* التعليم التلقيني والتعليم الحواري
صفحة 1 من اصل 1
* التعليم التلقيني والتعليم الحواري
اعداد : طارق فتحي
التعليم التلقيني والتعليم الحواري
إن الهدف الأساسي لأي نظام تعليمي هو إعداد العقول القادرة على صنع المستقبل، والعقول المدربة على طرح الأسئلة والبحث عن إجابات عنها، العقول التى يمكنها ممارسة النقد وكشف أساليب القهر الذهني، القادرة على الإبداع، لا مجرد إعداد عقول لا تحسن سوى الحفظ وتعجز عن ممارسة التساؤل والاستفهام. فأساليب التعليم عندنا بعيدة عن فهم احتياجات العصر، إذ تناسب من نشأوا فى ظروف تكبيل العقل وتكميم الأفواه، تناسب إعداد موظفين لا مبدعين ينهضون بعبء حشد القوى لتنمية الأمة فى عصر تكتلات الدول وسحق الأمم الضعيفة المشرذمة. ويصعب الوثوق فى نظام تعليمي يتعرض باستمرار للتغيير المستمر لا بغرض التطوير والتحسين وإنما بسبب افتقاد خطة راسخة تقوم على رؤية واضحة للأهداف المرجوة من التعليم. ويمضى نظامنا التعليمي في اتجاه تعميق الهوة بيننا وبين سائر الأمم المتقدمة، فالمدة التى تتضاعف فيها المعارف الإنسانية تتناقص باطراد مذهل، مما يجعل اللحاق بالأمم التى سبقتنا أمراً يكاد يكون مستحيلاً فى ظل الإمكانات الراهنة. كما أن ما يتم ممارسته فى المدارس من تعليم تلقيني يرمى إلى إحكام السيطرة على عقول الطلاب من أجل توجيهها حسب توجيهات المستبدين حسب توجهات المستبدين، وصرف هذه العقول بعيداً عن ما يتهددها، فمن تعلموا بهذه الطريقة التلقينية هم أنسب من يلائمون القهر والاستكانة والامتثال. فنظام القهر لا يسمح للمتعلم بالتساؤل، والتساؤل هو أول الطريق إلى الانتفاد واكتشاف الواقع، وهو بداية عمل العقل الإبداعي " المبدع ". ولما افتقدت أمتنا حرية الرأى والكلمة ضاعت، بالضرورة، القدرات الإبداعية لهذه الأمة، فالحضارة هي منتجات الفكر، والفكر هو نتاج عقلي لذا يمكن فهم استحالة إنشاء حضارة دون تحرير العقل ثم تفعيله عن طريق نظام تعليمي فعال، ومعنى ذلك أن التخلف والتبعية والتدنى سيبقون قدراً مقدوراً وسرمداً ممتداً طالما أن العقل مفرغ ومقيد .
دور التعليم التلقيني في اعتقال العقل :
التعليم النظامي فى المدارس الحكومية يكرس إعداد أجيال تقبل الواقع على أنه أفضل الممكن، أجيال عاجزة عن التأمل والاستنتاج والحوار، وذلك باستبعاد وسائل التعليم الحواري التحليلي الموضوعي النقدي الذي يدرب العقل ويشحذ الحواس. ويتبنى هذا التعليم النظامي الوسائل التعليمية التى ترسخ الذاكرة والحفظ لدى التلاميذ على حساب ملكات النقد والإبداع والتفكير. وكان الحفظ هو طريقة التعليم التى درج عليها العرب قبل الإسلام، فقد كانوا أميين لا يعرفون القراءة والكتابة، واعتمدوا على الذاكرة فى حفظ أشعارهم. ولما كان التعليم بعد الإسلام يعتمد أساساً على القرآن الذى كانوا يحفظونه عن ظهر قلب، لذا كان الحفظ بمثابة الوسيلة الأساسية فى المنهج التعليمي وهى وسيلة لم تكن غريبة على آبائهم الأولين فى الجاهلية، ولم يكن الحفظ والاستظهار خاصاً بالقرآن الكريم أو الحديث الشريف، وإنما تعداهما إلى العلوم الأخرى أيضاً . "وكلما تأكدت حقيقة أن الطلاب مجرد مخازن للمعلومات كلما قل وعيهم بالعالم المطلوب منهم تغييره، فقبولهم لهذا الدور السلبي، يعنى بالضرورة تأقلمهم المستمر مع الواقع المفروض عليهم والمعرفة المبتسرة التى أريد لها أن تملأ عقولهم. ومن هنا يتضح أن مهمة التعليم التلقيني الذى يعتمد على مجرد تخزين وإيداع المعلومات فى عقول الطلاب تتركز فى تقليل القدرة الإبداعية عند الطلاب أو إلغائها تماماً من أجل خدمة أغراض المستبدين الذين لا يرغبون فى أن يصبح العالم مكشوفاً لهؤلاء، أو أن يصبح موضوعاً للتغيير. فالمستبدون يتصرفون بغرائزهم ضد أى محاولة فى التعليم تستهدف تنمية الملكة النقدية. لأجل ذلك يشجع المستبدون مفهوم التعليم التلقيني، ويستميتون من أجل فرض نظام التعليم التلقيني الذي يبقى الواقع على ما هو عليه (1).
وقبل قرن مضى، أدرك المفكر أديب إسحاق* كيف يمكن عن طريق التعليم اللاحوارى إحكام استعباد العقل وقتل حرية المتعلم، فيقول " وعن طريق تعلم الإنسان، يتم استعباده وقتل الحرية فيه، فإن سادته لا يسعون إلى توسيع نباهته، ولكنهم يشربونه فهماً جديداً، حتى صار التهذيب عبارة عن إفساد الذهن وتضليل القوة الحاكمة، فالأستاذ لا يعرض تعليمه ليؤخذ اختياراً، ولكنه يوجبه ليحمل اضطراراً، وبذلك تأيدت الأغلاط، واستمرت الجهالة على مرور الأيام" (2).
وهكذا يمكن وصف الفرق بين مفهوم التعليم كخبرة من أجل الحرية، ومفهوم التعليم كوسيلة للسيطرة، بأنه الفرق بين التعليم الحواري والتعليم التلقيني. وطريقة التعليم التلقيني هي التي تعد الإنسان المروضَّ، وتخدم ظروف القهر وتعمل على ترسيخها. وانظر إلى طرق التعليم التى اتبعها المسلمون منذ أجيال وأجيال، تجدها وسائل تلقينية بحتة غير مسموح فيها بالحوار والمناقشة. إذ يعتبر فيها الحوار وتقليب الآراء على أوجهها من قبيل الصفاقة والاجتراء، فكل ما يقوله "الفقيه" , وهو أيضاً مروَّض تعلم بأسلوب تلقيني غير حواري, هو من قبيل المسلمات التى لا تحتاج إلى إثبات، ومن غير الممكن مناقشتها، فضلاً عن تخطئتها. فانكمش العقل المسلم وتم اعتقاله بعد القرن الرابع الهجري، إذ تم اعتبار كل منجزات السلف منجزات مقدسة لا يجوز نقدها أو الخروج عليها، واعتبر المنهج الحواري منهجاً اجترائياً لا يجوز أن يأخذ به مسلم صادق الإيمان. وفى مثل هذا المناخ يترعرع التمذهب والتعصب والتحجر. لذلك لم يتواصل العطاء العقلى والفكري للعقل المسلم مثلما كان عبر القرون الأولى "القرن الثامن الميلادي والتاسع والعاشر" ، فالجدال والمناقشة هما وسيلة إنتاج وتمحيص الحقائق فى منهج التعليم الحواري، ويثمران أفضل النتائج خصوصاً فى ظل الحرية التامة، فمن شروط الحوار التسليم بعدم احتكار الحقيقة، وأن استكشاف العالم ليس من حق الصفوة وحدهم، بل يسع الكل البحث عنها، وأن الحوار فى حد ذاته لا يعنى تهديد ذات المحاور أو الحط من مكانته فى ما لو أفضى الحوار إلى خلاف ما يعتقده، فالحقيقة ليست حكراً على أحد وما اعتقده قد يكون صواباً أو خطأ، وكذلك معتقد الآخر، والحوار هو الآلية الفاصلة فى تمحيص الخطأ والصواب وتقليب الأمور على أوجهها كافة. ومن يمنعون الحوار هم فى الحقيقة لا يستهدفون سوى فرض الحقيقة التى يعرفونها على الآخرين.
ومع قصور العقل البشرى، لا تتولد الحقيقة إلا من اختلاف الرؤى وتباين الحجج، والصواب لا يظهر إلا بالموازنة بين رأيين متعارضين، "وإطلاق الحرية التامة للغير فى معارضتنا هو الشرط الجوهري لا يسوغ افتراض الصواب فى ما نراه من الآراء حتى نستطيع العمل بموجبها، وبدون هذا الشرط لا يستطيع الإنسان أن يكون على ثقة بصحة رأيه وصواب اعتقاده...، فالإنسان قادر على تصحيح خطئه بالمناقشة والتجربة، فالتجربة وحدها لا تغنى شيئاً، بل لابد من المناقشة لأنها تفسر معاني التجربة، فالآراء الكاذبة لن تلبث أن يتضح شرها متى عرضت على نار التجربة (3).
وفى أثينا " كان جو الحرية العجيب الذى تتمتع به النظم الإغريقية يضفي أهمية كبرى على المهارة فى المناقشة والجدال. إذ لم يكن البت فى الأمور حقاً لملك أو كاهن، بل كان بيد جمعيات الشعب أو الزعماء. ومن ثم غدت الفصاحة والاقتدار فى الجدل مزايا مرغوبة ومطلوبة. ونشأت طبقة من المعلمين، إنهم السفسطائيون الذين تعهدوا بإذكاء مواهب الشباب فى هذه الفنون. بيد أن المرء لا يستطيع أن يفكر دون مادة لفكره، ومن ثم جاءت المعرفة فى أعقاب فنون الكلام. وبرز سقراط كناقد قدير للجدل الرديء، واجتمعت حول سقراط طائفة من الشباب الأذكياء. وانتهى الأمر بإعدام سقراط بتهمة تكدير عقول الناس (399 ق.م)، بيد أن تكدير عقول الناس استمر على الرغم من تنفيذ الحكم فيه، وواصل تلاميذه الشباب أداء رسالته(4) ".
وإذا لم ينجح التعليم فى إيقاظ وعى المتعلم وحفزه على تطوير ظروفه ومجتمعه وتدريبه على الفهم والاستنباط وإدراك العلاقات بين الأشياء والأحداث، يكون قد حاق فشل ذريع بأهداف العملية التعليمية. ولا تتم توعية الناس بمجرد شرح الأحوال وتفسير الواقع، وإنما يجب محاورتهم لتبصرتهم بالأدوار التى يمكنهم الاضطلاع بها، ومساعدتهم على ممارسة النقد الذاتي. ويتسع الخرق على الراتق إن تبلد إحساس الناس فلم يكتشفوا القهر الذى استغرقهم ، وزيف الواقع الذى يزينه لهم قاهروهم. لذا ترى، طوال تاريخنا، المساجد معطلة عن أداء دورها كمنبر للحوار والجدل وتبادل الآراء والنقد وكانت هذه المساجد – أيام الزمن الجميل – أيام الخلافة الراشدة وقبلها، منابر للحوار والمشاورة. أما فى ظل الاستبداد اقتصر دورها على الدعاء لولى النعم، وتلاوة الخطب العصماء التى يسبح فيها وعاظ السلطان بمناقبه. كما اضطلع عُتهاء وهُبّل المتصوفة فى المساجد والخانقاوات بقسط وافر من تزييف وعى الناس وتضليلهم، الأمر الذى أدى فى خاتمة المطاف إلى استئناسهم .
" وفى العصر المملوكي كانت الحياة الفكرية والعقلية إفرازاً لتأثير التصوف، حيث دارت الحركة العلمية بين شرح وتلخيص ونظم للمتون، وإعادة شرح التلخيص والمتن دون ابتكار أو تجديد، وحيث فرض التصوف نفسه علماً بين المناهج، وحيث دارت الحياة العلمية فى المؤسسات الصوفية، وحيث تصوف العلماء وتقهقر مستواهم الفكري وطورد المجتهدون منهم ممن تجاسروا على الاعتراض على الصوفية. وبنفس القدر الذى ازداد فيه تقديس الأولياء الصوفية الأميين !!!، كان تقديس المجاذيب أكبر ما يعبر عن احتقار العصر المملوكي للعقل(5) ".
وكان ذلك فى الوقت الذى عرف فيه الغرب الجامعات والدراسات المنظمة والمقررات العلمية المحددة، ومنح الإجازات العلمية، بينما كان نظامنا التعليمي متخلفاً، تلقينيا فى أساسه،يعتمد على قيام الشيخ المعلم بتلقين الدروس الدينية لتلامذته، ثم يجيز هذا الشيخ نفسهُ تلاميذه كى يقوموا بتدريس ما تعلموه. وفى الوقت الذى تأسست فيه جامعات الغرب: جامعة بولونيا فى إيطاليا سنة 1088 ميلادية، وجامعة باريس بفرنسا فى سنة 1120م، وجامعة نابولي في إيطاليا فى سنة 1224م، كان التعليم فى بلادنا فى أحسن حالاته فى الكتاتيب، حتى وإن قيل إن الجامع الأزهر (972 م) هو أول جامعة فى العالم، إلاّ أن التعليم فيه كان مقصوراً على العلوم الدينية، ولا تدرّس فيه العلوم العقلية على غرار جامعات أوروبا المذكورة، كما لم تكن طريقة التدريس به، ومنح الشهادات العلمية تتم على غرار ما كان يحدث فى هذه الجامعات بل كان التعليم فيه تلقينياً يعتمد على الحفظ والتلقين .
" وقد اعتمد النموذج الإسلامى للمدرسة على نقل المعرفة عن سلسلة من الرواة والسلطة الشخصية للشيخ أو الأستاذ، فليست هناك شهادة من هيئة، وليست هى محصلة أو تقييم عدد من الأساتذة، ولا درجة بكالوريوس أو دكتوراه. أما فى الجامعات الأوربية، فكان يتم منح شهادة درجة الليسانس عن طريق رئيس الجامعة فقط والعميد بعد أن يؤدى الطالب امتحاناً فى كليته. هذا الامتحان غير موجود فى المدرسة لأسباب كثيرة منها أنه لم تكن هناك كلية، وإنما مجرد أساتذة كل منهم ينقل مؤلفات سبق أن تلقاها بعد أن يملى إلى جانبها مؤلفاته الخاصة ... ، وعندما انتشرت حركة تأسيس الكليات " المدارس " فى العالم الإسلامى فى القرن الحادي عشر الميلادي، عينت كل مدرسة أستاذاً ينتسب إلى مذهب فقهي، وذلك يعنى أن المدرسة قد أصبحت معهداً لتدريس وجهات نظر شرعية(6) " وكان التعليم يعنى حفظ كم من المعلومات التراثية دون تمحيصها أو انتقادها .
ويحتفى القرآن الكريم بمنهج التعليم الحواري الذي يدعو فيه الإنسان إلى النظر والتفكير والتأمل، والتدرب على رد الظواهر إلى أسبابها، وتدريب العقل على طرح الأسئلة، وتعليم المسلمين كيفية تدبر الواقع وإقامة علاقة حوارية مع النفس والآخر، الأمر الذى مكّنهم من إنشاء وامتلاك قدرة على التأمل والملاحظة والفهم والتأويل، لذا لم يكن غريباً أن يبتدع المسلمون المنهج التجريبي في البحث العلمي الذي قامت عليه النهضة العلمية الحديثة بعد أن اقتبسه الغرب منا، فذلك كان إفرازاً حتمياً لمنهج التفكر والنظر الذى حض عليه القرآن الكريم. فديننا الحنيف هو الذى جاء بآليات هذا المنهج الحواري لتربية العقل، وما الشورى والدعوة إلى النظر والتفكير إلا بعض مكونات هذا المنهج، " إن ثُمن آيات القرآن الكريم – أى حوالي 750 آية – تحث المؤمنين على دراسة الطبيعة، والتفكير، واستغلال العقل فى ما ينفعهم، وعلى جعل الجهد العلمى جزءاً من حياتهم(7) ". والكارثة أن المسلمين أغفلوا هذا المنهج إبّان صراعاتهم، فأضفت كل طائفة من الطوائف المتنازعة والجماعات المتناحرة الإسلامية، وما أكثرها، قداسات دينية على مواقفها، مما يعنى نفى صفة الدين والقداسة عن رأى الطائفة الأخرى، فاشتعلت الصراعات التى أراد البعض توجيهها باطلاً لتحقيق أطماع سياسية وغيرها.
ولا شك أن الصراعات المذهبية والخلافات العصبية هى من تداعيات تفويض هذا المنهج الحواري. وكان تعليمنا فى معظمه، بعد أفول عهد النهضة العلمية الإسلامية، معيناً فى المقام الأول بالعلوم النقلية " الدينية "، وكانت طريقة التعليم تلقينية، إذ لا محل فيها للحوار. فمادة هذه العلوم مقدسة لا يجوز غير قبولها .
وانسحبت هذه الطريقة، فى ما بعد، على العلوم العقلية "غير الدينية" والتعليم بشكل عام، إذ أصبح المنهج التلقيني هو الطريقة التعليمية المتبعة لإبطال فعالية العقل المسلم ثم اعتقاله فى ما بعد، الأمر الذى انتهى بترويض المسلمين واستئناسهم كما تُستأنس الوحوش الضواري التي يؤتى بها من الغاب ليعتلى الأطفال ظهورها في السيرك دون خوف أو رهبة .
" وعندما نؤرخ لواقعنا الفكري، نجد أن كل قطاعات حياتنا الفكرية تستلهم العقل المسالم، وهو العقل الذى يفكر دائماً فى إطار من المألوف للناس، لا يصدم عرفاً شائعاً وإن كان مخطئاً، ولا يتعارض مع رأى ذائع بالغاً ما بلغ فساده. وهذا ، وإن كان أدعى إلى الاستقرار، يعوق التطور ويمنع التجديد. لذا فالجامعات عندنا تذكرنا بالجامعات الأوروبية فى العصور الوسطى، من حيث أنها كانت تتوخى ما سموه "بالتعليم السلمي"، وهو الذي كان يتمشى دائماً مع اتجاهات الكنيسة التى كانت تعد من أعلى السلطات الأوروبية فى تلك العصور. وعلى هذا النهج تسير كل أجهزة إعلامنا من صحافة وإذاعة وتلفزيون وما يعرض فى المسارح والسينما، وما يطرح فى الأسواق من كتب – ولا تشذ عن هذا جميع المؤسسات الثقافية فى مصر وكلها – فى الأغلب والأعم- تقاد ولا تقود، وتساس ولا تسوس. فكيف بالله يكون للعقل – بعد هذا كله – دور فعال فى حياتنا الفكرية المعاصرة( ".
ولما كان المستبد ينظر إلى الحوار على أن فيه شيئاً من الندية بين المتحاورين، لذا رفض أن يتحاور معه أحد، نفياً لشبهة الندية مع من سواه من الرعية، ورفضاً لتجاوزهم الموضع الذى ارتآه لهم وهو أن يكونوا مجرد أشياء أو أنعام فى حظيرته، حتى إن مستشاري المستبد كانوا يسدون المشورة إليه، إذا اضطروا لفعل ذلك، على وجل واستحياء، حتى لا تُرى على أنها محاورة ونقاش .
ويعمد المستبدون إلى تجهيل الناس، ولا يتحمسون لمحو أمية العامة، " فمن السذاجة أن نتوقع من القوة المستبدة أن تقوم بمهمة تعليمية تؤدى إلى تحرير الإنسان، فهى – أى الصفوة – ترى أن المشروع التعليمي إذا أتيح للعاملين الفقراء، قد يكون متعارضاً مع أخلاقياتهم وسعادتهم، لأنه يعلمهم كراهية أنفسهم بدل أن يعلمهم كيف يصبحون زراعاً وعمالاً ممتازين، وبدلا من أن يعلمهم الخضوع، فإنه يعلمهم الجنوح، وفى الدول الصناعية يعلمهم قراءة منشورات التمرد ومطبوعات المعارضة. وسيجد المشرعون أنفسهم بعد بضع سنوات بحاجة إلى استخدام القوة ضدهم. وما تريده الصفوة "المستبدون" هو أن يظل الناس غير قادرين على التفكير. ومن البداهة أن نقول إن السيطرة تستوجب قطبين أحدهما يسيطر والآخر يُستغل، وليس من سبيل إلى تصحيح هذا الواقع إلا بالثورة التى تستهدف التحرير، والثورة تستوجب ظهور طبقة من القادة تصنعهم المحاولة والتجربة (9) ".
فالوعي والاستنارة يجعلان الناس أقل ميلاً للامتثال والطغيان وأكثر استعداداً لمناهضة الاستبداد والظلم .
وفى وقت الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798، كان العدد الأكبر من الفلاحين وأبناء الطبقات الشعبية أميين، وعدد الذين يعرفون القراءة والكتابة من سكان القاهرة وهم ربع عدد الذكور، وإذا كان عدد سكان القاهرة عندئذ حوالي 250 ألف نسمة، الذكور البالغون منهم 99 ألف نسمة، ما يكون عدد المتعلمين منهم حوالي 25000 أي نسبة الأمية حوالي 90٪. وكان الجامع الأزهر هو الجامعة الوحيدة فى مصر، ولا يدرّس بها سوى العلوم الدينية.
وقد نجحت السياسة التعليمية والتي وضعها كرومر في مصر " فى إعداد طائفة من الشبان المصريين لشغل بعض وظائف الدولة غير ذات خطر، واستطاع أن يخرج آلات صماء ليس عندهم شئ من الجرأة أو حرية الرأي، والقدرة على الابتكار أو تثقفوا ثقافة محددة .. وملئت أدمغتهم بمعلومات كثيرة غير مفيدة فى حياتهم، .. وجل اعتمادهم أثناء دراستهم على الاستظهار والحفظ، ولا على القوى العقلية السامية الأخرى من تعقل وموازنة وابتكار واستنباط، فالطالب المصري يعتمد في تحصيله على ذاكرته وعلى التكرار الآلي للحقائق المحفوظة لا على ذكائه وتفكيره، فينشأ عن ذلك ضيق أفقه وجهله بالحوادث المعاصرة(10) ".
ويدين مستر كاربنتر رئيس التفتيش بوزارة المعارف المصرية سنة 1918، يدين دنلوب فيقول : أفسد دنلوب التعليم المصري، إذ لم يخرج هذا التعليم سوى مجرد موظفين . هل ترى فرقاً كبيراً بين خريجي مدارسنا وجامعاتنا أمس واليوم؟
إن تفشى ظاهرة الدروس الخصوصية نتيجة حتمية لتهافت النظام التعليمي، وهى دليل إفلاس المؤسسة التعليمية، وفشل المدرسة فى أداء دورها، وكذلك الجامعة التى أصبحت مجرد مدرسة ثانوية مزدحمة، وغياب دورها فى تدريب العقول وإجراء البحوث وإمداد الصناعة بحلول لمشاكلها، وانعدم تأثيرها فى الحياة الثقافية والعقلية بشكل عام .
ولما كان من المعلوم أنه لا يجوز للتاجر، فى معرض تقييم تجارته، أن يقول إنه أنفق عليها كذا وكذا، بل ينبغي أن يقول إنه ربح منها كذا، فالربح لا التكلفة هو معيار رواج التجارة أو كسادها، وعليه فيكون من المغالطات غير المقبولة أن يُقال فى معرض تقييم، أو مدح النظام التعليمي أو نفى الفشل عنه، وأن نقول إنه أُنفق عليه كذا وكذا، وإنما يجب أن يقول لنا أحد ما هى نتيجة هذا الإنفاق، وهل أثمر لنا هذا النظام التعليمي أجيالاً ممن يحسنون استخدام عقولهم فى البحث العلمى والإبداع والنقد، أجيالاً تحسن النظر فى تقييم واقعها، وهل أفرز لنا النظام التعليمي تلاميذ مثقفين، أم طلبة جاهلين تنخفض مستوياتهم الثقافية انخفاضا مزرياً في بعضه، ومضحكاً فى بعضه الآخر، وإن كانت تلك حصيلة نتاج النظام التعليمي فالأمر، بحق، كارثة، وتعظم الكارثة إن كنا فعلاً ننفق تلك الأموال الطائلة على هذا النظام الفاشل الذى تكون هذه هى مخرجاته ونتائجه.
وقد يجيبك بعض المغالطين بأن " أمتنا بخير"، فمنا زويل، والباز، ومجدي يعقوب، نعم هم زهور أبناء هذه الأمة وموضع فخرها، ولكن يجب أن يكون لدينا المئات أمثالهم، فنسبة العلماء فى إسرائيل 76 عالماً لكل عشرة آلاف شخص، وإذا افترضنا أن منظومة التعليم فى بلادنا قادرة على إفراز علمائنا بنفس المعدل الإسرائيلي، لكانت مخرجات نظامنا التعليمي في مصر أكثر من نصف مليون عالم وكان فى العالم العربى ما يزيد على المليونين والربع مليون من العلماء.
لذا فلا فائدة تُرجى من مواصلة الثناء على نظمنا التعليمية، والادعاء بأن مردودها مُرض، أو الزعم أن لدينا معاهد موثوقة للبحث العلمى، والزعم بأنه ليس فى الإمكان أفضل مما هو كائن، فما نخدع إلاّ أنفسنا، فقد حان أوان مواجهة واقعنا العلمى التعليمي والصناعي والزراعي مواجهة صريحة بلا مراوغة أو تضليل، فنقول إن النظم التعليمية فى عالمنا الإسلامى متخلفة ومهترئة، إذ يتلاشى مردودها عند أول احتكاك عملي مع سوق العمل، وأننا نفتقد مؤسسات فاعلة للبحث العلمى يكون لها مردود حقيقى، ولماذا فشلت مؤسساتنا البحثية فى حل أبسط مشكلاتنا، وهى مشكلات أصبحت مُتحفية فى بلاد أخرى، مثل مشكلات إنتاج رغيف الخبز، وزراعة القمح، وتدوير القمامة، وصناعة سائر ما نحتاجه من أشياء أساسية ؟ فإسرائيل تصنع الطائرات والصواريخ، وهى ثالث دولة فى العالم مصدّرة لتكنولوجيا المعلومات، إذ صدرت ما قيمة 6.7 مليارات من الدولارات فى سنة 1999. وبلغ حجم الإنفاق على التعليم ما قيمته 6.6٪ من الناتج القومي الإسرائليى سنة 1999، وفاق هذا المعدل ما أنفقته أمريكا إذ بلغ معدل الإنفاق الأمريكي 5.3٪ من الناتج القومي، وما أنفقته اليابان بلغ 3.8٪ فى نفس السنة. وفى الوقت الذى يزيد فيه عدد الأميين فى الوطن العربي على 75 مليون أمي – أمية أبجدية – ناهيك من الأمية العلمية والثقافية وأمية استخدام الحاسوب (الكمبيوتر)، فإن هذه النسبة لا تتجاوز 2٪ فى بلد مثل يوغوسلافيا السابقة، 1٪ فى اليابان. وتنعدم الأمية تماماً فى بلاد ليست من العالم الأول المتقدم مثل تركمانستان. أما الأمية الثقافية والتكنولوجية، فبلغنا فيها حدوداً لا يتجاوزها أحد غيرنا.
" وتقوم المدرسة التقليدية بدورها كاملاً فى الإبقاء على النظام الاجتماعي القائم. فالطبقات الاجتماعية المحظوظة التى بيدها السلطة السياسية هى التى ترسم السياسة التعليمية لتحقيق هذا الهدف. أى أن التعليم يتحول إلى وسيلة لفرض الطاعة على الناس، وهو ليس إلا إحدى الأدوات التى تستخدمها السلطة لحمل الناس على الطاعة والقبول بالنظام القائم، فالمدرسة التقليدية تعوق الحركة التقدمية للمجتمعات الفتية، وهى حجر الزاوية فى البناء السياسي – الاجتماعي القابل للتبعية الاستعمارية، والعاجز عن انتهاج طريق التحرر المستقل. وتتوهم بعض الجهات التعليمية المسؤولة أن زيادة عدد المدارس هى الحل الكامل للتنمية القومية(11) ".
ولقد ساعد النظام الاقتصادي التجاري والرأسمالي في الغرب على دفع العلم الغربي، بالإضافة إلى حالة الازدهار الاقتصادي بعد الكشوف الجغرافية وما ترتب عليها من إفقار للمسلمين بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح .
ولم يعرف المسلمون نظام الجمعيات العلمية الذى عرفه الغرب قبلهم بقرون .. وفى نهاية المطاف لم ينتفعوا بالثورة الصناعية، فضلا عن عدم المشاركة فى صنعها .
وكان سوء النظام التعليمي وعدم مواكبته لمتطلبات العصر، هو المسؤول، إلى جانب عوامل أخرى، عن غياب ذلك النمط من المبدعين والعلماء والمفكرين، ومسؤول عن إفراز نوعية باهتة من العقول السطحية التفكير التى لا تصلح للأخذ بزمام أمة تطلب لنفسها مكاناً مرموقاً تحت قبة السماء وكذلك فإن الانشغال الدائم للأمة والفرد حرمهما من نعمة الاسترخاء والتأمل اللذين يسبقان الفعل الإبداعي الذي يمثل قاطرة التجديد والتطوير، فقد انشغلت الأمة بحروب متصلة طوال تاريخها، وتسلط عليها المستعمرون، وانشغل المستضعفون بلقمة العيش وسط عذابات الفقر والجهل والمرض والقهر فانطفأ سراج العقل والعلم، وغرقنا فى ظلام دامس قرون وقرون .
وفى عصر العز العلمى للمسلمين أيام العباسيين، تحرر العلماء من سلطان الكتّاب الأوائل الذين أخذوا عنهم من سائر الأمم السابقة: إغريق وهندوس وفرس وغيرهم، ثم ابتدعوا منهج البحث العلمى، وهما أمران لم يتوافرا للغرب إلا فى عصر النهضة الأوروبية، ولم ينجح العرب والمسلمون فى مواصلة استثمار هذا المنهج بسبب غياب نظام تعليمي راسخ على غرار النظام التعليمي الغربي من جامعات ودرجات علمية (بكالوريوس وما جستير)، كما أتيح الالتزام السياسي من قِبل الحكام باحتضان النهضة العقلية والتعليمية على غرار ما حدث أيام جعفر المنصور، وهارون الرشيد، والمأمون. والالتزام السياسي من قبل الحكام شرط جوهري لتفعيل الجهود الرامية إلى إحداث بعث علمي وتعليمي للأمة. ومنذ حوالي خمسين سنة مضت، كلفت الإدارة السياسية السوفييتية بزعامة ستالين، أكاديمية العلوم بتحقيق التفوق فى جميع العلوم، ومنحت علماء هذه الأكاديمية مرتبات كبيرة وامتيازات عديدة. ويبلغ الآن عدد العلماء العاملين فى معاهدها أكثر من ربع المليون عالم، الأمر الذى جعل الاتحاد السوفييتي السابق وقتها وأمريكا على قدم المساواة وكفَرسي رهان في ميدان العلوم.
وينتقد العالم الباكستاني محمد عبد السلام الحائز على جائزة نوبل فى الفيزياء، انعدام الالتزام القومي برعاية العلوم فى بلده فى سنة 1959، والافتقاد إلى سياسة لجذب أذكى العقول فى بلده لمهنة العلم، (ويرجع السبب الأساسي لهذا القصور – فى نظره – إلى عدم قدرة الزعامة السياسية والعسكرية على فهم الدور الأساسي للعلم في بناء الأمة. وقد ازداد الوضع سوءاً بسبب المستوى المنخفض وضيق الفكر لدى البيروقراطية التى يسيطر عليها من لا يهتمون كثيراً بالعلم أو التعليم، المحرومون من الشعور بالدهشة والاستغراب، وكانت البيروقراطية تنظر دائماً إلى العلم والتعليم على أنهما خدمة غير هامة ..، وأن الذين يديرون السياسة العلمية لباكستان لا يدركون، أو هم على الأقل لا يعترفون بوجود مشكلة، وأن إدارة الأنشطة العلمية فى باكستان قاصرة جداً فى الوقت الحاضر (سنة 1959)، فهي تقوم على أناس لا يملكون خبرة ذاتية فى العمل العلمى، وليس لديهم إدراك لطبيعة العلم ودوره فى تنمية البلد(12) ".
ويصدق هذا الكلام تقريباً على كل بلدان العالم الثالث المتخلف. ويضيف الدكتور عبد السلام : ومع ذلك، لا داعي لليأس، لأن نمو العلم فى أعلى مستوى ممكن لا يحتاج إلى أكثر من جيل أو جيلين على الأكثر، كما يبدو ذلك من أمثلة أمريكا والاتحاد السوفييتي واليابان والبرازيل والهند والصين وكوريا(12).
وصدق حدسه، إذ تمكنت باكستان الآن من إنتاج القنبلة النووية بعد أقل من جيل واحد من الوقت الذى قال فيه هذا الكلام.
ويحتاج البحث العلمى إلى إنفاق أموال طائلة، لذا فإن إهمال أولى الأمر فى الدول البترولية الغنية، فى استثمار عوائد النفط فى إنشاء مؤسسات بحثية ترعى البحث العلمى واستنبات ما يمكن وصفه بأنه استنبات وطنى للتكنولوجيا، يرقى إلى مستوى الخيانة العظمى لأوطانهم " وحتى عوائد النفط لا تغير شيئا من الوضع الراهن، لأن سياسة الحكم وسياسة العلم مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً – لسوء حظ العلماء – يقصد ضرورة الالتزام السياسي برعاية العلم والعلماء من أجل إحداث نهضة علمية . إذ تسود المنطقة ديكتاتوريات حسنة النية أو سيئة النية، من شأنها تعقيد الأمور فى وجه أية محاولة لترسيخ جذور العلم فى البلد. لذلك ليس من المستغرب أن يستمر نزيف الأدمغة " هجرة العقول" إلى البلدان الصناعية فى إضعاف الحياة الفكرية فى الشرق الأوسط(13) ".
ولما كان المال ضرورة للبحث العلمى والتكنولوجي، لذا عمد أعداؤنا إلى إفقارنا، فشغلونا بالحروب – التى كلفتنا الكثير – مع إسرائيل، ومع بعضنا البعض، واستنزفوا أموال النفط باستمالتنا لاستثمارها فى بلادهم، أو السماح لمن ينهبونها بإيداعها فى بنوكهم، حيث يتعذر استرداد هذه الأموال مرة أخرى .
ولا يُعد المجتمع متقدماً بنبوغ بعض أفراده فقط بينما يغشى جموع الناس الجهل والأمية. ولا تُعد الأمة متقدمة ما لم يكن لها مردود فكرى وعقلي يشارك في صنع مستقبلها، ولا يعوّل على إنجازات حفنة من الأفراد، فالأمة، أى أمة، لا تعدم وجود بعض العقول من أبنائها، وإنما يقاس تقدم الأمم بأن يكون ازدهار العقل وإجلاله ظاهرة عامة تلقى قبولاً وتسليماً ضمنياً من الجميع فعلى الرغم من أن مدة الحكم المملوكي خلت من الإبداع العلمى ، وساد البلاد الأمية والتخلف، إلا أن الأمة لم تعدم بعض نوابغ ظهروا فرادى كالنجوم السواطع فى السماء الحالكة، مثل ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع، والطبيب ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى، والدميرى صاحب أشهر كتاب فى علم الحيوان. ومع أفول حضارة المسلمين وتسليم القيادة العلمية والحضارية للغرب، تناقص عدد العلماء المسلمين باطراد.
فعلى سبيل المثال، بلغ عدد علماء الرياضيات والفلك فى القرن التاسع الميلادي 22 عالما، وأصبحوا 38 عالما فى القرن العاشر، ثم 32 عالماً فى القرن الحادي عشر، ثم 16 عالماً فى القرن الثاني عشر، ثم 13 عالماً فى القرن الثالث عشر، ثم 5 علماء فى القرن الرابع عشر، ثم 6 علماء فى القرن الخامس عشر، ثم 3 علماء فى القرن السادس عشر، ثم 4 علماء فى القرن السابع عشر، والتعويل هنا على العلماء أصحاب المردود العقلي والإبداعي العلمي الذي يمكن أن يتحول إلى إبداع تكنولوجي فى خطوة لاحقة . فالعلوم تتفاوت درجات تأثيرها فى الدفع الحضاري، فالعلوم التي ولّدت إنجازات تكنولوجية هى الرياضيات والكيمياء والفيزياء والفلك .. وغيرها، وهى التى مهدت الطريق إلى الثورة الميكانيكية ثم الثورة الصناعية التى اعتبرت انقلابا نوعياً هائلاً أثر فى مسيرة الحضارة الإنسانية، بينما هناك – علوم أخرى – على أهميتها – غير ذات تأثير مباشر فى دفع عجلة الإبداع التكنولوجي الذي تقاس به مدنية الأمم وقوتها، كالعلوم الإنسانية، وهى العلوم التى ركز عليها الاستعمار فى مدارسنا أثناء سيطرته على مقدراتنا ونظم التعليم فى بلادنا كى يحُول دون إحداث تقدم حقيقى يساعدنا على الانفلات من قبضته. ويجدر الذكر أن ثمة نظامين متوازنين للتعليم فى البلدان المتقدمة، أحدهما للتعليم المهني ويلتحق به خمسون فى المئة من إجمالي عدد الطلاب، ومقرراته مقررات تقنية وحرفية زراعية وصناعية، والنظام الثاني هو النظام الثانوي العام الذي يؤهل للتعليم الجامعي في العلوم والهندسة والطب والآداب.
وداخل إطار التعليم الجامعي هذا تتماثل نسبة طلاب العلوم والهندسة مع نسبة طلاب الآداب. أى أن طلاب الآداب فى الدول المتقدمة يمثلون 25٪ فقط من إجمالي عدد الطلاب، في حين أن هذه النسبة تزيد زيادة هائلة فى بلدان العالم الثالث الذى لا يوجد به نظام موثوق للتعليم المهني الذي لا يزيد فيه عدد خريجيه على عشرة فى المئة من إجمالي عدد الخريجين، وتسهم هذه الندرة فى التخلف التقني والبطالة. وقد حاز الإنجليز قصب السبق فى إحداث الانقلاب الميكانيكي والثورة الصناعية إذ توافر لهم عدد كبير من العمال الحرفيين المهرة الذين برعوا فى الأعمال الميكانيكية وذلك طوال ستة أجيال كاملة .
لذا لا أتحمس للرأي القائل بأن الإرهاصات الأولى لنهضة مصر المعاصرة كانت قبل عصر محمد على باشا إذ بدأت بالبغدادي والجبري وابن عبد الوهاب والزبيدي والشوكاني والشيخ حسن العطار المغربي المصري (1838م) الذي ألف في الطب والفلك، ورضوان الرزاز المصري (1711م) الذي كتب في الفلك والرياضيات، فكلهم – عدا الأخيرين – كانوا مهتمين بعلوم اللغة والدين والتاريخ، ورأى أن تلك محاولة لنفى تأثير الحملة الفرنسية – غير المقصود – على إحداث الصدمة والدهشة للعقل المصري الغافل وتنبيهه إلى سبْق الآخرين له. وأخالف الرأي الذي يحاول التقليل من أثر محمد على باشا فى الاضطلاع بالدور الرائد فى بعث نهضة مصر الحديثة فى القرن التاسع عشر. فمحمد على تمتع بمهارات قيادية نادرة وقدرات إدارية فريدة دفعت بالحركة التعليمية والعلمية للأمام. كما أن الالتزام السياسي، وهو شرط أساسي لاحتضان البعث العلمى للأمة، الذى أتاحه محمد على، كان سبباً مباشراً لهذه النهضة .
وليس من شك فى أن البون الحضاري الذي يفصل بيننا وبين الدول المتقدمة هو المعيار الأساسي في تقييم مدى فعالية نظم التعليم ومعدلات التنمية البشرية فى بلادنا. ولا تعويل إلا على الجهود المبذولة فى اتجاه الاقتراب من الدول المتقدمة بقصد اللحاق بها مستقبلاً، ولا تعويل على هذه الجهود فى حد ذاتها إلا بقدر ما تحققه لنا من الاقتراب من الآخر واللحاق بالدول المتقدمة، فقد نبدل ونغير ، ويكون ذلك كحركة حمار الرحى التى لا تنقله من مكان إلى آخر وإنما تدور به إلى حيث انطلق فى البداية. ويكون الفيصل فى الجهد الذى يقلل المسافة بيننا وبين الدول المتقدمة، وفى ضوء هذا المعيار نكتف أننا ازددنا تخلفاً منذ نهضة محمد على باشا مع أننا قطعنا بعده شوطاً كبيراً فى طريق الأخذ بمستحدثات العصر وتقليد الغرب – فالفارق الحضاري بيننا وبينهم – أى الغرب – لا يزال هُو هُو، بل يزداد اتساعاً في مواضع كثيرة، حتى إنه يصعب، بل قد يستحيل، قيام نهضة على شكل طفرة على غرار ما فعله محمد على باشا فى النصف الأول من القرن التاسع عشر، إذ تمكن من قطع شوط كبير فى اتجاه الاقتراب من الغرب، واصطنع الوسائل التى جعلته فى كثير من المجالات نداً لهم، فتعاونوا على إعادة هذا العملاق إلى القمقم مرة أخرى. وهذا ما يتعذر علينا تحقيقه الآن دون حشد كل الطاقات المخلصة، وبذل كل جهد ممكن للأخذ بالأسباب التى تحدث نهضة حضارية تضعنا فى موقع شديد القرب من الغرب على غرار ما حدث أيام محمد على باشا وفى نفس المدة القصيرة التى حدثت فيها. ويمكن – طبعاً – بل يجب، البدء فى التحرك والسعي صوب تقليل تلك الفوارق. ولكن يتعين علينا المضي بسرعة مذهلة تفوق سرعة نمو الآخرين، حتى يتسنى لنا تقليص المسافة بيننا وبينهم .
ولابد من تهيئة مناخ البحث العلمى والإبداع العقلي، فالمؤسسات البحثية إلى جانب المؤسسات التعليمية الفعالة، هى وحدها المرشحة للقيام بإخراجنا من دائرة التخلف، ولابد من مشاركة الإعلام فى خلق المثال والقدوة التى يتجه إليها الشباب بأبصارهم وضمائرهم، أسوة تعمد إلى تفعيل قواهم واستنهاض هممهم، والكف عن توجيه الأضواء صوب النماذج غير الفاعلة التى لا محل لها فى وقت شدة الأمة واستنهاض الهمة وحشد الطاقات. فالأمة الآن تحارب معركة وجودها، وتناضل ضد أعداء يريدون إهلاكها، ومن العبث والسفه مواجهة ذلك بنقر الدفوف وهز الوسط والنفخ فى المزامير، فالقدوة التي تُحتذى هي العالِم والباحث والتقني والمهندس والمثقف والمبتكر والحرفي وكل من يشارك فى إعلاء قيمة العمل والعلم. ومن الأهمية بمكان التنبه إلى تأثير الإعلام فى إحلال قيم بديلة سلبية فى المجتمع، مثل تعظيم قيمة المال والثراء والكسب، حتى غير المشرع، بدلا من تعظيم العلم والعلماء، فتلك كارثة تعطل المد العلمى وترسخ التخلف .
فبعد هزيمة اليابان فى الحرب العالمية الثانية، اعترف عقلاؤها بأن هزيمتهم بدأت فى المختبر " المعمل " ويتعين على عقلائنا القول بأن أمتنا الإسلامية مهزومة فى المدرسة والجامعة والمختبر والمصنع والحقل ومركز البحث العلمى. ولا يكفى تعليل هذه الهزائم بنظرية المؤامرة – على صحتها – إذ ينبغي الإقرار بمساهمتنا الوافرة فى هزيمة أنفسنا بأنفسنا. وجامعاتنا لا تنتج أى معارف جديدة، ولا تعلم طلابها سوى القديم، شأنها فى ذلك شأن باقي جامعات العالم الثالث المتخلف والتي قد تكون جهود علمائها القليلين مفيدة فى غير بلادهم، وهى متقاعسة – أى الجامعات – عن أداء أهم أدوارها وهو الاضطلاع بالنشاط البحثي، وإن زعم زاعم بغير ذلك فليدلنا على نتائج بحوثها وأثرها فى حل مشكلات المجتمع المجتمع، ولابد من الإقرار بأن البحث العلمى لدينا فى مأزق شديد ولكي نقيله من عثرته يجب الشروع فوراً فى بناء بنية تحتية لتدريس العلوم وإجراء الأنشطة البحثية، وبناء المختبرات والمكتبات العلمية ، وتكوين الجماعات العلمية الوطنية، والقضاء على الأمية العلمية، واللحاق بالأفكار العلمية الجديدة، ومن الأهمية بمكان تفعيل دور الجامعة كمؤسسة بحثية فإن الغرب لن ينقل إلينا التكنولوجيا – التى أنفق الكثير للحصول عليها – ما لم تكن من تكنولوجيا الماضي التي تقادمت، ومن يريد تكنولوجيا الحاضر عليه إعادة اكتشافها بنفسه، فالغرب لن يبيع لنا تكنولوجيا الحاضر التى تمثل له الدجاجة التى تبيض ذهباً.
وليعلم رجال السياسة والسلطان أنه ما من قوة حقيقية دون علم وبحث علمي يولد القدرة التكنولوجية، فالتكنولوجيا هى ابنة العلم. وعندما حاول السلطان العثماني سليم الثالث منافسة الغرب فى صناعة المدافع وقع فى خطأ طلب التكنولوجيا من دون نقل العلم الذى تقوم عليه هذه التكنولوجيا، وهو الخطأ الشائع الذى مازالت تقع فيه بلدان العالم الثالث إذ تقوم "استيراد" التكنولوجيا أو شراء المصانع "تسليم مفتاح"، بدون الإحاطة بالقواعد العلمية والتي تولدت منها هذه التكنولوجيا، لذا يتعذر على هذه البلدان تطوير هذه التكنولوجيا إذ جهلت الأسس العلمية التى قامت عليها. وكان السلطان سليم الثالث قد افتتح فى سنة 1799 مدارس لتدريس الرياضيات والتعدين وعلوم المقذوفات، وجلب من فرنسا والسويد مدرسين للتدريس فى هذه المدارس بقصد مجاراة أوروبا فى صناعة المدافع، وهذا طيب، ولكنه اكتفى بذلك دون إحداث قاعدة للبحث العلمى تتولى إحداث تطوير تكنولوجي يمكّنه من التفوق، فلم يحقق أهدافه المرادة فى التفوق على الغرب ومنافسته، وإن اقتصر الأمر على مجاراته لبعض الوقت .
المصادر :
1- باولو فرا يرى / تعليم المقهورين .
2- أديب إسحاق / الدرر .
3- جون سيتورات مل / الحرية .
4- هـ . ج . ويلز / موجز تاريخ العالم .
5- د. أحمد صبحي / العقائد الدينية في مصر المملوكية بين الإسلام والتصوف .
6- توبي . أ . هاف / فجر العلم الحديث .
7- د. محمد عبد السلام / التنمية والتقدم العلمى فى العالم الثالث .
8- د. توفيق الطويل / في تراثنا العربي الإسلامي .
9- باولو فرا يرى / تعليم المقهورين .
10- د. أنور عبد الملك / الشارع المصري والفكر .
11- عزيز السيد جاسم / تأملات فى الحضارة والاغتراب .
12- د. محمد عبد السلام / التنمية والتقدم العلمى فى العالم الثالث .
13- المرجع السابق .
التعليم التلقيني والتعليم الحواري
إن الهدف الأساسي لأي نظام تعليمي هو إعداد العقول القادرة على صنع المستقبل، والعقول المدربة على طرح الأسئلة والبحث عن إجابات عنها، العقول التى يمكنها ممارسة النقد وكشف أساليب القهر الذهني، القادرة على الإبداع، لا مجرد إعداد عقول لا تحسن سوى الحفظ وتعجز عن ممارسة التساؤل والاستفهام. فأساليب التعليم عندنا بعيدة عن فهم احتياجات العصر، إذ تناسب من نشأوا فى ظروف تكبيل العقل وتكميم الأفواه، تناسب إعداد موظفين لا مبدعين ينهضون بعبء حشد القوى لتنمية الأمة فى عصر تكتلات الدول وسحق الأمم الضعيفة المشرذمة. ويصعب الوثوق فى نظام تعليمي يتعرض باستمرار للتغيير المستمر لا بغرض التطوير والتحسين وإنما بسبب افتقاد خطة راسخة تقوم على رؤية واضحة للأهداف المرجوة من التعليم. ويمضى نظامنا التعليمي في اتجاه تعميق الهوة بيننا وبين سائر الأمم المتقدمة، فالمدة التى تتضاعف فيها المعارف الإنسانية تتناقص باطراد مذهل، مما يجعل اللحاق بالأمم التى سبقتنا أمراً يكاد يكون مستحيلاً فى ظل الإمكانات الراهنة. كما أن ما يتم ممارسته فى المدارس من تعليم تلقيني يرمى إلى إحكام السيطرة على عقول الطلاب من أجل توجيهها حسب توجيهات المستبدين حسب توجهات المستبدين، وصرف هذه العقول بعيداً عن ما يتهددها، فمن تعلموا بهذه الطريقة التلقينية هم أنسب من يلائمون القهر والاستكانة والامتثال. فنظام القهر لا يسمح للمتعلم بالتساؤل، والتساؤل هو أول الطريق إلى الانتفاد واكتشاف الواقع، وهو بداية عمل العقل الإبداعي " المبدع ". ولما افتقدت أمتنا حرية الرأى والكلمة ضاعت، بالضرورة، القدرات الإبداعية لهذه الأمة، فالحضارة هي منتجات الفكر، والفكر هو نتاج عقلي لذا يمكن فهم استحالة إنشاء حضارة دون تحرير العقل ثم تفعيله عن طريق نظام تعليمي فعال، ومعنى ذلك أن التخلف والتبعية والتدنى سيبقون قدراً مقدوراً وسرمداً ممتداً طالما أن العقل مفرغ ومقيد .
دور التعليم التلقيني في اعتقال العقل :
التعليم النظامي فى المدارس الحكومية يكرس إعداد أجيال تقبل الواقع على أنه أفضل الممكن، أجيال عاجزة عن التأمل والاستنتاج والحوار، وذلك باستبعاد وسائل التعليم الحواري التحليلي الموضوعي النقدي الذي يدرب العقل ويشحذ الحواس. ويتبنى هذا التعليم النظامي الوسائل التعليمية التى ترسخ الذاكرة والحفظ لدى التلاميذ على حساب ملكات النقد والإبداع والتفكير. وكان الحفظ هو طريقة التعليم التى درج عليها العرب قبل الإسلام، فقد كانوا أميين لا يعرفون القراءة والكتابة، واعتمدوا على الذاكرة فى حفظ أشعارهم. ولما كان التعليم بعد الإسلام يعتمد أساساً على القرآن الذى كانوا يحفظونه عن ظهر قلب، لذا كان الحفظ بمثابة الوسيلة الأساسية فى المنهج التعليمي وهى وسيلة لم تكن غريبة على آبائهم الأولين فى الجاهلية، ولم يكن الحفظ والاستظهار خاصاً بالقرآن الكريم أو الحديث الشريف، وإنما تعداهما إلى العلوم الأخرى أيضاً . "وكلما تأكدت حقيقة أن الطلاب مجرد مخازن للمعلومات كلما قل وعيهم بالعالم المطلوب منهم تغييره، فقبولهم لهذا الدور السلبي، يعنى بالضرورة تأقلمهم المستمر مع الواقع المفروض عليهم والمعرفة المبتسرة التى أريد لها أن تملأ عقولهم. ومن هنا يتضح أن مهمة التعليم التلقيني الذى يعتمد على مجرد تخزين وإيداع المعلومات فى عقول الطلاب تتركز فى تقليل القدرة الإبداعية عند الطلاب أو إلغائها تماماً من أجل خدمة أغراض المستبدين الذين لا يرغبون فى أن يصبح العالم مكشوفاً لهؤلاء، أو أن يصبح موضوعاً للتغيير. فالمستبدون يتصرفون بغرائزهم ضد أى محاولة فى التعليم تستهدف تنمية الملكة النقدية. لأجل ذلك يشجع المستبدون مفهوم التعليم التلقيني، ويستميتون من أجل فرض نظام التعليم التلقيني الذي يبقى الواقع على ما هو عليه (1).
وقبل قرن مضى، أدرك المفكر أديب إسحاق* كيف يمكن عن طريق التعليم اللاحوارى إحكام استعباد العقل وقتل حرية المتعلم، فيقول " وعن طريق تعلم الإنسان، يتم استعباده وقتل الحرية فيه، فإن سادته لا يسعون إلى توسيع نباهته، ولكنهم يشربونه فهماً جديداً، حتى صار التهذيب عبارة عن إفساد الذهن وتضليل القوة الحاكمة، فالأستاذ لا يعرض تعليمه ليؤخذ اختياراً، ولكنه يوجبه ليحمل اضطراراً، وبذلك تأيدت الأغلاط، واستمرت الجهالة على مرور الأيام" (2).
وهكذا يمكن وصف الفرق بين مفهوم التعليم كخبرة من أجل الحرية، ومفهوم التعليم كوسيلة للسيطرة، بأنه الفرق بين التعليم الحواري والتعليم التلقيني. وطريقة التعليم التلقيني هي التي تعد الإنسان المروضَّ، وتخدم ظروف القهر وتعمل على ترسيخها. وانظر إلى طرق التعليم التى اتبعها المسلمون منذ أجيال وأجيال، تجدها وسائل تلقينية بحتة غير مسموح فيها بالحوار والمناقشة. إذ يعتبر فيها الحوار وتقليب الآراء على أوجهها من قبيل الصفاقة والاجتراء، فكل ما يقوله "الفقيه" , وهو أيضاً مروَّض تعلم بأسلوب تلقيني غير حواري, هو من قبيل المسلمات التى لا تحتاج إلى إثبات، ومن غير الممكن مناقشتها، فضلاً عن تخطئتها. فانكمش العقل المسلم وتم اعتقاله بعد القرن الرابع الهجري، إذ تم اعتبار كل منجزات السلف منجزات مقدسة لا يجوز نقدها أو الخروج عليها، واعتبر المنهج الحواري منهجاً اجترائياً لا يجوز أن يأخذ به مسلم صادق الإيمان. وفى مثل هذا المناخ يترعرع التمذهب والتعصب والتحجر. لذلك لم يتواصل العطاء العقلى والفكري للعقل المسلم مثلما كان عبر القرون الأولى "القرن الثامن الميلادي والتاسع والعاشر" ، فالجدال والمناقشة هما وسيلة إنتاج وتمحيص الحقائق فى منهج التعليم الحواري، ويثمران أفضل النتائج خصوصاً فى ظل الحرية التامة، فمن شروط الحوار التسليم بعدم احتكار الحقيقة، وأن استكشاف العالم ليس من حق الصفوة وحدهم، بل يسع الكل البحث عنها، وأن الحوار فى حد ذاته لا يعنى تهديد ذات المحاور أو الحط من مكانته فى ما لو أفضى الحوار إلى خلاف ما يعتقده، فالحقيقة ليست حكراً على أحد وما اعتقده قد يكون صواباً أو خطأ، وكذلك معتقد الآخر، والحوار هو الآلية الفاصلة فى تمحيص الخطأ والصواب وتقليب الأمور على أوجهها كافة. ومن يمنعون الحوار هم فى الحقيقة لا يستهدفون سوى فرض الحقيقة التى يعرفونها على الآخرين.
ومع قصور العقل البشرى، لا تتولد الحقيقة إلا من اختلاف الرؤى وتباين الحجج، والصواب لا يظهر إلا بالموازنة بين رأيين متعارضين، "وإطلاق الحرية التامة للغير فى معارضتنا هو الشرط الجوهري لا يسوغ افتراض الصواب فى ما نراه من الآراء حتى نستطيع العمل بموجبها، وبدون هذا الشرط لا يستطيع الإنسان أن يكون على ثقة بصحة رأيه وصواب اعتقاده...، فالإنسان قادر على تصحيح خطئه بالمناقشة والتجربة، فالتجربة وحدها لا تغنى شيئاً، بل لابد من المناقشة لأنها تفسر معاني التجربة، فالآراء الكاذبة لن تلبث أن يتضح شرها متى عرضت على نار التجربة (3).
وفى أثينا " كان جو الحرية العجيب الذى تتمتع به النظم الإغريقية يضفي أهمية كبرى على المهارة فى المناقشة والجدال. إذ لم يكن البت فى الأمور حقاً لملك أو كاهن، بل كان بيد جمعيات الشعب أو الزعماء. ومن ثم غدت الفصاحة والاقتدار فى الجدل مزايا مرغوبة ومطلوبة. ونشأت طبقة من المعلمين، إنهم السفسطائيون الذين تعهدوا بإذكاء مواهب الشباب فى هذه الفنون. بيد أن المرء لا يستطيع أن يفكر دون مادة لفكره، ومن ثم جاءت المعرفة فى أعقاب فنون الكلام. وبرز سقراط كناقد قدير للجدل الرديء، واجتمعت حول سقراط طائفة من الشباب الأذكياء. وانتهى الأمر بإعدام سقراط بتهمة تكدير عقول الناس (399 ق.م)، بيد أن تكدير عقول الناس استمر على الرغم من تنفيذ الحكم فيه، وواصل تلاميذه الشباب أداء رسالته(4) ".
وإذا لم ينجح التعليم فى إيقاظ وعى المتعلم وحفزه على تطوير ظروفه ومجتمعه وتدريبه على الفهم والاستنباط وإدراك العلاقات بين الأشياء والأحداث، يكون قد حاق فشل ذريع بأهداف العملية التعليمية. ولا تتم توعية الناس بمجرد شرح الأحوال وتفسير الواقع، وإنما يجب محاورتهم لتبصرتهم بالأدوار التى يمكنهم الاضطلاع بها، ومساعدتهم على ممارسة النقد الذاتي. ويتسع الخرق على الراتق إن تبلد إحساس الناس فلم يكتشفوا القهر الذى استغرقهم ، وزيف الواقع الذى يزينه لهم قاهروهم. لذا ترى، طوال تاريخنا، المساجد معطلة عن أداء دورها كمنبر للحوار والجدل وتبادل الآراء والنقد وكانت هذه المساجد – أيام الزمن الجميل – أيام الخلافة الراشدة وقبلها، منابر للحوار والمشاورة. أما فى ظل الاستبداد اقتصر دورها على الدعاء لولى النعم، وتلاوة الخطب العصماء التى يسبح فيها وعاظ السلطان بمناقبه. كما اضطلع عُتهاء وهُبّل المتصوفة فى المساجد والخانقاوات بقسط وافر من تزييف وعى الناس وتضليلهم، الأمر الذى أدى فى خاتمة المطاف إلى استئناسهم .
" وفى العصر المملوكي كانت الحياة الفكرية والعقلية إفرازاً لتأثير التصوف، حيث دارت الحركة العلمية بين شرح وتلخيص ونظم للمتون، وإعادة شرح التلخيص والمتن دون ابتكار أو تجديد، وحيث فرض التصوف نفسه علماً بين المناهج، وحيث دارت الحياة العلمية فى المؤسسات الصوفية، وحيث تصوف العلماء وتقهقر مستواهم الفكري وطورد المجتهدون منهم ممن تجاسروا على الاعتراض على الصوفية. وبنفس القدر الذى ازداد فيه تقديس الأولياء الصوفية الأميين !!!، كان تقديس المجاذيب أكبر ما يعبر عن احتقار العصر المملوكي للعقل(5) ".
وكان ذلك فى الوقت الذى عرف فيه الغرب الجامعات والدراسات المنظمة والمقررات العلمية المحددة، ومنح الإجازات العلمية، بينما كان نظامنا التعليمي متخلفاً، تلقينيا فى أساسه،يعتمد على قيام الشيخ المعلم بتلقين الدروس الدينية لتلامذته، ثم يجيز هذا الشيخ نفسهُ تلاميذه كى يقوموا بتدريس ما تعلموه. وفى الوقت الذى تأسست فيه جامعات الغرب: جامعة بولونيا فى إيطاليا سنة 1088 ميلادية، وجامعة باريس بفرنسا فى سنة 1120م، وجامعة نابولي في إيطاليا فى سنة 1224م، كان التعليم فى بلادنا فى أحسن حالاته فى الكتاتيب، حتى وإن قيل إن الجامع الأزهر (972 م) هو أول جامعة فى العالم، إلاّ أن التعليم فيه كان مقصوراً على العلوم الدينية، ولا تدرّس فيه العلوم العقلية على غرار جامعات أوروبا المذكورة، كما لم تكن طريقة التدريس به، ومنح الشهادات العلمية تتم على غرار ما كان يحدث فى هذه الجامعات بل كان التعليم فيه تلقينياً يعتمد على الحفظ والتلقين .
" وقد اعتمد النموذج الإسلامى للمدرسة على نقل المعرفة عن سلسلة من الرواة والسلطة الشخصية للشيخ أو الأستاذ، فليست هناك شهادة من هيئة، وليست هى محصلة أو تقييم عدد من الأساتذة، ولا درجة بكالوريوس أو دكتوراه. أما فى الجامعات الأوربية، فكان يتم منح شهادة درجة الليسانس عن طريق رئيس الجامعة فقط والعميد بعد أن يؤدى الطالب امتحاناً فى كليته. هذا الامتحان غير موجود فى المدرسة لأسباب كثيرة منها أنه لم تكن هناك كلية، وإنما مجرد أساتذة كل منهم ينقل مؤلفات سبق أن تلقاها بعد أن يملى إلى جانبها مؤلفاته الخاصة ... ، وعندما انتشرت حركة تأسيس الكليات " المدارس " فى العالم الإسلامى فى القرن الحادي عشر الميلادي، عينت كل مدرسة أستاذاً ينتسب إلى مذهب فقهي، وذلك يعنى أن المدرسة قد أصبحت معهداً لتدريس وجهات نظر شرعية(6) " وكان التعليم يعنى حفظ كم من المعلومات التراثية دون تمحيصها أو انتقادها .
ويحتفى القرآن الكريم بمنهج التعليم الحواري الذي يدعو فيه الإنسان إلى النظر والتفكير والتأمل، والتدرب على رد الظواهر إلى أسبابها، وتدريب العقل على طرح الأسئلة، وتعليم المسلمين كيفية تدبر الواقع وإقامة علاقة حوارية مع النفس والآخر، الأمر الذى مكّنهم من إنشاء وامتلاك قدرة على التأمل والملاحظة والفهم والتأويل، لذا لم يكن غريباً أن يبتدع المسلمون المنهج التجريبي في البحث العلمي الذي قامت عليه النهضة العلمية الحديثة بعد أن اقتبسه الغرب منا، فذلك كان إفرازاً حتمياً لمنهج التفكر والنظر الذى حض عليه القرآن الكريم. فديننا الحنيف هو الذى جاء بآليات هذا المنهج الحواري لتربية العقل، وما الشورى والدعوة إلى النظر والتفكير إلا بعض مكونات هذا المنهج، " إن ثُمن آيات القرآن الكريم – أى حوالي 750 آية – تحث المؤمنين على دراسة الطبيعة، والتفكير، واستغلال العقل فى ما ينفعهم، وعلى جعل الجهد العلمى جزءاً من حياتهم(7) ". والكارثة أن المسلمين أغفلوا هذا المنهج إبّان صراعاتهم، فأضفت كل طائفة من الطوائف المتنازعة والجماعات المتناحرة الإسلامية، وما أكثرها، قداسات دينية على مواقفها، مما يعنى نفى صفة الدين والقداسة عن رأى الطائفة الأخرى، فاشتعلت الصراعات التى أراد البعض توجيهها باطلاً لتحقيق أطماع سياسية وغيرها.
ولا شك أن الصراعات المذهبية والخلافات العصبية هى من تداعيات تفويض هذا المنهج الحواري. وكان تعليمنا فى معظمه، بعد أفول عهد النهضة العلمية الإسلامية، معيناً فى المقام الأول بالعلوم النقلية " الدينية "، وكانت طريقة التعليم تلقينية، إذ لا محل فيها للحوار. فمادة هذه العلوم مقدسة لا يجوز غير قبولها .
وانسحبت هذه الطريقة، فى ما بعد، على العلوم العقلية "غير الدينية" والتعليم بشكل عام، إذ أصبح المنهج التلقيني هو الطريقة التعليمية المتبعة لإبطال فعالية العقل المسلم ثم اعتقاله فى ما بعد، الأمر الذى انتهى بترويض المسلمين واستئناسهم كما تُستأنس الوحوش الضواري التي يؤتى بها من الغاب ليعتلى الأطفال ظهورها في السيرك دون خوف أو رهبة .
" وعندما نؤرخ لواقعنا الفكري، نجد أن كل قطاعات حياتنا الفكرية تستلهم العقل المسالم، وهو العقل الذى يفكر دائماً فى إطار من المألوف للناس، لا يصدم عرفاً شائعاً وإن كان مخطئاً، ولا يتعارض مع رأى ذائع بالغاً ما بلغ فساده. وهذا ، وإن كان أدعى إلى الاستقرار، يعوق التطور ويمنع التجديد. لذا فالجامعات عندنا تذكرنا بالجامعات الأوروبية فى العصور الوسطى، من حيث أنها كانت تتوخى ما سموه "بالتعليم السلمي"، وهو الذي كان يتمشى دائماً مع اتجاهات الكنيسة التى كانت تعد من أعلى السلطات الأوروبية فى تلك العصور. وعلى هذا النهج تسير كل أجهزة إعلامنا من صحافة وإذاعة وتلفزيون وما يعرض فى المسارح والسينما، وما يطرح فى الأسواق من كتب – ولا تشذ عن هذا جميع المؤسسات الثقافية فى مصر وكلها – فى الأغلب والأعم- تقاد ولا تقود، وتساس ولا تسوس. فكيف بالله يكون للعقل – بعد هذا كله – دور فعال فى حياتنا الفكرية المعاصرة( ".
ولما كان المستبد ينظر إلى الحوار على أن فيه شيئاً من الندية بين المتحاورين، لذا رفض أن يتحاور معه أحد، نفياً لشبهة الندية مع من سواه من الرعية، ورفضاً لتجاوزهم الموضع الذى ارتآه لهم وهو أن يكونوا مجرد أشياء أو أنعام فى حظيرته، حتى إن مستشاري المستبد كانوا يسدون المشورة إليه، إذا اضطروا لفعل ذلك، على وجل واستحياء، حتى لا تُرى على أنها محاورة ونقاش .
ويعمد المستبدون إلى تجهيل الناس، ولا يتحمسون لمحو أمية العامة، " فمن السذاجة أن نتوقع من القوة المستبدة أن تقوم بمهمة تعليمية تؤدى إلى تحرير الإنسان، فهى – أى الصفوة – ترى أن المشروع التعليمي إذا أتيح للعاملين الفقراء، قد يكون متعارضاً مع أخلاقياتهم وسعادتهم، لأنه يعلمهم كراهية أنفسهم بدل أن يعلمهم كيف يصبحون زراعاً وعمالاً ممتازين، وبدلا من أن يعلمهم الخضوع، فإنه يعلمهم الجنوح، وفى الدول الصناعية يعلمهم قراءة منشورات التمرد ومطبوعات المعارضة. وسيجد المشرعون أنفسهم بعد بضع سنوات بحاجة إلى استخدام القوة ضدهم. وما تريده الصفوة "المستبدون" هو أن يظل الناس غير قادرين على التفكير. ومن البداهة أن نقول إن السيطرة تستوجب قطبين أحدهما يسيطر والآخر يُستغل، وليس من سبيل إلى تصحيح هذا الواقع إلا بالثورة التى تستهدف التحرير، والثورة تستوجب ظهور طبقة من القادة تصنعهم المحاولة والتجربة (9) ".
فالوعي والاستنارة يجعلان الناس أقل ميلاً للامتثال والطغيان وأكثر استعداداً لمناهضة الاستبداد والظلم .
وفى وقت الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798، كان العدد الأكبر من الفلاحين وأبناء الطبقات الشعبية أميين، وعدد الذين يعرفون القراءة والكتابة من سكان القاهرة وهم ربع عدد الذكور، وإذا كان عدد سكان القاهرة عندئذ حوالي 250 ألف نسمة، الذكور البالغون منهم 99 ألف نسمة، ما يكون عدد المتعلمين منهم حوالي 25000 أي نسبة الأمية حوالي 90٪. وكان الجامع الأزهر هو الجامعة الوحيدة فى مصر، ولا يدرّس بها سوى العلوم الدينية.
وقد نجحت السياسة التعليمية والتي وضعها كرومر في مصر " فى إعداد طائفة من الشبان المصريين لشغل بعض وظائف الدولة غير ذات خطر، واستطاع أن يخرج آلات صماء ليس عندهم شئ من الجرأة أو حرية الرأي، والقدرة على الابتكار أو تثقفوا ثقافة محددة .. وملئت أدمغتهم بمعلومات كثيرة غير مفيدة فى حياتهم، .. وجل اعتمادهم أثناء دراستهم على الاستظهار والحفظ، ولا على القوى العقلية السامية الأخرى من تعقل وموازنة وابتكار واستنباط، فالطالب المصري يعتمد في تحصيله على ذاكرته وعلى التكرار الآلي للحقائق المحفوظة لا على ذكائه وتفكيره، فينشأ عن ذلك ضيق أفقه وجهله بالحوادث المعاصرة(10) ".
ويدين مستر كاربنتر رئيس التفتيش بوزارة المعارف المصرية سنة 1918، يدين دنلوب فيقول : أفسد دنلوب التعليم المصري، إذ لم يخرج هذا التعليم سوى مجرد موظفين . هل ترى فرقاً كبيراً بين خريجي مدارسنا وجامعاتنا أمس واليوم؟
إن تفشى ظاهرة الدروس الخصوصية نتيجة حتمية لتهافت النظام التعليمي، وهى دليل إفلاس المؤسسة التعليمية، وفشل المدرسة فى أداء دورها، وكذلك الجامعة التى أصبحت مجرد مدرسة ثانوية مزدحمة، وغياب دورها فى تدريب العقول وإجراء البحوث وإمداد الصناعة بحلول لمشاكلها، وانعدم تأثيرها فى الحياة الثقافية والعقلية بشكل عام .
ولما كان من المعلوم أنه لا يجوز للتاجر، فى معرض تقييم تجارته، أن يقول إنه أنفق عليها كذا وكذا، بل ينبغي أن يقول إنه ربح منها كذا، فالربح لا التكلفة هو معيار رواج التجارة أو كسادها، وعليه فيكون من المغالطات غير المقبولة أن يُقال فى معرض تقييم، أو مدح النظام التعليمي أو نفى الفشل عنه، وأن نقول إنه أُنفق عليه كذا وكذا، وإنما يجب أن يقول لنا أحد ما هى نتيجة هذا الإنفاق، وهل أثمر لنا هذا النظام التعليمي أجيالاً ممن يحسنون استخدام عقولهم فى البحث العلمى والإبداع والنقد، أجيالاً تحسن النظر فى تقييم واقعها، وهل أفرز لنا النظام التعليمي تلاميذ مثقفين، أم طلبة جاهلين تنخفض مستوياتهم الثقافية انخفاضا مزرياً في بعضه، ومضحكاً فى بعضه الآخر، وإن كانت تلك حصيلة نتاج النظام التعليمي فالأمر، بحق، كارثة، وتعظم الكارثة إن كنا فعلاً ننفق تلك الأموال الطائلة على هذا النظام الفاشل الذى تكون هذه هى مخرجاته ونتائجه.
وقد يجيبك بعض المغالطين بأن " أمتنا بخير"، فمنا زويل، والباز، ومجدي يعقوب، نعم هم زهور أبناء هذه الأمة وموضع فخرها، ولكن يجب أن يكون لدينا المئات أمثالهم، فنسبة العلماء فى إسرائيل 76 عالماً لكل عشرة آلاف شخص، وإذا افترضنا أن منظومة التعليم فى بلادنا قادرة على إفراز علمائنا بنفس المعدل الإسرائيلي، لكانت مخرجات نظامنا التعليمي في مصر أكثر من نصف مليون عالم وكان فى العالم العربى ما يزيد على المليونين والربع مليون من العلماء.
لذا فلا فائدة تُرجى من مواصلة الثناء على نظمنا التعليمية، والادعاء بأن مردودها مُرض، أو الزعم أن لدينا معاهد موثوقة للبحث العلمى، والزعم بأنه ليس فى الإمكان أفضل مما هو كائن، فما نخدع إلاّ أنفسنا، فقد حان أوان مواجهة واقعنا العلمى التعليمي والصناعي والزراعي مواجهة صريحة بلا مراوغة أو تضليل، فنقول إن النظم التعليمية فى عالمنا الإسلامى متخلفة ومهترئة، إذ يتلاشى مردودها عند أول احتكاك عملي مع سوق العمل، وأننا نفتقد مؤسسات فاعلة للبحث العلمى يكون لها مردود حقيقى، ولماذا فشلت مؤسساتنا البحثية فى حل أبسط مشكلاتنا، وهى مشكلات أصبحت مُتحفية فى بلاد أخرى، مثل مشكلات إنتاج رغيف الخبز، وزراعة القمح، وتدوير القمامة، وصناعة سائر ما نحتاجه من أشياء أساسية ؟ فإسرائيل تصنع الطائرات والصواريخ، وهى ثالث دولة فى العالم مصدّرة لتكنولوجيا المعلومات، إذ صدرت ما قيمة 6.7 مليارات من الدولارات فى سنة 1999. وبلغ حجم الإنفاق على التعليم ما قيمته 6.6٪ من الناتج القومي الإسرائليى سنة 1999، وفاق هذا المعدل ما أنفقته أمريكا إذ بلغ معدل الإنفاق الأمريكي 5.3٪ من الناتج القومي، وما أنفقته اليابان بلغ 3.8٪ فى نفس السنة. وفى الوقت الذى يزيد فيه عدد الأميين فى الوطن العربي على 75 مليون أمي – أمية أبجدية – ناهيك من الأمية العلمية والثقافية وأمية استخدام الحاسوب (الكمبيوتر)، فإن هذه النسبة لا تتجاوز 2٪ فى بلد مثل يوغوسلافيا السابقة، 1٪ فى اليابان. وتنعدم الأمية تماماً فى بلاد ليست من العالم الأول المتقدم مثل تركمانستان. أما الأمية الثقافية والتكنولوجية، فبلغنا فيها حدوداً لا يتجاوزها أحد غيرنا.
" وتقوم المدرسة التقليدية بدورها كاملاً فى الإبقاء على النظام الاجتماعي القائم. فالطبقات الاجتماعية المحظوظة التى بيدها السلطة السياسية هى التى ترسم السياسة التعليمية لتحقيق هذا الهدف. أى أن التعليم يتحول إلى وسيلة لفرض الطاعة على الناس، وهو ليس إلا إحدى الأدوات التى تستخدمها السلطة لحمل الناس على الطاعة والقبول بالنظام القائم، فالمدرسة التقليدية تعوق الحركة التقدمية للمجتمعات الفتية، وهى حجر الزاوية فى البناء السياسي – الاجتماعي القابل للتبعية الاستعمارية، والعاجز عن انتهاج طريق التحرر المستقل. وتتوهم بعض الجهات التعليمية المسؤولة أن زيادة عدد المدارس هى الحل الكامل للتنمية القومية(11) ".
ولقد ساعد النظام الاقتصادي التجاري والرأسمالي في الغرب على دفع العلم الغربي، بالإضافة إلى حالة الازدهار الاقتصادي بعد الكشوف الجغرافية وما ترتب عليها من إفقار للمسلمين بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح .
ولم يعرف المسلمون نظام الجمعيات العلمية الذى عرفه الغرب قبلهم بقرون .. وفى نهاية المطاف لم ينتفعوا بالثورة الصناعية، فضلا عن عدم المشاركة فى صنعها .
وكان سوء النظام التعليمي وعدم مواكبته لمتطلبات العصر، هو المسؤول، إلى جانب عوامل أخرى، عن غياب ذلك النمط من المبدعين والعلماء والمفكرين، ومسؤول عن إفراز نوعية باهتة من العقول السطحية التفكير التى لا تصلح للأخذ بزمام أمة تطلب لنفسها مكاناً مرموقاً تحت قبة السماء وكذلك فإن الانشغال الدائم للأمة والفرد حرمهما من نعمة الاسترخاء والتأمل اللذين يسبقان الفعل الإبداعي الذي يمثل قاطرة التجديد والتطوير، فقد انشغلت الأمة بحروب متصلة طوال تاريخها، وتسلط عليها المستعمرون، وانشغل المستضعفون بلقمة العيش وسط عذابات الفقر والجهل والمرض والقهر فانطفأ سراج العقل والعلم، وغرقنا فى ظلام دامس قرون وقرون .
وفى عصر العز العلمى للمسلمين أيام العباسيين، تحرر العلماء من سلطان الكتّاب الأوائل الذين أخذوا عنهم من سائر الأمم السابقة: إغريق وهندوس وفرس وغيرهم، ثم ابتدعوا منهج البحث العلمى، وهما أمران لم يتوافرا للغرب إلا فى عصر النهضة الأوروبية، ولم ينجح العرب والمسلمون فى مواصلة استثمار هذا المنهج بسبب غياب نظام تعليمي راسخ على غرار النظام التعليمي الغربي من جامعات ودرجات علمية (بكالوريوس وما جستير)، كما أتيح الالتزام السياسي من قِبل الحكام باحتضان النهضة العقلية والتعليمية على غرار ما حدث أيام جعفر المنصور، وهارون الرشيد، والمأمون. والالتزام السياسي من قبل الحكام شرط جوهري لتفعيل الجهود الرامية إلى إحداث بعث علمي وتعليمي للأمة. ومنذ حوالي خمسين سنة مضت، كلفت الإدارة السياسية السوفييتية بزعامة ستالين، أكاديمية العلوم بتحقيق التفوق فى جميع العلوم، ومنحت علماء هذه الأكاديمية مرتبات كبيرة وامتيازات عديدة. ويبلغ الآن عدد العلماء العاملين فى معاهدها أكثر من ربع المليون عالم، الأمر الذى جعل الاتحاد السوفييتي السابق وقتها وأمريكا على قدم المساواة وكفَرسي رهان في ميدان العلوم.
وينتقد العالم الباكستاني محمد عبد السلام الحائز على جائزة نوبل فى الفيزياء، انعدام الالتزام القومي برعاية العلوم فى بلده فى سنة 1959، والافتقاد إلى سياسة لجذب أذكى العقول فى بلده لمهنة العلم، (ويرجع السبب الأساسي لهذا القصور – فى نظره – إلى عدم قدرة الزعامة السياسية والعسكرية على فهم الدور الأساسي للعلم في بناء الأمة. وقد ازداد الوضع سوءاً بسبب المستوى المنخفض وضيق الفكر لدى البيروقراطية التى يسيطر عليها من لا يهتمون كثيراً بالعلم أو التعليم، المحرومون من الشعور بالدهشة والاستغراب، وكانت البيروقراطية تنظر دائماً إلى العلم والتعليم على أنهما خدمة غير هامة ..، وأن الذين يديرون السياسة العلمية لباكستان لا يدركون، أو هم على الأقل لا يعترفون بوجود مشكلة، وأن إدارة الأنشطة العلمية فى باكستان قاصرة جداً فى الوقت الحاضر (سنة 1959)، فهي تقوم على أناس لا يملكون خبرة ذاتية فى العمل العلمى، وليس لديهم إدراك لطبيعة العلم ودوره فى تنمية البلد(12) ".
ويصدق هذا الكلام تقريباً على كل بلدان العالم الثالث المتخلف. ويضيف الدكتور عبد السلام : ومع ذلك، لا داعي لليأس، لأن نمو العلم فى أعلى مستوى ممكن لا يحتاج إلى أكثر من جيل أو جيلين على الأكثر، كما يبدو ذلك من أمثلة أمريكا والاتحاد السوفييتي واليابان والبرازيل والهند والصين وكوريا(12).
وصدق حدسه، إذ تمكنت باكستان الآن من إنتاج القنبلة النووية بعد أقل من جيل واحد من الوقت الذى قال فيه هذا الكلام.
ويحتاج البحث العلمى إلى إنفاق أموال طائلة، لذا فإن إهمال أولى الأمر فى الدول البترولية الغنية، فى استثمار عوائد النفط فى إنشاء مؤسسات بحثية ترعى البحث العلمى واستنبات ما يمكن وصفه بأنه استنبات وطنى للتكنولوجيا، يرقى إلى مستوى الخيانة العظمى لأوطانهم " وحتى عوائد النفط لا تغير شيئا من الوضع الراهن، لأن سياسة الحكم وسياسة العلم مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً – لسوء حظ العلماء – يقصد ضرورة الالتزام السياسي برعاية العلم والعلماء من أجل إحداث نهضة علمية . إذ تسود المنطقة ديكتاتوريات حسنة النية أو سيئة النية، من شأنها تعقيد الأمور فى وجه أية محاولة لترسيخ جذور العلم فى البلد. لذلك ليس من المستغرب أن يستمر نزيف الأدمغة " هجرة العقول" إلى البلدان الصناعية فى إضعاف الحياة الفكرية فى الشرق الأوسط(13) ".
ولما كان المال ضرورة للبحث العلمى والتكنولوجي، لذا عمد أعداؤنا إلى إفقارنا، فشغلونا بالحروب – التى كلفتنا الكثير – مع إسرائيل، ومع بعضنا البعض، واستنزفوا أموال النفط باستمالتنا لاستثمارها فى بلادهم، أو السماح لمن ينهبونها بإيداعها فى بنوكهم، حيث يتعذر استرداد هذه الأموال مرة أخرى .
ولا يُعد المجتمع متقدماً بنبوغ بعض أفراده فقط بينما يغشى جموع الناس الجهل والأمية. ولا تُعد الأمة متقدمة ما لم يكن لها مردود فكرى وعقلي يشارك في صنع مستقبلها، ولا يعوّل على إنجازات حفنة من الأفراد، فالأمة، أى أمة، لا تعدم وجود بعض العقول من أبنائها، وإنما يقاس تقدم الأمم بأن يكون ازدهار العقل وإجلاله ظاهرة عامة تلقى قبولاً وتسليماً ضمنياً من الجميع فعلى الرغم من أن مدة الحكم المملوكي خلت من الإبداع العلمى ، وساد البلاد الأمية والتخلف، إلا أن الأمة لم تعدم بعض نوابغ ظهروا فرادى كالنجوم السواطع فى السماء الحالكة، مثل ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع، والطبيب ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى، والدميرى صاحب أشهر كتاب فى علم الحيوان. ومع أفول حضارة المسلمين وتسليم القيادة العلمية والحضارية للغرب، تناقص عدد العلماء المسلمين باطراد.
فعلى سبيل المثال، بلغ عدد علماء الرياضيات والفلك فى القرن التاسع الميلادي 22 عالما، وأصبحوا 38 عالما فى القرن العاشر، ثم 32 عالماً فى القرن الحادي عشر، ثم 16 عالماً فى القرن الثاني عشر، ثم 13 عالماً فى القرن الثالث عشر، ثم 5 علماء فى القرن الرابع عشر، ثم 6 علماء فى القرن الخامس عشر، ثم 3 علماء فى القرن السادس عشر، ثم 4 علماء فى القرن السابع عشر، والتعويل هنا على العلماء أصحاب المردود العقلي والإبداعي العلمي الذي يمكن أن يتحول إلى إبداع تكنولوجي فى خطوة لاحقة . فالعلوم تتفاوت درجات تأثيرها فى الدفع الحضاري، فالعلوم التي ولّدت إنجازات تكنولوجية هى الرياضيات والكيمياء والفيزياء والفلك .. وغيرها، وهى التى مهدت الطريق إلى الثورة الميكانيكية ثم الثورة الصناعية التى اعتبرت انقلابا نوعياً هائلاً أثر فى مسيرة الحضارة الإنسانية، بينما هناك – علوم أخرى – على أهميتها – غير ذات تأثير مباشر فى دفع عجلة الإبداع التكنولوجي الذي تقاس به مدنية الأمم وقوتها، كالعلوم الإنسانية، وهى العلوم التى ركز عليها الاستعمار فى مدارسنا أثناء سيطرته على مقدراتنا ونظم التعليم فى بلادنا كى يحُول دون إحداث تقدم حقيقى يساعدنا على الانفلات من قبضته. ويجدر الذكر أن ثمة نظامين متوازنين للتعليم فى البلدان المتقدمة، أحدهما للتعليم المهني ويلتحق به خمسون فى المئة من إجمالي عدد الطلاب، ومقرراته مقررات تقنية وحرفية زراعية وصناعية، والنظام الثاني هو النظام الثانوي العام الذي يؤهل للتعليم الجامعي في العلوم والهندسة والطب والآداب.
وداخل إطار التعليم الجامعي هذا تتماثل نسبة طلاب العلوم والهندسة مع نسبة طلاب الآداب. أى أن طلاب الآداب فى الدول المتقدمة يمثلون 25٪ فقط من إجمالي عدد الطلاب، في حين أن هذه النسبة تزيد زيادة هائلة فى بلدان العالم الثالث الذى لا يوجد به نظام موثوق للتعليم المهني الذي لا يزيد فيه عدد خريجيه على عشرة فى المئة من إجمالي عدد الخريجين، وتسهم هذه الندرة فى التخلف التقني والبطالة. وقد حاز الإنجليز قصب السبق فى إحداث الانقلاب الميكانيكي والثورة الصناعية إذ توافر لهم عدد كبير من العمال الحرفيين المهرة الذين برعوا فى الأعمال الميكانيكية وذلك طوال ستة أجيال كاملة .
لذا لا أتحمس للرأي القائل بأن الإرهاصات الأولى لنهضة مصر المعاصرة كانت قبل عصر محمد على باشا إذ بدأت بالبغدادي والجبري وابن عبد الوهاب والزبيدي والشوكاني والشيخ حسن العطار المغربي المصري (1838م) الذي ألف في الطب والفلك، ورضوان الرزاز المصري (1711م) الذي كتب في الفلك والرياضيات، فكلهم – عدا الأخيرين – كانوا مهتمين بعلوم اللغة والدين والتاريخ، ورأى أن تلك محاولة لنفى تأثير الحملة الفرنسية – غير المقصود – على إحداث الصدمة والدهشة للعقل المصري الغافل وتنبيهه إلى سبْق الآخرين له. وأخالف الرأي الذي يحاول التقليل من أثر محمد على باشا فى الاضطلاع بالدور الرائد فى بعث نهضة مصر الحديثة فى القرن التاسع عشر. فمحمد على تمتع بمهارات قيادية نادرة وقدرات إدارية فريدة دفعت بالحركة التعليمية والعلمية للأمام. كما أن الالتزام السياسي، وهو شرط أساسي لاحتضان البعث العلمى للأمة، الذى أتاحه محمد على، كان سبباً مباشراً لهذه النهضة .
وليس من شك فى أن البون الحضاري الذي يفصل بيننا وبين الدول المتقدمة هو المعيار الأساسي في تقييم مدى فعالية نظم التعليم ومعدلات التنمية البشرية فى بلادنا. ولا تعويل إلا على الجهود المبذولة فى اتجاه الاقتراب من الدول المتقدمة بقصد اللحاق بها مستقبلاً، ولا تعويل على هذه الجهود فى حد ذاتها إلا بقدر ما تحققه لنا من الاقتراب من الآخر واللحاق بالدول المتقدمة، فقد نبدل ونغير ، ويكون ذلك كحركة حمار الرحى التى لا تنقله من مكان إلى آخر وإنما تدور به إلى حيث انطلق فى البداية. ويكون الفيصل فى الجهد الذى يقلل المسافة بيننا وبين الدول المتقدمة، وفى ضوء هذا المعيار نكتف أننا ازددنا تخلفاً منذ نهضة محمد على باشا مع أننا قطعنا بعده شوطاً كبيراً فى طريق الأخذ بمستحدثات العصر وتقليد الغرب – فالفارق الحضاري بيننا وبينهم – أى الغرب – لا يزال هُو هُو، بل يزداد اتساعاً في مواضع كثيرة، حتى إنه يصعب، بل قد يستحيل، قيام نهضة على شكل طفرة على غرار ما فعله محمد على باشا فى النصف الأول من القرن التاسع عشر، إذ تمكن من قطع شوط كبير فى اتجاه الاقتراب من الغرب، واصطنع الوسائل التى جعلته فى كثير من المجالات نداً لهم، فتعاونوا على إعادة هذا العملاق إلى القمقم مرة أخرى. وهذا ما يتعذر علينا تحقيقه الآن دون حشد كل الطاقات المخلصة، وبذل كل جهد ممكن للأخذ بالأسباب التى تحدث نهضة حضارية تضعنا فى موقع شديد القرب من الغرب على غرار ما حدث أيام محمد على باشا وفى نفس المدة القصيرة التى حدثت فيها. ويمكن – طبعاً – بل يجب، البدء فى التحرك والسعي صوب تقليل تلك الفوارق. ولكن يتعين علينا المضي بسرعة مذهلة تفوق سرعة نمو الآخرين، حتى يتسنى لنا تقليص المسافة بيننا وبينهم .
ولابد من تهيئة مناخ البحث العلمى والإبداع العقلي، فالمؤسسات البحثية إلى جانب المؤسسات التعليمية الفعالة، هى وحدها المرشحة للقيام بإخراجنا من دائرة التخلف، ولابد من مشاركة الإعلام فى خلق المثال والقدوة التى يتجه إليها الشباب بأبصارهم وضمائرهم، أسوة تعمد إلى تفعيل قواهم واستنهاض هممهم، والكف عن توجيه الأضواء صوب النماذج غير الفاعلة التى لا محل لها فى وقت شدة الأمة واستنهاض الهمة وحشد الطاقات. فالأمة الآن تحارب معركة وجودها، وتناضل ضد أعداء يريدون إهلاكها، ومن العبث والسفه مواجهة ذلك بنقر الدفوف وهز الوسط والنفخ فى المزامير، فالقدوة التي تُحتذى هي العالِم والباحث والتقني والمهندس والمثقف والمبتكر والحرفي وكل من يشارك فى إعلاء قيمة العمل والعلم. ومن الأهمية بمكان التنبه إلى تأثير الإعلام فى إحلال قيم بديلة سلبية فى المجتمع، مثل تعظيم قيمة المال والثراء والكسب، حتى غير المشرع، بدلا من تعظيم العلم والعلماء، فتلك كارثة تعطل المد العلمى وترسخ التخلف .
فبعد هزيمة اليابان فى الحرب العالمية الثانية، اعترف عقلاؤها بأن هزيمتهم بدأت فى المختبر " المعمل " ويتعين على عقلائنا القول بأن أمتنا الإسلامية مهزومة فى المدرسة والجامعة والمختبر والمصنع والحقل ومركز البحث العلمى. ولا يكفى تعليل هذه الهزائم بنظرية المؤامرة – على صحتها – إذ ينبغي الإقرار بمساهمتنا الوافرة فى هزيمة أنفسنا بأنفسنا. وجامعاتنا لا تنتج أى معارف جديدة، ولا تعلم طلابها سوى القديم، شأنها فى ذلك شأن باقي جامعات العالم الثالث المتخلف والتي قد تكون جهود علمائها القليلين مفيدة فى غير بلادهم، وهى متقاعسة – أى الجامعات – عن أداء أهم أدوارها وهو الاضطلاع بالنشاط البحثي، وإن زعم زاعم بغير ذلك فليدلنا على نتائج بحوثها وأثرها فى حل مشكلات المجتمع المجتمع، ولابد من الإقرار بأن البحث العلمى لدينا فى مأزق شديد ولكي نقيله من عثرته يجب الشروع فوراً فى بناء بنية تحتية لتدريس العلوم وإجراء الأنشطة البحثية، وبناء المختبرات والمكتبات العلمية ، وتكوين الجماعات العلمية الوطنية، والقضاء على الأمية العلمية، واللحاق بالأفكار العلمية الجديدة، ومن الأهمية بمكان تفعيل دور الجامعة كمؤسسة بحثية فإن الغرب لن ينقل إلينا التكنولوجيا – التى أنفق الكثير للحصول عليها – ما لم تكن من تكنولوجيا الماضي التي تقادمت، ومن يريد تكنولوجيا الحاضر عليه إعادة اكتشافها بنفسه، فالغرب لن يبيع لنا تكنولوجيا الحاضر التى تمثل له الدجاجة التى تبيض ذهباً.
وليعلم رجال السياسة والسلطان أنه ما من قوة حقيقية دون علم وبحث علمي يولد القدرة التكنولوجية، فالتكنولوجيا هى ابنة العلم. وعندما حاول السلطان العثماني سليم الثالث منافسة الغرب فى صناعة المدافع وقع فى خطأ طلب التكنولوجيا من دون نقل العلم الذى تقوم عليه هذه التكنولوجيا، وهو الخطأ الشائع الذى مازالت تقع فيه بلدان العالم الثالث إذ تقوم "استيراد" التكنولوجيا أو شراء المصانع "تسليم مفتاح"، بدون الإحاطة بالقواعد العلمية والتي تولدت منها هذه التكنولوجيا، لذا يتعذر على هذه البلدان تطوير هذه التكنولوجيا إذ جهلت الأسس العلمية التى قامت عليها. وكان السلطان سليم الثالث قد افتتح فى سنة 1799 مدارس لتدريس الرياضيات والتعدين وعلوم المقذوفات، وجلب من فرنسا والسويد مدرسين للتدريس فى هذه المدارس بقصد مجاراة أوروبا فى صناعة المدافع، وهذا طيب، ولكنه اكتفى بذلك دون إحداث قاعدة للبحث العلمى تتولى إحداث تطوير تكنولوجي يمكّنه من التفوق، فلم يحقق أهدافه المرادة فى التفوق على الغرب ومنافسته، وإن اقتصر الأمر على مجاراته لبعض الوقت .
المصادر :
1- باولو فرا يرى / تعليم المقهورين .
2- أديب إسحاق / الدرر .
3- جون سيتورات مل / الحرية .
4- هـ . ج . ويلز / موجز تاريخ العالم .
5- د. أحمد صبحي / العقائد الدينية في مصر المملوكية بين الإسلام والتصوف .
6- توبي . أ . هاف / فجر العلم الحديث .
7- د. محمد عبد السلام / التنمية والتقدم العلمى فى العالم الثالث .
8- د. توفيق الطويل / في تراثنا العربي الإسلامي .
9- باولو فرا يرى / تعليم المقهورين .
10- د. أنور عبد الملك / الشارع المصري والفكر .
11- عزيز السيد جاسم / تأملات فى الحضارة والاغتراب .
12- د. محمد عبد السلام / التنمية والتقدم العلمى فى العالم الثالث .
13- المرجع السابق .
مواضيع مماثلة
» * مراتب العلوم - دفع الضرر- العلم ألذ الأشياء - طرق التعليم
» * سر افشال التعليم في الدول العربية - علماء أمريكيون - اسلحة الدمار الشامل - النورمندي.
» * سر افشال التعليم في الدول العربية - علماء أمريكيون - اسلحة الدمار الشامل - النورمندي.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى