* تاريخ المسيحيون العرب في الدولة العثمانية
صفحة 1 من اصل 1
* تاريخ المسيحيون العرب في الدولة العثمانية
تاريخ المسيحيون العرب في الدولة العثمانية
في ظل الدولة العثمانية
ورث العثمانيون عن المماليك حكم بلاد الشام عام 1516 ومصر عام 1517، كان المماليك في المرحلة الثانية من حكمهم قد انتهجوا سياسة معتدلة تجاه المسيحيين من عرب وغير عرب، على عكس ما كان سائدًا في مرحلة تداعي الممالك الصليبية في الشرق من سقوط أنطاكية عام1268 وحتى سقوط عكا عام 1291
أما نظام الملل العثماني الذي كان موجودًا في الدولة منذ فتح القسطنطينية عام 1453 فهو حسب رأي المستشرق الألماني كارل بروكلمان قد كفل للمسيحيين، بعد تقسيمهم حسب الطوائف إلى ملل، كامل الحرية الدينية والمدنية، خصوصًا مع التعديلات اللاحقة خلال فترات إصلاح الدولة؛وكان رؤساء الطوائف لا يعتبرون الرؤساء الروحيين فقط لطوائفهم بل الرؤساء المدنيين أيضًا، يُسيرون القضاء وشؤون الإرث وسائر الأحوال الشخصية لأبناء الطائفة وفق الشرائع الخاصة بها، وإن كان ذلك قد نوّه له بعض المؤرخين أنه نقطة سلبية ساهمت في ازدياد "التكتل الطائفي" داخل الدولة.
لعل أحد أبرز التطورات على الصعيد الكنسي خلال العصر العثماني، الخصومة الطائفية بين الكاثوليكية والأرثوذكسية، فمنذ القرن السابع عشرحاولت الكنيسة الكاثوليكية التوصل لصيغ اتفاق مع الكنائس الأرثوذكسية بهدف "إعادة الوحدة المسيحية" وأسست بموافقة السلطنة أعدادًا من الأديرة التابعة للرهبنات الكبرى في بلاد الشام والإسكندرية على وجه الخصوص، وقد أدت هذه البعثات الكنسيّة لا إلى "إعادة الوحدة" بل إلى "خلق" طوائف جديدة عرفت باسم "الطوائف الكاثوليكية الشرقية"، فتأسست بطريركية للملكيين الكاثوليك وأخرى لاتينية في القدس وثالثة للأقباط الكاثوليك ومثلها للكلدان والسريان الكاثوليك والأرمن الكاثوليك. كان لبطريرك الملكيين في إسطنبول وهو يتبع الأرثوذكسية الشرقية حظوة كبيرة في البلاط السلطاني، ولذلك فقد أبى السلاطين في البداية تحت ضغط البطريركية الاعتراف بالطوائف الجديدة، بل إن في مناطق مثل دمشق وحمص وحلب وبيت لحم وبيت جالا تعدى الأرثوذكس على الكنائس المنشقة وسيطروا عليها بالقوة،
وفسح ذلك المجال أمام الدول الغربية سيّما فرنسا والنمسا للضغط على السلطان للاعتراف بالطوائف وتثبيت رؤسائها، سيّما كنيسة الملكيين الكاثوليك في أنطاكية لكونها أكبر الكنائس، لكن السلطان لم يصدر أي فرمان ينظم الأوضاع الجديدة، واستمرّ الحال على ما هو عليه بين أخذ ورد سنين طوال حتى عام 1763 خلال عهدمصطفى الثالث حين أصدر شيخ الإسلام فتوى تنصّ على أنّ انتقال المسيحي من مذهب إلى آخر لا يغير من وضعه كأحد أفراد "أهل الذمة الذين تربطهم بالمسلمين العهود والمواثيق" ما دام مسيحيًا،
ورغم نص الفتوى فإن السلطان لم يتخذ أي قرار أو فرمان تنفيذي لها واستمرّ الوضع على ما هو عليه حتى 1830 حين قام السلطان محمود الثاني بإصدار فرمان بتعيين "بطريرك مدني" يدير شؤون كاثوليك الدولة عدا الموارنة، وكان قبل هذا الفرمان على أتباع هذه الطوائف الغير معترف بها، العودة في أحوالهم الشخصية بما فيها دفن الموتى، إلى الأساقفة الأرثوذكس وما يرافق ذلك من مضايقات ورفض وابتزاز.
الاعتراف الرسمي جاء على خلفية سياسية، ففي 15 أبريل 1834 اعترف الباب العالي بالملة الإنطاكية الملكية الكاثوليكية وتبعها الاعتراف بسائر الملل الأقل عددًا، وتم اللقاء بين السلطان وبطريرك الروم الكاثوليك، الذي انتقل إلى دمشق بعد أن كان محتميًا لدى آل شهاب في لبنان، ويعيد عدد من المؤرخين سبب التثبيت بهدف خلق نوع من الارتياح الشعبي بعد دخول البلاد في طاعة محمد علي باشا.
ثم عاد في 7 يناير 1848 وأصدر فرمانًا آخر بمنح البطاركة الكاثوليك حق القضاء المدني لأبناء طوائفهم أسوة بالمعمول لدى الأرثوذكس والموارنة، وبالتالي أنهي دور "البطريرك المدني" الذي ابتدعه محمود الثاني.
ولعلّ أكثر المناطق التي احتدمت بها الخصومة هي في فلسطين، ويشهد واقع كنيسة القيامة المقسم إلى قسم أرثوذكسي شرقي برعاية البطريركية الملكية في القدس وقسم أرثوذكسي مشرقي يشرف عليه الأرمن وقسم كاثوليكي يشرف عليه الفرنسيسكان وبطريركية القدس اللاتينية دليلاً ساطعًا على ذلك، يضاف إلى ذلك، أن عائلتين مسلمتين تقومان بحفظ مفاتيح الكنيسة منذ أيام عمر بن الخطاب، ومن غير المعروف سبب ذلك سوى أنه في إطار "التعايش الإسلامي المسيحي"،غير أنها وفرت قسطًا كبيرًا من الجدال حول أحقية الاحتفاظ بالمفاتيح بين مختلف الطوائف.
هناك قضية أخرى ترتبط بالمسيحيين خلال العهد العثماني وهي قضية الامتيازات الأجنبية للمسيحيين، علمًا أن تطبيقها اقتصر عمليًا على بلاد الشام ولم تشمل مصر والعراق؛ بدأت الامتيازات منذ أواخر عهد سليمان القانوني وبلغت ذورتها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكانت هذه الامتيازات تقدم حقوق التقاضي أمام المحاكم القنصلية الأوروبية وإمكانية استعمال البريد والبرق التابعة للقنصليات مجانًا،
والتعلم في مدراس القنصليات أو الهيئات الواقعة تحت حمايتها مجانًا أيضًا أو السفر نحو أوروبا بهدف الهجرة أو الدراسة على نفقة القنصلية والإعفاء من الضرائب في النشاطات التي أعفت الدولة العثمانية مواطني الدولة الموكولة حماية الطائفة المعينة من الضرائب. وكانت أولى الطوائف التي منحت الامتيازات هي الكنيسة المارونية في أبريل 1649، وتلاها حمايةفرنسا والنمسا لسائر الطوائف الكاثوليكية والإمبراطورية الروسية للطوائف الأرثوذكسية الشرقية وإنكلترا للإنجليكان والأقلياتالبروتستانتية.
في القرن التاسع عشر حاول السلاطين العثمانيون تحديث دولتهم لتكون دولة مدنية تضاهي دول أوروبا، وأقروا في سبيل ذلك سلسلة من الفرمانات الهامة أبرزها فيما يتعلق بوضع المسيحيين "الخط الهمايوني" الذي نصّ لأول مرة على تجريم "التعييرات والألفاظ المميزة التي تتضمن تدني صنف عن آخر من صنوف التبعة العثمانية بسبب المذهب" معلنًا "المساواة بين المسلمين وغير المسلمين" وإلغاء الجزية والسماح للمسيحيين التطوع في الجيش وشملهم بالخدمة العكسرية الإلزامية، كما سمح بحرية بناء الكنائس في المناطق المسيحية أو ذات الغالبية المسيحية واحتفظ في المناطق المختلطة بموافقة سلطانية مسبقة.
وعندما صدر الدستور العثماني جرّم بدوره التمييز وأكد على معاملة المواطنين معاملة واحدة، قبل ذلك كان يلزم المسيحيين في المدن الكبرى أن يسيروا على جانبي الطريق وليس في وسطه، وألا يسكنوا دورًا مرتفعًا وألا يرتدوا عمائم أو صوف أو جوخ وفق قرار صادر عام 1678، غير أن ذلك لم يعق المسيحيين كثيرًا لتركز غالبيتهم في الريف الخاضع بنسب أقل من المدن لسيطرة السلطة المركزية.
في عام 1860 وقعت في جبل لبنان "الفتنة الكبرى" وهي المرحلة الثالثة بعد مجازر بحق مسيحيين أقل حجمًا عامي 1840 و1845ارتكبها دروز، ويقول المؤرخ اللبناني الأب بولس صفير أن التعمق في الفتنة لا يفضي إلى إيجاد سبب مقنع لها، ولذلك ففي رأيه هذه "فتنة مدبرة"،
بدأت من جبل لبنان في أبريل 1860 وأقدم خلالها مشايخ دروز على تسليح أبناء طائفتهم عن طريق الوالي العثماني خورشيد باشا الذي دعم الدروز ولم يبد أي فعل خلال المذابح التي شملت 2600 نسمة في دير القمر و1500 نسمة في جزين و1000 في حاصبيامن الروم الأرثوذكس وفي راشيا 800 نسمة، وفي 8 يوليو و9 يوليو وصلت الأحداث إلى دمشق ومدن أصغر حجمًا مثل زحلة واللاذقيةبين مسلمين ومسيحيين وبلغ مجمل عدد القتلى 10,000 قتيل من المسيحيين وكانت الخسارة في الأملاك أربعة ملايين جينه إسترليني ذهبيإلى جانب اعتناق قرى بأكملها للإسلام في الجليل الأعلى وصيدا وصور هربًا من الإبادة كما فتحت الأحداث باب الهجرة المسيحية من الشرق.
عمومًا يتفق المؤرخون أن السلطان قد راعه ما حدث، وأن تواطئ الوالي العثماني لا يعني بالضرورة تورط الدولة، هذا ما يترجم فعليًا بالإجراءات التي اتخذتها الدولة فقد عيّن السلطان عبد المجيد الأول، فؤاد باشا حاكمًا على الشام مخولاً بصلاحيات استثنائية، لرأب الصدع الذي حصل في المجتمع ولتفادي أي تدخل أوروبي، وقد قاد فؤاد باشا حملة اعتقالات بحق المتورطين بالمذابح ضد المسيحيين، فأعدم رميًا بالرصاص 111 شخصًا، وشنق 57 آخرين، وحكم بالأشغال الشاقة على 325 شخصًا ونفى 145؛ وكان بعض المحكومون من كبار موظفي الدولة في الشام.
كما يذكر دور مسلمي لبنان ودمشق برعاية المسيحيين الفارين من المذابح ومساعدتهم، كالأمير عبد القادر الجزائري الذي فتح قلعة دمشق أمامهم، وقد أفضت المجازر إلى ميلاد متصرفية جبل لبنان.
أما في مصر فقد نعم الأقباط والملكيون "بالصفاء والسلام"، وكان الحال كسائر أنحاء الدولة من الناحية القانونية، ينظم المسيحيون أحوالهم الشخصية بما يتفق مع الأحكام الروحية للطوائف غير أن تنظيم هذا القانون لدى الأقباط قد تأخر حتى 1718،
كما تم إلغاء فرمان سابق صدر عام 1678 ينصّ على وضع مسيحيي مصر حلقتين حديديتين حول رقابهم واليهود لحلقة واحدة لتميزهم مستعيدًا بذلك ما أقره الحاكم بأمر الله سابقًا وهذا ما يفسر بكونه "عنصرية تجاه المسيحيين"، ويجدر بالذكر أيضًا أن الأقباط في المدن الكبرى خلال العهد العثماني أخذوا يتجمعون في أحياء خاصة كما روى الرحالة وفي ذلك إحدى مميزات الشخصية القبطية، واشتهروا بمهن الصاغة والخياطة والنجارة.
وفي المجلس الاستشاري الذي عيّنه محمد علي باشالمساعدته في إدارة شؤون البلاد كانت حصة الأقباط خمسة مقاعد من أصل سبعة عشر، وبعد تأسيس الخديوية المصريّة أسس المجلس الملي العام كهيئة علمانية مساعدة في إدارة شؤون الطائفة، وتولى بطرس غالي رئاسة الوزارة في مصر عام 1908 بعد أن شغل مناصب وزارية لفترات طويلة في السابق، كغيره من أقباط مصر.
في عصر النهضة العربية
النهضة الثقافية العربية في القرن التاسع عشر بدأت في أعقاب خروج محمد علي باشا من بلاد الشام عام 1840 وتسارعت وتيرتها أواخر القرن التاسع عشر، وكانت بيروت والقاهرة ودمشق وحلب مراكزها الأساسية، وتمخض عنها تأسيس المدارس والجامعات العربية والمسرح والصحافة العربيين وتجديد أدبي ولغوي وشعري مميز ونشوء حركة سياسية نشطة عرفت باسم "الجمعيات" رافقها ميلاد فكرة القومية العربية والمطالبة بإصلاح الدولة العثمانية ثم بروز فكرة الاستقلال عنها مع تعذر الإصلاح والمطالبة بتأسيس دول حديثة على الطراز الأوروبي؛
كذلك وخلال النهضة تم تأسيس أول مجمع للغة العربية وإدخال المطابع بالحرف العربي، وفي الموسيقى والنحت والتأريخ والعلوم الإنسانية عامة فضلاً عن الاقتصاد وحقوق الإنسان، وملخص الحال أنّ النهضة الثقافية التي قام بها العرب أواخر الحكم العثماني كانت نقلة نوعية لهم نحو حقبة ما بعد الثورة الصناعية، ولا يمكن حصر ميادين النهضة الثقافية العربية في القرن التاسع عشر بهذه التصنيفات فقط إذ إنها امتدت لتشمل أطياف المجتمع وميادينه برمته،
ويكاد يعمّ الاتفاق بين المؤرخين على الدور الذي لعبه المسيحيون العرب في هذه النهضة سواءً في جبل لبنان أو مصر أو فلسطين أو سوريا، ودورهم في ازدهارها من خلال المشاركة ليس فقط من الوطن بل في المهجر أيضًا. يذكر على سبيل المثال في الصحافة سليم العنجوري مؤسس «مرآة الشرق» عام1879 وأمين السعيل مؤسس مجلة الحقوق وجرجس ميخائيل فارس مؤسس «الجريدة المصرية» عام 1888 واسكندر شلهوب مؤسس مجلة السلطنة عام 1897 وسليم تقلا وشقيقه بشارة تقلا مؤسسا جريدة الأهرام،
وفي فقه اللغة العربية يذكر إبراهيم اليازجي وناصيف اليازجي وبطرس البستاني. وفي الوقت ذاته دخلت إلى حلب على يد المطران ملاتيوس نعمة المطبعة الأولى بأحرف عربية إلى بلاد الشام واستمرت في الطباعة حتى 1899. من جهة أخرى، ساهم المسيحيون العرب في مقارعة سياسة التتريك التي انتهجتها جمعية الاتحاد والترقي وبرز في حلب على وجه الخصوص المطران جرمانوس فرحات والخوري بطرس التلاوي، وتأسست المدرسة البطريركية في غزير التي خرجت عددًا وافرًا من أعلام العربية في تلك المرحلة،
ولعبت الجامعات المسيحية كجامعة القديس يوسف والجامعة الأميركية في بيروت وجامعة الحكمة في بغداد وغيرها دورًا رياديًا في تطوير الحضارة والثقافة العربية. وفي العراق نشط الأب أنستاس ماري الكرملي، وفي الأدب يذكر جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومي زيادة وأمين الريحاني وشفيق معلوف وإلياس فرحات. وفي السياسة يذكر نجيب العازوري وشكري غانم ويعقوب الصروف وفارس نمر وبطرس غالي في لبنان ومصر. ونظرًا لهذا الدور المسيحي المتزايد في السياسة والثقافة، بدأت الحكومات العثمانية تحوي تباعًا وزراءً من المسيحيين العرب ومنهم آل ملحمة في لبنان.
وفي المجال الاقتصادي، برز عدد من العائلات المسيحية ومنهم آل سرسق وآل خازن وآل بسترس في الشام وآل السكاكيني، وآل غالي وآل ثابت في مصر، وهكذا فإن الشرق العربي قاد بمسلميه ومسيحييه نهضة ثقافية وقومية بوجه الاستبداد الذي شكلت ركيزته جمعية الاتحاد والترقي وسياسة التتريك، ورسخت هذه النهضة كما يرى بولس نعمان "المسيحيين العرب كأحد أعمدة المنطقة وليس كأقلية على هامشها".
المسيحيون العرب في المهجر في تاريخ المسيحيون العرب في الدولة العثمانية
في ظل الدولة العثمانية
ورث العثمانيون عن المماليك حكم بلاد الشام عام 1516 ومصر عام 1517، كان المماليك في المرحلة الثانية من حكمهم قد انتهجوا سياسة معتدلة تجاه المسيحيين من عرب وغير عرب، على عكس ما كان سائدًا في مرحلة تداعي الممالك الصليبية في الشرق من سقوط أنطاكية عام1268 وحتى سقوط عكا عام 1291
أما نظام الملل العثماني الذي كان موجودًا في الدولة منذ فتح القسطنطينية عام 1453 فهو حسب رأي المستشرق الألماني كارل بروكلمان قد كفل للمسيحيين، بعد تقسيمهم حسب الطوائف إلى ملل، كامل الحرية الدينية والمدنية، خصوصًا مع التعديلات اللاحقة خلال فترات إصلاح الدولة؛وكان رؤساء الطوائف لا يعتبرون الرؤساء الروحيين فقط لطوائفهم بل الرؤساء المدنيين أيضًا، يُسيرون القضاء وشؤون الإرث وسائر الأحوال الشخصية لأبناء الطائفة وفق الشرائع الخاصة بها، وإن كان ذلك قد نوّه له بعض المؤرخين أنه نقطة سلبية ساهمت في ازدياد "التكتل الطائفي" داخل الدولة.
لعل أحد أبرز التطورات على الصعيد الكنسي خلال العصر العثماني، الخصومة الطائفية بين الكاثوليكية والأرثوذكسية، فمنذ القرن السابع عشرحاولت الكنيسة الكاثوليكية التوصل لصيغ اتفاق مع الكنائس الأرثوذكسية بهدف "إعادة الوحدة المسيحية" وأسست بموافقة السلطنة أعدادًا من الأديرة التابعة للرهبنات الكبرى في بلاد الشام والإسكندرية على وجه الخصوص، وقد أدت هذه البعثات الكنسيّة لا إلى "إعادة الوحدة" بل إلى "خلق" طوائف جديدة عرفت باسم "الطوائف الكاثوليكية الشرقية"، فتأسست بطريركية للملكيين الكاثوليك وأخرى لاتينية في القدس وثالثة للأقباط الكاثوليك ومثلها للكلدان والسريان الكاثوليك والأرمن الكاثوليك. كان لبطريرك الملكيين في إسطنبول وهو يتبع الأرثوذكسية الشرقية حظوة كبيرة في البلاط السلطاني، ولذلك فقد أبى السلاطين في البداية تحت ضغط البطريركية الاعتراف بالطوائف الجديدة، بل إن في مناطق مثل دمشق وحمص وحلب وبيت لحم وبيت جالا تعدى الأرثوذكس على الكنائس المنشقة وسيطروا عليها بالقوة،
وفسح ذلك المجال أمام الدول الغربية سيّما فرنسا والنمسا للضغط على السلطان للاعتراف بالطوائف وتثبيت رؤسائها، سيّما كنيسة الملكيين الكاثوليك في أنطاكية لكونها أكبر الكنائس، لكن السلطان لم يصدر أي فرمان ينظم الأوضاع الجديدة، واستمرّ الحال على ما هو عليه بين أخذ ورد سنين طوال حتى عام 1763 خلال عهدمصطفى الثالث حين أصدر شيخ الإسلام فتوى تنصّ على أنّ انتقال المسيحي من مذهب إلى آخر لا يغير من وضعه كأحد أفراد "أهل الذمة الذين تربطهم بالمسلمين العهود والمواثيق" ما دام مسيحيًا،
ورغم نص الفتوى فإن السلطان لم يتخذ أي قرار أو فرمان تنفيذي لها واستمرّ الوضع على ما هو عليه حتى 1830 حين قام السلطان محمود الثاني بإصدار فرمان بتعيين "بطريرك مدني" يدير شؤون كاثوليك الدولة عدا الموارنة، وكان قبل هذا الفرمان على أتباع هذه الطوائف الغير معترف بها، العودة في أحوالهم الشخصية بما فيها دفن الموتى، إلى الأساقفة الأرثوذكس وما يرافق ذلك من مضايقات ورفض وابتزاز.
الاعتراف الرسمي جاء على خلفية سياسية، ففي 15 أبريل 1834 اعترف الباب العالي بالملة الإنطاكية الملكية الكاثوليكية وتبعها الاعتراف بسائر الملل الأقل عددًا، وتم اللقاء بين السلطان وبطريرك الروم الكاثوليك، الذي انتقل إلى دمشق بعد أن كان محتميًا لدى آل شهاب في لبنان، ويعيد عدد من المؤرخين سبب التثبيت بهدف خلق نوع من الارتياح الشعبي بعد دخول البلاد في طاعة محمد علي باشا.
ثم عاد في 7 يناير 1848 وأصدر فرمانًا آخر بمنح البطاركة الكاثوليك حق القضاء المدني لأبناء طوائفهم أسوة بالمعمول لدى الأرثوذكس والموارنة، وبالتالي أنهي دور "البطريرك المدني" الذي ابتدعه محمود الثاني.
ولعلّ أكثر المناطق التي احتدمت بها الخصومة هي في فلسطين، ويشهد واقع كنيسة القيامة المقسم إلى قسم أرثوذكسي شرقي برعاية البطريركية الملكية في القدس وقسم أرثوذكسي مشرقي يشرف عليه الأرمن وقسم كاثوليكي يشرف عليه الفرنسيسكان وبطريركية القدس اللاتينية دليلاً ساطعًا على ذلك، يضاف إلى ذلك، أن عائلتين مسلمتين تقومان بحفظ مفاتيح الكنيسة منذ أيام عمر بن الخطاب، ومن غير المعروف سبب ذلك سوى أنه في إطار "التعايش الإسلامي المسيحي"،غير أنها وفرت قسطًا كبيرًا من الجدال حول أحقية الاحتفاظ بالمفاتيح بين مختلف الطوائف.
هناك قضية أخرى ترتبط بالمسيحيين خلال العهد العثماني وهي قضية الامتيازات الأجنبية للمسيحيين، علمًا أن تطبيقها اقتصر عمليًا على بلاد الشام ولم تشمل مصر والعراق؛ بدأت الامتيازات منذ أواخر عهد سليمان القانوني وبلغت ذورتها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكانت هذه الامتيازات تقدم حقوق التقاضي أمام المحاكم القنصلية الأوروبية وإمكانية استعمال البريد والبرق التابعة للقنصليات مجانًا،
والتعلم في مدراس القنصليات أو الهيئات الواقعة تحت حمايتها مجانًا أيضًا أو السفر نحو أوروبا بهدف الهجرة أو الدراسة على نفقة القنصلية والإعفاء من الضرائب في النشاطات التي أعفت الدولة العثمانية مواطني الدولة الموكولة حماية الطائفة المعينة من الضرائب. وكانت أولى الطوائف التي منحت الامتيازات هي الكنيسة المارونية في أبريل 1649، وتلاها حمايةفرنسا والنمسا لسائر الطوائف الكاثوليكية والإمبراطورية الروسية للطوائف الأرثوذكسية الشرقية وإنكلترا للإنجليكان والأقلياتالبروتستانتية.
في القرن التاسع عشر حاول السلاطين العثمانيون تحديث دولتهم لتكون دولة مدنية تضاهي دول أوروبا، وأقروا في سبيل ذلك سلسلة من الفرمانات الهامة أبرزها فيما يتعلق بوضع المسيحيين "الخط الهمايوني" الذي نصّ لأول مرة على تجريم "التعييرات والألفاظ المميزة التي تتضمن تدني صنف عن آخر من صنوف التبعة العثمانية بسبب المذهب" معلنًا "المساواة بين المسلمين وغير المسلمين" وإلغاء الجزية والسماح للمسيحيين التطوع في الجيش وشملهم بالخدمة العكسرية الإلزامية، كما سمح بحرية بناء الكنائس في المناطق المسيحية أو ذات الغالبية المسيحية واحتفظ في المناطق المختلطة بموافقة سلطانية مسبقة.
وعندما صدر الدستور العثماني جرّم بدوره التمييز وأكد على معاملة المواطنين معاملة واحدة، قبل ذلك كان يلزم المسيحيين في المدن الكبرى أن يسيروا على جانبي الطريق وليس في وسطه، وألا يسكنوا دورًا مرتفعًا وألا يرتدوا عمائم أو صوف أو جوخ وفق قرار صادر عام 1678، غير أن ذلك لم يعق المسيحيين كثيرًا لتركز غالبيتهم في الريف الخاضع بنسب أقل من المدن لسيطرة السلطة المركزية.
في عام 1860 وقعت في جبل لبنان "الفتنة الكبرى" وهي المرحلة الثالثة بعد مجازر بحق مسيحيين أقل حجمًا عامي 1840 و1845ارتكبها دروز، ويقول المؤرخ اللبناني الأب بولس صفير أن التعمق في الفتنة لا يفضي إلى إيجاد سبب مقنع لها، ولذلك ففي رأيه هذه "فتنة مدبرة"،
بدأت من جبل لبنان في أبريل 1860 وأقدم خلالها مشايخ دروز على تسليح أبناء طائفتهم عن طريق الوالي العثماني خورشيد باشا الذي دعم الدروز ولم يبد أي فعل خلال المذابح التي شملت 2600 نسمة في دير القمر و1500 نسمة في جزين و1000 في حاصبيامن الروم الأرثوذكس وفي راشيا 800 نسمة، وفي 8 يوليو و9 يوليو وصلت الأحداث إلى دمشق ومدن أصغر حجمًا مثل زحلة واللاذقيةبين مسلمين ومسيحيين وبلغ مجمل عدد القتلى 10,000 قتيل من المسيحيين وكانت الخسارة في الأملاك أربعة ملايين جينه إسترليني ذهبيإلى جانب اعتناق قرى بأكملها للإسلام في الجليل الأعلى وصيدا وصور هربًا من الإبادة كما فتحت الأحداث باب الهجرة المسيحية من الشرق.
عمومًا يتفق المؤرخون أن السلطان قد راعه ما حدث، وأن تواطئ الوالي العثماني لا يعني بالضرورة تورط الدولة، هذا ما يترجم فعليًا بالإجراءات التي اتخذتها الدولة فقد عيّن السلطان عبد المجيد الأول، فؤاد باشا حاكمًا على الشام مخولاً بصلاحيات استثنائية، لرأب الصدع الذي حصل في المجتمع ولتفادي أي تدخل أوروبي، وقد قاد فؤاد باشا حملة اعتقالات بحق المتورطين بالمذابح ضد المسيحيين، فأعدم رميًا بالرصاص 111 شخصًا، وشنق 57 آخرين، وحكم بالأشغال الشاقة على 325 شخصًا ونفى 145؛ وكان بعض المحكومون من كبار موظفي الدولة في الشام.
كما يذكر دور مسلمي لبنان ودمشق برعاية المسيحيين الفارين من المذابح ومساعدتهم، كالأمير عبد القادر الجزائري الذي فتح قلعة دمشق أمامهم، وقد أفضت المجازر إلى ميلاد متصرفية جبل لبنان.
أما في مصر فقد نعم الأقباط والملكيون "بالصفاء والسلام"، وكان الحال كسائر أنحاء الدولة من الناحية القانونية، ينظم المسيحيون أحوالهم الشخصية بما يتفق مع الأحكام الروحية للطوائف غير أن تنظيم هذا القانون لدى الأقباط قد تأخر حتى 1718،
كما تم إلغاء فرمان سابق صدر عام 1678 ينصّ على وضع مسيحيي مصر حلقتين حديديتين حول رقابهم واليهود لحلقة واحدة لتميزهم مستعيدًا بذلك ما أقره الحاكم بأمر الله سابقًا وهذا ما يفسر بكونه "عنصرية تجاه المسيحيين"، ويجدر بالذكر أيضًا أن الأقباط في المدن الكبرى خلال العهد العثماني أخذوا يتجمعون في أحياء خاصة كما روى الرحالة وفي ذلك إحدى مميزات الشخصية القبطية، واشتهروا بمهن الصاغة والخياطة والنجارة.
وفي المجلس الاستشاري الذي عيّنه محمد علي باشالمساعدته في إدارة شؤون البلاد كانت حصة الأقباط خمسة مقاعد من أصل سبعة عشر، وبعد تأسيس الخديوية المصريّة أسس المجلس الملي العام كهيئة علمانية مساعدة في إدارة شؤون الطائفة، وتولى بطرس غالي رئاسة الوزارة في مصر عام 1908 بعد أن شغل مناصب وزارية لفترات طويلة في السابق، كغيره من أقباط مصر.
في عصر النهضة العربية
النهضة الثقافية العربية في القرن التاسع عشر بدأت في أعقاب خروج محمد علي باشا من بلاد الشام عام 1840 وتسارعت وتيرتها أواخر القرن التاسع عشر، وكانت بيروت والقاهرة ودمشق وحلب مراكزها الأساسية، وتمخض عنها تأسيس المدارس والجامعات العربية والمسرح والصحافة العربيين وتجديد أدبي ولغوي وشعري مميز ونشوء حركة سياسية نشطة عرفت باسم "الجمعيات" رافقها ميلاد فكرة القومية العربية والمطالبة بإصلاح الدولة العثمانية ثم بروز فكرة الاستقلال عنها مع تعذر الإصلاح والمطالبة بتأسيس دول حديثة على الطراز الأوروبي؛
كذلك وخلال النهضة تم تأسيس أول مجمع للغة العربية وإدخال المطابع بالحرف العربي، وفي الموسيقى والنحت والتأريخ والعلوم الإنسانية عامة فضلاً عن الاقتصاد وحقوق الإنسان، وملخص الحال أنّ النهضة الثقافية التي قام بها العرب أواخر الحكم العثماني كانت نقلة نوعية لهم نحو حقبة ما بعد الثورة الصناعية، ولا يمكن حصر ميادين النهضة الثقافية العربية في القرن التاسع عشر بهذه التصنيفات فقط إذ إنها امتدت لتشمل أطياف المجتمع وميادينه برمته،
ويكاد يعمّ الاتفاق بين المؤرخين على الدور الذي لعبه المسيحيون العرب في هذه النهضة سواءً في جبل لبنان أو مصر أو فلسطين أو سوريا، ودورهم في ازدهارها من خلال المشاركة ليس فقط من الوطن بل في المهجر أيضًا. يذكر على سبيل المثال في الصحافة سليم العنجوري مؤسس «مرآة الشرق» عام1879 وأمين السعيل مؤسس مجلة الحقوق وجرجس ميخائيل فارس مؤسس «الجريدة المصرية» عام 1888 واسكندر شلهوب مؤسس مجلة السلطنة عام 1897 وسليم تقلا وشقيقه بشارة تقلا مؤسسا جريدة الأهرام،
وفي فقه اللغة العربية يذكر إبراهيم اليازجي وناصيف اليازجي وبطرس البستاني. وفي الوقت ذاته دخلت إلى حلب على يد المطران ملاتيوس نعمة المطبعة الأولى بأحرف عربية إلى بلاد الشام واستمرت في الطباعة حتى 1899. من جهة أخرى، ساهم المسيحيون العرب في مقارعة سياسة التتريك التي انتهجتها جمعية الاتحاد والترقي وبرز في حلب على وجه الخصوص المطران جرمانوس فرحات والخوري بطرس التلاوي، وتأسست المدرسة البطريركية في غزير التي خرجت عددًا وافرًا من أعلام العربية في تلك المرحلة،
ولعبت الجامعات المسيحية كجامعة القديس يوسف والجامعة الأميركية في بيروت وجامعة الحكمة في بغداد وغيرها دورًا رياديًا في تطوير الحضارة والثقافة العربية. وفي العراق نشط الأب أنستاس ماري الكرملي، وفي الأدب يذكر جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومي زيادة وأمين الريحاني وشفيق معلوف وإلياس فرحات. وفي السياسة يذكر نجيب العازوري وشكري غانم ويعقوب الصروف وفارس نمر وبطرس غالي في لبنان ومصر. ونظرًا لهذا الدور المسيحي المتزايد في السياسة والثقافة، بدأت الحكومات العثمانية تحوي تباعًا وزراءً من المسيحيين العرب ومنهم آل ملحمة في لبنان.
وفي المجال الاقتصادي، برز عدد من العائلات المسيحية ومنهم آل سرسق وآل خازن وآل بسترس في الشام وآل السكاكيني، وآل غالي وآل ثابت في مصر، وهكذا فإن الشرق العربي قاد بمسلميه ومسيحييه نهضة ثقافية وقومية بوجه الاستبداد الذي شكلت ركيزته جمعية الاتحاد والترقي وسياسة التتريك، ورسخت هذه النهضة كما يرى بولس نعمان "المسيحيين العرب كأحد أعمدة المنطقة وليس كأقلية على هامشها".
المسيحيون العرب في المهجر في الاردن وفلسطين واسرائيل
مُساهمة طارق فتحي في الثلاثاء 9 أغسطس 2016 - 22:44
المسيحيين في الدول العربية : الأردن والأراضي الفلسطينية وإسرائيل
يدير المسيحيون في المناطق الثلاث عددًا من المدارس ومراكز النشاط الاجتماعي ومستشفيات وسواها هي ثلث الخدمات الطبية في الضفة الغربية على سبيل المثال؛ وقد برز من مسيحيي عرب 48 عدد من رجال الدين امثال المطران عطالله حنا والبطريرك ميشيل صباحوالسياسييين من امثال إميل حبيبي، توفيق طوبي وعزمي بشارة الذين طالبوا بحقوق العرب داخل الخط الأخضر وقد نشط المسيحيون على وجه الخصوص في الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة وحزب التجمع الوطني الديمقراطي؛ أما في الأراضي الفلسطينية يخصص 10% من مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني للمسيحيين الذين يرتكزون في بيت لحم وبيت جالا وبدرجة أقل في رام الله وبيرزيت والبيرة وسائر المدن الفلسطينية،
وبرز عدد وافر من الشخصيات التي انخرطت في الساحة الفلسطينية السياسية امثال جورج حبش مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحنان عشراوي وكمال ناصر، كما تمتلك 10 عائلات مسيحية ثلث اقتصاد قطاع غزة، وفق ما صرح به المنسيور الأب منويل مسلم لقناة العربية، أما في إسرائيل فأغلب المسيحيين العرب يعيشون في الناصرة تليها حيفا وعكا، وبعض قرى الجليل الأخرى إما بشكل منفرد أو اختلاطًا بالمسلمين والدروز،
مع وجود نسب أقل في سائر المدن سيّما القدس وتل أبيب ويعاني المسيحيون العرب في إسرائيل من التمييز الاجتماعي والاقتصادي والسياسي من أوجه متعددة ويشرف على شؤونهم الحكومية وزارة الأديان الإسرائيلية، ويعتبرون الأكثر تعلمًا بين اليهود والمسلمين والدروز حيث أن 68% من المسيحيون هم من حملة الشهادات الجامعية،
ولدى المسيحيين العرب أعلى نسبة أطباء وأعلى نسبة نساء أكاديميات في إسرائيل مقارنة ببقية شرائح المجتمع الإسرائيلي، وهم الأقل إنجابًا للأولاد،[ كما أن وضعهم الاقتصادي-الاجتماعي الأفضل بين عرب 48،أما في الأردن حيث يخصص 10% من مقاعد مجلس النواب الأردنيللمسيحيين فلهم حضور فاعل ومؤسسات ومدارس عديد وبرز عدد وافر من الشخصيات المسيحية منذ نشوء الإمارة عام 1920 على الصعيد العسكري والاقتصادي والثقافي والاجتماعي،
ويعتبر الأردن الدولة العربية الوحيدة التي زارها ثلاثة بابوات كاثوليك هم بولس السادسويوحنا بولس الثاني وبندكت السادس عشر،ولا قيود على إنشاء الكنائس أو المؤسسات الكنسية في البلاد، وعمومًا تصنف الأقلية المسيحية في الأردن على أنها "أقلية ناجحة"،وعلى الصعيد الاقتصادي فحسب جريدة فاينانشيال تايمز يمتلك ويدير المسيحيين نحو ثلث اقتصاد الأردن.
لا بد من الإقرار بأن المخاوف المسيحية لها ما يبررها، وأنها مخاوف غير مصطنعة وغير مبالغ فيها، وأنها غير موحى بها من خارج، وأنها لا تعكس مشاعر ضعف الانتماء إلى الجماعة الوطنية ولا تعبر عن الثقة بالأنظمة القمعية التي تستهدفها حركات التغيير، ولا عن الرضى بسياساتها القمعية الاستبدادية، ولكنها تعبر عن مشاعر حقيقية وجادة من احتمالات ليّ ذراع حركات التغيير بحيث تمكن متطرفين إسلاميين من القفز إلى مقاعد السلطة.
أغلب مسيحيي الأردن والأراضي الفلسطينية وإسرائيل من العرب يتبعون بطريركيتي القدس الأولى للروم الأرثوذكس وهي أقلية كبيرة في فلسطين وإسرائيل وأغلبية في الأردن والثانية لاتينية بالتعاون مع الرهبنة الفرنسيسكانية لحماية الأراضي المقدسة وهي الأغلبية في فلسطين والأقلية في الأردن؛ يدير البطريركية الأرثوذكسية رهبان وكهنة وافدين من اليونان أما الرهبنة اللاتينية يديرها رهبان فلسطينيون وغيرهم من الوافدين حول العالم، بينما تعتبر طائفة الروم الكاثوليك أكبر الطوائف في إسرائيل،
وتوجد أيضًا أقليات أخرى من الموارنة والأنجليكان وسواهم.يشكل المسيحيون حوالي 2 - 3% فقط من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة في حين يشكلون نحو 25 - 30% من فلسطيني العالم، أما في الأردن فهم حوالي 6% من السكان، و2% في إسرائيل، وتعتبر الهجرة والتهجير إحدى الملمات التي أصابت مسيحيي جنوب بلاد الشام عمومًا، فعلى سبيل المثال في أعقاب حرب 1948 التي أفضت إلى ميلاد إسرائيل،
مُسحت عن الوجود قرى مسيحية بأكلمها على يد العصابات الصهيونية وطرد أهلها أو قتلوا، وهكذا فإن كنائس اللد وبيسان وطبرية داخل إسرائيل حاليًا إما دمرت أو أغلقت بسبب عدم بقاء أي وجود لمسيحيين في هذه المناطق، يضاف إلى ذلك وضع خاص للقدس فأغلبية القدس الغربية كانت من مسيحيين قامت العصابات الصهيونية بمسح أحيائها وتهجير سكانها وإنشاء أحياء سكنية يهودية فيها لتشكيل "القدس الغربية اليهودية" وهكذا فكما يقول المؤرخ الفلسطين سامي هداوي أن نسبة تهجير العرب من القدس بلغت 37% بين المسيحيين مقابل 17% بين المسلمين،
مقابل ذلك ظهرت رعايا جديدة في الشتات الفلسطيني فكنيسة عمان التي كانت تعد بضع مئات وصلت إلى عشرة آلاف نسمة نتيجة التهجير، ونشأت تسع كنائس جديدة في الزرقاء للاتين وحدهم.
شطرت الحرب أيضًا سبل إدارة البطريركية ولجأ منذ عام 1949 إلى تقسيمها إلى ثلاث فئات: نائب بطريركي يقيم في الناصرة لإدارة شؤون من تبقى من المسيحيين العرب داخل إسرائيل، ونائب آخر في الأردن، واقتصرت سلطة البطريرك الفعلية على القدس وجوارها فقط.
سجلت أيضًا في أعقاب حرب 1967 مصادرة أملاك مدارس وكنائس بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة، ومزيد من التهجير، في حين استمرت الهجرة نحو أوروبا والعالم الجديد كإحدى أبرز موبقات المسيحية في جنوب بلاد الشام خلال المرحلة الراهنة، ولعل التدهور الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية إلى جانب الاحتلال أحد أبرز عوامل الهجرة.
في ظل الدولة العثمانية
ورث العثمانيون عن المماليك حكم بلاد الشام عام 1516 ومصر عام 1517، كان المماليك في المرحلة الثانية من حكمهم قد انتهجوا سياسة معتدلة تجاه المسيحيين من عرب وغير عرب، على عكس ما كان سائدًا في مرحلة تداعي الممالك الصليبية في الشرق من سقوط أنطاكية عام1268 وحتى سقوط عكا عام 1291
أما نظام الملل العثماني الذي كان موجودًا في الدولة منذ فتح القسطنطينية عام 1453 فهو حسب رأي المستشرق الألماني كارل بروكلمان قد كفل للمسيحيين، بعد تقسيمهم حسب الطوائف إلى ملل، كامل الحرية الدينية والمدنية، خصوصًا مع التعديلات اللاحقة خلال فترات إصلاح الدولة؛وكان رؤساء الطوائف لا يعتبرون الرؤساء الروحيين فقط لطوائفهم بل الرؤساء المدنيين أيضًا، يُسيرون القضاء وشؤون الإرث وسائر الأحوال الشخصية لأبناء الطائفة وفق الشرائع الخاصة بها، وإن كان ذلك قد نوّه له بعض المؤرخين أنه نقطة سلبية ساهمت في ازدياد "التكتل الطائفي" داخل الدولة.
لعل أحد أبرز التطورات على الصعيد الكنسي خلال العصر العثماني، الخصومة الطائفية بين الكاثوليكية والأرثوذكسية، فمنذ القرن السابع عشرحاولت الكنيسة الكاثوليكية التوصل لصيغ اتفاق مع الكنائس الأرثوذكسية بهدف "إعادة الوحدة المسيحية" وأسست بموافقة السلطنة أعدادًا من الأديرة التابعة للرهبنات الكبرى في بلاد الشام والإسكندرية على وجه الخصوص، وقد أدت هذه البعثات الكنسيّة لا إلى "إعادة الوحدة" بل إلى "خلق" طوائف جديدة عرفت باسم "الطوائف الكاثوليكية الشرقية"، فتأسست بطريركية للملكيين الكاثوليك وأخرى لاتينية في القدس وثالثة للأقباط الكاثوليك ومثلها للكلدان والسريان الكاثوليك والأرمن الكاثوليك. كان لبطريرك الملكيين في إسطنبول وهو يتبع الأرثوذكسية الشرقية حظوة كبيرة في البلاط السلطاني، ولذلك فقد أبى السلاطين في البداية تحت ضغط البطريركية الاعتراف بالطوائف الجديدة، بل إن في مناطق مثل دمشق وحمص وحلب وبيت لحم وبيت جالا تعدى الأرثوذكس على الكنائس المنشقة وسيطروا عليها بالقوة،
وفسح ذلك المجال أمام الدول الغربية سيّما فرنسا والنمسا للضغط على السلطان للاعتراف بالطوائف وتثبيت رؤسائها، سيّما كنيسة الملكيين الكاثوليك في أنطاكية لكونها أكبر الكنائس، لكن السلطان لم يصدر أي فرمان ينظم الأوضاع الجديدة، واستمرّ الحال على ما هو عليه بين أخذ ورد سنين طوال حتى عام 1763 خلال عهدمصطفى الثالث حين أصدر شيخ الإسلام فتوى تنصّ على أنّ انتقال المسيحي من مذهب إلى آخر لا يغير من وضعه كأحد أفراد "أهل الذمة الذين تربطهم بالمسلمين العهود والمواثيق" ما دام مسيحيًا،
ورغم نص الفتوى فإن السلطان لم يتخذ أي قرار أو فرمان تنفيذي لها واستمرّ الوضع على ما هو عليه حتى 1830 حين قام السلطان محمود الثاني بإصدار فرمان بتعيين "بطريرك مدني" يدير شؤون كاثوليك الدولة عدا الموارنة، وكان قبل هذا الفرمان على أتباع هذه الطوائف الغير معترف بها، العودة في أحوالهم الشخصية بما فيها دفن الموتى، إلى الأساقفة الأرثوذكس وما يرافق ذلك من مضايقات ورفض وابتزاز.
الاعتراف الرسمي جاء على خلفية سياسية، ففي 15 أبريل 1834 اعترف الباب العالي بالملة الإنطاكية الملكية الكاثوليكية وتبعها الاعتراف بسائر الملل الأقل عددًا، وتم اللقاء بين السلطان وبطريرك الروم الكاثوليك، الذي انتقل إلى دمشق بعد أن كان محتميًا لدى آل شهاب في لبنان، ويعيد عدد من المؤرخين سبب التثبيت بهدف خلق نوع من الارتياح الشعبي بعد دخول البلاد في طاعة محمد علي باشا.
ثم عاد في 7 يناير 1848 وأصدر فرمانًا آخر بمنح البطاركة الكاثوليك حق القضاء المدني لأبناء طوائفهم أسوة بالمعمول لدى الأرثوذكس والموارنة، وبالتالي أنهي دور "البطريرك المدني" الذي ابتدعه محمود الثاني.
ولعلّ أكثر المناطق التي احتدمت بها الخصومة هي في فلسطين، ويشهد واقع كنيسة القيامة المقسم إلى قسم أرثوذكسي شرقي برعاية البطريركية الملكية في القدس وقسم أرثوذكسي مشرقي يشرف عليه الأرمن وقسم كاثوليكي يشرف عليه الفرنسيسكان وبطريركية القدس اللاتينية دليلاً ساطعًا على ذلك، يضاف إلى ذلك، أن عائلتين مسلمتين تقومان بحفظ مفاتيح الكنيسة منذ أيام عمر بن الخطاب، ومن غير المعروف سبب ذلك سوى أنه في إطار "التعايش الإسلامي المسيحي"،غير أنها وفرت قسطًا كبيرًا من الجدال حول أحقية الاحتفاظ بالمفاتيح بين مختلف الطوائف.
هناك قضية أخرى ترتبط بالمسيحيين خلال العهد العثماني وهي قضية الامتيازات الأجنبية للمسيحيين، علمًا أن تطبيقها اقتصر عمليًا على بلاد الشام ولم تشمل مصر والعراق؛ بدأت الامتيازات منذ أواخر عهد سليمان القانوني وبلغت ذورتها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكانت هذه الامتيازات تقدم حقوق التقاضي أمام المحاكم القنصلية الأوروبية وإمكانية استعمال البريد والبرق التابعة للقنصليات مجانًا،
والتعلم في مدراس القنصليات أو الهيئات الواقعة تحت حمايتها مجانًا أيضًا أو السفر نحو أوروبا بهدف الهجرة أو الدراسة على نفقة القنصلية والإعفاء من الضرائب في النشاطات التي أعفت الدولة العثمانية مواطني الدولة الموكولة حماية الطائفة المعينة من الضرائب. وكانت أولى الطوائف التي منحت الامتيازات هي الكنيسة المارونية في أبريل 1649، وتلاها حمايةفرنسا والنمسا لسائر الطوائف الكاثوليكية والإمبراطورية الروسية للطوائف الأرثوذكسية الشرقية وإنكلترا للإنجليكان والأقلياتالبروتستانتية.
في القرن التاسع عشر حاول السلاطين العثمانيون تحديث دولتهم لتكون دولة مدنية تضاهي دول أوروبا، وأقروا في سبيل ذلك سلسلة من الفرمانات الهامة أبرزها فيما يتعلق بوضع المسيحيين "الخط الهمايوني" الذي نصّ لأول مرة على تجريم "التعييرات والألفاظ المميزة التي تتضمن تدني صنف عن آخر من صنوف التبعة العثمانية بسبب المذهب" معلنًا "المساواة بين المسلمين وغير المسلمين" وإلغاء الجزية والسماح للمسيحيين التطوع في الجيش وشملهم بالخدمة العكسرية الإلزامية، كما سمح بحرية بناء الكنائس في المناطق المسيحية أو ذات الغالبية المسيحية واحتفظ في المناطق المختلطة بموافقة سلطانية مسبقة.
وعندما صدر الدستور العثماني جرّم بدوره التمييز وأكد على معاملة المواطنين معاملة واحدة، قبل ذلك كان يلزم المسيحيين في المدن الكبرى أن يسيروا على جانبي الطريق وليس في وسطه، وألا يسكنوا دورًا مرتفعًا وألا يرتدوا عمائم أو صوف أو جوخ وفق قرار صادر عام 1678، غير أن ذلك لم يعق المسيحيين كثيرًا لتركز غالبيتهم في الريف الخاضع بنسب أقل من المدن لسيطرة السلطة المركزية.
في عام 1860 وقعت في جبل لبنان "الفتنة الكبرى" وهي المرحلة الثالثة بعد مجازر بحق مسيحيين أقل حجمًا عامي 1840 و1845ارتكبها دروز، ويقول المؤرخ اللبناني الأب بولس صفير أن التعمق في الفتنة لا يفضي إلى إيجاد سبب مقنع لها، ولذلك ففي رأيه هذه "فتنة مدبرة"،
بدأت من جبل لبنان في أبريل 1860 وأقدم خلالها مشايخ دروز على تسليح أبناء طائفتهم عن طريق الوالي العثماني خورشيد باشا الذي دعم الدروز ولم يبد أي فعل خلال المذابح التي شملت 2600 نسمة في دير القمر و1500 نسمة في جزين و1000 في حاصبيامن الروم الأرثوذكس وفي راشيا 800 نسمة، وفي 8 يوليو و9 يوليو وصلت الأحداث إلى دمشق ومدن أصغر حجمًا مثل زحلة واللاذقيةبين مسلمين ومسيحيين وبلغ مجمل عدد القتلى 10,000 قتيل من المسيحيين وكانت الخسارة في الأملاك أربعة ملايين جينه إسترليني ذهبيإلى جانب اعتناق قرى بأكملها للإسلام في الجليل الأعلى وصيدا وصور هربًا من الإبادة كما فتحت الأحداث باب الهجرة المسيحية من الشرق.
عمومًا يتفق المؤرخون أن السلطان قد راعه ما حدث، وأن تواطئ الوالي العثماني لا يعني بالضرورة تورط الدولة، هذا ما يترجم فعليًا بالإجراءات التي اتخذتها الدولة فقد عيّن السلطان عبد المجيد الأول، فؤاد باشا حاكمًا على الشام مخولاً بصلاحيات استثنائية، لرأب الصدع الذي حصل في المجتمع ولتفادي أي تدخل أوروبي، وقد قاد فؤاد باشا حملة اعتقالات بحق المتورطين بالمذابح ضد المسيحيين، فأعدم رميًا بالرصاص 111 شخصًا، وشنق 57 آخرين، وحكم بالأشغال الشاقة على 325 شخصًا ونفى 145؛ وكان بعض المحكومون من كبار موظفي الدولة في الشام.
كما يذكر دور مسلمي لبنان ودمشق برعاية المسيحيين الفارين من المذابح ومساعدتهم، كالأمير عبد القادر الجزائري الذي فتح قلعة دمشق أمامهم، وقد أفضت المجازر إلى ميلاد متصرفية جبل لبنان.
أما في مصر فقد نعم الأقباط والملكيون "بالصفاء والسلام"، وكان الحال كسائر أنحاء الدولة من الناحية القانونية، ينظم المسيحيون أحوالهم الشخصية بما يتفق مع الأحكام الروحية للطوائف غير أن تنظيم هذا القانون لدى الأقباط قد تأخر حتى 1718،
كما تم إلغاء فرمان سابق صدر عام 1678 ينصّ على وضع مسيحيي مصر حلقتين حديديتين حول رقابهم واليهود لحلقة واحدة لتميزهم مستعيدًا بذلك ما أقره الحاكم بأمر الله سابقًا وهذا ما يفسر بكونه "عنصرية تجاه المسيحيين"، ويجدر بالذكر أيضًا أن الأقباط في المدن الكبرى خلال العهد العثماني أخذوا يتجمعون في أحياء خاصة كما روى الرحالة وفي ذلك إحدى مميزات الشخصية القبطية، واشتهروا بمهن الصاغة والخياطة والنجارة.
وفي المجلس الاستشاري الذي عيّنه محمد علي باشالمساعدته في إدارة شؤون البلاد كانت حصة الأقباط خمسة مقاعد من أصل سبعة عشر، وبعد تأسيس الخديوية المصريّة أسس المجلس الملي العام كهيئة علمانية مساعدة في إدارة شؤون الطائفة، وتولى بطرس غالي رئاسة الوزارة في مصر عام 1908 بعد أن شغل مناصب وزارية لفترات طويلة في السابق، كغيره من أقباط مصر.
في عصر النهضة العربية
النهضة الثقافية العربية في القرن التاسع عشر بدأت في أعقاب خروج محمد علي باشا من بلاد الشام عام 1840 وتسارعت وتيرتها أواخر القرن التاسع عشر، وكانت بيروت والقاهرة ودمشق وحلب مراكزها الأساسية، وتمخض عنها تأسيس المدارس والجامعات العربية والمسرح والصحافة العربيين وتجديد أدبي ولغوي وشعري مميز ونشوء حركة سياسية نشطة عرفت باسم "الجمعيات" رافقها ميلاد فكرة القومية العربية والمطالبة بإصلاح الدولة العثمانية ثم بروز فكرة الاستقلال عنها مع تعذر الإصلاح والمطالبة بتأسيس دول حديثة على الطراز الأوروبي؛
كذلك وخلال النهضة تم تأسيس أول مجمع للغة العربية وإدخال المطابع بالحرف العربي، وفي الموسيقى والنحت والتأريخ والعلوم الإنسانية عامة فضلاً عن الاقتصاد وحقوق الإنسان، وملخص الحال أنّ النهضة الثقافية التي قام بها العرب أواخر الحكم العثماني كانت نقلة نوعية لهم نحو حقبة ما بعد الثورة الصناعية، ولا يمكن حصر ميادين النهضة الثقافية العربية في القرن التاسع عشر بهذه التصنيفات فقط إذ إنها امتدت لتشمل أطياف المجتمع وميادينه برمته،
ويكاد يعمّ الاتفاق بين المؤرخين على الدور الذي لعبه المسيحيون العرب في هذه النهضة سواءً في جبل لبنان أو مصر أو فلسطين أو سوريا، ودورهم في ازدهارها من خلال المشاركة ليس فقط من الوطن بل في المهجر أيضًا. يذكر على سبيل المثال في الصحافة سليم العنجوري مؤسس «مرآة الشرق» عام1879 وأمين السعيل مؤسس مجلة الحقوق وجرجس ميخائيل فارس مؤسس «الجريدة المصرية» عام 1888 واسكندر شلهوب مؤسس مجلة السلطنة عام 1897 وسليم تقلا وشقيقه بشارة تقلا مؤسسا جريدة الأهرام،
وفي فقه اللغة العربية يذكر إبراهيم اليازجي وناصيف اليازجي وبطرس البستاني. وفي الوقت ذاته دخلت إلى حلب على يد المطران ملاتيوس نعمة المطبعة الأولى بأحرف عربية إلى بلاد الشام واستمرت في الطباعة حتى 1899. من جهة أخرى، ساهم المسيحيون العرب في مقارعة سياسة التتريك التي انتهجتها جمعية الاتحاد والترقي وبرز في حلب على وجه الخصوص المطران جرمانوس فرحات والخوري بطرس التلاوي، وتأسست المدرسة البطريركية في غزير التي خرجت عددًا وافرًا من أعلام العربية في تلك المرحلة،
ولعبت الجامعات المسيحية كجامعة القديس يوسف والجامعة الأميركية في بيروت وجامعة الحكمة في بغداد وغيرها دورًا رياديًا في تطوير الحضارة والثقافة العربية. وفي العراق نشط الأب أنستاس ماري الكرملي، وفي الأدب يذكر جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومي زيادة وأمين الريحاني وشفيق معلوف وإلياس فرحات. وفي السياسة يذكر نجيب العازوري وشكري غانم ويعقوب الصروف وفارس نمر وبطرس غالي في لبنان ومصر. ونظرًا لهذا الدور المسيحي المتزايد في السياسة والثقافة، بدأت الحكومات العثمانية تحوي تباعًا وزراءً من المسيحيين العرب ومنهم آل ملحمة في لبنان.
وفي المجال الاقتصادي، برز عدد من العائلات المسيحية ومنهم آل سرسق وآل خازن وآل بسترس في الشام وآل السكاكيني، وآل غالي وآل ثابت في مصر، وهكذا فإن الشرق العربي قاد بمسلميه ومسيحييه نهضة ثقافية وقومية بوجه الاستبداد الذي شكلت ركيزته جمعية الاتحاد والترقي وسياسة التتريك، ورسخت هذه النهضة كما يرى بولس نعمان "المسيحيين العرب كأحد أعمدة المنطقة وليس كأقلية على هامشها".
المسيحيون العرب في المهجر في تاريخ المسيحيون العرب في الدولة العثمانية
في ظل الدولة العثمانية
ورث العثمانيون عن المماليك حكم بلاد الشام عام 1516 ومصر عام 1517، كان المماليك في المرحلة الثانية من حكمهم قد انتهجوا سياسة معتدلة تجاه المسيحيين من عرب وغير عرب، على عكس ما كان سائدًا في مرحلة تداعي الممالك الصليبية في الشرق من سقوط أنطاكية عام1268 وحتى سقوط عكا عام 1291
أما نظام الملل العثماني الذي كان موجودًا في الدولة منذ فتح القسطنطينية عام 1453 فهو حسب رأي المستشرق الألماني كارل بروكلمان قد كفل للمسيحيين، بعد تقسيمهم حسب الطوائف إلى ملل، كامل الحرية الدينية والمدنية، خصوصًا مع التعديلات اللاحقة خلال فترات إصلاح الدولة؛وكان رؤساء الطوائف لا يعتبرون الرؤساء الروحيين فقط لطوائفهم بل الرؤساء المدنيين أيضًا، يُسيرون القضاء وشؤون الإرث وسائر الأحوال الشخصية لأبناء الطائفة وفق الشرائع الخاصة بها، وإن كان ذلك قد نوّه له بعض المؤرخين أنه نقطة سلبية ساهمت في ازدياد "التكتل الطائفي" داخل الدولة.
لعل أحد أبرز التطورات على الصعيد الكنسي خلال العصر العثماني، الخصومة الطائفية بين الكاثوليكية والأرثوذكسية، فمنذ القرن السابع عشرحاولت الكنيسة الكاثوليكية التوصل لصيغ اتفاق مع الكنائس الأرثوذكسية بهدف "إعادة الوحدة المسيحية" وأسست بموافقة السلطنة أعدادًا من الأديرة التابعة للرهبنات الكبرى في بلاد الشام والإسكندرية على وجه الخصوص، وقد أدت هذه البعثات الكنسيّة لا إلى "إعادة الوحدة" بل إلى "خلق" طوائف جديدة عرفت باسم "الطوائف الكاثوليكية الشرقية"، فتأسست بطريركية للملكيين الكاثوليك وأخرى لاتينية في القدس وثالثة للأقباط الكاثوليك ومثلها للكلدان والسريان الكاثوليك والأرمن الكاثوليك. كان لبطريرك الملكيين في إسطنبول وهو يتبع الأرثوذكسية الشرقية حظوة كبيرة في البلاط السلطاني، ولذلك فقد أبى السلاطين في البداية تحت ضغط البطريركية الاعتراف بالطوائف الجديدة، بل إن في مناطق مثل دمشق وحمص وحلب وبيت لحم وبيت جالا تعدى الأرثوذكس على الكنائس المنشقة وسيطروا عليها بالقوة،
وفسح ذلك المجال أمام الدول الغربية سيّما فرنسا والنمسا للضغط على السلطان للاعتراف بالطوائف وتثبيت رؤسائها، سيّما كنيسة الملكيين الكاثوليك في أنطاكية لكونها أكبر الكنائس، لكن السلطان لم يصدر أي فرمان ينظم الأوضاع الجديدة، واستمرّ الحال على ما هو عليه بين أخذ ورد سنين طوال حتى عام 1763 خلال عهدمصطفى الثالث حين أصدر شيخ الإسلام فتوى تنصّ على أنّ انتقال المسيحي من مذهب إلى آخر لا يغير من وضعه كأحد أفراد "أهل الذمة الذين تربطهم بالمسلمين العهود والمواثيق" ما دام مسيحيًا،
ورغم نص الفتوى فإن السلطان لم يتخذ أي قرار أو فرمان تنفيذي لها واستمرّ الوضع على ما هو عليه حتى 1830 حين قام السلطان محمود الثاني بإصدار فرمان بتعيين "بطريرك مدني" يدير شؤون كاثوليك الدولة عدا الموارنة، وكان قبل هذا الفرمان على أتباع هذه الطوائف الغير معترف بها، العودة في أحوالهم الشخصية بما فيها دفن الموتى، إلى الأساقفة الأرثوذكس وما يرافق ذلك من مضايقات ورفض وابتزاز.
الاعتراف الرسمي جاء على خلفية سياسية، ففي 15 أبريل 1834 اعترف الباب العالي بالملة الإنطاكية الملكية الكاثوليكية وتبعها الاعتراف بسائر الملل الأقل عددًا، وتم اللقاء بين السلطان وبطريرك الروم الكاثوليك، الذي انتقل إلى دمشق بعد أن كان محتميًا لدى آل شهاب في لبنان، ويعيد عدد من المؤرخين سبب التثبيت بهدف خلق نوع من الارتياح الشعبي بعد دخول البلاد في طاعة محمد علي باشا.
ثم عاد في 7 يناير 1848 وأصدر فرمانًا آخر بمنح البطاركة الكاثوليك حق القضاء المدني لأبناء طوائفهم أسوة بالمعمول لدى الأرثوذكس والموارنة، وبالتالي أنهي دور "البطريرك المدني" الذي ابتدعه محمود الثاني.
ولعلّ أكثر المناطق التي احتدمت بها الخصومة هي في فلسطين، ويشهد واقع كنيسة القيامة المقسم إلى قسم أرثوذكسي شرقي برعاية البطريركية الملكية في القدس وقسم أرثوذكسي مشرقي يشرف عليه الأرمن وقسم كاثوليكي يشرف عليه الفرنسيسكان وبطريركية القدس اللاتينية دليلاً ساطعًا على ذلك، يضاف إلى ذلك، أن عائلتين مسلمتين تقومان بحفظ مفاتيح الكنيسة منذ أيام عمر بن الخطاب، ومن غير المعروف سبب ذلك سوى أنه في إطار "التعايش الإسلامي المسيحي"،غير أنها وفرت قسطًا كبيرًا من الجدال حول أحقية الاحتفاظ بالمفاتيح بين مختلف الطوائف.
هناك قضية أخرى ترتبط بالمسيحيين خلال العهد العثماني وهي قضية الامتيازات الأجنبية للمسيحيين، علمًا أن تطبيقها اقتصر عمليًا على بلاد الشام ولم تشمل مصر والعراق؛ بدأت الامتيازات منذ أواخر عهد سليمان القانوني وبلغت ذورتها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكانت هذه الامتيازات تقدم حقوق التقاضي أمام المحاكم القنصلية الأوروبية وإمكانية استعمال البريد والبرق التابعة للقنصليات مجانًا،
والتعلم في مدراس القنصليات أو الهيئات الواقعة تحت حمايتها مجانًا أيضًا أو السفر نحو أوروبا بهدف الهجرة أو الدراسة على نفقة القنصلية والإعفاء من الضرائب في النشاطات التي أعفت الدولة العثمانية مواطني الدولة الموكولة حماية الطائفة المعينة من الضرائب. وكانت أولى الطوائف التي منحت الامتيازات هي الكنيسة المارونية في أبريل 1649، وتلاها حمايةفرنسا والنمسا لسائر الطوائف الكاثوليكية والإمبراطورية الروسية للطوائف الأرثوذكسية الشرقية وإنكلترا للإنجليكان والأقلياتالبروتستانتية.
في القرن التاسع عشر حاول السلاطين العثمانيون تحديث دولتهم لتكون دولة مدنية تضاهي دول أوروبا، وأقروا في سبيل ذلك سلسلة من الفرمانات الهامة أبرزها فيما يتعلق بوضع المسيحيين "الخط الهمايوني" الذي نصّ لأول مرة على تجريم "التعييرات والألفاظ المميزة التي تتضمن تدني صنف عن آخر من صنوف التبعة العثمانية بسبب المذهب" معلنًا "المساواة بين المسلمين وغير المسلمين" وإلغاء الجزية والسماح للمسيحيين التطوع في الجيش وشملهم بالخدمة العكسرية الإلزامية، كما سمح بحرية بناء الكنائس في المناطق المسيحية أو ذات الغالبية المسيحية واحتفظ في المناطق المختلطة بموافقة سلطانية مسبقة.
وعندما صدر الدستور العثماني جرّم بدوره التمييز وأكد على معاملة المواطنين معاملة واحدة، قبل ذلك كان يلزم المسيحيين في المدن الكبرى أن يسيروا على جانبي الطريق وليس في وسطه، وألا يسكنوا دورًا مرتفعًا وألا يرتدوا عمائم أو صوف أو جوخ وفق قرار صادر عام 1678، غير أن ذلك لم يعق المسيحيين كثيرًا لتركز غالبيتهم في الريف الخاضع بنسب أقل من المدن لسيطرة السلطة المركزية.
في عام 1860 وقعت في جبل لبنان "الفتنة الكبرى" وهي المرحلة الثالثة بعد مجازر بحق مسيحيين أقل حجمًا عامي 1840 و1845ارتكبها دروز، ويقول المؤرخ اللبناني الأب بولس صفير أن التعمق في الفتنة لا يفضي إلى إيجاد سبب مقنع لها، ولذلك ففي رأيه هذه "فتنة مدبرة"،
بدأت من جبل لبنان في أبريل 1860 وأقدم خلالها مشايخ دروز على تسليح أبناء طائفتهم عن طريق الوالي العثماني خورشيد باشا الذي دعم الدروز ولم يبد أي فعل خلال المذابح التي شملت 2600 نسمة في دير القمر و1500 نسمة في جزين و1000 في حاصبيامن الروم الأرثوذكس وفي راشيا 800 نسمة، وفي 8 يوليو و9 يوليو وصلت الأحداث إلى دمشق ومدن أصغر حجمًا مثل زحلة واللاذقيةبين مسلمين ومسيحيين وبلغ مجمل عدد القتلى 10,000 قتيل من المسيحيين وكانت الخسارة في الأملاك أربعة ملايين جينه إسترليني ذهبيإلى جانب اعتناق قرى بأكملها للإسلام في الجليل الأعلى وصيدا وصور هربًا من الإبادة كما فتحت الأحداث باب الهجرة المسيحية من الشرق.
عمومًا يتفق المؤرخون أن السلطان قد راعه ما حدث، وأن تواطئ الوالي العثماني لا يعني بالضرورة تورط الدولة، هذا ما يترجم فعليًا بالإجراءات التي اتخذتها الدولة فقد عيّن السلطان عبد المجيد الأول، فؤاد باشا حاكمًا على الشام مخولاً بصلاحيات استثنائية، لرأب الصدع الذي حصل في المجتمع ولتفادي أي تدخل أوروبي، وقد قاد فؤاد باشا حملة اعتقالات بحق المتورطين بالمذابح ضد المسيحيين، فأعدم رميًا بالرصاص 111 شخصًا، وشنق 57 آخرين، وحكم بالأشغال الشاقة على 325 شخصًا ونفى 145؛ وكان بعض المحكومون من كبار موظفي الدولة في الشام.
كما يذكر دور مسلمي لبنان ودمشق برعاية المسيحيين الفارين من المذابح ومساعدتهم، كالأمير عبد القادر الجزائري الذي فتح قلعة دمشق أمامهم، وقد أفضت المجازر إلى ميلاد متصرفية جبل لبنان.
أما في مصر فقد نعم الأقباط والملكيون "بالصفاء والسلام"، وكان الحال كسائر أنحاء الدولة من الناحية القانونية، ينظم المسيحيون أحوالهم الشخصية بما يتفق مع الأحكام الروحية للطوائف غير أن تنظيم هذا القانون لدى الأقباط قد تأخر حتى 1718،
كما تم إلغاء فرمان سابق صدر عام 1678 ينصّ على وضع مسيحيي مصر حلقتين حديديتين حول رقابهم واليهود لحلقة واحدة لتميزهم مستعيدًا بذلك ما أقره الحاكم بأمر الله سابقًا وهذا ما يفسر بكونه "عنصرية تجاه المسيحيين"، ويجدر بالذكر أيضًا أن الأقباط في المدن الكبرى خلال العهد العثماني أخذوا يتجمعون في أحياء خاصة كما روى الرحالة وفي ذلك إحدى مميزات الشخصية القبطية، واشتهروا بمهن الصاغة والخياطة والنجارة.
وفي المجلس الاستشاري الذي عيّنه محمد علي باشالمساعدته في إدارة شؤون البلاد كانت حصة الأقباط خمسة مقاعد من أصل سبعة عشر، وبعد تأسيس الخديوية المصريّة أسس المجلس الملي العام كهيئة علمانية مساعدة في إدارة شؤون الطائفة، وتولى بطرس غالي رئاسة الوزارة في مصر عام 1908 بعد أن شغل مناصب وزارية لفترات طويلة في السابق، كغيره من أقباط مصر.
في عصر النهضة العربية
النهضة الثقافية العربية في القرن التاسع عشر بدأت في أعقاب خروج محمد علي باشا من بلاد الشام عام 1840 وتسارعت وتيرتها أواخر القرن التاسع عشر، وكانت بيروت والقاهرة ودمشق وحلب مراكزها الأساسية، وتمخض عنها تأسيس المدارس والجامعات العربية والمسرح والصحافة العربيين وتجديد أدبي ولغوي وشعري مميز ونشوء حركة سياسية نشطة عرفت باسم "الجمعيات" رافقها ميلاد فكرة القومية العربية والمطالبة بإصلاح الدولة العثمانية ثم بروز فكرة الاستقلال عنها مع تعذر الإصلاح والمطالبة بتأسيس دول حديثة على الطراز الأوروبي؛
كذلك وخلال النهضة تم تأسيس أول مجمع للغة العربية وإدخال المطابع بالحرف العربي، وفي الموسيقى والنحت والتأريخ والعلوم الإنسانية عامة فضلاً عن الاقتصاد وحقوق الإنسان، وملخص الحال أنّ النهضة الثقافية التي قام بها العرب أواخر الحكم العثماني كانت نقلة نوعية لهم نحو حقبة ما بعد الثورة الصناعية، ولا يمكن حصر ميادين النهضة الثقافية العربية في القرن التاسع عشر بهذه التصنيفات فقط إذ إنها امتدت لتشمل أطياف المجتمع وميادينه برمته،
ويكاد يعمّ الاتفاق بين المؤرخين على الدور الذي لعبه المسيحيون العرب في هذه النهضة سواءً في جبل لبنان أو مصر أو فلسطين أو سوريا، ودورهم في ازدهارها من خلال المشاركة ليس فقط من الوطن بل في المهجر أيضًا. يذكر على سبيل المثال في الصحافة سليم العنجوري مؤسس «مرآة الشرق» عام1879 وأمين السعيل مؤسس مجلة الحقوق وجرجس ميخائيل فارس مؤسس «الجريدة المصرية» عام 1888 واسكندر شلهوب مؤسس مجلة السلطنة عام 1897 وسليم تقلا وشقيقه بشارة تقلا مؤسسا جريدة الأهرام،
وفي فقه اللغة العربية يذكر إبراهيم اليازجي وناصيف اليازجي وبطرس البستاني. وفي الوقت ذاته دخلت إلى حلب على يد المطران ملاتيوس نعمة المطبعة الأولى بأحرف عربية إلى بلاد الشام واستمرت في الطباعة حتى 1899. من جهة أخرى، ساهم المسيحيون العرب في مقارعة سياسة التتريك التي انتهجتها جمعية الاتحاد والترقي وبرز في حلب على وجه الخصوص المطران جرمانوس فرحات والخوري بطرس التلاوي، وتأسست المدرسة البطريركية في غزير التي خرجت عددًا وافرًا من أعلام العربية في تلك المرحلة،
ولعبت الجامعات المسيحية كجامعة القديس يوسف والجامعة الأميركية في بيروت وجامعة الحكمة في بغداد وغيرها دورًا رياديًا في تطوير الحضارة والثقافة العربية. وفي العراق نشط الأب أنستاس ماري الكرملي، وفي الأدب يذكر جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومي زيادة وأمين الريحاني وشفيق معلوف وإلياس فرحات. وفي السياسة يذكر نجيب العازوري وشكري غانم ويعقوب الصروف وفارس نمر وبطرس غالي في لبنان ومصر. ونظرًا لهذا الدور المسيحي المتزايد في السياسة والثقافة، بدأت الحكومات العثمانية تحوي تباعًا وزراءً من المسيحيين العرب ومنهم آل ملحمة في لبنان.
وفي المجال الاقتصادي، برز عدد من العائلات المسيحية ومنهم آل سرسق وآل خازن وآل بسترس في الشام وآل السكاكيني، وآل غالي وآل ثابت في مصر، وهكذا فإن الشرق العربي قاد بمسلميه ومسيحييه نهضة ثقافية وقومية بوجه الاستبداد الذي شكلت ركيزته جمعية الاتحاد والترقي وسياسة التتريك، ورسخت هذه النهضة كما يرى بولس نعمان "المسيحيين العرب كأحد أعمدة المنطقة وليس كأقلية على هامشها".
المسيحيون العرب في المهجر في الاردن وفلسطين واسرائيل
مُساهمة طارق فتحي في الثلاثاء 9 أغسطس 2016 - 22:44
المسيحيين في الدول العربية : الأردن والأراضي الفلسطينية وإسرائيل
يدير المسيحيون في المناطق الثلاث عددًا من المدارس ومراكز النشاط الاجتماعي ومستشفيات وسواها هي ثلث الخدمات الطبية في الضفة الغربية على سبيل المثال؛ وقد برز من مسيحيي عرب 48 عدد من رجال الدين امثال المطران عطالله حنا والبطريرك ميشيل صباحوالسياسييين من امثال إميل حبيبي، توفيق طوبي وعزمي بشارة الذين طالبوا بحقوق العرب داخل الخط الأخضر وقد نشط المسيحيون على وجه الخصوص في الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة وحزب التجمع الوطني الديمقراطي؛ أما في الأراضي الفلسطينية يخصص 10% من مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني للمسيحيين الذين يرتكزون في بيت لحم وبيت جالا وبدرجة أقل في رام الله وبيرزيت والبيرة وسائر المدن الفلسطينية،
وبرز عدد وافر من الشخصيات التي انخرطت في الساحة الفلسطينية السياسية امثال جورج حبش مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحنان عشراوي وكمال ناصر، كما تمتلك 10 عائلات مسيحية ثلث اقتصاد قطاع غزة، وفق ما صرح به المنسيور الأب منويل مسلم لقناة العربية، أما في إسرائيل فأغلب المسيحيين العرب يعيشون في الناصرة تليها حيفا وعكا، وبعض قرى الجليل الأخرى إما بشكل منفرد أو اختلاطًا بالمسلمين والدروز،
مع وجود نسب أقل في سائر المدن سيّما القدس وتل أبيب ويعاني المسيحيون العرب في إسرائيل من التمييز الاجتماعي والاقتصادي والسياسي من أوجه متعددة ويشرف على شؤونهم الحكومية وزارة الأديان الإسرائيلية، ويعتبرون الأكثر تعلمًا بين اليهود والمسلمين والدروز حيث أن 68% من المسيحيون هم من حملة الشهادات الجامعية،
ولدى المسيحيين العرب أعلى نسبة أطباء وأعلى نسبة نساء أكاديميات في إسرائيل مقارنة ببقية شرائح المجتمع الإسرائيلي، وهم الأقل إنجابًا للأولاد،[ كما أن وضعهم الاقتصادي-الاجتماعي الأفضل بين عرب 48،أما في الأردن حيث يخصص 10% من مقاعد مجلس النواب الأردنيللمسيحيين فلهم حضور فاعل ومؤسسات ومدارس عديد وبرز عدد وافر من الشخصيات المسيحية منذ نشوء الإمارة عام 1920 على الصعيد العسكري والاقتصادي والثقافي والاجتماعي،
ويعتبر الأردن الدولة العربية الوحيدة التي زارها ثلاثة بابوات كاثوليك هم بولس السادسويوحنا بولس الثاني وبندكت السادس عشر،ولا قيود على إنشاء الكنائس أو المؤسسات الكنسية في البلاد، وعمومًا تصنف الأقلية المسيحية في الأردن على أنها "أقلية ناجحة"،وعلى الصعيد الاقتصادي فحسب جريدة فاينانشيال تايمز يمتلك ويدير المسيحيين نحو ثلث اقتصاد الأردن.
لا بد من الإقرار بأن المخاوف المسيحية لها ما يبررها، وأنها مخاوف غير مصطنعة وغير مبالغ فيها، وأنها غير موحى بها من خارج، وأنها لا تعكس مشاعر ضعف الانتماء إلى الجماعة الوطنية ولا تعبر عن الثقة بالأنظمة القمعية التي تستهدفها حركات التغيير، ولا عن الرضى بسياساتها القمعية الاستبدادية، ولكنها تعبر عن مشاعر حقيقية وجادة من احتمالات ليّ ذراع حركات التغيير بحيث تمكن متطرفين إسلاميين من القفز إلى مقاعد السلطة.
أغلب مسيحيي الأردن والأراضي الفلسطينية وإسرائيل من العرب يتبعون بطريركيتي القدس الأولى للروم الأرثوذكس وهي أقلية كبيرة في فلسطين وإسرائيل وأغلبية في الأردن والثانية لاتينية بالتعاون مع الرهبنة الفرنسيسكانية لحماية الأراضي المقدسة وهي الأغلبية في فلسطين والأقلية في الأردن؛ يدير البطريركية الأرثوذكسية رهبان وكهنة وافدين من اليونان أما الرهبنة اللاتينية يديرها رهبان فلسطينيون وغيرهم من الوافدين حول العالم، بينما تعتبر طائفة الروم الكاثوليك أكبر الطوائف في إسرائيل،
وتوجد أيضًا أقليات أخرى من الموارنة والأنجليكان وسواهم.يشكل المسيحيون حوالي 2 - 3% فقط من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة في حين يشكلون نحو 25 - 30% من فلسطيني العالم، أما في الأردن فهم حوالي 6% من السكان، و2% في إسرائيل، وتعتبر الهجرة والتهجير إحدى الملمات التي أصابت مسيحيي جنوب بلاد الشام عمومًا، فعلى سبيل المثال في أعقاب حرب 1948 التي أفضت إلى ميلاد إسرائيل،
مُسحت عن الوجود قرى مسيحية بأكلمها على يد العصابات الصهيونية وطرد أهلها أو قتلوا، وهكذا فإن كنائس اللد وبيسان وطبرية داخل إسرائيل حاليًا إما دمرت أو أغلقت بسبب عدم بقاء أي وجود لمسيحيين في هذه المناطق، يضاف إلى ذلك وضع خاص للقدس فأغلبية القدس الغربية كانت من مسيحيين قامت العصابات الصهيونية بمسح أحيائها وتهجير سكانها وإنشاء أحياء سكنية يهودية فيها لتشكيل "القدس الغربية اليهودية" وهكذا فكما يقول المؤرخ الفلسطين سامي هداوي أن نسبة تهجير العرب من القدس بلغت 37% بين المسيحيين مقابل 17% بين المسلمين،
مقابل ذلك ظهرت رعايا جديدة في الشتات الفلسطيني فكنيسة عمان التي كانت تعد بضع مئات وصلت إلى عشرة آلاف نسمة نتيجة التهجير، ونشأت تسع كنائس جديدة في الزرقاء للاتين وحدهم.
شطرت الحرب أيضًا سبل إدارة البطريركية ولجأ منذ عام 1949 إلى تقسيمها إلى ثلاث فئات: نائب بطريركي يقيم في الناصرة لإدارة شؤون من تبقى من المسيحيين العرب داخل إسرائيل، ونائب آخر في الأردن، واقتصرت سلطة البطريرك الفعلية على القدس وجوارها فقط.
سجلت أيضًا في أعقاب حرب 1967 مصادرة أملاك مدارس وكنائس بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة، ومزيد من التهجير، في حين استمرت الهجرة نحو أوروبا والعالم الجديد كإحدى أبرز موبقات المسيحية في جنوب بلاد الشام خلال المرحلة الراهنة، ولعل التدهور الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية إلى جانب الاحتلال أحد أبرز عوامل الهجرة.
مواضيع مماثلة
» * ومضات من تاريخ العراق - الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط .
» * تاريخ المسيحيون العرب في الخليج والمغرب العربي
» * تاريخ المسيحيون العرب في الجاهلية - في الاسلام - في عصرالأمويون والعباسيون
» *تاريخ المسيحيون العرب في المهجر في الاردن وفلسطين واسرائيل - في الدول العربية
» * تاريخ الطب عند العرب و المسلمين
» * تاريخ المسيحيون العرب في الخليج والمغرب العربي
» * تاريخ المسيحيون العرب في الجاهلية - في الاسلام - في عصرالأمويون والعباسيون
» *تاريخ المسيحيون العرب في المهجر في الاردن وفلسطين واسرائيل - في الدول العربية
» * تاريخ الطب عند العرب و المسلمين
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى