* كفاح كفيف - الجزء الثاني
صفحة 1 من اصل 1
* كفاح كفيف - الجزء الثاني
كفاح كفيف2
طارق فتحي
انتهت العطلة الصيفية وبدأ العام الدراسي الجديد واشتروا لهتراكسوت ليرتديه في المدرسة فقطكان صغيراً جدا لايناسب مقاساته مما يبعث على السخرية منه . تقبل الامر على مضض اذ تبين ان عائلته لا تعرف مدى رقي وروعة افكار ولدهم الكفيف بالرغم من كونهم مبصرون . اذ كان يرغب بشراء معطفا له يقيه غائلة البرد الشديد والرياح التي تعصف بالقرية وبالكاد اشتروا له حذاءا مطاطياً ومن النوع الرديء يسلق اقدامه في الصيف بدرجاته الحرارية العالية وتتجمد اقدامه فيه شتاءا من شدة البرد وهكذا دواليك مزقت الفصول الاربعة احلام واماني عبد المالك فكتمها في نفسه من اجل عيون المدرسة وكان يتظاهر بالفرح الشديد كلما اشتروا له شيئا وقلبه المنكسر يتألم ولا احد يشعر به اطلاقاً .
قرر في سره هذا العام سيكون في الصف الثاني وآل الى نفسه ان يكون من المتفوقين الاوائل قي الدراسة عاما مليئاً بالمفاجأت ينتظره والاجواء مكفهرة والبرد يزداد يوماً بعد يوم وهو بملابسه البسيطة التي ذكرتها في اعلاه . والمفاجئة التي حصلت هو التحاق اخيه الكبير في الجيش ففرح كثيراً ظناً منه انه تخلص منه ولسوء حظه اصيب اخيه في يده اثناء خدمته العسكرية وعاد الى البيت باجازة طويلة . مارس اخيه هوايته المفضلة لديه بتعذيب الكفيف قبل ذهابه الى المدرسة وعند عودته منها .
اثنان من اخوته كانوا معه في المدرسة وهو ثالثهم , في احد الايام قدم الجد الى البيت ومعه ثلاثة اقلام فاعطى قلما لكل من اخويه وقال ساحتفظ بالقلم الثالث ولا اعطيه لاحد احببته كثيراً
انه قلم جميل . وصلت رسالة جده الى مسامعه والالم يعتصره كأنه لا يستحق هذا القلم , ذهب الى المدرسة وهو يصارع الالم في قلبه من تصرفات عائلته معه الا ان اخته سرعان ما ذهبت الى بيت عمه واخبرته بما حدث مع اخيها الكفيف فذهب العم من فوره الى السوق واشترى درزينة من الاقلام للكفيف وبقية اخوته الذين معه في نفس المدرسة . وعندما عاد اعطته قلماً جديدا وقالت له هذا من عمي عندها ذهب الجميع الى المدرسة .
كثيرا ما كان يطأطأ رأسه ويتفكر ماذا يصنع حتى تحبه عائلته وما ذنبه انه ولد ضريراً لايرى تمنى لو يمرض لكي يجلب انتباه عائلته له ويغلق هذه الفجوة الكبيرة من حنان ورعاية اهله له .
اعطى لنفسه املاً جديداً وتذكر الدكتور طه حسين وغيره من اصحاب العوق الجسدي ولكن المشكلة عنده هو كيف يتخلص من العوق النفسي والفكري لعائلته ومجتمعه حيث اخذوا يتذمرون منه ويطالبوه بترك المدرسة والدراسة ولكنه استمر في الدراسة وعندما يتغيبون اخوته ياخذ بالبكاء الشديد حتى توصله والدته رغما عنها الى المدرسة وعند العودة كانت تصطحبه ابنة جاره .
في أحد الأيام عضه كلب عند عودته فتعلل اهله على ترك المدرسة بحجة الخوف عليه ظهرت نتائج الإمتحانات الشهرية ونجح وحصل على إشارة الشطار :ولكن قبل الامتحانات النهائية حصلت كارثة كبرى هي أن أهله قرروا الرحيل إلى قرية أخرى وتم الرحيل فعلا وكان ذلك قبل الامتحان بسبعة أيام تقريبا , مرت الأيام سريعة وحان يوم الامتحان فحاول مع أهله وطلب منهم أن يوصلوه إلى المدرسة بتوسل ورجاء وبكاء دون جدوى . لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي :فاستجمع قواه وشجاعته وقرر الذهاب إلى المدرسة وحيدا وذهب فعلا ولكن في الطريق حدث مالم يكن في الحسبان اذ وجد ماء يجب العبور من خلاله بحث عن الجسر المصنوع من الحجر لكن لم يجده فدخل في الماء وإذا بعمقه نصف المتر تقريبا ولم يعد يستطيع الخروج منه تبللت ملابسه أما كتبه فقد رفعها بيده وصار يحاول الخروج باليد الأخرى لكن كل ما صعد قليلا انزلقت قدماه إلى الأسفل حتى جاء أحد أقاربه وأخرجه من الماء , لكن ليس إلى طريق المدرسة بل إلى البيت :ليس إلى الحرية بل إلى السجن ليس إلى النور بل إلى الظلام :ليس إلى الحياة بل إلى الموت أعاده إلى البيت مع التوبيخ والكلام الجارح
قد يمل القاري من متابعة قصة كفاح كفيف للشابعبد المالك الذي يعيش وسط مجتمع مبصر كفيف البصيرة . نعم الحق معكم في ذلك , الا اني لا يفوتني ان اذكر لكم احاسيس الكفيف المرهفة , تلك المزارف الرفيعة التي تنخر بجسده من الداخل فهو يرى ما لا يراه المبصرون فالوصف الدقيق والتفاصيل الصغيرة هي عينه التي يرى فيها الاشياء ليس كما نراها نحن المبصرون .
ايقن انه لم يستمر في الدراسة ولكنه لم ييأس من طلب العلم فاتجه الى الوسائل السمعية والمرئية لينهل الكثير من خلال البرامج التعليمية والتربوية النافعة . وفجأةً قرر ان يحفظ القرآن الكريم وبحث جاهداً عن من يقرأ له اذ اكتشف ان لدية موهبة الحفظ السريع, بحث كثيرا دون طائل بالرغم من كون جده الشخص الوحيد الذي باستطاعته تعليمه وتحفيظه القرآن لاجادته التلاوة والتفسير عمن سواه في هذه القرية حيث كان الجد هو من يدرب القراء على التلاوة وتخرج من عنده الكثيرين حتى انهم كانوا يأتون اليه من قرى آخرى ,ولكن أنا يتأتى له ذلك وجده يمقته المقت الشديد ويرفض وجوده في الحياة .
عندها ذهب سعيه سدىً . نمت لديه هواية حفظ الاغاني وكان يحفظ الاغنية عند سماعها لمرة واحدة او اثنتان ومنها ان اشتهرت اغنية للمطرب صلاح عبد الغفور بعنوان ( شلونك عيني شلونكشمخلي على عيونك ) حفظها من مرة واحدة فقط وعندما كان يغنيها كان الكل ينهره لدرجة الضرب احيانا من غير الاهانات والسباب والشتائم اذ ان الاغاني محرمة في هذه القرية والموسيقى تعد من الكفريات ومن الكبائر تدخل صاحبها النار الابدية.
اخذ يهرب الى محيط القرية ويصدح بالغناء في اطرافها لئلا يتعرض للاهانات والضرب وهو يدندن اغنية صلاح عبد الغفور اذ صادفه جده قادم من قرية اخرى فخلع نعليه وهبط بها على ام راسه وقال له بالحرف الواحد . اين رايت العيون حتى تغني على العيون .؟ وهدده الجد بدفنه وهو حي اذا ما سمعه مرة ثانية يغني , وحرم من الغناء ولم يراعوا خصوصيته .
عاد الى متنفسه الوحيد التلفزيون فسمع لقاءا مع الشاعر مظفر النواب فتأثر به وبشعره كثيراً فقرر ان يتعلم الشعر ليعبر فيه عن مكنونات نفسه الحزينة وفعلا نضم بعض الابيات القليلة والركيكة يرثي فيها خسارته الكبيرة مدرسته الحبيبة وحاله وما آل اليه مصيره الاسود. وبالرغم من كونها ابيات ركيكة جدا الا انها تحمل معاني كبيرة وسامية . كانت اخته الوحيدة هي التي يقراء عليها ما ينظمه من اشعار شعبية باللهجة المحلية حيث كانت تنصت اليه جيداً.
وفي رثائه لمدرسته كتب: ( راحت ايام المدرسة وتكسرت اقلامه ـــ كله بقت تطلب علم وآني بوسط ظلامه)
حين انتشر خبر نظمه للشعر قامت قيامة اهله ولم تقعد حتى انهم توعدوه بطرده من البيت . وكذلك تم الصاق الشعر والشعراء باعتبارهم زبانية جهنم والعياذ بالله . ولكنه اصر كعادته على ممارسة هوايته الجديدة في الشعر حينها انهالت عليه عائلته بالضرب المبرح وقاموا بربطه بالحبال على عمود في وسط حوش الدار تحت اشعة الشمس الحارقة . لم تنقذه من موقفه هذا الا جارتهم اتت على عجل حين سماعها اصوات الصراخ والسب والشتائم لتتبين الامر , فامت من فورها بفك حباله واخذته معها الى دارها .
كاد عقله ان يتوقف عن التفكير اذ كل ما كان يصنع يواجه به عاصفة من الاستنكار والاذى الجسدي . ماذا يصنع ما عساه ان يفعل للخروج من هذه الدوامة الرهيبة والمخيفة . قرر حينها ان يتعلم السباحة وفعلا كان يذهب الى الشاطيء مرارا وتكرارا حتى تعلم السباحة بصورة جيدة وكان كلما يغطس في الماء تنشط ذاكرته وينسى كل همومه كانه ولد من جديد واصبح كالطير يحلق عاليا في سماء افكاره وطموحه . وعندما شب عن الطوق كثيرا انقذ ابن اخيه الكبير من الغرق .
اتجه بعدها الى تربية الحمام وكانت لديه حمامة جميلة مفضلة لديه يقول فيها الشعر دائماً ويتغنيبها واحيانا كثيرة يغازلها كانه يغازل ويخاطب فتاة احلامه الوردية . وكالعادة اخذوا اهله الحمامة منه وذبحوها نكايةً به وباشعاره واغانيه في حين ولى هاربا الى تله غير بعيدة عن قريته لئلا يرى حمامته تذبح امامه . فالتحق به بعد هنيئة اخيه الصغير وهو يحمل في راحتي يدية ريش حمامته محبوبته التي لم تكل او تمل منه . فاخذ الريش من بين يدي اخيه وحفرة حفرة ودفن ريش حمامته فيها على سفح قريب من التلة واطلق على هذه التلة اسم حمامته .
ومن حماقات اخيه انه وفي العام 1990 كان عبد المالك يلعب فوق سطح داره فاذا باخيه الكبير يصرخ ويزمجر بصوت عال يصم الاذان متوعدا اياه بضربه وتعذيبه بسبب لعبه فوق سطح الدار . حينها سمع وقع اقدام اخيه تعتلي درجات السلم وصراخه يعلوا شيئا فشيئا حتى شعر انه يلاحقه وبما انه كان اسرع وانشط من اخيه فر هاربا من امامه بسرعة مذهله لينجو بنفسه من ضرب اخيه المبرح له .
لم يسعفه الوقت في التفكير واطلق لساقيه الريح ولم يتبين له موضع السلم فهبط من اعلى سطح الدار الى اسفله مباشرةً فارتطم بارضية الدار . وهنا تعالت صيحات والدته وهي تنهر وتعنف اخيه الكبير . فنهض من فوره متحملا الامه الفظيعة التي بالكاد كان يكتمها لئلا يزيد الطين بلة . تفحصته امه فاذا بيده مكسورة فخاطبة ابنها البكر بالاسراع للذهاب به الى الطبيب ولكن الابن لم يصغي اليها وقال لها ان يده سليمة وليست مكسورة ان الاعمى يتصنع ذلك للاهتمام به وان يفلت من العقاب بهذه الحيلة . صحبته والدته الى المركز الصحي في قريته وبعد الفحص بالاشعة تبين ان يده مكسورة فقاموا بتجبيسها وعاد بمعية والدته الى البيت .
بعد ان شفي تماما من كسر يده . اخذ يقوم ببعص الاعمال الشاقة والمرهقة جدا ليثبت للناس ولمجتمعه ان الكفيف يستطيع ان يتدبر نفسه وانه ليس عالة على احد ولاثبات وجوده تفانى في عمله الى حد الدهشة والابهار كذلك اخوته كانوا يعملون معه في اوقات فراغهم في العطلة المدرسية الصيفية . كانت اجوره اليومية واجور اخوته تذهب مباشرةً الى يد اخيه الكبير. حيث كان الاخير يصرفها في امور غير هامة مثل شراء السلاح وما الى غير ذلك .
في يوم من الايام اهدته والدته كتكوت صغير وتعهدته برعايته وتربيته كنوع من التفكير في تكفير ذنبها تجاهه . فرح بالكتكوت ايما فرح وتعهد بتربيته حتى كبر واصبح ديك اسود جميل المنظر لا يقل نشاطا وحيوية عن صاحبه . توجه الى والدته وقال لها امي اريد ان ابيع الديك لاشتري بثمنه راديو صغير فوافقته امه . باع الديك بخمسون دينارا واحتفظ بالمبلغ حتى تسنح له الفرصة لتكليف احدما بشراء الراديو منمحل لبيع الاجهزة الكهربائية في مدينة تلعفر القريبة نسبيا الى قريتهم .
اخبر اصدقائه برغبته هذه , صادف ان مر يوما رجل من مدينة تلعفر معروف لدى الجميع لتكرار مروره بقريتهم لاغراض تجارية . تم اخباره من قبل اصدقاء القرية ممن يثق بهم من حاملي اسراره . جلس في مكان يطل على الطريق مراقبا مرور هذا الرجل , جلس احد اصدقائه بجانبه واخذ يحدثه عن امورالمدرسة فاندهش لمعلوماته . اخبره ان اصدقائة من اقرانه في القرية يتحدثون دائما عن الاغنام والرعي وما يتعلق بهما من امور انهم جهلة لا يفقهون الشيء الكثير وكذلك القرية المجاورة لنا مثلها مثل قريتنا تماما .
قال له صديقه انا من القرية المجاورة التي تتكلم عنها فوثق به كثيرا وتفتحت سريرته له ,في الحقيقة كان الشاب مثقفا متميزا عن اقرانه في القريتين قال انا ذاهب الى مدينة تلعفر, هل تحتاج الى شيء ما اجلبه لك من هناك .؟ هنا لمعت الفكرة في راسه فقال له احتاج راديو فساله عن نوع الرديو وحجمه رد عليه راديو صغير ماركة قيثارة تعمل بالبطارية . حسنا سيكون الراديو بحوزتك خلال يومين .
وبدأ الحديث يدور بينهما مطولا وعندما هم بالانصراف الى قريته اعطاه عبد المالك النقود فتركه لاحلامه , وكيف انه سيجعل من الراديو صديق ومعلم واستاذ له . في اليوم التالي حدث شجار قوي بين اخيه الكبير واخيه الاصغر منه بسبب اخيه الكبير يروم اخذ نقود اخيه الصغير عنوة ولما كان عبد المالك شابا يافعا قوي البنية طويل القامة فتدافع مع اخيه الكبير دفاعا عن اخيه الصغير فما كان من الاخ الاكبر الا ان سحب بندقيته وضغط بفوهتها على مقدمة رأسه هنا صرخت به والدته فانزل سلاحه نحو الارض واخذ النقود من يد اخيه الصغير في موقف رهيب كانه منوم مغناطيسيا او مخدرا بالكلية والتفت اليه وطرده من البيت .
حزم امره للمغادرة الى بيت عمه الذي كان دائما يحنو عليه بعد ان اوصى احد ابناء عمومة الشاب الذي اوصاه بجلب الراديو وبلغه ان الا يعطي الراديو لاخيه الكبير فوعده بذلك . ولكن الامور جرت في غير منحاها اذ علم اخيه بالامر واخذ الراديو الذي جلبه صيقهالشاب من تلعفر وفي جدال عنيف وباسلوب فض تهجم اخيه الكبير على الشاب فتدخل والد الشاب واخذ الراديو من ابنه واعطاه الى الاخ الكبير. ( من نزلت بساحته المنايا – فلا ارض تقيه ولا سماء) .
بعد اسبوع عاد الى دار اهله وبصعوبة بالغة استطاع ان ياخذ الراديو الذي استولى عليه اخيه الكبير بعد ان هدده الاخير بكسره وبعد التي واللتية اعطاه الراديو بدون بطاريات وبدون سماعات الاذن الذي كان بامس الحاه اليها كي لا يزعج اخوته اثناء سهره في الليل على الاخص هم ينامون في غرفة واحدة . فطالبه بها مرارا وتكرارا دون جدوى وبعد فترة وجيزة شعر بشيء يضربه بلطف على وجهيه فتلمس الارض فاذا بها سماعات الاذن عندها شعرت بضربة ثانية قوية جدا اتت على ام رأسي فجرح واخذ الدم يسيل على وجهه فلطخت الدماء الراديو الصغير الذي كان يحمله بين راحتي يديه واتضح اخيرا ان اخيه الكبير رماه بعلبة معجون الطماطم . وبعد ان مسح الدم من على الراديو قال في سره, سجل يا تاريخ افعال هذا المتوحش السيئة .
أصبح الراديو صديقه وأستاذه وساعته ونافذته التي يطل منها على العالم تعلم منه القرآن دون أن يحفظه لكنيستطيع تصويب القارئ إذا أخطأ , تعلم الكثير من اللغة العربية , تعلم الوزن والقافية في كتابة الشعر , كانيفتح الراديو من الساعة الثامنة صباحا إلى الثانية عشرة صباحا يتابع جميع البرامج , علم وقت كل برنامج أو مسلسل إذاعي , يعمل بيد ويمسك الراديو بالأخرى وهكذا كان حاله مع الراديو
مرت الايام والسنين بطيئة , كبرت العائلة وكبر اخوته فاتفق الاخوة معاً مواجهة طغيان وجبروت وظلم اخيهم الكبير . هذه الوقفة التضامنية اوتيت ثمارها والزمت الاخ الاكبر للخضوع وكسر شوكته وطغيانه حيث مع مرور الايام اطمأن الجميع انهم تخلصوا من جوره واعتداءاته اللامتناهية للعائلة . تنفس الجميع الصعداء واستقرت احوال العائلة بعض الشيء بخروج الاخ الاكبر من البيت . وكان المستفيد الوحيد من هذه الخطوة هو عبد المالك فزفر زفرة طويلة وهو يضع يديه الى ام راسه يشكر الله على كل حال . ومع اعتقاده وفرحه الغامر انه سيعيش بقية حياته سعيدا بسلام دون محاسبته على كل تصرف يقوم به حتى حدثت المفاجئة الكبرى .
استلم راية التعذيب والتوبيخ والتعنيف وربما الضرب ايضا ابيه الذي تغير عليه كثيرا واخذ يحاسبه على كل صغيرة وكبيرةوينهره بشدة اذا ما طلب من والده شراء بطاريات جديدة للراديو ويهينه حينا ويضربه احياناً . ولم يفلح مع عائلته التي تعيش في وادي وهو يعيش في وادي آخر. واصبح الاستهزاء بثقافته وهواياته وما يتقنه من الصنعة مثار تندر وضحك عليه بسبب او بدون سبب . باستثناء اخته الحنونة تلك الفتاة الطيبة التي تحمل جميع الاخلاق الانسانية الراقية فاحبها حد الجنون لا بل عشق طيبتها وحنانها عليه. مما لا يستطيع ان يقول فيها شعرا كما تعود ان يترجم احاسيسه في ابياته الشعرية المتواضعة . عاش اجمل ايام حياته مع حبه الوحيد اخته الرائعة .
تعرف الشاب على فتاة صغيرة طيبة وحنونه متعاطفة معه , لم يصدق عبد المالك انهناك كائنا بشريا ممكن ان يحبه للمعانات القاسية التي كان يمر بها بشكل يومي تقريبا طيلة سنوات حياته من النبذ والتوبيخ واسماعه الكلام البذيء والى ما غير ذلك . فاعتبر مسالة تعلقه بهذه الفتاة ضربا من الجنون وبالتالي اناخ رحله عندها واحبها حباً جما شغلت كل تفكيره وعشعشت في جميع تلافيف عقله فما بالك بقلبه. الهمه هذا الامر كتابة الشعر النثري فكتب وابدع وتاججت لديه مشاعر كان لا يعرفها سابقا او لنقل كانت معطلة عنده بعض الشيء فمال بكل جوارحه نحوها واصبحت عالمه الروحي وملكت كل خليه من خلايا جسده دون بذل مجهود يذكر ما خلا الكلام الطيب والحنون معه .
اعتقد في سره ان هذا الحب المتأجج بالعاطفة ربما يكون من طرف واحد من طرفه هو لا غير وانها لا تشعر بما يشعر به نحوها واخذت ملائكته تتصارع فيما بينها ينهره احدهما انها تكلمك بكل رقي وحب وحنان وتستقبلك ذلك الاستقبال الراقي فيرد عليه ملاكه الآخر , لا اعتقد انها تبادلك المشاعر بالرغم من كلماتها الجميلة المهذبة , آه لو علمت بحبك لها لوافقت على الزواج منك وتكون شريكة حياتك . انتبه الى نفسه وهو يلومها تارة بالنفي والامتناع وطرح الحجج وتارة بالايجاب والقبول حتى كاد ان يجن , قرر في اليوم التالي ان يعلن لها ما جعله يكلم نفسه وملائكته كالمجنون المصروع .
طارق فتحي
انتهت العطلة الصيفية وبدأ العام الدراسي الجديد واشتروا لهتراكسوت ليرتديه في المدرسة فقطكان صغيراً جدا لايناسب مقاساته مما يبعث على السخرية منه . تقبل الامر على مضض اذ تبين ان عائلته لا تعرف مدى رقي وروعة افكار ولدهم الكفيف بالرغم من كونهم مبصرون . اذ كان يرغب بشراء معطفا له يقيه غائلة البرد الشديد والرياح التي تعصف بالقرية وبالكاد اشتروا له حذاءا مطاطياً ومن النوع الرديء يسلق اقدامه في الصيف بدرجاته الحرارية العالية وتتجمد اقدامه فيه شتاءا من شدة البرد وهكذا دواليك مزقت الفصول الاربعة احلام واماني عبد المالك فكتمها في نفسه من اجل عيون المدرسة وكان يتظاهر بالفرح الشديد كلما اشتروا له شيئا وقلبه المنكسر يتألم ولا احد يشعر به اطلاقاً .
قرر في سره هذا العام سيكون في الصف الثاني وآل الى نفسه ان يكون من المتفوقين الاوائل قي الدراسة عاما مليئاً بالمفاجأت ينتظره والاجواء مكفهرة والبرد يزداد يوماً بعد يوم وهو بملابسه البسيطة التي ذكرتها في اعلاه . والمفاجئة التي حصلت هو التحاق اخيه الكبير في الجيش ففرح كثيراً ظناً منه انه تخلص منه ولسوء حظه اصيب اخيه في يده اثناء خدمته العسكرية وعاد الى البيت باجازة طويلة . مارس اخيه هوايته المفضلة لديه بتعذيب الكفيف قبل ذهابه الى المدرسة وعند عودته منها .
اثنان من اخوته كانوا معه في المدرسة وهو ثالثهم , في احد الايام قدم الجد الى البيت ومعه ثلاثة اقلام فاعطى قلما لكل من اخويه وقال ساحتفظ بالقلم الثالث ولا اعطيه لاحد احببته كثيراً
انه قلم جميل . وصلت رسالة جده الى مسامعه والالم يعتصره كأنه لا يستحق هذا القلم , ذهب الى المدرسة وهو يصارع الالم في قلبه من تصرفات عائلته معه الا ان اخته سرعان ما ذهبت الى بيت عمه واخبرته بما حدث مع اخيها الكفيف فذهب العم من فوره الى السوق واشترى درزينة من الاقلام للكفيف وبقية اخوته الذين معه في نفس المدرسة . وعندما عاد اعطته قلماً جديدا وقالت له هذا من عمي عندها ذهب الجميع الى المدرسة .
كثيرا ما كان يطأطأ رأسه ويتفكر ماذا يصنع حتى تحبه عائلته وما ذنبه انه ولد ضريراً لايرى تمنى لو يمرض لكي يجلب انتباه عائلته له ويغلق هذه الفجوة الكبيرة من حنان ورعاية اهله له .
اعطى لنفسه املاً جديداً وتذكر الدكتور طه حسين وغيره من اصحاب العوق الجسدي ولكن المشكلة عنده هو كيف يتخلص من العوق النفسي والفكري لعائلته ومجتمعه حيث اخذوا يتذمرون منه ويطالبوه بترك المدرسة والدراسة ولكنه استمر في الدراسة وعندما يتغيبون اخوته ياخذ بالبكاء الشديد حتى توصله والدته رغما عنها الى المدرسة وعند العودة كانت تصطحبه ابنة جاره .
في أحد الأيام عضه كلب عند عودته فتعلل اهله على ترك المدرسة بحجة الخوف عليه ظهرت نتائج الإمتحانات الشهرية ونجح وحصل على إشارة الشطار :ولكن قبل الامتحانات النهائية حصلت كارثة كبرى هي أن أهله قرروا الرحيل إلى قرية أخرى وتم الرحيل فعلا وكان ذلك قبل الامتحان بسبعة أيام تقريبا , مرت الأيام سريعة وحان يوم الامتحان فحاول مع أهله وطلب منهم أن يوصلوه إلى المدرسة بتوسل ورجاء وبكاء دون جدوى . لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي :فاستجمع قواه وشجاعته وقرر الذهاب إلى المدرسة وحيدا وذهب فعلا ولكن في الطريق حدث مالم يكن في الحسبان اذ وجد ماء يجب العبور من خلاله بحث عن الجسر المصنوع من الحجر لكن لم يجده فدخل في الماء وإذا بعمقه نصف المتر تقريبا ولم يعد يستطيع الخروج منه تبللت ملابسه أما كتبه فقد رفعها بيده وصار يحاول الخروج باليد الأخرى لكن كل ما صعد قليلا انزلقت قدماه إلى الأسفل حتى جاء أحد أقاربه وأخرجه من الماء , لكن ليس إلى طريق المدرسة بل إلى البيت :ليس إلى الحرية بل إلى السجن ليس إلى النور بل إلى الظلام :ليس إلى الحياة بل إلى الموت أعاده إلى البيت مع التوبيخ والكلام الجارح
قد يمل القاري من متابعة قصة كفاح كفيف للشابعبد المالك الذي يعيش وسط مجتمع مبصر كفيف البصيرة . نعم الحق معكم في ذلك , الا اني لا يفوتني ان اذكر لكم احاسيس الكفيف المرهفة , تلك المزارف الرفيعة التي تنخر بجسده من الداخل فهو يرى ما لا يراه المبصرون فالوصف الدقيق والتفاصيل الصغيرة هي عينه التي يرى فيها الاشياء ليس كما نراها نحن المبصرون .
ايقن انه لم يستمر في الدراسة ولكنه لم ييأس من طلب العلم فاتجه الى الوسائل السمعية والمرئية لينهل الكثير من خلال البرامج التعليمية والتربوية النافعة . وفجأةً قرر ان يحفظ القرآن الكريم وبحث جاهداً عن من يقرأ له اذ اكتشف ان لدية موهبة الحفظ السريع, بحث كثيرا دون طائل بالرغم من كون جده الشخص الوحيد الذي باستطاعته تعليمه وتحفيظه القرآن لاجادته التلاوة والتفسير عمن سواه في هذه القرية حيث كان الجد هو من يدرب القراء على التلاوة وتخرج من عنده الكثيرين حتى انهم كانوا يأتون اليه من قرى آخرى ,ولكن أنا يتأتى له ذلك وجده يمقته المقت الشديد ويرفض وجوده في الحياة .
عندها ذهب سعيه سدىً . نمت لديه هواية حفظ الاغاني وكان يحفظ الاغنية عند سماعها لمرة واحدة او اثنتان ومنها ان اشتهرت اغنية للمطرب صلاح عبد الغفور بعنوان ( شلونك عيني شلونكشمخلي على عيونك ) حفظها من مرة واحدة فقط وعندما كان يغنيها كان الكل ينهره لدرجة الضرب احيانا من غير الاهانات والسباب والشتائم اذ ان الاغاني محرمة في هذه القرية والموسيقى تعد من الكفريات ومن الكبائر تدخل صاحبها النار الابدية.
اخذ يهرب الى محيط القرية ويصدح بالغناء في اطرافها لئلا يتعرض للاهانات والضرب وهو يدندن اغنية صلاح عبد الغفور اذ صادفه جده قادم من قرية اخرى فخلع نعليه وهبط بها على ام راسه وقال له بالحرف الواحد . اين رايت العيون حتى تغني على العيون .؟ وهدده الجد بدفنه وهو حي اذا ما سمعه مرة ثانية يغني , وحرم من الغناء ولم يراعوا خصوصيته .
عاد الى متنفسه الوحيد التلفزيون فسمع لقاءا مع الشاعر مظفر النواب فتأثر به وبشعره كثيراً فقرر ان يتعلم الشعر ليعبر فيه عن مكنونات نفسه الحزينة وفعلا نضم بعض الابيات القليلة والركيكة يرثي فيها خسارته الكبيرة مدرسته الحبيبة وحاله وما آل اليه مصيره الاسود. وبالرغم من كونها ابيات ركيكة جدا الا انها تحمل معاني كبيرة وسامية . كانت اخته الوحيدة هي التي يقراء عليها ما ينظمه من اشعار شعبية باللهجة المحلية حيث كانت تنصت اليه جيداً.
وفي رثائه لمدرسته كتب: ( راحت ايام المدرسة وتكسرت اقلامه ـــ كله بقت تطلب علم وآني بوسط ظلامه)
حين انتشر خبر نظمه للشعر قامت قيامة اهله ولم تقعد حتى انهم توعدوه بطرده من البيت . وكذلك تم الصاق الشعر والشعراء باعتبارهم زبانية جهنم والعياذ بالله . ولكنه اصر كعادته على ممارسة هوايته الجديدة في الشعر حينها انهالت عليه عائلته بالضرب المبرح وقاموا بربطه بالحبال على عمود في وسط حوش الدار تحت اشعة الشمس الحارقة . لم تنقذه من موقفه هذا الا جارتهم اتت على عجل حين سماعها اصوات الصراخ والسب والشتائم لتتبين الامر , فامت من فورها بفك حباله واخذته معها الى دارها .
كاد عقله ان يتوقف عن التفكير اذ كل ما كان يصنع يواجه به عاصفة من الاستنكار والاذى الجسدي . ماذا يصنع ما عساه ان يفعل للخروج من هذه الدوامة الرهيبة والمخيفة . قرر حينها ان يتعلم السباحة وفعلا كان يذهب الى الشاطيء مرارا وتكرارا حتى تعلم السباحة بصورة جيدة وكان كلما يغطس في الماء تنشط ذاكرته وينسى كل همومه كانه ولد من جديد واصبح كالطير يحلق عاليا في سماء افكاره وطموحه . وعندما شب عن الطوق كثيرا انقذ ابن اخيه الكبير من الغرق .
اتجه بعدها الى تربية الحمام وكانت لديه حمامة جميلة مفضلة لديه يقول فيها الشعر دائماً ويتغنيبها واحيانا كثيرة يغازلها كانه يغازل ويخاطب فتاة احلامه الوردية . وكالعادة اخذوا اهله الحمامة منه وذبحوها نكايةً به وباشعاره واغانيه في حين ولى هاربا الى تله غير بعيدة عن قريته لئلا يرى حمامته تذبح امامه . فالتحق به بعد هنيئة اخيه الصغير وهو يحمل في راحتي يدية ريش حمامته محبوبته التي لم تكل او تمل منه . فاخذ الريش من بين يدي اخيه وحفرة حفرة ودفن ريش حمامته فيها على سفح قريب من التلة واطلق على هذه التلة اسم حمامته .
ومن حماقات اخيه انه وفي العام 1990 كان عبد المالك يلعب فوق سطح داره فاذا باخيه الكبير يصرخ ويزمجر بصوت عال يصم الاذان متوعدا اياه بضربه وتعذيبه بسبب لعبه فوق سطح الدار . حينها سمع وقع اقدام اخيه تعتلي درجات السلم وصراخه يعلوا شيئا فشيئا حتى شعر انه يلاحقه وبما انه كان اسرع وانشط من اخيه فر هاربا من امامه بسرعة مذهله لينجو بنفسه من ضرب اخيه المبرح له .
لم يسعفه الوقت في التفكير واطلق لساقيه الريح ولم يتبين له موضع السلم فهبط من اعلى سطح الدار الى اسفله مباشرةً فارتطم بارضية الدار . وهنا تعالت صيحات والدته وهي تنهر وتعنف اخيه الكبير . فنهض من فوره متحملا الامه الفظيعة التي بالكاد كان يكتمها لئلا يزيد الطين بلة . تفحصته امه فاذا بيده مكسورة فخاطبة ابنها البكر بالاسراع للذهاب به الى الطبيب ولكن الابن لم يصغي اليها وقال لها ان يده سليمة وليست مكسورة ان الاعمى يتصنع ذلك للاهتمام به وان يفلت من العقاب بهذه الحيلة . صحبته والدته الى المركز الصحي في قريته وبعد الفحص بالاشعة تبين ان يده مكسورة فقاموا بتجبيسها وعاد بمعية والدته الى البيت .
بعد ان شفي تماما من كسر يده . اخذ يقوم ببعص الاعمال الشاقة والمرهقة جدا ليثبت للناس ولمجتمعه ان الكفيف يستطيع ان يتدبر نفسه وانه ليس عالة على احد ولاثبات وجوده تفانى في عمله الى حد الدهشة والابهار كذلك اخوته كانوا يعملون معه في اوقات فراغهم في العطلة المدرسية الصيفية . كانت اجوره اليومية واجور اخوته تذهب مباشرةً الى يد اخيه الكبير. حيث كان الاخير يصرفها في امور غير هامة مثل شراء السلاح وما الى غير ذلك .
في يوم من الايام اهدته والدته كتكوت صغير وتعهدته برعايته وتربيته كنوع من التفكير في تكفير ذنبها تجاهه . فرح بالكتكوت ايما فرح وتعهد بتربيته حتى كبر واصبح ديك اسود جميل المنظر لا يقل نشاطا وحيوية عن صاحبه . توجه الى والدته وقال لها امي اريد ان ابيع الديك لاشتري بثمنه راديو صغير فوافقته امه . باع الديك بخمسون دينارا واحتفظ بالمبلغ حتى تسنح له الفرصة لتكليف احدما بشراء الراديو منمحل لبيع الاجهزة الكهربائية في مدينة تلعفر القريبة نسبيا الى قريتهم .
اخبر اصدقائه برغبته هذه , صادف ان مر يوما رجل من مدينة تلعفر معروف لدى الجميع لتكرار مروره بقريتهم لاغراض تجارية . تم اخباره من قبل اصدقاء القرية ممن يثق بهم من حاملي اسراره . جلس في مكان يطل على الطريق مراقبا مرور هذا الرجل , جلس احد اصدقائه بجانبه واخذ يحدثه عن امورالمدرسة فاندهش لمعلوماته . اخبره ان اصدقائة من اقرانه في القرية يتحدثون دائما عن الاغنام والرعي وما يتعلق بهما من امور انهم جهلة لا يفقهون الشيء الكثير وكذلك القرية المجاورة لنا مثلها مثل قريتنا تماما .
قال له صديقه انا من القرية المجاورة التي تتكلم عنها فوثق به كثيرا وتفتحت سريرته له ,في الحقيقة كان الشاب مثقفا متميزا عن اقرانه في القريتين قال انا ذاهب الى مدينة تلعفر, هل تحتاج الى شيء ما اجلبه لك من هناك .؟ هنا لمعت الفكرة في راسه فقال له احتاج راديو فساله عن نوع الرديو وحجمه رد عليه راديو صغير ماركة قيثارة تعمل بالبطارية . حسنا سيكون الراديو بحوزتك خلال يومين .
وبدأ الحديث يدور بينهما مطولا وعندما هم بالانصراف الى قريته اعطاه عبد المالك النقود فتركه لاحلامه , وكيف انه سيجعل من الراديو صديق ومعلم واستاذ له . في اليوم التالي حدث شجار قوي بين اخيه الكبير واخيه الاصغر منه بسبب اخيه الكبير يروم اخذ نقود اخيه الصغير عنوة ولما كان عبد المالك شابا يافعا قوي البنية طويل القامة فتدافع مع اخيه الكبير دفاعا عن اخيه الصغير فما كان من الاخ الاكبر الا ان سحب بندقيته وضغط بفوهتها على مقدمة رأسه هنا صرخت به والدته فانزل سلاحه نحو الارض واخذ النقود من يد اخيه الصغير في موقف رهيب كانه منوم مغناطيسيا او مخدرا بالكلية والتفت اليه وطرده من البيت .
حزم امره للمغادرة الى بيت عمه الذي كان دائما يحنو عليه بعد ان اوصى احد ابناء عمومة الشاب الذي اوصاه بجلب الراديو وبلغه ان الا يعطي الراديو لاخيه الكبير فوعده بذلك . ولكن الامور جرت في غير منحاها اذ علم اخيه بالامر واخذ الراديو الذي جلبه صيقهالشاب من تلعفر وفي جدال عنيف وباسلوب فض تهجم اخيه الكبير على الشاب فتدخل والد الشاب واخذ الراديو من ابنه واعطاه الى الاخ الكبير. ( من نزلت بساحته المنايا – فلا ارض تقيه ولا سماء) .
بعد اسبوع عاد الى دار اهله وبصعوبة بالغة استطاع ان ياخذ الراديو الذي استولى عليه اخيه الكبير بعد ان هدده الاخير بكسره وبعد التي واللتية اعطاه الراديو بدون بطاريات وبدون سماعات الاذن الذي كان بامس الحاه اليها كي لا يزعج اخوته اثناء سهره في الليل على الاخص هم ينامون في غرفة واحدة . فطالبه بها مرارا وتكرارا دون جدوى وبعد فترة وجيزة شعر بشيء يضربه بلطف على وجهيه فتلمس الارض فاذا بها سماعات الاذن عندها شعرت بضربة ثانية قوية جدا اتت على ام رأسي فجرح واخذ الدم يسيل على وجهه فلطخت الدماء الراديو الصغير الذي كان يحمله بين راحتي يديه واتضح اخيرا ان اخيه الكبير رماه بعلبة معجون الطماطم . وبعد ان مسح الدم من على الراديو قال في سره, سجل يا تاريخ افعال هذا المتوحش السيئة .
أصبح الراديو صديقه وأستاذه وساعته ونافذته التي يطل منها على العالم تعلم منه القرآن دون أن يحفظه لكنيستطيع تصويب القارئ إذا أخطأ , تعلم الكثير من اللغة العربية , تعلم الوزن والقافية في كتابة الشعر , كانيفتح الراديو من الساعة الثامنة صباحا إلى الثانية عشرة صباحا يتابع جميع البرامج , علم وقت كل برنامج أو مسلسل إذاعي , يعمل بيد ويمسك الراديو بالأخرى وهكذا كان حاله مع الراديو
مرت الايام والسنين بطيئة , كبرت العائلة وكبر اخوته فاتفق الاخوة معاً مواجهة طغيان وجبروت وظلم اخيهم الكبير . هذه الوقفة التضامنية اوتيت ثمارها والزمت الاخ الاكبر للخضوع وكسر شوكته وطغيانه حيث مع مرور الايام اطمأن الجميع انهم تخلصوا من جوره واعتداءاته اللامتناهية للعائلة . تنفس الجميع الصعداء واستقرت احوال العائلة بعض الشيء بخروج الاخ الاكبر من البيت . وكان المستفيد الوحيد من هذه الخطوة هو عبد المالك فزفر زفرة طويلة وهو يضع يديه الى ام راسه يشكر الله على كل حال . ومع اعتقاده وفرحه الغامر انه سيعيش بقية حياته سعيدا بسلام دون محاسبته على كل تصرف يقوم به حتى حدثت المفاجئة الكبرى .
استلم راية التعذيب والتوبيخ والتعنيف وربما الضرب ايضا ابيه الذي تغير عليه كثيرا واخذ يحاسبه على كل صغيرة وكبيرةوينهره بشدة اذا ما طلب من والده شراء بطاريات جديدة للراديو ويهينه حينا ويضربه احياناً . ولم يفلح مع عائلته التي تعيش في وادي وهو يعيش في وادي آخر. واصبح الاستهزاء بثقافته وهواياته وما يتقنه من الصنعة مثار تندر وضحك عليه بسبب او بدون سبب . باستثناء اخته الحنونة تلك الفتاة الطيبة التي تحمل جميع الاخلاق الانسانية الراقية فاحبها حد الجنون لا بل عشق طيبتها وحنانها عليه. مما لا يستطيع ان يقول فيها شعرا كما تعود ان يترجم احاسيسه في ابياته الشعرية المتواضعة . عاش اجمل ايام حياته مع حبه الوحيد اخته الرائعة .
تعرف الشاب على فتاة صغيرة طيبة وحنونه متعاطفة معه , لم يصدق عبد المالك انهناك كائنا بشريا ممكن ان يحبه للمعانات القاسية التي كان يمر بها بشكل يومي تقريبا طيلة سنوات حياته من النبذ والتوبيخ واسماعه الكلام البذيء والى ما غير ذلك . فاعتبر مسالة تعلقه بهذه الفتاة ضربا من الجنون وبالتالي اناخ رحله عندها واحبها حباً جما شغلت كل تفكيره وعشعشت في جميع تلافيف عقله فما بالك بقلبه. الهمه هذا الامر كتابة الشعر النثري فكتب وابدع وتاججت لديه مشاعر كان لا يعرفها سابقا او لنقل كانت معطلة عنده بعض الشيء فمال بكل جوارحه نحوها واصبحت عالمه الروحي وملكت كل خليه من خلايا جسده دون بذل مجهود يذكر ما خلا الكلام الطيب والحنون معه .
اعتقد في سره ان هذا الحب المتأجج بالعاطفة ربما يكون من طرف واحد من طرفه هو لا غير وانها لا تشعر بما يشعر به نحوها واخذت ملائكته تتصارع فيما بينها ينهره احدهما انها تكلمك بكل رقي وحب وحنان وتستقبلك ذلك الاستقبال الراقي فيرد عليه ملاكه الآخر , لا اعتقد انها تبادلك المشاعر بالرغم من كلماتها الجميلة المهذبة , آه لو علمت بحبك لها لوافقت على الزواج منك وتكون شريكة حياتك . انتبه الى نفسه وهو يلومها تارة بالنفي والامتناع وطرح الحجج وتارة بالايجاب والقبول حتى كاد ان يجن , قرر في اليوم التالي ان يعلن لها ما جعله يكلم نفسه وملائكته كالمجنون المصروع .
مواضيع مماثلة
» * كفاح كفيف - الجزء الثالث
» * كفاح كفيف - الجزء الرابع
» * الحلم - كفاح كفيف : الجزء الاول
» * الاعترافات الكاملة للعميل التائب الدكتور سرمد الفهد - الجزء الثاني
» *قصص قصيرة : هيام هيام - الجزء الثاني
» * كفاح كفيف - الجزء الرابع
» * الحلم - كفاح كفيف : الجزء الاول
» * الاعترافات الكاملة للعميل التائب الدكتور سرمد الفهد - الجزء الثاني
» *قصص قصيرة : هيام هيام - الجزء الثاني
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى