* الطعن في حديث "المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء - تخفيف القرآن على داود
صفحة 1 من اصل 1
* الطعن في حديث "المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء - تخفيف القرآن على داود
مضمون الشبهة:
يطعن بعض المشككين في حديث «المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء»
ويستدلون على ذلك بأن الحديث يناقض المكتشفات العلمية الحديثة، ويتعارض مع واقع الحال الذي خلق عليه الإنسان؛ إذ إن كل إنسان له قلب ورئتان، ومعدة وأمعاء دقيقة وغليظة، وغير ذلك من الأعضاء.
متسائلين: كيف يذكر الحديث أن المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء مع أن التركيب العضوي للإنسان لا يختلف من شخص لآخر؟.
هادفين من طعنهم هذا إلى التشكيك في السنة النبوية.
وجه إبطال الشبهة:
· إن حديث «المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء» حديث صحيح سندا ومتنا، فقد جاء في أصح كتب السنة، كما أنه لا يتعارض مع الحال التي خلق الإنسان عليها، والحديث له منطوق ومفهوم، وإلى كل ذهب فريق من العلماء.
التفصيل:
إن الأحاديث الواردة في أن المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء - أحاديث صحيحة في أعلى درجات الصحة؛ حيث رواها أصحاب الصحيح والسنن والمسانيد بطرق صحيحة متصلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد روى الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معى واحد»[1].
كما روى البخاري من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يأكل المسلم في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء»[2].
وقد روى الإمام مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر وابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:«المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء»[3].
وغير ذلك من الأحاديث التي جاءت في الصحيحين بهذا المعنى، كما رويت هذه الأحاديث في كثير من كتب السنن الأخرى، فقد رواها الإمام الترمذي وابن ماجه والنسائي في سننهم، والإمام أحمد في مسنده، بطرق صحيحة متصلة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا فالأحاديث الواردة في هذا الأمر ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أعلى درجات الصحة.
أما عن معنى الحديث والمقصود منه فكان للعلماء فيه آراء وتفسيرات وترجيحات ذكرها الإمام ابن حجر في "فتح الباري" عند شرحه للأحاديث السابقة، فمنهم من حمله على ظاهره، وبعضهم قال: إن ظاهر الحديث ليس هو المراد أصلا.
فأما الذين قالوا بظاهر الحديث فقد ذهبوا في ذلك إلى أقوال عدة:
أولها: أنه ورد في شخص بعينه، واللام عهدية لا جنسية.
قال ابن عبد البر: هذا الحديث خرج على غير مقصوده بالحديث، والإشارة فيه إلى كافر بعينه لا إلى جنس الكافر، ولا سبيل إلى حمله على العموم؛ لأن المشاهدة تدفعه وتكذبه، وقد جل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، ألا ترى أنه قد يوجد كافر أقل أكلا من مؤمن، ويسلم الكافر فلا ينتقص أكله ولا يزيد... ويروى أن الرجل الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه المقالة هو جهجاه بن سعيد الغفاري... فقد روى مسلم من طريق أبي هريرة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضافه ضيف وهو كافر، فأمر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة فحلبت، فشرب حلابها، ثم أخرى فشربه، ثم أخرى فشربه، حتى شرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم، فأمر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة فشرب حلابها، ثم أمر بأخرى فلم يستتمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن يشرب في معى واحد، والكافر يشرب في سبعة أمعاء»[4].
وهذا أيضا لفظ عموم والمراد به الخصوص، فكأنه قال: هذا إذ كان كافرا كان يأكل في سبعة أمعاء، فلما آمن عوفي وبورك له في نفسه، فكفاه جزء من سبعة أجزاء مما كان يكفيه إذ كان كافرا خصوصا له.
فكان قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «الكافر يأكل في سبعة أمعاء» إشارة إليه، كأنه قال: هذا الكافر، وكذلك المؤمن يأكل في معى واحد، يعني هذا المؤمن. والله أعلم. وقال الله عز وجل: )الذين قال لهم الناس( (آل عمران: ١٧٣) وهو يريد رجلا، فيما قال أهل العلم بتأويل القرآن، وقيل رجلان )إن الناس قد جمعوا لكم((آل عمران: ١٧٣)؛ يعني: قريشا، فجاء بلفظ عموم ومعناه الخصوص، ومثلـه )تدمر كل شيء( (الأحقاف: ٢٥)، )ما تذر من شيء( (الذاريات: ٤٢) كل هذا عموم يراد به الخصوص، ومثل هذا كثير في القرآن ولسان العرب، وفي هذا الحديث دليل على ذم الأكول الذي لا يشبع، وأنها خلة مذمومة، وصفة غير محمودة، وأن القلة من الأكل أحمد وأفضل، وصاحبها عليها ممدوح[5].
وعلي هذا - أيضا - حمله الطحاوي فقال: "إن ذلك منه إنما كان في رجل بعينه في حال كفره، وفي حال إسلامه، فلم يكن في الحديث عندنا وجه غير هذا الوجه، وكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» خرج مخرج المعرفة، وما خرج مخرج المعرفة لم يتعد من قصد به إليه إلى من سواه، ومن ذلك قول الله عز وجل: )فإن مع العسر يسرا (5) إن مع العسر يسرا (6)( (الشرح)، فقال أهل العلم في ذلك: لا يغلب عسر يسرين، مستخرجين لذلك المعنى في هذه الآية؛ لأن العسر خرج مخرج المعرفة، فكان على واحد، وخرج اليسر مخرج النكرة فكان في كل واحد من قوله عز وجل: )إن مع العسر يسرا (6)( (الشرح) يسرا غير الذي في الآخر منهما"[6].
قال ابن حجر: وقد تعقب هذا الحمل بأن ابن عمر - راوي الحديث - فهم منه العموم؛ فلذلك منع الذي رآه يأكل كثيرا من الدخول عليه واحتج بالحديث، ويؤيد عدم جواز حمله على الخصوص تعدد الوقائع، وإيراد الحديث بعد كل واقعة منها في حق الذي وقع له نحو ذلك[7].
ثانيها: أن الحديث خرج مخرج الغالب، وليست حقيقة العدد مرادة، وتخصيص السبعة للمبالغة في التكثير، كما في قوله تعالى: )والبحر يمده من بعده سبعة أبحر( (لقمان: ٢٧). والمعنى: أن من شأن المؤمن التقلل من الأكل؛ لاشتغاله بأسباب العبادة، ولعلمه بأن مقصود الشرع من الأكل هو ما يسد الجوع، ويمسك الرمق، ويعين على العبادة، ولخشيته - أيضسا - من حساب ما زاد على ذلك، والكافر بخلاف ذلك كله، فإنه لا يقف مع مقصود الشرع، بل هو تابع لشهوة نفسه مسترسل فيها غير خائف من تبعات الحرام، فصار أكل المؤمن إذا نسب إلى أكل الكافر كأنه بقدر السبع منه، ولا يلزم من هذا اطراده في حق كل مؤمن وكافر، فقد يكون في المؤمنين من يأكل كثيرا إما بحسب العادة، وإما لعارض يعرض له من مرض باطن، أو لغير ذلك، ويكون في الكفار من يأكل قليلا إما لمراعاة الصحة على رأي الأطباء، وإما للرياضة على رأي الرهبان، وإما لعارض كضعف المعدة.
قال الطيبي: ومحصل القول أن من شأن المؤمن الحرص على الزهادة والاقتناع بالبلغة[8]، بخلاف الكافر، فإذا وجد مؤمن أو كافر على غير هذا الوصف لا يقدح في الحديث. ومن هذا قوله تعالى: )الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة( (النور: ٣) وقد يوجد من الزاني نكاح الحرة، ومن الزانية نكاح الحر.
ثالثها: أن المؤمن يسمي الله تعالى عند طعامه وشرابه فلا يشركه الشيطان، فيكفيه القليل، والكافر لا يسمي فيشركه الشيطان، وفي صحيح مسلم في حديث مرفوع: «إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه...»[9].
رابعها: أن المؤمن يقل حرصه على الطعام، فيبارك له فيه وفي مأكله، فيشبع من القليل، والكافر طامح إلى المأكل فلا يشبعه القليل، وهذا يمكن ضمه إلى الذي قبله، ويجعلان جوابا واحدا مركبا[10].
خامسها: وهو المختار عند النووي: "أن المراد أن بعض المؤمنين يأكل في معى واحد، وأن أكثر الكفار يأكلون في سبعة أمعاء، ولا يلزم أن يكون كل واحد من السبعة مثل معى المؤمن"[11].
القول الثاني: أما الذين قالوا: إن ظاهر الحديث ليس هو المراد أصلا، فقد وجهوا الحديث ثلاث وجهات:
أحدها: "أن هذا مثل ضرب للمؤمن وزهده في الدنيا والكافر وحرصه عليها، فكأن المؤمن لتقلله من الدنيا يأكل في معى واحد، والكافر لشدة رغبته فيها، واستكثاره منها يأكل في سبعة أمعاء، فليس المراد حقيقة الأمعاء، ولا خصوص الأكل، وإنما المراد التقلل من الدنيا والاستكثار منها، فكأنه عبر عن تناول الدنيا بالأكل، وعن أسباب ذلك بالأمعاء، ووجه العلاقة ظاهر"[12].
ونقل الطحاوي نحوه عن ابن أبي عمران فقال:
"كان قوم حملوا هذا الحديث على الرغبة في الدنيا، كما تقول: فلان يأكل الدنيا أكلا؛ أي: يرغب فيها، ويحرص عليها، فجعلوا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن يأكل في معى واحد» أي لزهادته في الدنيا، «والكافر في سبعة أمعاء» أي لرغبته فيها، ولم يجعلوا ذلك على الطعام، وقالوا: قد رأينا مؤمنا أكثر طعاما من كافر"[13].
ثانيها: معناه أن المؤمن يأكل الحلال، والكافر يأكل الحرام، والحلال أقل من الحرام في الوجود.
ثالثها: معناه حض المؤمن على قلة الأكل إذا علم أن كثرة الأكل صفة الكافر، فإن نفس المؤمن تنفر من الاتصاف بصفة الكافر، ويدل على أن كثرة الأكل من صفة الكفار قوله تعالى: )والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام( (محمد: ١٢)[14].
وبذلك يكون قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن يأكل في معى واحد...» إنما هو من الأسلوب الخبري المراد به "الإنشائي"؛ أي: الأمر الناهي، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يقول: ليأكل المؤمن في معى واحد، ولا يتشبه بالكافر الذي يأكل في سبعة أمعاء"[15].
"قال العلماء: يؤخذ من الحديث الحض على التقلل من الدنيا، والحث على الزهد فيها، والقناعة بما تيسر منها، وقد كان العقلاء في الجاهلية والإسلام يتمدحون بقلة، الأكل ويذمون كثرة الأكل"[16].
على أن هناك من يقول: "إن الأكل المذكور هنا لا يراد به الأكل المعروف، وهو ازدراد الطعام، وإنما يراد به معنى أعم وهو التمتع بالأكل، أو اللبس، أو الجمع، أو الادخار.وهو كقول الله تعالى: )الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس( (البقرة: ٢٧٥)، وقوله تعالى: )إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا( (النساء: ١٠).
فهذه الآيات لا تعني الأكل المعروف، وإنما تعني شيئا أعم من ذلك وهو ما تقدم... وسبب الحديث لا يكون مخصوصا عمومه، فالعموم باق على حاله، وإن كان السبب خاصا لا عموم له، وبيان هذا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما رأى ذلك الكافر وكثرة ما يأكل ذكر خلقا من أخلاق الكافرين، وهو التمتع باللذات المادية بشره وشدة. والمعاني تتداعى. وتفسير هذا قول العلماء: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، يريدون أن اللفظ يكون عاما في دلالته وإن كان خاصا سببه، وغالب عمومات الشرع أسبابها خاصة، هذا من جهة الأكل، وأما من جهة العدد فلا ريب أنه لا يريد في مثل هذا الاستعمال تحديد العدد. ومثل ذلك أن تقول: فلان يتكلم بسبعة ألسنة أو بسبعة أفواه، ويأكل في سبعة بطون، وأمثال ذلك. ولا شك أن القائل لذلك لا يقصد العدد المذكور وإنما يريد المبالغة"[17].
وقال ابن القيم:
"لما كان الكافر ليس في قلبه شيء من الإيمان والخير يغتذي به انصرفت قواه ونهمته كلها على الغذاء الحيواني البهيمي، لما فقد الغذاء الروحي القلبي، فتوفرت أمعاؤه وقواه على هذا الغذاء، واستفرغت أمعاؤه هذا الغذاء، وامتلأت به بحسب استعدادها وقبولها، كما امتلأت به العروق والمعدة، وأما المؤمن فإنه إنما يأكل العلفة ليتقوى بها على ما أمر به، فهمته وقواه مصروفة إلى أمور وراء الأكل، فإذا أكل ما يغذيه ويقيم صلبه استغني قلبه ونفسه وروحه بالغذاء الإيماني عن الاستكثار من الغذاء الحيواني، فاشتغل معاه الواحد بالغذاء، فأمسكه حتى أخذت منه الأعضاء والقوى مقدار الحاجة، فلم يحتج إلى أن يملأ أمعاءه كلها من الطعام، وهذا أمر معلوم بالتجربة، وإذا قويت مواد الإيمان ومعرفة الله وأسمائه وصفاته ومحبته والشوق إلى لقائه في القلب استغنى بها العبد عن كثير من الغذاء، ووجد لها قوة تزيد على قوة الغذاء الحيواني"[18].
ومن خلال ما سبق يتبين أن ما يؤخذ من الحديث هو الحض على التقلل من الطعام، ومن ثم الحث على الزهد في الدنيا، والقناعة بما تيسر منها، وأن من شأن أهل الإيمان التقليل من الطعام والشراب، حذرا من الإسراف المذموم، والتزاما بما أخرجه الترمذي وغيره من حديث مقدام بن معد يكرب، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه»[19].
وبهذا يسلم الحديث من الإشكال المشهور الذي أورد عليه.
الخلاصة:
· إن حديث«الكافر يأكل في سبعة أمعاء» حديث صحيح ورد في أصح كتب السنة، كما أنه لا يعارض الحال التي خلق عليها الإنسان.
· لقد اختلف العلماء في المراد من الحديث، فمنهم من فهمه على ظاهره، ومنهم من قال: إن ظاهر الحديث ليس هو المراد أصلا.
· إن الحديث يحض المؤمن على قلة الأكل، وهي ممدوحة لدى العقلاء في الجاهلية والإسلام، ويذم كثرة الأكل ويعدها صفة من صفات الكافرين.
إنكار حديث "تخفيف القرآن على داود ع
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المغرضين الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "خفف على داود - عليه السلام - القرآن، فكان يأمر بدوابه فتسرج، فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه". مستدلين على ذلك بأن هذا الحديث الذي تفرد بروايته أبو هريرة ينسب إلى داود قراءة القرآن، والمعلوم أن القرآن لم ينزل إلا بعد وفاة داود بألف وستمائة عام على محمد صلى الله عليه وسلم. كما يتساءلون: أي قراءة للقرآن هذه التي يختم فيها القرآن كله في هذه الفترة القصيرة؟ مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ختمه في أقل من ثلاثة أيام؛ إذ القراءة عندها ستكون هذرا بلا تفكر، ولن تكون تلاوة بتدبر. رامين من وراء ذلك إلى الطعن في الأحاديث الصحيحة بحجة عدم قبول العقل لما جاء فيها.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن حديث «خفف على داود القرآن» حديث صحيح، والقرآن المذكور في الحديث هو الزبور الذي أنزل على داود - عليه السلام - لأن كلمة القرآن تعني القراءة؛ أي قراءة الزبور، والدليل على ذلك: أن كلمة القرآن في اللغة هي جنس القراءة أيا كانت، وكل الكتب السماوية تسمى قرآنا.
2) إن سرعة قراءة داود - عليه السلام - الزبور لا تستلزم عدم التدبر والفهم، إذ إن الله تعالى قد وهبه نعما كثيرة، منها تسبيح الجبال والطير معه، وإلانة الحديد له، والقوة في العبادة، والقادر على ذلك قادر على أن يبارك له في الوقت؛ ليقرأ الذبور في مدة يسيرة مع الفهم والتدبر.
التفصيل:
أولا. الحديث صحيح؛ والمراد بالقرآن هو قراءة الزبور وليس القرآن الكريم:
إن حديث قراءة داود - عليه السلام - القرآن حديث صحيح سندا ومتنا، فقد رواه البخاري في صحيحه قال: حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خفف على داود - عليه السلام - القرآن فكان يأمر بدوابه، فتسرج، فيقرأ قبل أن تسرج دوابه. ولا يأكل إلا من عمل يديه»[1] رواه موسى بن عقبة عن صفوان عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه البخاري في صحيحه بإسناد آخر عن أبي هريرة... فذكره[2]، ورواه ابن حبان في صحيحه أيضا بإسناد صحيح عن أبي هريرة... فذكره[3].
فالحديث سندا لا مغمز فيه.
هذا من ناحية السند، أما المتن فلا إشكال فيه أيضا؛ إذ ليس المقصود بالقرآن المذكور في الحديث القرآن العظيم المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يقل بذلك أحد من العلماء على مر العصور الإسلامية، بل المقصود به هو القراءة، وهذا المعنى هو المعروف عند العلماء وشراح الحديث، قال ابن حجر: المراد بالقرآن القراءة، والأصل في هذه اللفظة الجمع، وكل شيء جمعته فقد قرأته[4].
وقال أيضا: "المراد بالقرآن مصدر القراءة، لا القرآن المعهود لهذه الأمة"[5].
وقال ابن بطال: "والمراد بالقرآن في هذا الحديث الزبور"[6].
وقال ابن كثير: "والمراد بالقرآن ها هنا الزبور الذي أنزله عليه، وأوحاه إليه"[7].
فهؤلاء هم أئمة المسلمين وعلماؤهم، لم يقل أحد منهم بأن المقصود هو القرآن الكريم. وقد بين علماء المسلمين أن المعنى الذي ذهبنا إليه هو المقصود، واستدلوا على ذلك بأمور:
الأول: أنه قد جاء في رواية أخرى للحديث: «خفف على داود القراءة»، وبهذه الرواية يتضح معنى الحديث، وتنتفي إرادة معنى القرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقال ابن الأثير: تكرر في الحديث ذكر القراءة والاقتراء والقارئ والقرآن، والأصل في هذه اللفظة الجمع، وكل شيء جمعته فقد قرأته، وسمي قرآنا؛ لأنه جمع القصص والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والآيات والسور بعضها على بعض، وهو مصدر كالغفران والكفران، وقد يطلق على الصلاة[8]، وقد أشار إلى ذلك ابن حجر فقال: وفي رواية الكشميهني: القراءة[9].
وقال أيضا: "ووقع في رواية لأبي ذر: القراءة"[10].
قال تعالى: )إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (18) ( (القيامة).
قال الطاهر ابن عاشور في تفسيره: و"(قرآن) في الموضعين مصدر بمعنى القراءة مثل الغفران والفرقان، قال حسان في رثاء عثمان بن عفان:
يقطع الليل تسبيحا وقرآنا" [11]
وكلمة "القراءة" قرينة صريحة لصحة القول بأن القرآن في هذا الحديث بمعنى القراءة.
الثاني: أن لفظ القرآن في اللغة يطلق ويراد به ما يشمل القرآن الكريم وغيره، فلفظ القرآن يطلق ويراد به جنس القراءة، كما يطلق ويراد به القرآن الكريم، ويطلق كذلك على الصلاة؛ لأن فيها قراءة، تسمية للشيء ببعضه، وعلى القراءة نفسها، يقال: قرأ يقرأ قراءة وقرآنا[12].
وقال ابن حجر عن لفظة القرآن: "والأصل في هذه اللفظة الجمع، وكل شيء جمعته فقد قرأته... وقراءة كل نبي تطلق على كتابه الذي أوحي إليه"[13].
الثالث: أن كتب الله - عز وجل - السابقة يطلق عليها لفظ القرآن.
قال العيني: "وقرآن كل نبي يطلق على كتابه الذي أوحي إليه"[14].
وقال ابن القيم: "إن لفظ التوراة والإنجيل والقرآن والزبور يراد به الكتب المعينة تارة، ويراد به الجنس تارة. فيعبر بلفظ القرآن عن الزبور، وبلفظ التوراة عن القرآن، وبلفظ الإنجيل عن القرآن أيضا، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قد خفف على داود القرآن، فكان ما بين أن تسرج دابته إلى أن يركبها يقرأ القرآن، فالمراد به قرآنه وهو الزبور. وكذلك قوله في البشارة التي في التوراة: (نبيا أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم، أنزل عليه توراة مثل توراة موسى)، وكذلك في صفة أمته - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المتقدمة: (أناجيلهم في صدورهم)" [15].
وقال ابن تيمية: "ولفظ التوراة والإنجيل والقرآن والزبور قد يراد به الكتب المعينة، ويراد به الجنس، فيعبر بلفظ القرآن عن الزبور وغيره، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم "خفف على داود القرآن" ليس المراد به القرآن الذي لم ينزل إلا على محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما جاء في صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم (أناجيلهم في صدروهم) فسمى الكتب التي يقرؤونها - وهي القرآن - أناجيل، وكذلك في التوراة: (إني سأقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم أنزل عليه توراة مثل توراة موسى)، فسمى الكتاب الثاني توراة "[16]، وقال أيضا: "وكذلك لفظ "القرآن"، فيقال على جميعه وعلى بعضه، ولو نزل قرآن أكثر من هذا لسمي قرآنا، وقد تسمى الكتب القديمة قرآنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: خفف على داود القرآن"[17].
وقال ابن القيم: "والمراد بالقرآن ههنا الزبور، كما أريد بالزبور القرآن في قوله تعالى: )ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون (105) ( (الأنبياء)"[18].
وقال ابن كثير: "ليعلم أن كثيرا من السلف يطلقون التوراة على كتب أهل الكتاب المتلوة عندهم، أو أعم من ذلك، كما أن لفظ القرآن يطلق على كتابنا خصوصا ويراد به غيره، كما في الصحيح: «خفف على داود القرآن...»[19].
ومما سبق ذكره يتبين أن المقصود بـ "القرآن" في هذا الحديث هو القراءة، وليس القرآن الكريم، وليس ذلك تعسفا في تأويل النصوص، وإنما ذلك معروف عند أهل اللغة، ويؤيد ذلك أن هناك روايات أخرى تقول: "خفف على داود القراءة" بدلا من القرآن، فكانت دليلا قويا على ما نقول، بالإضافة إلى أن القرآن يطلق على جنس القراءة جميعا، فيقال: قرأ قراءة وقرآنا، فكان قوله صلى الله عليه وسلم: «خفف على داود القرآن» أي: قراءة الزبور الذي أنزل عليه، ولذلك فالحديث صحيح لا خطأ فيه ولا مخالفة للواقع.
وقبل أن نختم القول نتوجه بسؤال لهؤلاء: لو كان البخاري واضع الحديث كما تزعمون وحاشاه، هل يغيب عنه أن القرآن الكريم لم ينزل إلا على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاة داود بأكثر من ألف وستمائة عام؟!
ثانيا. إن سرعة قراءة داود - عليه السلام - لا تستلزم عدم الفهم والتدبر، ولا تستنكر:
وما توهمه المشتبهون بقولهم: إن القراءة عند هذه السرعة ستكون هذرا بلا تفكر، ولن تكون تلاوة بتدبر، غير مقبول هنا، فإن داود - عليه السلام - كغيره من أنبياء الله تعالى قد خصه الله تعالى بمعجزات، ولا يمكن إنكارها إلا بإنكار القرآن العظيم، وإذا كنا قد آمنا وقبلنا ما هو أعظم من سرعة القراءة مما ورد في القرآن؛ فأولى بنا قبول ما جاء به هذا الحديث؛ إذ العقل السليم لا يرده، بل إذا صدق بما هو أعظم سهل عليه تصديق ما دون ذلك، وقد استخدم الله تعالى ذلك مع العقول السليمة، فقال: )وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم (78) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (79) ( (يس).
ونحن نقول هنا: قد أخبر القرآن عن داود - عليه السلام - بما هو أعظم من هذه السرعة في القراءة مع الفهم: قال تعالى: )وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (79) ( (الأنبياء)، وقال تعالى: )ولقد آتينا داوود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد (10) ( (سبأ).
فإذا كان العقل يصدق بتسبيح الجبال والطير مع داود عليه السلام، وأن الحديد قد لان بيده، فيصنع منه ما شاء؛ فكيف يستنكر بعد ذلك أن يكون قد وهبه الله من القدرة ما يستطيع به قراءة الزبور في مدة يسيرة مع الفهم والتدبر؟ وليس في ذلك عجب، إذ الأنبياء لهم شأن خاص، وقد أخبر الله تعالى زيادة على ذلك أن داود - عليه السلام - صاحب قوة، فقال: )واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب (17) ( (ص).
قال ابن جرير: "ويعني بقوله: (ذا الأيد): ذا القوة والبطش الشديد في ذات الله، والصبر على طاعته"[20].
وقال السعدي: "ومن أعظم العابدين نبي الله داود عليه السلام، ذا الأيد، أي: القوة العظيمة على عبادة الله تعالى، في بدنه وقلبه"[21].
وقال ابن كثير: "فكان يقرأ الزبور بمقدار ما تسرج الدواب، وهذا أمر سريع مع التدبر والترنم والتغني به على وجه التخشع صلوات الله وسلامه عليه، وقد قال الله تعالى: )وآتينا داوود زبورا (163) ( (النساء)"[22].
فهنا قد اجتمع العقل مع القرآن العظيم في قبول معنى هذا الحديث الشريف، فما بال هؤلاء الطاعنين يردونه، طالما أن الحديث يوافق العقل والقرآن، كما اشترطوا هم على أنفسهم؛ إذ إنهم لا يقبلون حديثا إلا إذا اتفق مع العقل والقرآن.
وقد وقع بعض هذه السرعة لمن هم دون الأنبياء، قال ابن حجر: "وفي الحديث أن البركة قد تقع في الزمن اليسير، حتى يقع فيه العمل الكثير. وقال النووي: أكثر ما بلغنا من ذلك من كان يقرأ أربع ختمات بالليل وأربعا بالنهار، وقد بالغ بعض الصوفية في ذلك فادعى شيئا مفرطا، والعلم عند الله"[23].
وقال العيني: "وفيه الدلالة على أن الله تعالى يطوي الزمان لمن يشاء من عباده كما يطوي المكان، وهذا لا سبيل إلى إدراكه إلا بالفيض الرباني، وفي الحديث أيضا أن البركة قد تقع في الزمن اليسير، حتى يقع فيه العمل الكثير، ولقد رأيت رجلا حافظا قرأ ثلاث ختمات في الوتر، في كل ركعة ختمة ليلة القدر"[24].
الخلاصة:
· إن حديث تخفيف القراءة على داود - عليه السلام - حديث صحيح سندا، رواه البخاري في صحيحه، ورواه ابن حبان في صحيحه، وصححه الأرنؤوط في تعليقه عليه.
· ليس المقصود بالقرآن في الحديث القرآن المنزل على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وإنما المقصود به الزبور الذي أنزل على داود، وكلمة القرآن تعني القراءة؛ فهي مصدرها، والدليل على ذلك:
o أن هناك روايات أخرى للحديث جاءت فيها كلمة "القراءة" بدلا من القرآن؛ مثل رواية الكشميهني التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «خفف على داود القراءة».
o أن لفظ القرآن في اللغة يطلق ويراد به جنس القراءة، فيقال قرأ قراءة وقرآنا، أو يطلق على الصلاة؛ لأن بها قراءة، ويسمى الشيء ببعضه، وأصل هذه اللفظة الجمع، وكل شيء جمعته فقد قرأته.
o أن الكتب السماوية السابقة يطلق عليها لفظ القرآن، كما يطلق على القرآن لفظ التوراة والإنجيل والزبور: قال العيني: وقرآن كل نبي يطلق على كتابه الذي أوحي إليه.
· لقد وهب الله داود نعما وقدرات عظيمة، فجعل الجبال يسبحن معه والطير، وألان له الحديد، وأعظم هذه النعم أن جعل له القوة العظيمة على عبادة الله تعالى في بدنه وقلبه، فكان من تلك القوة أن يقرأ الزبور في وقت إسراج الدابة، وهذا بأن بارك الله له في الوقت، كما كان يطوي الزمان والمكان لبعض الناس، فلا عجب في ذلك ولا غرابة.
يطعن بعض المشككين في حديث «المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء»
ويستدلون على ذلك بأن الحديث يناقض المكتشفات العلمية الحديثة، ويتعارض مع واقع الحال الذي خلق عليه الإنسان؛ إذ إن كل إنسان له قلب ورئتان، ومعدة وأمعاء دقيقة وغليظة، وغير ذلك من الأعضاء.
متسائلين: كيف يذكر الحديث أن المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء مع أن التركيب العضوي للإنسان لا يختلف من شخص لآخر؟.
هادفين من طعنهم هذا إلى التشكيك في السنة النبوية.
وجه إبطال الشبهة:
· إن حديث «المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء» حديث صحيح سندا ومتنا، فقد جاء في أصح كتب السنة، كما أنه لا يتعارض مع الحال التي خلق الإنسان عليها، والحديث له منطوق ومفهوم، وإلى كل ذهب فريق من العلماء.
التفصيل:
إن الأحاديث الواردة في أن المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء - أحاديث صحيحة في أعلى درجات الصحة؛ حيث رواها أصحاب الصحيح والسنن والمسانيد بطرق صحيحة متصلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد روى الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معى واحد»[1].
كما روى البخاري من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يأكل المسلم في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء»[2].
وقد روى الإمام مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر وابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:«المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء»[3].
وغير ذلك من الأحاديث التي جاءت في الصحيحين بهذا المعنى، كما رويت هذه الأحاديث في كثير من كتب السنن الأخرى، فقد رواها الإمام الترمذي وابن ماجه والنسائي في سننهم، والإمام أحمد في مسنده، بطرق صحيحة متصلة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا فالأحاديث الواردة في هذا الأمر ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أعلى درجات الصحة.
أما عن معنى الحديث والمقصود منه فكان للعلماء فيه آراء وتفسيرات وترجيحات ذكرها الإمام ابن حجر في "فتح الباري" عند شرحه للأحاديث السابقة، فمنهم من حمله على ظاهره، وبعضهم قال: إن ظاهر الحديث ليس هو المراد أصلا.
فأما الذين قالوا بظاهر الحديث فقد ذهبوا في ذلك إلى أقوال عدة:
أولها: أنه ورد في شخص بعينه، واللام عهدية لا جنسية.
قال ابن عبد البر: هذا الحديث خرج على غير مقصوده بالحديث، والإشارة فيه إلى كافر بعينه لا إلى جنس الكافر، ولا سبيل إلى حمله على العموم؛ لأن المشاهدة تدفعه وتكذبه، وقد جل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، ألا ترى أنه قد يوجد كافر أقل أكلا من مؤمن، ويسلم الكافر فلا ينتقص أكله ولا يزيد... ويروى أن الرجل الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه المقالة هو جهجاه بن سعيد الغفاري... فقد روى مسلم من طريق أبي هريرة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضافه ضيف وهو كافر، فأمر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة فحلبت، فشرب حلابها، ثم أخرى فشربه، ثم أخرى فشربه، حتى شرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم، فأمر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة فشرب حلابها، ثم أمر بأخرى فلم يستتمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن يشرب في معى واحد، والكافر يشرب في سبعة أمعاء»[4].
وهذا أيضا لفظ عموم والمراد به الخصوص، فكأنه قال: هذا إذ كان كافرا كان يأكل في سبعة أمعاء، فلما آمن عوفي وبورك له في نفسه، فكفاه جزء من سبعة أجزاء مما كان يكفيه إذ كان كافرا خصوصا له.
فكان قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «الكافر يأكل في سبعة أمعاء» إشارة إليه، كأنه قال: هذا الكافر، وكذلك المؤمن يأكل في معى واحد، يعني هذا المؤمن. والله أعلم. وقال الله عز وجل: )الذين قال لهم الناس( (آل عمران: ١٧٣) وهو يريد رجلا، فيما قال أهل العلم بتأويل القرآن، وقيل رجلان )إن الناس قد جمعوا لكم((آل عمران: ١٧٣)؛ يعني: قريشا، فجاء بلفظ عموم ومعناه الخصوص، ومثلـه )تدمر كل شيء( (الأحقاف: ٢٥)، )ما تذر من شيء( (الذاريات: ٤٢) كل هذا عموم يراد به الخصوص، ومثل هذا كثير في القرآن ولسان العرب، وفي هذا الحديث دليل على ذم الأكول الذي لا يشبع، وأنها خلة مذمومة، وصفة غير محمودة، وأن القلة من الأكل أحمد وأفضل، وصاحبها عليها ممدوح[5].
وعلي هذا - أيضا - حمله الطحاوي فقال: "إن ذلك منه إنما كان في رجل بعينه في حال كفره، وفي حال إسلامه، فلم يكن في الحديث عندنا وجه غير هذا الوجه، وكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» خرج مخرج المعرفة، وما خرج مخرج المعرفة لم يتعد من قصد به إليه إلى من سواه، ومن ذلك قول الله عز وجل: )فإن مع العسر يسرا (5) إن مع العسر يسرا (6)( (الشرح)، فقال أهل العلم في ذلك: لا يغلب عسر يسرين، مستخرجين لذلك المعنى في هذه الآية؛ لأن العسر خرج مخرج المعرفة، فكان على واحد، وخرج اليسر مخرج النكرة فكان في كل واحد من قوله عز وجل: )إن مع العسر يسرا (6)( (الشرح) يسرا غير الذي في الآخر منهما"[6].
قال ابن حجر: وقد تعقب هذا الحمل بأن ابن عمر - راوي الحديث - فهم منه العموم؛ فلذلك منع الذي رآه يأكل كثيرا من الدخول عليه واحتج بالحديث، ويؤيد عدم جواز حمله على الخصوص تعدد الوقائع، وإيراد الحديث بعد كل واقعة منها في حق الذي وقع له نحو ذلك[7].
ثانيها: أن الحديث خرج مخرج الغالب، وليست حقيقة العدد مرادة، وتخصيص السبعة للمبالغة في التكثير، كما في قوله تعالى: )والبحر يمده من بعده سبعة أبحر( (لقمان: ٢٧). والمعنى: أن من شأن المؤمن التقلل من الأكل؛ لاشتغاله بأسباب العبادة، ولعلمه بأن مقصود الشرع من الأكل هو ما يسد الجوع، ويمسك الرمق، ويعين على العبادة، ولخشيته - أيضسا - من حساب ما زاد على ذلك، والكافر بخلاف ذلك كله، فإنه لا يقف مع مقصود الشرع، بل هو تابع لشهوة نفسه مسترسل فيها غير خائف من تبعات الحرام، فصار أكل المؤمن إذا نسب إلى أكل الكافر كأنه بقدر السبع منه، ولا يلزم من هذا اطراده في حق كل مؤمن وكافر، فقد يكون في المؤمنين من يأكل كثيرا إما بحسب العادة، وإما لعارض يعرض له من مرض باطن، أو لغير ذلك، ويكون في الكفار من يأكل قليلا إما لمراعاة الصحة على رأي الأطباء، وإما للرياضة على رأي الرهبان، وإما لعارض كضعف المعدة.
قال الطيبي: ومحصل القول أن من شأن المؤمن الحرص على الزهادة والاقتناع بالبلغة[8]، بخلاف الكافر، فإذا وجد مؤمن أو كافر على غير هذا الوصف لا يقدح في الحديث. ومن هذا قوله تعالى: )الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة( (النور: ٣) وقد يوجد من الزاني نكاح الحرة، ومن الزانية نكاح الحر.
ثالثها: أن المؤمن يسمي الله تعالى عند طعامه وشرابه فلا يشركه الشيطان، فيكفيه القليل، والكافر لا يسمي فيشركه الشيطان، وفي صحيح مسلم في حديث مرفوع: «إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه...»[9].
رابعها: أن المؤمن يقل حرصه على الطعام، فيبارك له فيه وفي مأكله، فيشبع من القليل، والكافر طامح إلى المأكل فلا يشبعه القليل، وهذا يمكن ضمه إلى الذي قبله، ويجعلان جوابا واحدا مركبا[10].
خامسها: وهو المختار عند النووي: "أن المراد أن بعض المؤمنين يأكل في معى واحد، وأن أكثر الكفار يأكلون في سبعة أمعاء، ولا يلزم أن يكون كل واحد من السبعة مثل معى المؤمن"[11].
القول الثاني: أما الذين قالوا: إن ظاهر الحديث ليس هو المراد أصلا، فقد وجهوا الحديث ثلاث وجهات:
أحدها: "أن هذا مثل ضرب للمؤمن وزهده في الدنيا والكافر وحرصه عليها، فكأن المؤمن لتقلله من الدنيا يأكل في معى واحد، والكافر لشدة رغبته فيها، واستكثاره منها يأكل في سبعة أمعاء، فليس المراد حقيقة الأمعاء، ولا خصوص الأكل، وإنما المراد التقلل من الدنيا والاستكثار منها، فكأنه عبر عن تناول الدنيا بالأكل، وعن أسباب ذلك بالأمعاء، ووجه العلاقة ظاهر"[12].
ونقل الطحاوي نحوه عن ابن أبي عمران فقال:
"كان قوم حملوا هذا الحديث على الرغبة في الدنيا، كما تقول: فلان يأكل الدنيا أكلا؛ أي: يرغب فيها، ويحرص عليها، فجعلوا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن يأكل في معى واحد» أي لزهادته في الدنيا، «والكافر في سبعة أمعاء» أي لرغبته فيها، ولم يجعلوا ذلك على الطعام، وقالوا: قد رأينا مؤمنا أكثر طعاما من كافر"[13].
ثانيها: معناه أن المؤمن يأكل الحلال، والكافر يأكل الحرام، والحلال أقل من الحرام في الوجود.
ثالثها: معناه حض المؤمن على قلة الأكل إذا علم أن كثرة الأكل صفة الكافر، فإن نفس المؤمن تنفر من الاتصاف بصفة الكافر، ويدل على أن كثرة الأكل من صفة الكفار قوله تعالى: )والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام( (محمد: ١٢)[14].
وبذلك يكون قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن يأكل في معى واحد...» إنما هو من الأسلوب الخبري المراد به "الإنشائي"؛ أي: الأمر الناهي، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يقول: ليأكل المؤمن في معى واحد، ولا يتشبه بالكافر الذي يأكل في سبعة أمعاء"[15].
"قال العلماء: يؤخذ من الحديث الحض على التقلل من الدنيا، والحث على الزهد فيها، والقناعة بما تيسر منها، وقد كان العقلاء في الجاهلية والإسلام يتمدحون بقلة، الأكل ويذمون كثرة الأكل"[16].
على أن هناك من يقول: "إن الأكل المذكور هنا لا يراد به الأكل المعروف، وهو ازدراد الطعام، وإنما يراد به معنى أعم وهو التمتع بالأكل، أو اللبس، أو الجمع، أو الادخار.وهو كقول الله تعالى: )الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس( (البقرة: ٢٧٥)، وقوله تعالى: )إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا( (النساء: ١٠).
فهذه الآيات لا تعني الأكل المعروف، وإنما تعني شيئا أعم من ذلك وهو ما تقدم... وسبب الحديث لا يكون مخصوصا عمومه، فالعموم باق على حاله، وإن كان السبب خاصا لا عموم له، وبيان هذا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما رأى ذلك الكافر وكثرة ما يأكل ذكر خلقا من أخلاق الكافرين، وهو التمتع باللذات المادية بشره وشدة. والمعاني تتداعى. وتفسير هذا قول العلماء: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، يريدون أن اللفظ يكون عاما في دلالته وإن كان خاصا سببه، وغالب عمومات الشرع أسبابها خاصة، هذا من جهة الأكل، وأما من جهة العدد فلا ريب أنه لا يريد في مثل هذا الاستعمال تحديد العدد. ومثل ذلك أن تقول: فلان يتكلم بسبعة ألسنة أو بسبعة أفواه، ويأكل في سبعة بطون، وأمثال ذلك. ولا شك أن القائل لذلك لا يقصد العدد المذكور وإنما يريد المبالغة"[17].
وقال ابن القيم:
"لما كان الكافر ليس في قلبه شيء من الإيمان والخير يغتذي به انصرفت قواه ونهمته كلها على الغذاء الحيواني البهيمي، لما فقد الغذاء الروحي القلبي، فتوفرت أمعاؤه وقواه على هذا الغذاء، واستفرغت أمعاؤه هذا الغذاء، وامتلأت به بحسب استعدادها وقبولها، كما امتلأت به العروق والمعدة، وأما المؤمن فإنه إنما يأكل العلفة ليتقوى بها على ما أمر به، فهمته وقواه مصروفة إلى أمور وراء الأكل، فإذا أكل ما يغذيه ويقيم صلبه استغني قلبه ونفسه وروحه بالغذاء الإيماني عن الاستكثار من الغذاء الحيواني، فاشتغل معاه الواحد بالغذاء، فأمسكه حتى أخذت منه الأعضاء والقوى مقدار الحاجة، فلم يحتج إلى أن يملأ أمعاءه كلها من الطعام، وهذا أمر معلوم بالتجربة، وإذا قويت مواد الإيمان ومعرفة الله وأسمائه وصفاته ومحبته والشوق إلى لقائه في القلب استغنى بها العبد عن كثير من الغذاء، ووجد لها قوة تزيد على قوة الغذاء الحيواني"[18].
ومن خلال ما سبق يتبين أن ما يؤخذ من الحديث هو الحض على التقلل من الطعام، ومن ثم الحث على الزهد في الدنيا، والقناعة بما تيسر منها، وأن من شأن أهل الإيمان التقليل من الطعام والشراب، حذرا من الإسراف المذموم، والتزاما بما أخرجه الترمذي وغيره من حديث مقدام بن معد يكرب، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه»[19].
وبهذا يسلم الحديث من الإشكال المشهور الذي أورد عليه.
الخلاصة:
· إن حديث«الكافر يأكل في سبعة أمعاء» حديث صحيح ورد في أصح كتب السنة، كما أنه لا يعارض الحال التي خلق عليها الإنسان.
· لقد اختلف العلماء في المراد من الحديث، فمنهم من فهمه على ظاهره، ومنهم من قال: إن ظاهر الحديث ليس هو المراد أصلا.
· إن الحديث يحض المؤمن على قلة الأكل، وهي ممدوحة لدى العقلاء في الجاهلية والإسلام، ويذم كثرة الأكل ويعدها صفة من صفات الكافرين.
إنكار حديث "تخفيف القرآن على داود ع
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المغرضين الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "خفف على داود - عليه السلام - القرآن، فكان يأمر بدوابه فتسرج، فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه". مستدلين على ذلك بأن هذا الحديث الذي تفرد بروايته أبو هريرة ينسب إلى داود قراءة القرآن، والمعلوم أن القرآن لم ينزل إلا بعد وفاة داود بألف وستمائة عام على محمد صلى الله عليه وسلم. كما يتساءلون: أي قراءة للقرآن هذه التي يختم فيها القرآن كله في هذه الفترة القصيرة؟ مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ختمه في أقل من ثلاثة أيام؛ إذ القراءة عندها ستكون هذرا بلا تفكر، ولن تكون تلاوة بتدبر. رامين من وراء ذلك إلى الطعن في الأحاديث الصحيحة بحجة عدم قبول العقل لما جاء فيها.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن حديث «خفف على داود القرآن» حديث صحيح، والقرآن المذكور في الحديث هو الزبور الذي أنزل على داود - عليه السلام - لأن كلمة القرآن تعني القراءة؛ أي قراءة الزبور، والدليل على ذلك: أن كلمة القرآن في اللغة هي جنس القراءة أيا كانت، وكل الكتب السماوية تسمى قرآنا.
2) إن سرعة قراءة داود - عليه السلام - الزبور لا تستلزم عدم التدبر والفهم، إذ إن الله تعالى قد وهبه نعما كثيرة، منها تسبيح الجبال والطير معه، وإلانة الحديد له، والقوة في العبادة، والقادر على ذلك قادر على أن يبارك له في الوقت؛ ليقرأ الذبور في مدة يسيرة مع الفهم والتدبر.
التفصيل:
أولا. الحديث صحيح؛ والمراد بالقرآن هو قراءة الزبور وليس القرآن الكريم:
إن حديث قراءة داود - عليه السلام - القرآن حديث صحيح سندا ومتنا، فقد رواه البخاري في صحيحه قال: حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خفف على داود - عليه السلام - القرآن فكان يأمر بدوابه، فتسرج، فيقرأ قبل أن تسرج دوابه. ولا يأكل إلا من عمل يديه»[1] رواه موسى بن عقبة عن صفوان عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه البخاري في صحيحه بإسناد آخر عن أبي هريرة... فذكره[2]، ورواه ابن حبان في صحيحه أيضا بإسناد صحيح عن أبي هريرة... فذكره[3].
فالحديث سندا لا مغمز فيه.
هذا من ناحية السند، أما المتن فلا إشكال فيه أيضا؛ إذ ليس المقصود بالقرآن المذكور في الحديث القرآن العظيم المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يقل بذلك أحد من العلماء على مر العصور الإسلامية، بل المقصود به هو القراءة، وهذا المعنى هو المعروف عند العلماء وشراح الحديث، قال ابن حجر: المراد بالقرآن القراءة، والأصل في هذه اللفظة الجمع، وكل شيء جمعته فقد قرأته[4].
وقال أيضا: "المراد بالقرآن مصدر القراءة، لا القرآن المعهود لهذه الأمة"[5].
وقال ابن بطال: "والمراد بالقرآن في هذا الحديث الزبور"[6].
وقال ابن كثير: "والمراد بالقرآن ها هنا الزبور الذي أنزله عليه، وأوحاه إليه"[7].
فهؤلاء هم أئمة المسلمين وعلماؤهم، لم يقل أحد منهم بأن المقصود هو القرآن الكريم. وقد بين علماء المسلمين أن المعنى الذي ذهبنا إليه هو المقصود، واستدلوا على ذلك بأمور:
الأول: أنه قد جاء في رواية أخرى للحديث: «خفف على داود القراءة»، وبهذه الرواية يتضح معنى الحديث، وتنتفي إرادة معنى القرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقال ابن الأثير: تكرر في الحديث ذكر القراءة والاقتراء والقارئ والقرآن، والأصل في هذه اللفظة الجمع، وكل شيء جمعته فقد قرأته، وسمي قرآنا؛ لأنه جمع القصص والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والآيات والسور بعضها على بعض، وهو مصدر كالغفران والكفران، وقد يطلق على الصلاة[8]، وقد أشار إلى ذلك ابن حجر فقال: وفي رواية الكشميهني: القراءة[9].
وقال أيضا: "ووقع في رواية لأبي ذر: القراءة"[10].
قال تعالى: )إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (18) ( (القيامة).
قال الطاهر ابن عاشور في تفسيره: و"(قرآن) في الموضعين مصدر بمعنى القراءة مثل الغفران والفرقان، قال حسان في رثاء عثمان بن عفان:
يقطع الليل تسبيحا وقرآنا" [11]
وكلمة "القراءة" قرينة صريحة لصحة القول بأن القرآن في هذا الحديث بمعنى القراءة.
الثاني: أن لفظ القرآن في اللغة يطلق ويراد به ما يشمل القرآن الكريم وغيره، فلفظ القرآن يطلق ويراد به جنس القراءة، كما يطلق ويراد به القرآن الكريم، ويطلق كذلك على الصلاة؛ لأن فيها قراءة، تسمية للشيء ببعضه، وعلى القراءة نفسها، يقال: قرأ يقرأ قراءة وقرآنا[12].
وقال ابن حجر عن لفظة القرآن: "والأصل في هذه اللفظة الجمع، وكل شيء جمعته فقد قرأته... وقراءة كل نبي تطلق على كتابه الذي أوحي إليه"[13].
الثالث: أن كتب الله - عز وجل - السابقة يطلق عليها لفظ القرآن.
قال العيني: "وقرآن كل نبي يطلق على كتابه الذي أوحي إليه"[14].
وقال ابن القيم: "إن لفظ التوراة والإنجيل والقرآن والزبور يراد به الكتب المعينة تارة، ويراد به الجنس تارة. فيعبر بلفظ القرآن عن الزبور، وبلفظ التوراة عن القرآن، وبلفظ الإنجيل عن القرآن أيضا، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قد خفف على داود القرآن، فكان ما بين أن تسرج دابته إلى أن يركبها يقرأ القرآن، فالمراد به قرآنه وهو الزبور. وكذلك قوله في البشارة التي في التوراة: (نبيا أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم، أنزل عليه توراة مثل توراة موسى)، وكذلك في صفة أمته - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المتقدمة: (أناجيلهم في صدورهم)" [15].
وقال ابن تيمية: "ولفظ التوراة والإنجيل والقرآن والزبور قد يراد به الكتب المعينة، ويراد به الجنس، فيعبر بلفظ القرآن عن الزبور وغيره، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم "خفف على داود القرآن" ليس المراد به القرآن الذي لم ينزل إلا على محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما جاء في صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم (أناجيلهم في صدروهم) فسمى الكتب التي يقرؤونها - وهي القرآن - أناجيل، وكذلك في التوراة: (إني سأقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم أنزل عليه توراة مثل توراة موسى)، فسمى الكتاب الثاني توراة "[16]، وقال أيضا: "وكذلك لفظ "القرآن"، فيقال على جميعه وعلى بعضه، ولو نزل قرآن أكثر من هذا لسمي قرآنا، وقد تسمى الكتب القديمة قرآنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: خفف على داود القرآن"[17].
وقال ابن القيم: "والمراد بالقرآن ههنا الزبور، كما أريد بالزبور القرآن في قوله تعالى: )ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون (105) ( (الأنبياء)"[18].
وقال ابن كثير: "ليعلم أن كثيرا من السلف يطلقون التوراة على كتب أهل الكتاب المتلوة عندهم، أو أعم من ذلك، كما أن لفظ القرآن يطلق على كتابنا خصوصا ويراد به غيره، كما في الصحيح: «خفف على داود القرآن...»[19].
ومما سبق ذكره يتبين أن المقصود بـ "القرآن" في هذا الحديث هو القراءة، وليس القرآن الكريم، وليس ذلك تعسفا في تأويل النصوص، وإنما ذلك معروف عند أهل اللغة، ويؤيد ذلك أن هناك روايات أخرى تقول: "خفف على داود القراءة" بدلا من القرآن، فكانت دليلا قويا على ما نقول، بالإضافة إلى أن القرآن يطلق على جنس القراءة جميعا، فيقال: قرأ قراءة وقرآنا، فكان قوله صلى الله عليه وسلم: «خفف على داود القرآن» أي: قراءة الزبور الذي أنزل عليه، ولذلك فالحديث صحيح لا خطأ فيه ولا مخالفة للواقع.
وقبل أن نختم القول نتوجه بسؤال لهؤلاء: لو كان البخاري واضع الحديث كما تزعمون وحاشاه، هل يغيب عنه أن القرآن الكريم لم ينزل إلا على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاة داود بأكثر من ألف وستمائة عام؟!
ثانيا. إن سرعة قراءة داود - عليه السلام - لا تستلزم عدم الفهم والتدبر، ولا تستنكر:
وما توهمه المشتبهون بقولهم: إن القراءة عند هذه السرعة ستكون هذرا بلا تفكر، ولن تكون تلاوة بتدبر، غير مقبول هنا، فإن داود - عليه السلام - كغيره من أنبياء الله تعالى قد خصه الله تعالى بمعجزات، ولا يمكن إنكارها إلا بإنكار القرآن العظيم، وإذا كنا قد آمنا وقبلنا ما هو أعظم من سرعة القراءة مما ورد في القرآن؛ فأولى بنا قبول ما جاء به هذا الحديث؛ إذ العقل السليم لا يرده، بل إذا صدق بما هو أعظم سهل عليه تصديق ما دون ذلك، وقد استخدم الله تعالى ذلك مع العقول السليمة، فقال: )وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم (78) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (79) ( (يس).
ونحن نقول هنا: قد أخبر القرآن عن داود - عليه السلام - بما هو أعظم من هذه السرعة في القراءة مع الفهم: قال تعالى: )وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (79) ( (الأنبياء)، وقال تعالى: )ولقد آتينا داوود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد (10) ( (سبأ).
فإذا كان العقل يصدق بتسبيح الجبال والطير مع داود عليه السلام، وأن الحديد قد لان بيده، فيصنع منه ما شاء؛ فكيف يستنكر بعد ذلك أن يكون قد وهبه الله من القدرة ما يستطيع به قراءة الزبور في مدة يسيرة مع الفهم والتدبر؟ وليس في ذلك عجب، إذ الأنبياء لهم شأن خاص، وقد أخبر الله تعالى زيادة على ذلك أن داود - عليه السلام - صاحب قوة، فقال: )واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب (17) ( (ص).
قال ابن جرير: "ويعني بقوله: (ذا الأيد): ذا القوة والبطش الشديد في ذات الله، والصبر على طاعته"[20].
وقال السعدي: "ومن أعظم العابدين نبي الله داود عليه السلام، ذا الأيد، أي: القوة العظيمة على عبادة الله تعالى، في بدنه وقلبه"[21].
وقال ابن كثير: "فكان يقرأ الزبور بمقدار ما تسرج الدواب، وهذا أمر سريع مع التدبر والترنم والتغني به على وجه التخشع صلوات الله وسلامه عليه، وقد قال الله تعالى: )وآتينا داوود زبورا (163) ( (النساء)"[22].
فهنا قد اجتمع العقل مع القرآن العظيم في قبول معنى هذا الحديث الشريف، فما بال هؤلاء الطاعنين يردونه، طالما أن الحديث يوافق العقل والقرآن، كما اشترطوا هم على أنفسهم؛ إذ إنهم لا يقبلون حديثا إلا إذا اتفق مع العقل والقرآن.
وقد وقع بعض هذه السرعة لمن هم دون الأنبياء، قال ابن حجر: "وفي الحديث أن البركة قد تقع في الزمن اليسير، حتى يقع فيه العمل الكثير. وقال النووي: أكثر ما بلغنا من ذلك من كان يقرأ أربع ختمات بالليل وأربعا بالنهار، وقد بالغ بعض الصوفية في ذلك فادعى شيئا مفرطا، والعلم عند الله"[23].
وقال العيني: "وفيه الدلالة على أن الله تعالى يطوي الزمان لمن يشاء من عباده كما يطوي المكان، وهذا لا سبيل إلى إدراكه إلا بالفيض الرباني، وفي الحديث أيضا أن البركة قد تقع في الزمن اليسير، حتى يقع فيه العمل الكثير، ولقد رأيت رجلا حافظا قرأ ثلاث ختمات في الوتر، في كل ركعة ختمة ليلة القدر"[24].
الخلاصة:
· إن حديث تخفيف القراءة على داود - عليه السلام - حديث صحيح سندا، رواه البخاري في صحيحه، ورواه ابن حبان في صحيحه، وصححه الأرنؤوط في تعليقه عليه.
· ليس المقصود بالقرآن في الحديث القرآن المنزل على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وإنما المقصود به الزبور الذي أنزل على داود، وكلمة القرآن تعني القراءة؛ فهي مصدرها، والدليل على ذلك:
o أن هناك روايات أخرى للحديث جاءت فيها كلمة "القراءة" بدلا من القرآن؛ مثل رواية الكشميهني التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «خفف على داود القراءة».
o أن لفظ القرآن في اللغة يطلق ويراد به جنس القراءة، فيقال قرأ قراءة وقرآنا، أو يطلق على الصلاة؛ لأن بها قراءة، ويسمى الشيء ببعضه، وأصل هذه اللفظة الجمع، وكل شيء جمعته فقد قرأته.
o أن الكتب السماوية السابقة يطلق عليها لفظ القرآن، كما يطلق على القرآن لفظ التوراة والإنجيل والزبور: قال العيني: وقرآن كل نبي يطلق على كتابه الذي أوحي إليه.
· لقد وهب الله داود نعما وقدرات عظيمة، فجعل الجبال يسبحن معه والطير، وألان له الحديد، وأعظم هذه النعم أن جعل له القوة العظيمة على عبادة الله تعالى في بدنه وقلبه، فكان من تلك القوة أن يقرأ الزبور في وقت إسراج الدابة، وهذا بأن بارك الله له في الوقت، كما كان يطوي الزمان والمكان لبعض الناس، فلا عجب في ذلك ولا غرابة.
مواضيع مماثلة
» * الطعن في حديث "يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح"
» * إعجاز حروف القرآن والرقم سبعة 1
» * إنكار حديث "فضل عائشة على النساء - دعوى تعارض زيادة العمر ورد القضاء مع القرآن
» * * الاحاديث المكذوبة على خير البرية في الادعية - الشيطان - خاتم الاولياء - وحي داود
» * صلاه التراويح-اهمية القرآن-اصل كلمة قرأن ومعناها-اول وآخر ما انزل من القرآن
» * إعجاز حروف القرآن والرقم سبعة 1
» * إنكار حديث "فضل عائشة على النساء - دعوى تعارض زيادة العمر ورد القضاء مع القرآن
» * * الاحاديث المكذوبة على خير البرية في الادعية - الشيطان - خاتم الاولياء - وحي داود
» * صلاه التراويح-اهمية القرآن-اصل كلمة قرأن ومعناها-اول وآخر ما انزل من القرآن
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى