : ( لم يجده شيئاً ) .
الجواب : أن المراد جاء موضعه الذي كان يظن أنه موجود فيه .
قال الشنقيطي : ” وجه ضرب المثل – أن كلاً منهما – العطشان الذي يرى السراب فيظنه ماءً ، والكافر الذي يعمل العمل قاصداً به التقرب إلى الله ، كلاهما محتاج إلى ما ظن وجوده ، فإذا جاء العطشان ما كان يظنه ماء فلم يجده شيئاً اشتد عطشه وخابت آماله ، وإذا جاء الكافر يوم القيامة مؤملاً أن يجازى خيراً على ما عمل لم يجد ذلك ، بل يجد أن الله له بالمرصاد فيجازيه على عمله السيء فتزداد حسرته “ .
( والله سريع الحساب ) في معنى سرعة الحساب قولان :
قيل : معناه قرب مجيئه .
وقيل : أن حسابه سبحانه لعباده لا يحتاج إلى فكر وروية ووقت مثل ما يفعل المخلوق .
( أو ) قيل : أو هنا للتخيير ، وقيل : للتقسيم والتوزيع ، وهذا أصح [ وسيأتي شرحها بعد قليل إن شاء الله ] .
( كظلمات ) أي مثلهم كظلمات ، أي كذي ظلمات .
( في بحر لجي ) البحر اللجي : هو العميق الذي لا يدرك قعره ، أي كظلمات في بحر عميق لا يدرك قعره .
( يغشاه موج ) أي يعلوه ويغطيه .
والغشاء : ما يغطى به الشيء .
والموج : ما ارتفع من الماء فوق الماء .
( من فوقه موج ) أي أن الموج الأول فوقه موج ثانٍ ، والموج الثاني فوقه سحاب .
( من فوقه سحاب ) أي فوق الموج الثاني سحاب .
( ظلمات بعضها فوق بعض ) أي ما تقدم ظلمات بعضها فوق بعض .
قال السعدي : ” ظلمات البحر اللجي ، ثم فوقه ظلمة الأمواج المتراكمة ، ثم فوق ذلك ظلمة السحب المدلهمة ، ثم فوق ذلك ظلمة الليل البهيم “ .
فاشتدت الظلمة جداً ، بحيث أن الكائن في تلك الحال :
( إذا أخرج يده لم يكد يراها ) أي إذا أخرج ذلك الإنسان الواقع في تلك الظلمات يده لم يقارب رؤيتها وهي أقرب شيء إليه ، مما يدل على شدة الظلمة .
فقوله ( لم يكد ) قيل : معناه لم يرها لشدة الظلمة . وقيل : رآها لكن بمشقة ، أي أنه يراها بعد جهد ومشقة ، وإذا كانت يد الإنسان وهي أقرب شيء إليه لا يراها إلا بعد جهد ومشقة ، فهذا فيه دلالة على شدة الظلمة ، وهذا أرجح .
ويرجحه قوله تعالى : (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ) أي أنهم فعلوا بعد أن كادوا ألا يفعلوا .
( ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور ) أي من لم يهده الله فهو هالك جاهل حائل كافر .
كما قال تعالى : (مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ) .
وقال تعالى : (وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) .
مفهومه أن من أراد الله أن يعطيه نوراً فلن يستطيع أحد أن يحجبه عنه .
اختلف العلماء في المثالين الماضيين :
فبعض العلماء : يرى أن الآية الأولى فيها تشبيه لأعمال الكفار في الآخرة ، حيث شبه سبحانه أعمالهم في اضمحلالها بالسراب ، والآية الثاني فيها تشبيه لأعمالهم في الدنيا ، حيث شبه أعمالهم في ارتباكها وضلالها بهذه الظلمات .
وذهب بعض العلماء : إلى أن الآية الأولى مثال للجاهل المركب ، والآية الثاني للجاهل البسيط .
وهذا رأي ابن تيمية وابن القيم ، ورجحه ابن كثير ، وهذا الصحيح .
قال ابن كثير : ” هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار .......... فأما الأول من هذين المثلين ، فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات ، وليسوا في نفس الأمر على شيء ، فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض من بُعد كأنه بحر طام .... ثم ذكر بقية المثل وشرحه وقال : وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركب ، وأما أصحاب الجهل البسيط وهم الطماطم الأغشام المقلدون لأئمة الكفر والصم البكم الذين لا يعقلون فمثلهم كما قال تعالى : أو كظلمات في بحر ... ثم ذكر بقية المثل الثاني ...... ثم قال : فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط ، المقلد الذي لا يعرف حال من يقوده ، ولا يدري أين يذهب ، بل كما يقال في المثل للجاهل أين تذهب ؟ قال : معهم ، قيل : فإلى أين يذهبون ؟ قال : لا أدري “ . ( تفسير ابن كثير : 3 / 263 ) .
فوائد عامة :
1- أن الكافر أعماله مردودة عليه .
2- أن من شروط قبول العمل الإيمان .
3- أن الكافر يتحسر على أعماله التي عملها بالدنيا حيث لم تنفعه يوم القيامة لكفره .
4- ضرب الله الأمثال لتوضيح الأحوال وتقريبها .
5- التحذير من الكفر .
6- أن من لم يهده الله فلن يهتدي .
7- طلب الهداية من الله .
8- أن من أعطاه الله النور فلن يستطيع أحد أن يسلبه منه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
قال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (46) ) .
------------------------------------
يخبر تعالى أنه ( يسبح له من في السموات والأرض ) أي من الملائكة والأناس والجان والحيوان حتى الجماد ( والطير صافات ) أي في حال طيرانها تسبح ربها وتعبده تسبيح ألهمها وأرشدها إليه .
فجميع ما في الكون يسبح لله تعالى ، ويدل لذلك أدلة :
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ) .
وقال تعالى : (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ) .
وقال تعالى : (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) .
وقال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) . أوبي : أي سبحي .
قوله ( يسبح له ) اختلف العلماء في حقيقة التسبيح على أقوال :
قيل : تسبيح حقيقي لكن لا نعلم كيفيته . وهذا هو الصحيح .
لقوله تعالى : (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ) .
وقيل : تسبيح العقلاء نطقهم ، وتسبيح غير العقلاء دلالتها على صانعها .
والراجح الأول .
ومما يدل على أن غير المخلوقات من الجمادات لها إدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه :
قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ) فأثبت الخشية للحجارة .
وقال تعالى : (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) .
وقوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا) والإباء والإشفاق إنما يكونان بإدراك .
وقال : ( إني لأعرف حجراً كان يسلّم علي قبل البعثة ) . رواه مسلم
قوله ( يسبح لله ) التسبيح هو تنزيه الله عن النقائص والعيوب ومشابهة المخلوقين .
( والطير صافات ) عطف الله الضمير على ما تقدم وأفرده بالذكر لاختصاصه بهذه الصفة العجيبة التي خالف فيها سائر المخلوقات وهي الطيران ، وذكر تسبيحه في أعجب أحواله وهي كونه باسطاً جناحيه في الهواء ، وهذا معنى ( صافات ) أي باسطة أجنحتها للطيران .
( كل قد علم صلاته وتسبيحه ) اختلف العلماء في الضمير ( قد علم ) على ما يعود :
فقيل : أي كل من المسبحين قد علم تسبيح نفسه ، وكل من المصلين قد علم صلاة نفسه .
وهذا القول هو الصحيح .
أي أن الله تعالى ألهم هذه الأشياء حتى عرفت كيف تسبح وكيف تصلي .
ولذلك قال ابن كثير في تفسيرها : ” أي كل قد أرشده الله إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عز وجل “ .
وقيل : إن الضمير يعود على الله ، أي كل قد علم الله صلاته وتسبيحه .
والراجح الأول .
( والله عليم بما يفعلون ) يخبر تعالى أنه عالم بجميع ذلك ، لا يخفى عليه من ذلك شيء .
( ولله ملك السموات والأرض ) يخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض ، فهو الحاكم المتصرف الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له ولا معقب لحكمه .
أما ما ورد في أن الإنسان يملك ، كقوله تعالى : ( أو ما ملكت أيمانكم ) فهذا ملك محدود مقيد .
( وإلى الله المصير ) أي يوم القيامة ، فيحكم فيه بما شاء .
قوله ( إليه المصير ) فيه تنبيه أنه سبحانه مالك للأول والآخر .
قوله ( المصير ) إذا كان الملك لله والمرجع إليه ، فلا يحل لنا أن نتصرف فيه إلا حسب ما شرع لنا .
قوله ( إليه المصير ) مهما فعل الإنسان فمرجعه إلى الله .
كقوله تعالى : (وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ) ، وقوله : (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) .
( ألم تر ) الخطاب لكل من يصح خطابه ، وهذه رؤية علمية بصرية .
( أن الله يزجي سحاباً ) أي يسوقه .
والسحاب جمع سحابة ، وهي الغيم الذي ينزل منه المطر .
( ثم يؤلف بينه ) أي يجمعه بعد تفرقه .
( ثم يجعله ركاماً ) أي متراكماً ، أي يركب بعضه بعضاً .
( فترى الودق ) المطر .
( يخرج من خلاله ) أي خلله .
( وينزل من السماء من جبال فيها من برد ) اختلف العلماء في المراد بالجبال :
فقيل : المراد بالجبال : السحب التي تشبه الجبال في شكلها ، أي من سحب كالجبال .
وقيل : جبال حقيقية من برد خلقها الله في السماء .
ويكون المعنى : ينزل من جبال في السماء .
فالمعنى أن في السماء جبال من البرد ، ينزل منها هذا البرد .
( فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء ) أي فيصيب الله بهذا البرد من يشاء من عباده عقوبة لهم ، لأن البرد غالباً يفسد الزرع والثمار ، ويصرفه عمن يشاء رحمة بهم .
وهذا هو الصحيح ، ويؤيده أن الإصابة إذا أطلقت تكون في المكروه .
والقول الثاني : يصيب به من يشاء رحمة بهم ، ويصرفه عمن يشاء عقوبة لهم ، فيحصل لهم الجدب .
والأول أصح .
( يكاد سنا برقه ) أي يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا تبعته .
السنا : الضوء .
( يقلب الله الليل والنهار ) أي يتصرف فيهما فيأخذ من طول هذا في قصر هذا حتى يعتدلا ، ثم يأخذ من هذا في هذا فيطول الذي كان قصيراً ويقصر الذي كان طويلاً .
ويدخل في ذلك تقليبهما بما يودعه الله فيهما من خير وشر ، وضر ، وغنى ، وفقر ، وصحة ، ومرض ، وما إلى ذلك مما يدخل في مفهوم قوله تعالى : (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) .
( إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) أي أن ذلك المذكور من تسبيح من في السموات والأرض والطير له سبحانه ، وإزجاء السحاب وجعل فيه خللاً ينزل منه المطر ، وإنزال البرد من الجبال ، وإصابة من شاء بذلك ، وصرفه عمن شاء .
كل ذلك فيه عبرة لأولي الأبصار ، أي لأصحاب الأبصار ، أصحاب البصائر المستنيرة .
العبرة : الدلالة الواضحة التي يكون بها الاعتبار .
البصائر : جمع بصيرة . وقيل : المراد بالأبصار جمع بصر ، أي أن في ذلك لدلالة واضحة لمن يتمتعون بحاسة البصر .
قوله ( لأولي الأبصار ) فيه أن من لم يتخذ ذلك عبرة ، فإنه ليس من ذوي البصائر .
( والله خلق كل دابة من ماء ) أي أن الله أوجد كل دابة من ماء ، فالخلق بمعنى الإيجاد .
الدابة : كل ما يدب على الأرض .
اختلف العلماء في قوله ( من ماء ) :
فقيل : المراد بذلك النطفة التي هي المني .
كما قال تعالى عن الإنسان : (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ . خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ) .
ويكون هذا من العام المخصوص ، وهو كثير ، كقوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ) أي كل شيء صالح للملك .
فيكون المراد الدابة التي من شأنها التناسل ، يعرف الله تعالى خلقه بأنه أوجدهم من هذه النطفة المهينة التي ليست شيئاً يذكر.
وقلنا هذا من العام المخصوص ، لأن الملائكة خلقوا من نور ، والجن خلقوا من نار .
وقيل : المراد الماء المعروف ، لأنه يدخل في تركيب كل حي .
كما قال تعالى : (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) . والأول أرجح .
( منهم ) أي من الذين يدبون على الأرض المعبر عنهم بدابة .
( من يمشي على بطنه ) كالحيات والديدان .
لماذا سمى الله السحف على البطن مشياً ؟
قال بعض العلماء : إن المشي لا يختص بمن يسير على آلة مشي ، بل إنه يشمله ويشمل غيره ، حتى إنه قد يطلق على الأشياء المعنوية ، كما يقال : مش الأمر .
( ومنهم من يمشي على رجلين ) مثل الإنسان والطير .
( ومنهم من يمشي على أربع ) كالبعير والشاة .
سؤال : بعض الحيوانات تمشي على أكثر من أربع ، فلم تذكر ؟
الجواب : أن الآية ذكرت أمثلة شهيرة ولم تحصر ، فالآية ليست للحصر ، فهو من باب الاختصار لا الحصر .
( يخلق الله ما يشاء ) أي يخلق تعالى بقدرته ما يشاء من المخلوقات .
( إن الله على كل شيء قدير ) أي لا يعجزه شيء ، ولا يمنعه مانع ، ولا يدفعه دافع .
قال تعالى : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً) .
قول بعضهم : إنه على ما يشاء قدير ، غلط .
لأنك إذا قيدت القدرة بالمشيئة صار فيه قصور ، مع أن الله قادر على ما يشاء وعلى ما لا يشاء ، لكن ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن .
وأما قوله تعالى : (وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ) فالمشيئة هنا ليست قيداً بالقدرة ، وإنما قيد بالجمع ، يعني إذا شاء هذا الفعل فليس بعاجز عنه ، ولهذا ذكرها تعالى رداً على من أنكر البعث .
( لقد أنزلنا آيات مبينات ) تقدم شرحها .
( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) سبقت أنواع الهداية ، والمراد هنا هداية التوفيق .
فوائد عامة :
1- أن جميع المخلوقات تسبح لله .
2- عظمة الله عز وجل .
3- عموم علم الله عز وجل بكل ما نفعله .
4- عموم ملك الله عز وجل .
5- أن ملك الله في الدنيا والآخرة .
6- أن المرجع إلى الله .
7- تحذير العصاة ، حيث أن المرجع إلى الله .
8- عظمة الله في كيفية إنشاء السحاب وإنزال المطر .
9- حكمة الله عز وجل في إنزال البرد على من يشاء وصرفه عمن يشاء .
10- حكمة الله العظيمة في تقليب الليل والنهار .
11- أن من يعتبر ويتأمل في مخلوقات الله ويعتبر بها فهو من أصحاب القلوب الحية .
12- أن الله خالق كل شيء .
13- حكمة الله عز وجل في خلق الناس على أشكال وهيئات متنوعة .
14- عموم قدرة الله .
15- أن الهداية بيد الله .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قال تعالى : ( وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) ) .
------------------------------------
( ويقولون ) أي المنافقون .
( آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ) أي بألسنتهم .
والإيمان : قال بعضهم : هو التصديق ، وهذا فيه قصور ، والصحيح أنه التصديق مع الإذعان والقبول .
قوله ( بالله ) يشمل التوحيد والتدبير .
قوله ( وأطعنا ) هذا الانقياد .
الطاعة : موافقة الأمر ( لا تخرج عمن أمرك ولا تخالفه ) .
( ثم يتولى فريق منهم ) أي ثم يعرض جماعة منهم عن قبول حكمه والعمل بالإسلام .
التولي يكون بالجسم والإعراض يكون بالقلب ، والمراد هنا تولى بجسمه وبقلبه .
( وما أولئك بالمؤمنين ) المعنى : أن من يعرض عن العمل والتطبيق ليس مؤمناً إيماناً شرعياً ، فإن الإيمان الشرعي لا بد فيه من القول والعمل والاعتقاد ، فمجرد القول وحده لا يكفي في إثبات الإيمان الشرعي .
( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ) أي إذا طلبوا إلى اتباع الهدى بما أنزل الله على رسوله أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه .
كما قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ...رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً ) .
قوله ( ليحكم بينهم ) أي لحضور مجلس الرسول ( وهذا في حياته ) وإلى شرعه بعد وفاته .
( إذا فريق منهم معرضون ) أي استنكفوا وأعرضوا عن الحضور إلى مجلس الرسول ( وهذا في حياته ) ، وإلى شرعه بعد وفاته .
الإعراض الصدود والتولي .
( وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ) أي وإن كانت الحكومة لهم لا عليهم ، جاءوا سابقين مطيعين .
مذعنين : أي منقادين مطيعين ، قال الزجاج : ” الإذعان الإسراع مع الطاعة “ .
فهم يأتون للتحاكم إلى الرسول إذا كان لهم الحق وأسرعوا ، وهذا لأنهم ينالون بحكمه حقهم ، فطاعتهم له ليست تبعاً لعقيدة وإيمان صادق ، وإنما هي تبع أغراضهم الشخصية .
( أفي قلوبهم مرض ) الهمزة في قوله ( أفي قلوبهم ) للاستفهام الإنكاري الذي يقصد منه التقريع والتوبيخ .
والمرض : خروج جسم الإنسان عن حد الاعتدال .
والمراد بالمرض هنا الإرادة السيئة التي تصرفهم عن التحاكم .
وقال البعض : هو مرض النفاق والشك .
( أم ارتابوا ) الريب الشك ، وهذا مرض الشبهة ، وهذا دليل على أن سبب الانحراف هو : إما شهوة ، وإما شبهة .
( أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ) أي يخافون أن يظلمهم رسول الله في الحكم .
( بل أولئك هم الظالمون ) بل : تكون للإضراب .
- ابطالي : وهو إبطال ما سبق ، كما تقول : اضرب زيداً بل عمراً .
- انتقالي : وهو الانتقال من كلام سابق إلى كلام جديد مع بقاء حكم الكلام الأول .
وقد اختلف العلماء فيها هنا :
فقيل : الإضراب إبطالي .
والراجح أن الإضراب في الآية انتقالي ، فإن الله سبحانه لما عدد هذه الأمور التي هي : المرض في قلوبهم ، والشك ، والخوف من الجور في الحكم ، وهي أسباب واضحة لتعليل عدم تحاكمهم إلى الرسول هم أو غيرهم ، انتقل بعد ذلك إلى بيان السبب الحقيقي وهو كونهم ظالمين .
وهناك قول آخر : وهو أن ( بل ) للإبطال ، وأنه يعود إلى الثاني والثالث .
أي أن هذا العمل الذي انتهجوه ليس لشك في نبوة محمد ، ولا في صحة حكمه ، ولا لخوف من الجور في الحكم بل لظلمهم ومرض في قلوبهم .
وهو قول قوي .
والظلم وضع الشيء في غير موضعه .
ويطلق على الشرك والكفر .
كقوله تعالى : (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) .
وكقوله : (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .
ويطلق على عموم المعاصي .
كقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ ...) ز
( إنما كان قول المؤمنون إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا ) لما ذكر تعالى صفة المنافقين وأنهم يعرضون عن التحاكم إلى الكتاب والسنة ، أخبر تعالى عن صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله الذين لا يبغون ديناً سوى كتاب الله ورسوله وأنهم إذا دعوا للكتاب والسنة قالوا سمعنا وأطعنا .
سمعنا : أي بآذاننا .
وأطعنا : بجوارحنا .
فهم يسمعون ويطيعون .
الطاعة فعل الأوامر وترك النواهي .
عكس المنافقين قالوا سمعنا ولم ينقادوا .
( وأولئك هم المفلحون ) الفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب .
قال الطبري : ” ولم يقصد به الخبر ، ولكنه تأنيب من الله للمنافقين ، وتأديب منه للآخرين “ . ( تفسير الطبري : 3 / 18 / 187 ) .
فوائد عامة :
1- ذم المنافقين ، حيث يقولون بألسنتهم ولا يفعلون .
2- خطر المنافقين .
3- التحذير من التشبه بالمنافقين من أن الإنسان يقول ولا يفعل .
4- أن المنافق ليس بمؤمن .
5- أن الإعراض إلى التحاكم إلى الكتاب والسنة من صفات المنافقين .
6- أن مرض المنافقين في قلوبهم .
7- يجب على المؤمن الاستجابة إذا دعي إلى الله ورسوله .
8- أن الإيمان قول وفعل .
9- أن من علامات الفلاح الاستجابة لله ورسوله قولاً وفعلاً .
قال تعالى : ( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) ) .
------------------------------------
( ومن يطع الله ورسوله ) فيصدق خبرهما ، ويتمثل أمرهما .
( ويخش الله ) أي ويخافه خوفاً مقروناً بمعرفة .
الخشية : هي الخوف مع إجلال .
( ويتقه ) التقوى فعل المأمورات وترك المنهيات .
( فأولئك ) الذين جمعوا بين طاعة الله ورسوله ، وخشية الله وتقواه .
( هم الفائزون ) بدخولهم الجنان ، ونجاتهم من النيران ، كما قال تعالى : (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) .
الفوز : هو الظفر بالخير مع حصول السلامة .
قوله ( ومن يطع الله ورسوله ) فضل طاعة الله ورسوله ، ولها فضائل :
أولاً : سبب للرحمة .
قال تعالى : (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) .
ثانياً : مع الذين أنعم الله عليهم .
قال تعالى : (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ) .
ثالثاً : سبب للحياة الحقيقية .
قال تعالى : (اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) .
رابعاً : سبب للهداية .
قال تعالى : (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) .
قوله ( ويخش الله ) فضل خوف الله وخشيته ، ومن فضائله :
أولاً : سبب لدخول الجنة .
قال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) .
ثالثاً : جنتان .
قال تعالى : (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) .
ثالثاً : من صفات المؤمنين .
قال تعالى : (وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) .
رابعاً : سبب لإظلال الله يوم القيامة .
قال : ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ) .
المصدر : الشيخ اللهيميد
فوائد عامة :
1- إثبات أن الله نور السماوات والأرض .
2- عظم نور الله في قلب المؤمن .
3- قال السعدي : ” ووجه هذا المثل الذي ضربه الله ، وتطبيقه على حالة المؤمن ، ونور الله في قلبه ، أن فطرته التي فطر عليها ، بمنزلة الزيت الصافي ، ففطرته صافية ، مستعدة للتعاليم الإلهية ، والعمل المشروع، فإذا وصل إليه العلم والإيمان، اشتغل ذلك النور في قلبه ، بمنزلة إشعال النار ، فتيلة ذلك المصباح ، وهو صافي القلب ، من سوء القصد ، وسوء الفهم عن الله ، إذا وصل إليه الإيمان اضاء إضاءة عظيمة ، لصفائه من الكدورات ، وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية ، فيجتمع له ، نور الفطرة ، ونور الإيمان ، ونور العلم ، وصفاء المعرفة ، نور على نور “ . ( تفسير السعدي : 517 ) .
4- استحباب طلب الهداية من الله عز وجل .
5- الحكمة من ضرب الأمثال .
6- عموم علم الله عز وجل في كل شيء .
ـــــــــــــــــــــــــ
قال تعالى : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) ) .
------------------------------------
( في بيوت أذن الله أن ترفع ) لما ضرب الله تعالى مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم ، بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقد من زيت طيب ، ذكر محلها وهي المساجد ، فقال تعالى :
( في بيوت ) أي المساجد ( أذن الله ) أي أمر وقضى ( أن ترفع ) والرفع قسمان :
- الرفع الحسي : وهو بناءها وعمارتها .
- الرفع المعنوي : وذلك يكون بأداء عبادة الله بها وصونها عما ينجسها حسياً أو معنوياً .
والمعنوي أهم وأعظم ، لأن الأصل أن المساجد بنيت لذلك .
ولهذا كان مسجد الرسول مبنياً بالجريد والنخل ، ومع ذلك كانت عمارته أعظم من اليوم ، وإن كانت عمارته الحسية اليوم أعظم من ذلك اليوم .
وقد جاء الحث على بناء المساجد :
عن عثمان قال : قال رسول الله : ( من بنى مسجداً لله بنى الله له مسجداً مثله ) . متفق عليه
( ويذكر فيها اسمه ) أي اسم الله ، من تلاوة للقرآن ، والتوحيد ، والصلاة ، والتسبيح ، والتكبير ، وطلب العلم .
( يسبح له فيها بالغدو والآصال ) اختلف في معنى ( يسبح ) :
فقيل : هو التسبيح المعروف ، وهو قول القائل : سبحان الله .
وقيل : إنه الصلاة ، وهذا الظاهر ، ويدخل فيه القول السابق .
لأن التسبيح يكون بالصلاة .
( بالغدو والآصال ) الغدو أول النهار ، والآصال آخر النهار .
وعلى القول أن المراد بالتسبيح الصلاة قالوا : هي صلاة الصبح والعصر .
وخص سبحانه هذين الوقتين لفضلهما وشرفهما كما دلت على ذلك السنة .
قال : ( من صلى البردين دخل الجنة ) .
وقال : ( لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ) .
( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) أي رجال لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم ، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم ، لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق .
قوله ( رجال ) مفهومه أن المرأة لا يلزمها صلاة الجماعة في المسجد .
وقد قال : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن ) .
قوله ( رجال ) وصفهم بالرجولة التي تدل على الثناء العظيم الكبير ، وليس المراد بالرجال أي ليسوا نساء ، بل المراد أنهم رجال عظماء ، أصحاب همم عالية وليسوا من الكسالى .
كما نقول : فلان رجل ، أي صاحب أمور طيبة وأخلاق عالية ، كالكرم والشجاعة وغيرها .
قوله ( رجال ) ينبغي على المسلم أن يجتهد أن يكون من أهل هذه الصفة ، بأن يحوز على المواصفات التي ذكرها في هؤلاء الرجال .
الإنسان يفرح بمدح إنسان مثله حين يقول عنه : ( إنك رجل ) فكيف لا يفرح بمدح الجبار العظيم العزيز ؟
( لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) قال بعض العلماء : إن المراد بالتجارة هنا الشراء ، بدليل مقابلتهما بالبيع ، لكن هذا القول ضعيف .
لأن الشراء مفهوم من البيع ، إذ لا يوجد بيع إلا بشراء .
فالراجح أن المراد بالتجارة عموم التجارة ، من بيع وشراء وانشغال بها وعدها وغير ذلك ، ويكون عطف البيع عليها من باب عطف الخاص على العام ، لأن البيع هو أكثر التجارة ، ولأن الإلتهـاء به أشد .
قوله ( لا تلهيهم تجارة ولا بيع ) فيه تحريم أن ينشغل الإنسان بالتجارة والبيع عن ذكر الله .
كما قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) .
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) .
قوله ( لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) لَمَ لَمْ يقل لا يبيعون ولا يشترون ؟
قال السعدي : ” فهؤلاء الرجال ، وإن اتجروا وباعوا واشتروا ، فإن ذلك لا محذور فيه ، لكنه لا تلهيهم تلك ، بأن يقدموها ويؤثروها على ذكر الله “ .
الجواب : أنهم مع كونهم يبيعون ويشترون ، لكن هذا البيع والشراء لا يلهيهم عن ذكر الله .
قوله ( عن ذكر الله ) قيل : المراد الصلاة ، لكن هذا ضعيف ، لأن الله عطف الصلاة على الذكر ، فقال : (لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) والأصل في العطف المغايرة .
والصواب أن تفسير الذكر هو العموم .
( وإقام الصلاة ) المراد بإقامة الصلاة أداؤها بإتمام أركانها وواجباتها وشروطها ، وبتدبر وحضور قلب وخشوع ، وليس مجرد فعلها ، لأن الله لم يقل ( ويفعلون الصلاة ، أو يأتون الصلاة ) .
- وهذه الصلاة بتدبر وخشوع هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، كما قال تعالى : (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) .
فإن الله علق حكم نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر بشرط إقامتها ، وليس فقط أداؤها [ والحكم المعلق بوصف يزيد بزيادته وينقص بنقصه ] فعلى قدر إقامة العبد لصلاته على قدر ما تؤثر فيه فتنهاه عن الفحشاء والمنكر ، وبهذا يزول الإشكال الذي يورده البعض : وهو أن كثيراً من المصلين لا تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر .
( وإيتاء الزكاة ) أي ويعطون الزكاة المفروضة .
والزكاة : مال مقدر شرعاً لطائفة مخصوصة .
قوله ( وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) كثيراً ما يقرن الله عز وجل بين الصلاة والزكاة :
وقيل : الصلاة رأس العبادات البدنية ، والزكاة رأس العبادات المالية .
وقيل : إن الصلاة حق الله وعبادته ، وهي مشتملة على توحيد الثناء عليه وتحميده ، والإنفاق هو من الإحسان إلى المخلوقين المتعدي إليهم ، وسعادة العبد دائرة بين الأمرين : إخلاصه لمعبوده ، وسعيه في نفع الخلق .
قوله ( وإقام الصلاة ) بعض سير السلف في الصلاة والمحافظة عليها .
عن نافع ( أن ابن عمر كان إذا فاتته العشاء في جماعـة أحيا ليلة ) .
وعن سعيد بن المسيب قال ( ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد ) .
وقال محمد بن واسع ( مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوم ماتت أمي ) .
( يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ) أي يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار ، أي من شدة الفزع وعظمة الأهوال .
تتقلب القلوب : معنى تقلب القلوب هو حركتها من أماكنها من شدة الخوف ، كما قال تعالى : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) .
وأما تقلب الأبصار : هو زيغوغتها ودورانها بالنظر في جميع الجهات من شدة الخوف ، كما قال تعالى : (فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) .
قوله ( يخافون يوماً ... ) ذكر تعالى أن من صفات هؤلاء الرجال الذين يسبحون له في المساجد بالغدو والآصال أنهم يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار لشدة هوله .
كما قال تعالى : (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ . أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ) .
وقال تعالى : (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ) .
وقال تعالى : (إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) أي شديد .
وقال تعالى : (يَخَافُونَ يَوْماً ...) .
كيفية النجاة من أهوال وشدائد يوم القيامة :
أولاً : إطعام الطعام لوجه الله .
كما قال تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً . إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً . فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ) .
ثانياً : إنظار المعسر .
قال : ( من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينظر عن معسر أو يضع عنه ) . رواه مسلم
قوله ( يخافون يوماً ... ) يجب على المسلم أن يحذر كل الحذر من يوم القيامة .
(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ) .
(يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) .
ويقول الرسل لأقوامهم : (إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) .
وقال نوح : (فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) .
يوم القيامة لو علمت بهوله لفررت من أهل ومن أوطان
قوله ( تتقلب فيه القلوب والأبصار ) من أهوال وأوصاف ذلك اليوم :
قوله : (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) أي جالسة على الركب .
وقال تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) .
وقال تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) .
وقال تعالى : (قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ) .
وقال تعالى : (يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) .
وقال تعالى (يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ) .
وقال تعالى : (كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) .
وقال تعالى : (يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً) .
( ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ) اللام لام التعليل متعلقة بمحذوف ، أي أنهم فعلوا ما فعلوا من الأعمال الصالحة لأجل الجزاء ، أي لأجل أن يجزيهم الله .
( ويزيدهم من فضله ) أي يتقبل منهم الحَسَن ويضاعفه لهم ، والمراد بالزيادة هنا مضاعفة الحسنات .
كما قال تعالى : (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) .
وقال تعالى : (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا) .
( يرزق من يشاء بغير حساب ) أي يعطي العطاء من شاء من خلقه عطاء واسعاً بدون حد ولا عد ، يقال : فلان ينفق بغير حساب ، أي يوسع كأنه لا يحسب ما ينفقه .
قوله ( بغير حساب ) المراد به ما جرت به عادة العرب من التعبير عن الكثرة ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) .
قوله ( بغير حساب ) يتضمن ما قبله من الوعد بالزيادة ، فإن عطاءه لا نهاية له فهو يعطيه من غير أن يحاسبه على ما أعطاه أو من غير أن يحتسب ما أعطاه .
قوله ( يخافون يوماً ... ) في هذه الآيات أثنى الله على المؤمنين الذين يفعلون الطاعات ويتقربون إلى الله سبحانه بها ، ومع هذا يخافون من عذابه ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ. أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) .
فهم يعملون ما يعملون من الطاعات والقربات وقلوبهم وجلة وخائفة تعظيماً لله عز وجل ، وخوفاً من عقابه .
فوائد عامة :
1- فضل المساجد .
وقد قال النبي : ( أفضل البقاع المساجد ) .
2- الأمر بعمارة المساجد العمارة المعنوية والحسية ، والمعنوية أهم .
3- فضل ذكر الله صباحاً ومساءً .
4- أن من صفات الرجال العظماء الذين أثنى الله عليهم :
أولاً : لا تلهيهم تجارتهم عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة .
ثانياً : أنهم يخافون ويشفقون من يوم القيامة .
5- ذم من أشغلته التجارة عن ذكر الله .
6- أن من أشغلته التجارة عن ذكر الله ليس من الرجال .
7- شدة أهوال يوم القيامة .
8- إثبات الجزاء .
9- بيان فضل الله وأنه يجزي ويضاعف للمحسنين .
10- أن الله هو الرزاق للعالمين .
قال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40) ) .
------------------------------------
( والذين كفروا ) بربهم وكذبوا برسله .
والكفر : هو عدم الإيمان بالله ورسوله ، وأعظمه جحد الوحدانية .
( أعمالهم ) المراد بالأعمال أعمال الخير التي يعملها الكفار في الدنيا يحسبون أنها تنفعهم في الآخرة ، كالصدقة والصلة والبر والإحسان إلى الآخرين .
( كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً ) السراب : ما يرى في الفلاة منبسطاً على وجه الأرض في وقت الظهيرة يسرب كأنه ماء يجري .
ويضرب المثل بالسراب للشيء الذي لا حقيقة له .
بقيعة : القيعة جمع قاع ، وهو المكان المطمئن من الأرض المنبسطة .
يحسبه : يظنه .
الظمآن : هو العطشان الشديد العطش الذي اشتدت حاجته إلى الماء .
مثل الله تعالى الكفار الذين يعملون بعض الأعمال التي يرجون نفعها عند الله ، فلم يجدوا ثواب ما عملوا عنده في الآخرة ، مع شدة طمعهم في ذلك، بعطشان اشتدَّ عطشه يرى السراب من بعيد فيظنه ماء فيطمع فيه، فإذا وصل عنده لم يجده شيئاً .
قوله ( الظمآن ) خص سبحانه الظمآن بالذكر مع أن غير الظمآن يراه لتحقيق التشبيه المبني على الطمع والحاجة في كل من المشبه والمشبه به ، فالكافر بحاجة إلى الأعمال الصالحة في الآخرة مثل احتياج الظمآن إلى الماء في الدنيا .
( حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ) الضمير في ( جاءه ) و ( لم يجده شيئاً ) يعود على الظمآن .
والضمير المنصوب يعود على السراب ، والمعنى : حتى إذا جاء الظمآن مكان السراب وموضعه لم يجده شيئاً نافعاً .
قال السعدي : ” كذلك أعمال الكفار بمنزلة السراب ، تُرى ويظنها الجاهل الذي لا يدري الأمور ، أعمالاً نافعة ، فتغيره صورتها وغلبة خيالها ، ويحسبها هو أيضاً أعمالاً نافعة لهواه ، وهو أيضاً محتاج إليها ، كاحتياج الظمآن للماء ، حتى إذا قدم على أعماله يوم الجزاء وجدها ضائعة ولم يجدها شيئاً “ .
( ووجد الله عنده فوفاه حسابه ) قال ابن الجوزي : ” قوله ( ووجد الله عنده ) أي قدم على الله ( فوفاه حسابه ) أي جازاه بعمله وأعطاه حسابه كاملاً موفوراً ، وهذا في الظاهر خبر عن الظمآن ، والمراد به الخبر عن الكافر .
قوله ( حتى إذا جاءه ) يدل على أن هناك شيئاً وقع على المجيء ، مع أنه قال : ( لم يجده شيئاً ) .
الجواب : أن المراد جاء موضعه الذي كان يظن أنه موجود فيه .
قال الشنقيطي : ” وجه ضرب المثل – أن كلاً منهما – العطشان الذي يرى السراب فيظنه ماءً ، والكافر الذي يعمل العمل قاصداً به التقرب إلى الله ، كلاهما محتاج إلى ما ظن وجوده ، فإذا جاء العطشان ما كان يظنه ماء فلم يجده شيئاً اشتد عطشه وخابت آماله ، وإذا جاء الكافر يوم القيامة مؤملاً أن يجازى خيراً على ما عمل لم يجد ذلك ، بل يجد أن الله له بالمرصاد فيجازيه على عمله السيء فتزداد حسرته “ .
( والله سريع الحساب ) في معنى سرعة الحساب قولان :
قيل : معناه قرب مجيئه .
وقيل : أن حسابه سبحانه لعباده لا يحتاج إلى فكر وروية ووقت مثل ما يفعل المخلوق .
( أو ) قيل : أو هنا للتخيير ، وقيل : للتقسيم والتوزيع ، وهذا أصح [ وسيأتي شرحها بعد قليل إن شاء الله ] .
( كظلمات ) أي مثلهم كظلمات ، أي كذي ظلمات .
( في بحر لجي ) البحر اللجي : هو العميق الذي لا يدرك قعره ، أي كظلمات في بحر عميق لا يدرك قعره .
( يغشاه موج ) أي يعلوه ويغطيه .
والغشاء : ما يغطى به الشيء .
والموج : ما ارتفع من الماء فوق الماء .
( من فوقه موج ) أي أن الموج الأول فوقه موج ثانٍ ، والموج الثاني فوقه سحاب .
( من فوقه سحاب ) أي فوق الموج الثاني سحاب .
( ظلمات بعضها فوق بعض ) أي ما تقدم ظلمات بعضها فوق بعض .
قال السعدي : ” ظلمات البحر اللجي ، ثم فوقه ظلمة الأمواج المتراكمة ، ثم فوق ذلك ظلمة السحب المدلهمة ، ثم فوق ذلك ظلمة الليل البهيم “ .
فاشتدت الظلمة جداً ، بحيث أن الكائن في تلك الحال :
( إذا أخرج يده لم يكد يراها ) أي إذا أخرج ذلك الإنسان الواقع في تلك الظلمات يده لم يقارب رؤيتها وهي أقرب شيء إليه ، مما يدل على شدة الظلمة .
فقوله ( لم يكد ) قيل : معناه لم يرها لشدة الظلمة . وقيل : رآها لكن بمشقة ، أي أنه يراها بعد جهد ومشقة ، وإذا كانت يد الإنسان وهي أقرب شيء إليه لا يراها إلا بعد جهد ومشقة ، فهذا فيه دلالة على شدة الظلمة ، وهذا أرجح .
ويرجحه قوله تعالى : (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ) أي أنهم فعلوا بعد أن كادوا ألا يفعلوا .
( ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور ) أي من لم يهده الله فهو هالك جاهل حائل كافر .
كما قال تعالى : (مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ) .
وقال تعالى : (وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) .
مفهومه أن من أراد الله أن يعطيه نوراً فلن يستطيع أحد أن يحجبه عنه .
اختلف العلماء في المثالين الماضيين :
فبعض العلماء : يرى أن الآية الأولى فيها تشبيه لأعمال الكفار في الآخرة ، حيث شبه سبحانه أعمالهم في اضمحلالها بالسراب ، والآية الثاني فيها تشبيه لأعمالهم في الدنيا ، حيث شبه أعمالهم في ارتباكها وضلالها بهذه الظلمات .
وذهب بعض العلماء : إلى أن الآية الأولى مثال للجاهل المركب ، والآية الثاني للجاهل البسيط .
وهذا رأي ابن تيمية وابن القيم ، ورجحه ابن كثير ، وهذا الصحيح .
قال ابن كثير : ” هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار .......... فأما الأول من هذين المثلين ، فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات ، وليسوا في نفس الأمر على شيء ، فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض من بُعد كأنه بحر طام .... ثم ذكر بقية المثل وشرحه وقال : وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركب ، وأما أصحاب الجهل البسيط وهم الطماطم الأغشام المقلدون لأئمة الكفر والصم البكم الذين لا يعقلون فمثلهم كما قال تعالى : أو كظلمات في بحر ... ثم ذكر بقية المثل الثاني ...... ثم قال : فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط ، المقلد الذي لا يعرف حال من يقوده ، ولا يدري أين يذهب ، بل كما يقال في المثل للجاهل أين تذهب ؟ قال : معهم ، قيل : فإلى أين يذهبون ؟ قال : لا أدري “ . ( تفسير ابن كثير : 3 / 263 ) .
فوائد عامة :
1- أن الكافر أعماله مردودة عليه .
2- أن من شروط قبول العمل الإيمان .
3- أن الكافر يتحسر على أعماله التي عملها بالدنيا حيث لم تنفعه يوم القيامة لكفره .
4- ضرب الله الأمثال لتوضيح الأحوال وتقريبها .
5- التحذير من الكفر .
6- أن من لم يهده الله فلن يهتدي .
7- طلب الهداية من الله .
8- أن من أعطاه الله النور فلن يستطيع أحد أن يسلبه منه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
قال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (46) ) .
------------------------------------
يخبر تعالى أنه ( يسبح له من في السموات والأرض ) أي من الملائكة والأناس والجان والحيوان حتى الجماد ( والطير صافات ) أي في حال طيرانها تسبح ربها وتعبده تسبيح ألهمها وأرشدها إليه .
فجميع ما في الكون يسبح لله تعالى ، ويدل لذلك أدلة :
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ) .
وقال تعالى : (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ) .
وقال تعالى : (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) .
وقال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) . أوبي : أي سبحي .
قوله ( يسبح له ) اختلف العلماء في حقيقة التسبيح على أقوال :
قيل : تسبيح حقيقي لكن لا نعلم كيفيته . وهذا هو الصحيح .
لقوله تعالى : (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ) .
وقيل : تسبيح العقلاء نطقهم ، وتسبيح غير العقلاء دلالتها على صانعها .
والراجح الأول .
ومما يدل على أن غير المخلوقات من الجمادات لها إدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه :
قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ) فأثبت الخشية للحجارة .
وقال تعالى : (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) .
وقوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا) والإباء والإشفاق إنما يكونان بإدراك .
وقال : ( إني لأعرف حجراً كان يسلّم علي قبل البعثة ) . رواه مسلم
قوله ( يسبح لله ) التسبيح هو تنزيه الله عن النقائص والعيوب ومشابهة المخلوقين .
( والطير صافات ) عطف الله الضمير على ما تقدم وأفرده بالذكر لاختصاصه بهذه الصفة العجيبة التي خالف فيها سائر المخلوقات وهي الطيران ، وذكر تسبيحه في أعجب أحواله وهي كونه باسطاً جناحيه في الهواء ، وهذا معنى ( صافات ) أي باسطة أجنحتها للطيران .
( كل قد علم صلاته وتسبيحه ) اختلف العلماء في الضمير ( قد علم ) على ما يعود :
فقيل : أي كل من المسبحين قد علم تسبيح نفسه ، وكل من المصلين قد علم صلاة نفسه .
وهذا القول هو الصحيح .
أي أن الله تعالى ألهم هذه الأشياء حتى عرفت كيف تسبح وكيف تصلي .
ولذلك قال ابن كثير في تفسيرها : ” أي كل قد أرشده الله إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عز وجل “ .
وقيل : إن الضمير يعود على الله ، أي كل قد علم الله صلاته وتسبيحه .
والراجح الأول .
( والله عليم بما يفعلون ) يخبر تعالى أنه عالم بجميع ذلك ، لا يخفى عليه من ذلك شيء .
( ولله ملك السموات والأرض ) يخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض ، فهو الحاكم المتصرف الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له ولا معقب لحكمه .
أما ما ورد في أن الإنسان يملك ، كقوله تعالى : ( أو ما ملكت أيمانكم ) فهذا ملك محدود مقيد .
( وإلى الله المصير ) أي يوم القيامة ، فيحكم فيه بما شاء .
قوله ( إليه المصير ) فيه تنبيه أنه سبحانه مالك للأول والآخر .
قوله ( المصير ) إذا كان الملك لله والمرجع إليه ، فلا يحل لنا أن نتصرف فيه إلا حسب ما شرع لنا .
قوله ( إليه المصير ) مهما فعل الإنسان فمرجعه إلى الله .
كقوله تعالى : (وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ) ، وقوله : (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) .
( ألم تر ) الخطاب لكل من يصح خطابه ، وهذه رؤية علمية بصرية .
( أن الله يزجي سحاباً ) أي يسوقه .
والسحاب جمع سحابة ، وهي الغيم الذي ينزل منه المطر .
( ثم يؤلف بينه ) أي يجمعه بعد تفرقه .
( ثم يجعله ركاماً ) أي متراكماً ، أي يركب بعضه بعضاً .
( فترى الودق ) المطر .
( يخرج من خلاله ) أي خلله .
( وينزل من السماء من جبال فيها من برد ) اختلف العلماء في المراد بالجبال :
فقيل : المراد بالجبال : السحب التي تشبه الجبال في شكلها ، أي من سحب كالجبال .
وقيل : جبال حقيقية من برد خلقها الله في السماء .
ويكون المعنى : ينزل من جبال في السماء .
فالمعنى أن في السماء جبال من البرد ، ينزل منها هذا البرد .
( فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء ) أي فيصيب الله بهذا البرد من يشاء من عباده عقوبة لهم ، لأن البرد غالباً يفسد الزرع والثمار ، ويصرفه عمن يشاء رحمة بهم .
وهذا هو الصحيح ، ويؤيده أن الإصابة إذا أطلقت تكون في المكروه .
والقول الثاني : يصيب به من يشاء رحمة بهم ، ويصرفه عمن يشاء عقوبة لهم ، فيحصل لهم الجدب .
والأول أصح .
( يكاد سنا برقه ) أي يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا تبعته .
السنا : الضوء .
( يقلب الله الليل والنهار ) أي يتصرف فيهما فيأخذ من طول هذا في قصر هذا حتى يعتدلا ، ثم يأخذ من هذا في هذا فيطول الذي كان قصيراً ويقصر الذي كان طويلاً .
ويدخل في ذلك تقليبهما بما يودعه الله فيهما من خير وشر ، وضر ، وغنى ، وفقر ، وصحة ، ومرض ، وما إلى ذلك مما يدخل في مفهوم قوله تعالى : (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) .
( إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) أي أن ذلك المذكور من تسبيح من في السموات والأرض والطير له سبحانه ، وإزجاء السحاب وجعل فيه خللاً ينزل منه المطر ، وإنزال البرد من الجبال ، وإصابة من شاء بذلك ، وصرفه عمن شاء .
كل ذلك فيه عبرة لأولي الأبصار ، أي لأصحاب الأبصار ، أصحاب البصائر المستنيرة .
العبرة : الدلالة الواضحة التي يكون بها الاعتبار .
البصائر : جمع بصيرة . وقيل : المراد بالأبصار جمع بصر ، أي أن في ذلك لدلالة واضحة لمن يتمتعون بحاسة البصر .
قوله ( لأولي الأبصار ) فيه أن من لم يتخذ ذلك عبرة ، فإنه ليس من ذوي البصائر .
( والله خلق كل دابة من ماء ) أي أن الله أوجد كل دابة من ماء ، فالخلق بمعنى الإيجاد .
الدابة : كل ما يدب على الأرض .
اختلف العلماء في قوله ( من ماء ) :
فقيل : المراد بذلك النطفة التي هي المني .
كما قال تعالى عن الإنسان : (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ . خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ) .
ويكون هذا من العام المخصوص ، وهو كثير ، كقوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ) أي كل شيء صالح للملك .
فيكون المراد الدابة التي من شأنها التناسل ، يعرف الله تعالى خلقه بأنه أوجدهم من هذه النطفة المهينة التي ليست شيئاً يذكر.
وقلنا هذا من العام المخصوص ، لأن الملائكة خلقوا من نور ، والجن خلقوا من نار .
وقيل : المراد الماء المعروف ، لأنه يدخل في تركيب كل حي .
كما قال تعالى : (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) . والأول أرجح .
( منهم ) أي من الذين يدبون على الأرض المعبر عنهم بدابة .
( من يمشي على بطنه ) كالحيات والديدان .
لماذا سمى الله السحف على البطن مشياً ؟
قال بعض العلماء : إن المشي لا يختص بمن يسير على آلة مشي ، بل إنه يشمله ويشمل غيره ، حتى إنه قد يطلق على الأشياء المعنوية ، كما يقال : مش الأمر .
( ومنهم من يمشي على رجلين ) مثل الإنسان والطير .
( ومنهم من يمشي على أربع ) كالبعير والشاة .
سؤال : بعض الحيوانات تمشي على أكثر من أربع ، فلم تذكر ؟
الجواب : أن الآية ذكرت أمثلة شهيرة ولم تحصر ، فالآية ليست للحصر ، فهو من باب الاختصار لا الحصر .
( يخلق الله ما يشاء ) أي يخلق تعالى بقدرته ما يشاء من المخلوقات .
( إن الله على كل شيء قدير ) أي لا يعجزه شيء ، ولا يمنعه مانع ، ولا يدفعه دافع .
قال تعالى : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً) .
قول بعضهم : إنه على ما يشاء قدير ، غلط .
لأنك إذا قيدت القدرة بالمشيئة صار فيه قصور ، مع أن الله قادر على ما يشاء وعلى ما لا يشاء ، لكن ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن .
وأما قوله تعالى : (وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ) فالمشيئة هنا ليست قيداً بالقدرة ، وإنما قيد بالجمع ، يعني إذا شاء هذا الفعل فليس بعاجز عنه ، ولهذا ذكرها تعالى رداً على من أنكر البعث .
( لقد أنزلنا آيات مبينات ) تقدم شرحها .
( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) سبقت أنواع الهداية ، والمراد هنا هداية التوفيق .
فوائد عامة :
1- أن جميع المخلوقات تسبح لله .
2- عظمة الله عز وجل .
3- عموم علم الله عز وجل بكل ما نفعله .
4- عموم ملك الله عز وجل .
5- أن ملك الله في الدنيا والآخرة .
6- أن المرجع إلى الله .
7- تحذير العصاة ، حيث أن المرجع إلى الله .
8- عظمة الله في كيفية إنشاء السحاب وإنزال المطر .
9- حكمة الله عز وجل في إنزال البرد على من يشاء وصرفه عمن يشاء .
10- حكمة الله العظيمة في تقليب الليل والنهار .
11- أن من يعتبر ويتأمل في مخلوقات الله ويعتبر بها فهو من أصحاب القلوب الحية .
12- أن الله خالق كل شيء .
13- حكمة الله عز وجل في خلق الناس على أشكال وهيئات متنوعة .
14- عموم قدرة الله .
15- أن الهداية بيد الله .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قال تعالى : ( وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) ) .
------------------------------------
( ويقولون ) أي المنافقون .
( آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ) أي بألسنتهم .
والإيمان : قال بعضهم : هو التصديق ، وهذا فيه قصور ، والصحيح أنه التصديق مع الإذعان والقبول .
قوله ( بالله ) يشمل التوحيد والتدبير .
قوله ( وأطعنا ) هذا الانقياد .
الطاعة : موافقة الأمر ( لا تخرج عمن أمرك ولا تخالفه ) .
( ثم يتولى فريق منهم ) أي ثم يعرض جماعة منهم عن قبول حكمه والعمل بالإسلام .
التولي يكون بالجسم والإعراض يكون بالقلب ، والمراد هنا تولى بجسمه وبقلبه .
( وما أولئك بالمؤمنين ) المعنى : أن من يعرض عن العمل والتطبيق ليس مؤمناً إيماناً شرعياً ، فإن الإيمان الشرعي لا بد فيه من القول والعمل والاعتقاد ، فمجرد القول وحده لا يكفي في إثبات الإيمان الشرعي .
( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ) أي إذا طلبوا إلى اتباع الهدى بما أنزل الله على رسوله أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه .
كما قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ...رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً ) .
قوله ( ليحكم بينهم ) أي لحضور مجلس الرسول ( وهذا في حياته ) وإلى شرعه بعد وفاته .
( إذا فريق منهم معرضون ) أي استنكفوا وأعرضوا عن الحضور إلى مجلس الرسول ( وهذا في حياته ) ، وإلى شرعه بعد وفاته .
الإعراض الصدود والتولي .
( وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ) أي وإن كانت الحكومة لهم لا عليهم ، جاءوا سابقين مطيعين .
مذعنين : أي منقادين مطيعين ، قال الزجاج : ” الإذعان الإسراع مع الطاعة “ .
فهم يأتون للتحاكم إلى الرسول إذا كان لهم الحق وأسرعوا ، وهذا لأنهم ينالون بحكمه حقهم ، فطاعتهم له ليست تبعاً لعقيدة وإيمان صادق ، وإنما هي تبع أغراضهم الشخصية .
( أفي قلوبهم مرض ) الهمزة في قوله ( أفي قلوبهم ) للاستفهام الإنكاري الذي يقصد منه التقريع والتوبيخ .
والمرض : خروج جسم الإنسان عن حد الاعتدال .
والمراد بالمرض هنا الإرادة السيئة التي تصرفهم عن التحاكم .
وقال البعض : هو مرض النفاق والشك .
( أم ارتابوا ) الريب الشك ، وهذا مرض الشبهة ، وهذا دليل على أن سبب الانحراف هو : إما شهوة ، وإما شبهة .
( أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ) أي يخافون أن يظلمهم رسول الله في الحكم .
( بل أولئك هم الظالمون ) بل : تكون للإضراب .
- ابطالي : وهو إبطال ما سبق ، كما تقول : اضرب زيداً بل عمراً .
- انتقالي : وهو الانتقال من كلام سابق إلى كلام جديد مع بقاء حكم الكلام الأول .
وقد اختلف العلماء فيها هنا :
فقيل : الإضراب إبطالي .
والراجح أن الإضراب في الآية انتقالي ، فإن الله سبحانه لما عدد هذه الأمور التي هي : المرض في قلوبهم ، والشك ، والخوف من الجور في الحكم ، وهي أسباب واضحة لتعليل عدم تحاكمهم إلى الرسول هم أو غيرهم ، انتقل بعد ذلك إلى بيان السبب الحقيقي وهو كونهم ظالمين .
وهناك قول آخر : وهو أن ( بل ) للإبطال ، وأنه يعود إلى الثاني والثالث .
أي أن هذا العمل الذي انتهجوه ليس لشك في نبوة محمد ، ولا في صحة حكمه ، ولا لخوف من الجور في الحكم بل لظلمهم ومرض في قلوبهم .
وهو قول قوي .
والظلم وضع الشيء في غير موضعه .
ويطلق على الشرك والكفر .
كقوله تعالى : (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) .
وكقوله : (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .
ويطلق على عموم المعاصي .
كقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ ...) ز
( إنما كان قول المؤمنون إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا ) لما ذكر تعالى صفة المنافقين وأنهم يعرضون عن التحاكم إلى الكتاب والسنة ، أخبر تعالى عن صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله الذين لا يبغون ديناً سوى كتاب الله ورسوله وأنهم إذا دعوا للكتاب والسنة قالوا سمعنا وأطعنا .
سمعنا : أي بآذاننا .
وأطعنا : بجوارحنا .
فهم يسمعون ويطيعون .
الطاعة فعل الأوامر وترك النواهي .
عكس المنافقين قالوا سمعنا ولم ينقادوا .
( وأولئك هم المفلحون ) الفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب .
قال الطبري : ” ولم يقصد به الخبر ، ولكنه تأنيب من الله للمنافقين ، وتأديب منه للآخرين “ . ( تفسير الطبري : 3 / 18 / 187 ) .
فوائد عامة :
1- ذم المنافقين ، حيث يقولون بألسنتهم ولا يفعلون .
2- خطر المنافقين .
3- التحذير من التشبه بالمنافقين من أن الإنسان يقول ولا يفعل .
4- أن المنافق ليس بمؤمن .
5- أن الإعراض إلى التحاكم إلى الكتاب والسنة من صفات المنافقين .
6- أن مرض المنافقين في قلوبهم .
7- يجب على المؤمن الاستجابة إذا دعي إلى الله ورسوله .
8- أن الإيمان قول وفعل .
9- أن من علامات الفلاح الاستجابة لله ورسوله قولاً وفعلاً .
قال تعالى : ( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) ) .
------------------------------------
( ومن يطع الله ورسوله ) فيصدق خبرهما ، ويتمثل أمرهما .
( ويخش الله ) أي ويخافه خوفاً مقروناً بمعرفة .
الخشية : هي الخوف مع إجلال .
( ويتقه ) التقوى فعل المأمورات وترك المنهيات .
( فأولئك ) الذين جمعوا بين طاعة الله ورسوله ، وخشية الله وتقواه .
( هم الفائزون ) بدخولهم الجنان ، ونجاتهم من النيران ، كما قال تعالى : (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) .
الفوز : هو الظفر بالخير مع حصول السلامة .
قوله ( ومن يطع الله ورسوله ) فضل طاعة الله ورسوله ، ولها فضائل :
أولاً : سبب للرحمة .
قال تعالى : (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) .
ثانياً : مع الذين أنعم الله عليهم .
قال تعالى : (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ) .
ثالثاً : سبب للحياة الحقيقية .
قال تعالى : (اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) .
رابعاً : سبب للهداية .
قال تعالى : (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) .
قوله ( ويخش الله ) فضل خوف الله وخشيته ، ومن فضائله :
أولاً : سبب لدخول الجنة .
قال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) .
ثالثاً : جنتان .
قال تعالى : (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) .
ثالثاً : من صفات المؤمنين .
قال تعالى : (وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) .
رابعاً : سبب لإظلال الله يوم القيامة .
قال : ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ) .
المصدر : الشيخ اللهيميد
مواضيع مماثلة
» * تفسير سورة النور 1
» * تفسير سورة النور 2
» * تفسير سورة النور 3
» * تفسير سورة النور 5
» * تفسير سورة مريم 3
» * تفسير سورة النور 2
» * تفسير سورة النور 3
» * تفسير سورة النور 5
» * تفسير سورة مريم 3
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى