* تاريخ مختصر الدول : من نور الدين - الى قلج ارسلان
صفحة 1 من اصل 1
* تاريخ مختصر الدول : من نور الدين - الى قلج ارسلان
(1/127)
و في سنة أربع و ستين و خمسمائة ملك نور الدين قلعة جعبر. و ملك أسد الدين شيركوه مصر و قتل الوزير. و لما ثبت قدم أسد الدين و ظن أن لم يبق له منازع أتاه أجله فتوفي يوم السبت الثاني و العشرين من جمادى الآخرة و كانت ولايته شهرين. و أما ابتداء أمره فإنه كان هو و أخوه نجم الدين أيوب ابنا شاذي من بلد دوين و أصلهما من الأكراد الروادية فقدما العراق و خدما مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد. فرأى من نجم الدين أيوب عقلا و رأيا و كان أكبر من شيركوه فجعله مستحفظا لقلعة تكريت. فسار إليها و معه أخوه شيركوه. ثم أن شيركوه قتل كاتبا نصرانيا بتكريت لملاحاة جرت بينهما فأخرجهما بهروز من قلعة تكريت فسارا إلى زنكي. و لما ملك بعلبك جعل أيوب مستحفظا لها فلما قتل زنكي و تسلم عسكر دمشق بعلبك صار هو أكبر الأمراء بدمشق و اتصل أخوه شيركوه بنور الدين فأقطعه حمص و الرحبة و جعله مقدم عسكره. فلما أراد أن يرسل العسكر إلى مصر لم ير هناك من يصلح لهذا الأمر العظيم و المقام الخطير غيره فأرسله فملكها.
و لما توفي أسد الدين شيركوه طلب جماعة من الأمراء النورية ولاية الوزارة للعاضد العلوي صاحب مصر فأرسل العاضد إلى صلاح الدين بن أيوب بن شاذي أحضره عنده و خلع عليه و ولاه الوزارة بعد عمه و لقبه الملك الناصر و كان اسمه يوسف. فكان الذي حمله على ذلك أن أصحابه قالوا له:ليس في الجماعة أضعف و لا أصغر سنا من يوسف فإذا ولي لا يرفع علينا رأسا مثل غيره. فثبت قدم صلاح الدين و مع هذا فهو نائب عن نور الدين و كان نور الدين يكاتبه بالأمير الاسفهسلار و يكتب علامته على رأس الكتاب تعظيما عن أن يكتب اسمه و كان لا يفرده بكتاب بل يكتبه: الأمير الاسفهسلار صلاح الدين و كافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا و كذا. و استمال صلاح الدين قلوب الناس و بذل الأموال فمالوا إليه و أحبوه و ضعف أمر العاضد. ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه إخوته و أهله فأرسلهم إليه و شرط عليهم طاعته.
و في سنة خمس و ستين و خمسمائة في شوال مات قطب الدين مودود بن زنكي ابن اقسنقر صاحب الموصل. و لما اشتد مرضه أوصى بالملك بعده لابنه الأكبر عماد الدين زنكي ثم عدل عنه إلى ابنه الآخر و هو سيف الدين غازي و إنما فعل ذلك لأن القيم بأمور دولته كان خادما له يقال له فخر الدين عبد المسيح و كان يكره عماد الدين لأنه كان طوع عمه نور الدين و كان نور الدين يبغض عبد المسيح فاتفق عبد المسيح و خاتون ابنة حسام الدين تمرتاش بن ايلغازي و هي والدة سيف الدين علي صرف الملك عن عماد الدين إلى سيف الدين. و رحل عماد الدين إلى عمه نور الدين مستنصرا به ليعينه على أخذ الملك لنفسه.
و في سنة ست و ستين و خمسمائة تاسع ربيع الآخرتوفي الإمام المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن المقتفي و كانت خلافته إحدى عشرة سنة و عمره ستا و خمسين سنة. و كان من أحسن الخلفاء سيرة مع الرعية عادلا قبض على إنسان كان يسعى بالناس فأطال حبسه فشفع فيه بعض أصحابه المختصين بخدمته و بذل عنه عشرةآلاف دينار. فقال: أنا أعطيك عشرة آلاف دينار و تحضر لي إنسانا آخر مثله أحبسه فأكف شره عن الناس. و لم يطلقه. و كان سبب موته أنه كتب إلى وزيره مع طبيبه ابن صفية يأمره بالقبض على أستاذ الدار و قطب الدين قايماز و صلبهما و كان قد اشتد مرضه. فاجتمع الطبيب بهما و أوقفهما على الخط. فقالا له: عد إليه و قل له: إنني أوصلت الخط إلى الوزير و فعل ذلك. ثم دخل المذكوران على المستنجد و معهما أصحابهما فحملوه و هو يستغيث إلى الحمام و ألقوه و أغلقوا الباب عليه و هو يصيح إلى أن مات.
(1/128)
" المستضيء بن المستنجد " و لما أظهروا موت المستنجد أحضر ابنه أبو محمد الحسن و بايعه أهل بيته البيعة الخاصة يوم توفي أبوه أي تاسع ربيع الآخر سنة ست و ستين و خمسمائة و بايعه الناس من الغد في التاج بيعة عامة و لقب المستضيء بأمر الله و أظهر من العدل أضعاف ما عمل أبوه و فرق أموالا جليلة المقدار. و لما بلغ نور الدين محمود ابن زنكي وفاة أخيه قطب الدين مودود صاحب الموصل و ملك ولده سيف الدين غازي الموصل و تحكم فخر الدين عبد المسيح عليه أنف لذلك و سار بجريدة في قلة من العسكر و عبر الفرات عند قلعة جعبر و ملك الرقة و الخابور و نصيبين و حاصر سنجار و ملكها و سلمها إلى عماد الدين ابن أخيه و أتى مدينة بلد و عبر دجلة عندها مخاضة إلى الجانب الشرقي و نزل على حصن نينوى. و من العجب أنه يوم نزوله سقط من سور الموصل بدنة كبيرة فأرسل فخر الدين عبد المسيح إلى نور الدين في تسليم البلد إليه على أن يقره بيد سيف الدين و يطلب لنفسه الأمان و لماله و أهله فأجيب إلى ذلك و شرط أن فخر الدين يأخذه معه إلى الشام و يعطيه إقطاعا مرضية. فتسلم البلد و دخل القلعة و أمر بعمارة الجامع النوري و سلم الموصل إلى سيف الدين و سنجار لعماد الدين و عاد إلى الشام و استصحب معه فخر الدين عبد المسيح و كان مقامه بالموصل أربعة و عشرين يوما. و في سنة سبع و ستين و خمسمائة لما ثبت قدم صلاح الدين بمصر و ضعف أمر الخليفة العاضد بها و صار قصره يحكم فيه صلاح الدين و نائبه قراقوش و قو خصي من أعيان الأمراء الأسدية كلهم يرجعون إليه عزم على قطع خطبة العاضد و كان يخاف المصريين. و كان قد دخل إلى مصر رجل أعمى يعرف بالأمير العالم فلما رأى ما هو فيه من الإحجام و أن واحدا لا يتجاسر يخطب للعباسيين قال: أنا أبتدئ بالخطبة للمستضيء. فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب و دعا للمستضيء فلم ينكر أحد ذلك فقطع الخطباء كلهم بمصر خطبة العاضد و خطبوا للمستضيء ولم ينتطح فيها عنزان. وتوفي العاضد يوم عاشوراء و لم يعلموه بقطع خطبته.
(1/129)
و فيها عبر الخطا نهر جيحون يريدون خوارزم. فسار صاحبها خوالازم شاه أرسلان بن اقسز في عساكره إلى أموية ليقاتلهم و يصدهم فمرض فأقام بها و سير جيشه مع أمير كبير فلقيهم فانهزم الخوارزميون و أسر مقدمهم و رجع به الخطا إلى ما وراء النهر. و عاد خوارزم شاه إلى خوارزم مريضا و توفي بها و ملك بعده ابنه سلطان شاه محمود. و كان ابنه الأكبر علاء الدينتكش مقيما في جند فقصد ملك الخطا و استمده علىأخيه فسير معه جيشا كثيفا مقدمهم فوما و ساروا حتى قاربوا خوارزم فخرج سلطان شاه منها و معه أمه و قصد خراسان و ملك تكش خوارزم. و في سنة تسع و ستين و خمسمائة توفي نور الدين محمود بن زنكي بن اقسنقر صاحب الشام و ديار الجزيرة و مصر يوم الأربعاء حادي عشر شوال و لم يكن في سير الملوك أحسن من سيرته و لا أكثر تحريا للعدل منه و كان لا يأكل و لا يلبس و لا يتصرف في الذي يخصه إلا من ملك كان له قد اشترته من سهمه من الغنيمة. و لقد شكت إليه زوجته من الضائقة فأعطاها ثلاثة دكاكين في حمص كانت له يحصل منها في السنة نحو العشرين دينارا. فلما استقلتها قال: ليس لي إلا هذا و جميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم فيه و لا أخوض نار جهنم لأجلك. و لما مات ملك بعده ابنه الملك الصالح اسمعيل و كان عمره إحدى عشرة سنة و أطاعته الناس بالشام و صلاح الدين بمصر و خطب له بها و ضرب السكة باسمه. و في سنة سبعين و خمسمائة لما ملك سيف الدين غازي الديار الجزرية خاف الأمراء الذين في دمشق و حلب لئلا يعبر إليهم سيف الدين فسيروا الملك الصالح و معه العساكر إلى حلب ليصد سيف الدين عن العبور إلى الشام. فلما خلت دمشق عن السلطان و العساكر سار إليها صلاح الدين فملكها و ملك بعدها حمص و حماة و بعلبك و سار إلى حلب فحصرها. فركب الملك الصالح و هو صبي عمره اثنتا عشرة سنة و جمع أهل حلب و قال لهم: قد عرفتم إحسان أبي إليكم و محبته لكم و سيرته فيكم و أنا يتيمكم و قد جاء هذا الظالم الجاحد إحسان والدي إليه يأخذ بلدي و لا يراقب الله و لا الخلق. و قال من هذا كثيرا و بكى فأبكى الناس و اتفقوا على القتال دونه فكانوا يخرجون و يقاتلون صلاح الدين عند جبل جوشن و لا يقدر على القرب من البلد فرحل عنه. و فيها ملك البهلوان مدينة تبريز. و في سنة إحدى و سبعين ملك صلاح الدين قلعة عزاز و نازل حلب و بها الملك الصالح و قد أقام العامة في حفظ البلد المقام المرضي و ترددت الرسل بينهم في الصلح فوقعت الإجابة إليه من الجانبين و رحل صلاح الدين عن حلب بعد أن أعاد قلعة عزاز إلى الملك الصالح فإنه أخرج إلى صلاح الدين أختا له صغيرة طفلة. فأكرمها صلاح الدين و قال لها: ما تريدين. قالت: أريد قلعة عزاز. و كانوا قد علموها ذلك. فسلمها إليهم و رحل. و في سنة ثلاث و سبعين قتل عضد الدين وزير الخليفة المستضيء و وزر ظهير الدين المعروف بابن العطار و كان خيرا حسن السيرة كثير العطاء و تمكن تمكنا كثيرا.
و في سنة خمس و سبعين و خمسمائة ثاني ذي القعدة توفي الإمام المستضيء بأمر الله و كانت خلافته نحو تسع سنين و عمره تسع و ثلاثون سنة و كان عادلا حسن السيرة في الرعية قليل المعاقبة على الذنوب محبا للعفو فعاش حميدا و مات سعيدا.
(1/130)
و كان في هذا الزمان من الحكماء المشهورين بالمشرق السموءل بن ايهوذا المغربي الأندلسي الحكيم اليهودي قدم هو و أبوه إلى المشرق و كان أبوه يشدو شيئا من الحكمة و كان ولده السموءل قد قرأ فنون الحكمة و قام بالعلوم الرياضية و أحكم أصولها و فوائدها و نوادرها و له في ذلك مصنفات و صنف كتبا في الطب و ارتحل إلى أذربيجان وخدم بيت بهلوان و أمراء دولتهم و أقام بمدينة مراغة و أولد أولادا هناك سلكوا طريقته في الطب ثم أسلم وصنف كتابا في إظهار معايب اليهود و مواضع الدليل على تبديلهم التوراة و مات بالمراغة قريبا من سنة سبعين و خمسمائة. و كان في هذا الأوان أيضا الرحبي الطبيب نزيل دمشق من أهل الرحبة أصله كان من الرحبة حسن المعالجة لطيف المباشرة نزه النفس يعاني التجارة و رزق بها مالا جما و أولادا مرضيي الطريقة لهم اشتغال جيد في هذا الفن و كان كثير التنعم حسن المركب و الملبس و المأكل و المنزل يلزم في أموره قوانين حفظ الصحة الموجودة. و قيل له: ما ثمرة هذا. قال: أن يعيش الإنسان العمر الطبيعي. فقيل له: أنت قد بلغت من السن ما لم يبق بينك و بين العمر الطبيعي إلا القليل فأي حاجة إلى هذا التكلف. فقال: لأبقي ذلك القليل فوق الأرض و أستنشق الهواء و أتجرع الماء و لا أكون تحت التراب بسوء التدبير. و لم يزل على حالته إلى أن أتاه أجله في أوائل سنة اثنتين و ثلاثين و ستمائة و خلف ثلاثة بنين اثنان منهم طبيبان فاضلان و سيأتي ذكرهما. قال الرحبي هذا: استدعاني نور الدين محمود في مرضه الذي توفي فيه مع غيري من الأطباء فدخلنا إليه و هو في بيت صغير بقلعة دمشق و قد تمكنت منه الخوانيق و قارب الهلاك فلا يكاد يسمع صوته و كان يخلو فيه للتعبد فابتدأ به المرض فلم ينتقل عنه. فلما دخلنا و رأينا ما به قلت له: كان ينبغي أن لا تؤخر احضارنا إلى أن يشتد بك المرض. الآن ينبغي أن تعجل الانتقال من هذا الموضع إلى مكان فسيح مضيء فله أثر في هذا المرض. و شرعنا في علاجه و أشرنا بالفصد فقال: ابن الستين لا يفتصد. و امتنع عنه فعالجناه بغيره فلم ينجع فيه الدواء.
" الناصر بن المستضيء " : و لما مات المستضيء قام ظهير الدين ابن العطار في أخذ البيعة لولده الناصر لدين الله أبي العباس أحمد. فلما تمت البيعة صار الحاكم في الدولة مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب. و في سابع ذي القعدة سنة خمس و سبعين و خمسمائة قبض على ابن العطار و وكل عليه في داره ثم نقل إلى التاج و قيد و طلبت ودائعه و أمواله ثم أخرج ميتا على رأس حمال سرا فغمز به بعض العامة فثار به العامة فألقوه عن رأس الحمال و كشفوا سوءته و شدوا في ذكره حبلا و سحبوه في البلد و كانوا يضعون بيده مغرفة و يقولون: و قع لنا يا مولانا. إلى غير ذلك من الأفعال الشنيعة. ثم خلص من أيديهم و دفن. هذا فعلهم به مع حسن سيرته فيهم و كفه عن أموالهم و أراضهم. و في سنة ست و سبعين ثالث صفر توفي سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي صاحب الموصل و ولي أخوه عز الدين الموصل و أعطى جزيرة ابن عمر و قلاعها لولده معز الدين سنجر شاه و أعطى قلعة شوش و بلد الحميدية لابنه الصغير ناصر الدين كبك و كان المدبر لدولة عز الدين مجاهد الدين قيماز و استقرت الأمور و لم يختلف اثنان.
(1/131)
و فيها توفي شمس الدولة تورانشاه بم أيوب أخو صلاح الدين الأكبر بالإسكندرية.و في سنة سبع و سبعين في رجب توفي الملك الصالح اسمعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب بها و عمره نحو تسع عشرة سنة. فلما آيس من نفسه أحضر الأمراء و وصاهم بتسليم البلد إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي فتسلم حلب ثم سلمها لأخيه عماد الدين و أخذ عوضا عنها مدينة سنجار. و في سنة ثماني و سبعين سير صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغتكين إلى اليمن فتملكها و تغلب عليها. و فيها عبر صلاح الدين الفرات إلى الديار الجزرية و ملك الرها و حران و الرقة و قرقيسياء و ماكسين و عربان و نصيبين و سار إلى الموصل و بها عز الدين صاحبها و نائبه مجاهد الدين قد جمعا بها العساكر الكثيرة من فارس و راجل و أظهرا من السلاح و آلات الحصار ما حارت له الأبصار. فلما قرب صلاحالدين من البلد رأى ما هاله و ملأ صدره و صدور أصحابه و مع هذا نزل عليها و أنشب القتال. و خرج إليه يوما بعض العامة فنال منه وأخذ لالكة من رجله فيها المسامير الكثيرة و رمى بها أميرا يقال له جاولي الأسدي و هو مقدم الأسدية و كبيرهم فأصاب صدره فوجد لذلك الما شديدا و أخذ اللالكة و عاد عن القتال إلى صلاح الدين و قال له: قد قابلنا أهل الموصل بحماقات ما رأينا مثلها بعد. و ألقى اللالكة و حلف أنه لا يعود يقاتل عليها أنفة حيث ضرب بها. فلما رأى صلاح الدين أنه لا ينال من الموصل غرضا و لا يحصل على غير العناء و التعب سار عنها إلى سنجار و ملكها. و في سنة تسع و سبعين ملك صلاح الدين مدينة آمد و سلمها إلى نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب الحصن و كان صلاح الدين قد نزل بحرزم و طمع أن يملك ماردين فلم ير لطمعه وجها فسار عنها إلى إلى آمد على طريق البارعية. و فيها سار صلاح الدين إلى حلب فنزل بجبل جوشن و أظهر أنه يريد يبني مساكن له و لأصحابه و عساكره. فمال عماد الدين زنكي إلى تسليم حلب و أخذ العوض عنها فتقرر الصلح على أن يسلم حلب إلى صلاح الدين و يأخذ عوضها سنجار و نصيبين و الخابور و الرقة و سروج. و جرت اليمين على ذلك فباعها بأوكس الأثمان أعطى حصنا مثل حلب و أخذ عوضها قرى و مزارع فقبح الناس كلهم ما أتى.
و في سنة ثمانين و خمسمائة مات قطب الدين بن إيلغازي بن نجم الدين البي بن تمرتاش ابن إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين و ملك بعده ابنه حسام الدين يولق أرسلان و هو طفل و كان شاه أرمن صاحب خلاط خال قطب الدين فحكم في دولته بعد موته فرتب نظام الدين التقش مع ولده و قام بتربيته و تدبير مملكته و كان ديا خيرا فأحسن تربية الولد و تزوج أمه فلما كبر الولد لم يمكنه النظام من مملكته لخبط و هوج كان فيه. و لم يزل الأمر على ذلك إلى أن مات الولد و له أخ أصغر منه لقبه قطب الدين فرتبه النظام في الملك و ليس له منه إلا الاسم و الحكم إلى النظام و إلى مملوك له اسمه لؤلؤ فبقي كذلك إلى سنة إحدى و ستمائة. فمرض التقش النظام فأتاه قطب الدين يعوده فلما خرج من عنده خرج معه لؤلؤ فضربه قطب الدين بسكين معه فقتله. ثم دخل إلى النظام فقتله أيضا و خرج وحده ومعه غلام له و ألقى الرأسين إلى الأجناد فأذعنوا له بالطاعة و استولى على قلعة ماردين و قلعة البارعية و الصور و حكم فيها و حزم في أفعاله.
(1/132)
و في سنة إحدى و ثمانين و خمسمائة حصر صلاح الدين الموصل مرة ثانية فسير أتابك عز الدين صاحبها والدته إليه و معها ابنة عمه نور الدين محمود و غيرهما من النساء و جماعة من أعيان الدولة يطلبون المصالحة. و كل من عنده ظنوا أنهن إذا طلبن منه الشام أجابهن إلى ذلك لا سيما و معهن ابنة مخدومه و ولي نعمته نور الدين. فلما وصلن غليه أنزلهن و اعتذر بأعذار غير مقبولة و أعادهن خائبات. فبذل العامة غيظا و حنقا لرده النساء. فندم صلاح الدين على رد النساء و جاءته كتب القاضي الفاضل و غيره يقبحون فعله و ينكرونه. و كان عامة الموصل يعبرون دجلة فيقاتلون من الجانب الشرقي من العسكر و يعودون. فعزم صلاح الدين على قطع دجلة عن الموصل إلى ناحية نينوى ليعطش اهل الموصل فيملكها بغير قتال ثم علم أنه لا يمكن قطعه بالكلية و إن المدة تطول و التعب يكثر فأعرض عنه و رحل إلى ميافارقين لأنه سمع أن شاه أرمن صاحب خلاط توفي و لم يخلف ولدا و قد استولى على بلاده مملوك اسمه بكتمر. فسير صلاح الدين في مقدمته ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه و مظفر الدين بن زين الدين و غيرهما فساروا إلى خلاط فنزلوا بطوانة. و سار صلاح الدين إلى ميافارقين و سار البهلوان بن ايلدكر صاحب أذربيجان فنزل قريبا من خلاط و ترددت رسل أهل بينهم و بين البهلوان و صلاح الدين. ثم أنهم أصلحوا أمرهم مع البهلوان و صاروا من حزبه و خطبوا له.
و في سنة اثنتين و ثمانين و خمسمائة توفي البهلوان محمد بن ايلدكر صاحب بلاد الجبل و الري و أصفهان و أذربيجان و أران و ملك بعده أخوه قزل أرسلان و اسمه عثمان. و في سنة ثلاث و ثمانين ملك صلاح الدين مدينة طبرية و قلعتها و سار عنها و نزل على عتكة. و لما صمم على الزحف إلى البلد خرج الأعيان من أهلها إليه يطلبون الأمان فأجابهم إلى ذلك و أمنهم على نفوسهم و أموالهم و خيرهم بين الإقامة و الظعن فاختاروا الرحيل و ساروا منها متفرقين و حملوا ما أمكنهم من أموالهم و تركوا الباقي على حاله. و سلم صلاح الدين البلد إلى ولده الفضل و غنم المسلمون ما بقي مما لم يطق الفرنج حمله. و فيها ملك صلاح الدين قيسارية و حيفا و صفورية و الشقيف و الفولة. و يافا و تبنين و صيدا و بيروت و جبيل و عسقلان.
(1/133)
و لما فرغ صلاح الدين من أمر هذه الأماكن سار إلى بيت المقدس فلما نزل عليه المسلمون رأوا على سوره من الرجال ما هالهم و بقي صلاح الدين خمسة أيام يطوف حول المدينة لينظر من أين يقاتل لأنه في غاية الحصانة و الامتناع فلم يجد عليه موضع قتال إلا من جهة الشمال نحو باب عمود أو كنيسة صهيون فانتقل إلى هذه الناحية في العشرين من رجب فنزلها و نصب تلك الليلة المنجنيقات و نصب الفرنج على سور البلد المنجنيقات و تقاتل الفريقان أشد قتال كل منهما يرى ذلك دينا و حتما واجبا فلا يحتاج فيه إلى باعث سلطاني بل كانوا يمنعون و لا يمتنعون و يزجرون و لا ينزجرون. فلما رأى الفرنج شدة قتال المسلمين و تحكم المنجنيقات بالرمي المتدارك و تمكن النقابين من النقب أرسلوا باليان بن نيرزان صاحب الرملة إلى صلاح الدين يطلب الأمان. فأبى السلطان و قال: لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بالمسلمين حين ملكتموه سنة إحدى و تسعين و أربعمائة من القتل و السبي. فقال له باليان: ايها السلطان العظيم اعلم أننا في هذه المدينة في خلق كثير و إنما يفترون عن القتال رجاء الأمان. فإذا رأينا الموت لا بد منه فوالله لنقتلن أولادنا و نساءنا و نحرق أموالنا و لا نترككم تغنمون منا دينارا و لا درهما و لا تسبون و تأسرون رجلا أو امرأة. فإذا فرغنا من ذلك أخربنا الصخرة و المسجد الأقصى ثم نقتل من عندنا من اسارى المسلمين و هم خمسة آلاف أسير و لا نترك لنا دابة و لا حيوانا إلا قتلناه ثم خرجنا إليكم كلنا و حينئذ لا يقتل الرجل منا حتى يقتل أمثاله و نموت أعزاء أو نظفر كرماء فاستشار صلاح الدين أصحابه فأجمعوا على إجابتهم إلى الأمان و أن لا يحرجوا و يحملوا على كوب ما لا يدري عاقبة الأمر فيه عن أي شيء ينجلي. فأجاب صلاح الدين حينئذ إلى بذل الأمان للفرنج و استقر أن يزن الرجل عشرة دنانير يستوي فيه الغني و الفقير و تزن المرأة خمسة دنانير و يزن الطفل من الذكور و الإناث دينارين فمن أدى ذلك إلى أربعين يوما فقد نجا و إلا صار مملوكا. فبذل باليان عن الفقراء ثلاثين ألف دينار فأجيب إلى ذلك و سلمت المدينة يوم الجمعة السابع و العشرين من رجب.
و لما فرغ صلاح الدين من أمر بيت المقدس سار إلى مدينة صور و قد خرج إليهاالمركيس و صار صاحبها و قد ساسها أحسن سياسة. فقسم صلاح الدين القتال على العسكر كل جمع لهم وقت معلوم يقاتلون فيه بحيث يتصل القتال على أهل البلد على أن الموضع الذي يقاتلون فيه قريب المسافة تكفيه الجماعة اليسيرة من أهل البلد تحفظه و عليه الخنادق التي قد وصلت إلى البحر فلا يكاد الطائر يطير عليها لأن المدينة كالكف في البحر و الساعد متصل بالبر و البحر في جانبي الساعد و القتال إنما هو في الساعد فلذلك لم يتمكن منها صلاح الدين و رحل عنها. و كان للمسلمين خمس قطع من الشواني مقابل ميناء صور ليمنعوا من الخروج منه و الدخول إليه فنازلتهم شواني الفرنج وقت السحر و ضايقتهم و أوقعت بهم فقتلوا من أرادوا و أخذوا الباقين بمراكبهم و أدخلوهم ميناء صور و المسلمون من البر ينظرون إليهم. و رمى جماعة من المسلمين أنفسهم من الشواني فمنهم من سبح و نجا منهم من غرق. و في سنة أربع و ثمانين فتح صلاح الدين جبلة و اللاذقية و صهيون و شغر بكاس و دربساك و بغراس و الكرك و صفد. و هادن صلاح الدين البرنس بيموند صاحب إنطاكية و طرابلس ثمانية أشهر.
الكتاب : تاريخ مختصر الدول
المؤلف : ابن العبري
مصدر الكتاب : الوراق
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]
بحث في الصفحة الحالية
و في سنة سبع و ثمانين وصلت إمداد الفرنج في البحر إلى الفرنج النازلين على عكة يحاصرونها. و كان أول من وصل منهم فيليب ملك افرنسيس و هو من أشرف ملوكهم نسبا و إن كان ملكه ليس بالكثير فقويت به نفوسهم أي الذين كانوا على عكة و لجوا في قتال المسلمين الذين فيها. و كان صلاح الدين على شفرعم فكان يركب كل يوم و يقصد الفرنج ليشغلهم بالقتال على مزاحفة البلد و كان فيه الأمير سيف الدين الهكاري المعروف بالمشطوب فلما رأى أن صلاح الدين لا يقدر لهم على نفع و لا يدفع عنهم ضرا خرج إلى الفرنج و قرر معهم تسليم البلد و خرج من فيه بأموالهم و بذل لهم عن ذلك مائتي ألف دينار و خمسمائة أسير من المعروفين و إعادة صليب الصلبوت و أربعة عشر ألف دينار للمركيس صاحب صور فأجابوه إلى ذلك و أن تكون مدة تحصيل المال و الأسراء إلى شهرين. فلما حلفوا له سلم البلد إليهم فدخله الفرنج سلما و احتاطوا على من فيه من المسلمين و على أموالهم و حبسوهم إلى حين ما يصل إليهم ما بذل لهم و راسلوا صلاح الدين في إرسال المال و الأسرى و الصليب حتى يطلقوا من عندهم. فشرعوا في جمع المال و كان هو لا مال له إنما يخرج ما يصل إليه من دخل البلاد أولا بأول فلما اجتمع عنده من المال مائة ألف دينار أشار الأمراء بأن لا يرسل شيئا حتى يعاود يستحلفهم على الإطلاق من أصحابه. فقال ملوك الفرنج: نحن لا نحلف إنما ترسل إلينا المائة الألف دينارا التي حصلت و الأسارى و الصليب و نحن نطلق من نريد و نترك من نريد حتى يجيء باقي المال فنطلق الباقين منهم. فلم يجبهم السلطان إلى ذلك. فلما كان يوم الثلاثاء السابع و العشرون من رجب ركب الفرنج و خرجوا ظاهر البلد بالفارس و الراجل و ركب المسلمون إليهم و حملوا عليهم فانكشفوا عن موقفهم و إذا أكثر من كان عندهم من المسلمين قتلى قد وضعوا فيهم السيف و قتلوهم و استبقوا الأمراء و من كان له مال و قتلوا من سواهم من سوادهم و أصحابهم و من لا مالله. فلما رأى صلاح الدين ذلك رحل إلى ناحية عسقلان و أخربها. و في سنة ثمان و ثمانين رحل الفرنج نحو عسقلان و شرعوا في عمارتها. و فيها عقدت الهدنة بين صلاح الدين و الانكتار ملك الفرنج لمدة ثلاث سنين و ثمانية أشهر أولها يوم أول أيلول.
و فيها منتصف شعبان توفي السلطان قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان ابن سليمان بن قتلميش بن سلجوق بمدينة قونية وكان ذا سياسة حسنة و هيبة عظيمة و عدل وافر و غزوات كثيرة إلى بلاد الروم. فلما كبرفرق بلاده على أولاده فاستضعفوه و لم يلتفتوا إليه و حجر عليه و لده قطب الدين. ثم أخذه و سار به إلى قيسارية ليأخذها من أخيه فحصرها مدة فهرب منه والده و دخل إلى قيسارية. و لم يزل قلج أرسلان يتحول من ولد إلى ولد و كل منهم يتبرم به حتى مضى إلى ولده غياث الدين كيخسرو فسار معه لإي عساكره إلى قونية فملكها و بها توفي قلج أرسلان و يقي ولده غياث الدين في قونية مالكا لها حتى أخذها منه أخوه ركن الدين.
(1/135)
و في سنة تسع و ثمانين و خمسمائة توفي صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذيبدمشق و عمره سبع و خمسون سنة و كان حليما كريما حسن الأخلاق متواضعا صبورا على ما يكره كثير التغافل عن ذنوب أصحابه. و حكي أنه كان يوما جالسا و عنده جماعة فرمى بعض المماليك بعضا بسرموزة فأخطأته و وصلت إلى صلاح الدين فوقعت بالقرب منه. فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه هناك ليتغافل عنها. و طلب مرة الماء فلم يحضر فعاود الطلب في مجلس واحد خمس مرات فلم يحضر فقال: يا أصحابنا و الله قد قتلني العطش. و أما كرمه فإنه كان كثير البذل لا يقف في شيء يخرجه. ويكفي دليلا على كرمه أنه لما مات لم يخلف في خزانته غير دينار واحد صوري و أربعين درهما ناصرية. و لما توفي صلاح الدين ملك بعده ولده الأكبر الأفضل نور الدين دمشق و الساحل و البيت المقدس و بعلبك و صرخد و بصرى و بانياس و هونين و تبنين إلى الداروم. و كان ولده الملك العزيز عثمان بمصر فاستولى عليها. و كان ولده الملك الظاهر غازي بحلب فملكها و أعمالها مثل حارم و تل باشر و اعزاز و دربساك و منبج. و كان بحماة محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب فأطاع الملك الظاهر. و كان بحمص شيركوه ابن محمد بن شيركوه فأطاع الملك الأفضل. و كان الملك العادل أخو صلاح الدين بالكرك فسار إلى دمشق. فجهز الأفضل معه عسكرا و سار إلى بلاد الجزرية و هي له ليمنعها من عز الدين صاحب الموصل. و فيها أول جمادى الأولى قتل سيف الدين بكتمر صاحب خلاط و كان بين قتله و موت صلاح الدين شهران. فإنه أسرف في إظهار الشماتة بموت صلاح الدين و فرح كثيرا فلم يمهله الله تعالى. و ملك بعده ظهير الدين هزار ديناري خلاط و هو أيضا من مماليك شاه أرمن. و فيها سلخ شعبان توفي اتابك عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي بن اقسنقر صاحب الموصل بالموصل و ملك بعده ابنه نور الدين أرسلان شاه. و كان عز الدين خيرا محسنا حليما قليل المعاقبة حييا كثير الحياء لم يكلم جليسا له إلا و هو مطرق و ما قال في شيء سئله حبا و كرم طبع.
و في سنة إحدى و تسعين و خمسمائة كتبالفنش ملك الفرنج و مقر ملكه طليطلة إلى يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن كتابا يقول فيه: إنك أمير المسلمين و لا يخفى عليك ما هم عليه رؤساء الأندلس من التخاذل و إهمال الرعية و اشتمالهم على الراحات و أنا أسومهم الخسف و أخلي الديار و أسبي الذراري و أمثل بالكهول و أقتل الشبان و لا عذر لك في التخلف عن نصرتهم و أنت تعتقد أن الله فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم. و الآن نخفف عنكم فنحن نقاتل عددا منكم بواحد منا. ثم بلغني عنك أنك أخذت في الاحتفال و تمطل نفسك عاما بعد عام تقدم رجلا و تؤخر أخرى و لا أدري الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما أنزل عليك. و أنا أقول ما فيه المصلحة أن تتوجه بجملة من عندك في الشواني و المراكب و أجوز إليك بجملتي و أبارزك في أعز الأماكن عندك فإن كانت لك فغنيمة عظيمة جاءت إليك و هدية مثلت بين يديك و إن كانت لي كانت يدي العليا عليك و استحققت ملك الملتين و التقدم على الفئتين. فلما قرأ يعقوب كتابه جمع العساكر و عبر المجاز إلى الأندلس و اقتتلوا قتالا شديدا فكانت الدائرة أولا على المسلمين ثم عادت على الفرنج فانهزموا أقبح هزيمة و غنم المسلمون منهم شيئا عظيما. فلا يفخرن ثروان بثروته و لا جبار بجبروته و من يفتخر فبالله تعالى فليفتخر كما جاء في الكتاب الإلهي. ثم إن الفنش عاد إلى بلاده و ركب بغلا و أقسم أنه لا يركب فرسا حتى تنصره ملوك فرنجة فجمعوا الجموع العظيمة و جرت لهم مع المسلمين وقائع كثرة إلى أن ملكوا الآن أكثر مدن الأندلس.
و في سنة اثنتين و تسعين سار الملك العزيز من مصر إلى دمشق و حصرها و أرسل إلى أخيه أن يفارق القلعة و يسلم البلد على قاعدة أن تعطى قلعة صرخد له و يسلم جميع أعمال دمشق. فخرج و تسلم العزيز القلعة و دخلها و اقام بها أياما ثم سلمها إلى عمه الملك العادل و عاد إلى مصر فسار الأفضل إلى صرخد. و في سنة ثلاث و تسعين ملك العادل يافا من الفرنج و ملك الفرنج بيروت من المسلمين.
(1/136)
و في سنة أربع و تسعين توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن اقسنقر صاحب سنجار و نصيبين و الخابور و الرقة و ملك بعده ابنه قطب الدين محمد و ملك نور الدين مدينة نصيبين. و فيها قصد خوارزمشاه بخارا و كان قد ملكها الخطا فنازلها و حصرها و امتنع أهلها منه و قاتلوه مع الخطا لما رأوا من حسن سيرتهم معهم حتى أنهم أخذوا كلبا أعور و ألبسوه قباء و قلنسوة و قالوا: هذا خوارزمشاه. لأنه كان أعور. و طافوا به على السور م ألقوه في منجنيق إلى العسكر و قالوا: هذا سلطانكم. فلم يزل هذا دأبهم حتى ملك خوارزمشاه البلد بعد أيام يسيرة عنوة و عفا عن أهله و أحسن إليهم.
و فيها حصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب قلعة ماردين في شهر رمضان و كان صاحبها حسام الدين يولق أرسلان صبيا فسلم بعض أهلها الربض بمخامرة فنهب الهسكر أهلها نهبا قبيحا فلما تسلم العادل الربض تمكن من حصر القلعة و قطع الميرة عنها و بقي عليها إلى أن رحل عنها سنة خمس و تسعين. و في سنة خمس و تسعين في العشرين من المحرم توفي الملك العزيز صاحب مصر و أرسل الأمراء من مصر إلى الأفضل أخيه يدعونه إليهم ليملكوه لأنه كان محبوبا إلى الناس يريدونه فدخل إلى مصر و ملكها. و في سنة ست و تسعين سار العادل فنزل على القاهرة و حصرها فأرسل الأفضل إليه في الصلح فتقرر أن يسلم الديار المصرية إلى ابن عمه و يأخذ العوض عنها ميافارقين و حاني و جبل جور و تحالفوا على ذلك. و خرج الأفضل من مصر و سار إلى صرخد و أرسل من يتسلم ميافارقين و حاني و جبل جور فامتنع نجم الدين أيوب بن الملك العادل من تسليم ميافارقين و سلم ما عداها. فترددت الرسل في ذلك و العادل يزعم أن ابنه عصاه. فأمسك الأفضل عن المراسلة في ذلك لعلمه أن هذا فعله بأمر العادل. و فيها في شهر رمضان توفي خوارزمشاه تكش بن أرسلان و ولي ملك خوارزم بعده ابنه قطب الدين محمد و لقب علاء الدين لقب أبيه. و في سنة سبع و تسعين في شهر رمضان ملك ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان مدينة ملطية و كانت لأخيه معز الدين قيصر شاه فسار إليه و حصره أياما و ملكها و سار منها إلى ارزن الروم و كانت لولد الملك محمد بن صلتق و هم بيت قديم قد ملكوا ارزن الروم. فلما قاربها ركن الدين خرج صاحبها إليه ثقة به ليقرر معه الصلح على قاعدة يؤثرها ركن الدين فقبض عليه و اعتقله عنده و أخذ البلد و هذا كان آخر أهل بيته الذين ملكوا. و فيها حصر الملك الظاهر و أخوه الملك الأفضل ابنا صلاح الدين مدينة دمشق و هي لعمهم الملك العدل و عادوا إلى تجديد الصلح على أن يكون للظاهر منبج و أفامية و كفر طاب و المعرة و يكون للأفضل سميساط و قلعة نجم وسروج و رأس عين و جملين. و سار الظاهر إلى حلب و الأفضل إلى سميساط و وصل العادل إلى دمشق. و في سنة تسع و تسعين و خمسمائة في المحرم سير الملك العادل عسكراص مع ولده الملك الأشرف موسى إللا ماردين فحصروها و شحنوا على أعمالها و أقام الأشرف و لم يحصل له غرض. فدخل الملك الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب في الصلح بينهم و أرسل إلى عمه العادل في ذلك فأجاب إليه على قاعدة أن يحمل له صاحب ماردين مائة و خمسين ألف دينار فجاء صرف الدينار أحد عشر قيراطا من أميري و يضرب اسمه على السكة و يكون عسكره في خدمته أي وقت طلبه.
(1/137)
و فيها و هي سنة ألف و خمسمائة و أربع عشرة للإسكندر كان ابتداء دولة المغول و ذلك إن في هذا الزمان كان المستولي على قبائل الترك المشارقة أونك خان و هو المسمى ملك يوحنا من القبيلة التي يقال لها كريت و هي طائفة تدين بدين النصرانية و كان رجل مؤيد من غير هذه القبيلة يقال له تموجين ملازما لخدمة أونك خان من سن الطفولية إلى أن بلغ حد الرجولية و كان ذا بأس في قهر الأعداء فحسده الأقران و سعوا به إلى أونك خان و ما زالوا يغتابونه حتى اتهمه بتغير النية و هم باعتقاله و القبض عليه. فانضم إليه غلامان من خدم أونك خان فألماه القضية و عينا له الليلة التي فيها يريد أونك كبسه و في الحال أمر تموجين أهله بإخلاء البيوت عن الرجال و تركها على حالها منصوبةو كمن هو مع الرجال بالقرب من البيوت. و في وقت السحر لما هجم أونك و أصحابه على بيت تموجين لقيها خالية من الرجال و كر عليه تموجين و أصحابه من الكمين و أوقعوا بهم و ناوشوهم القتال و أثخنوا فيهم و هزموهم و حاربوهم مرتين حتى قتلوه و أبطاله و سبوا ذراريه. و في أثناء هذا الأمر ظهر بين المغول أمير معتبر كان يسيح في الصحارى و الجبال في وسط الشتاء عريانا حافيا و يغيب أياما ثم يأتي و يقول: كلمني الله و قال لي أن الأرض بأسرها قد أعطيتها لتموجين و ولده و سميته جنكزخان فسماه جنكزخان تبت تنكري و كان يرجع إلى قوله و لا يعدل عن رأيه. و لما علا شأن جنكزخان أرسل الرسل إلى جميع شعوب الترك فمن أطاعه و تبعه سعد و من خالفه خذل و أنعم على ذينك الغلامين و ذريتهم بأن جعلهم ترخانية و الترخان هو الحر الذي لا يكلف بشيء من الحقوق السلطانية و يكون ما يغنم من الغزوات له مطلقا لا يأخذ منه نصيب للملك و زاد لهؤلاء أن يدخلوا على الملوك بغير إذن و لا يعاقبوا على ذنب إلى تسعة ذنوب و كان لجنكز خان من الأولاد الذكور و الإناث جماعة و كانت الخاتون الكبيرة زوجته تسمى أويسونجين بيكي. و في رسم المغول اعتبار أبناء الأب الواحد بالشرف إنما يكون بالنسبة إلى الأمهات. و كان لهذه خاتون أربعة بنين ولاهم جنكزخان الأمور العظان في مملكته. الأول توشي ولي أمرالصيد و الطرد و هو أحب الأمور إليهم. و الثاني جغاتاي و لي أمر الحكومات و السياسة أي الناموس و القضاء. و الثالث أوكتاي و لي تدبير الممالك لغزارة عقله و إصابة رأيه. و الرابع تولي و لي أمر الجيوش و تجهيز الجنود و النظر في مصالح العساكر. و كان لجنكزخان أخ يقال له أوتكين فعين له و لكل واحد من الأولاد بلادا يقيمون بها. أما أوتكين فأقام بحدود الخطا. و توشي أقام بحدود قباليغ و خوارزم لإلى أقصى سقسين و بلغار. و جغاتاي بحدود بلاد الإيغور بالقرب من المايغ إلى سمر قند و بخارا. و أقام أوكتاي و هو ولي العهد بحدود إيميل و قوتاق و جوره تولي أيضا في تلك النواحي و هي وسط مملكتهم كالمركز بالنسبة إلى الدائرة.
و في سنة ستمائة ملك الفرنج مدينة القسطنطينية من الروم. أقام الفرنج بظاهرها محاصرين للروم من شعبان إلى جمادى الأولى و كان بالمدينة كثير من الفرنج مقيمين نحو ثلاثين ألفا و لعظم البلد لا يظهر أمرهم فتواضعوا هم و الفرنج الذين بظاهر البلد و وثبوا فيه و ألقوا النار فاحترق نحو ربع البلد. فاشتغل الروم بذلك ففتح الفرنج الأبواب و دخلوها و وضعوا السيف ثلاثة أيام و قتلوا حتى الأساقفة و الرهبان و القسيسين الذين خرجوا إليهم من كنيسة إييا سوفيا العظمى و بأيديهم الأناجيل و الصلبان يتوسلون بها ليبقوا عليهم. فلم يلتفتوا إليهم و قتلوهم أجمعين و نهبوا الكنيسة. و كان الفرنج ثلاثة ملوك ذوقيس البنادقة و في مراكبه ركبوا إلى القسطنطينية و هو شيخ أعمى إذا ركب يقاد فرسه. و الثاني المركيس مقدم الافرنسيس. و الثالث كندافلند و هو أكثرهم عددا. فلما استولوا اقترعوا على الملك فخرجت القرعة على كندافلند فملكوه عليها و تكون لذوقس البنادقة الجزائر مثل اقريطش و رودس و غيرهما و يكون لمركيس البلاد التي هي شرقي الخليج مثل نيقية و لاذيق و فيلادلف و لم تدم له فإنها تغلب عليها بطريق من بطارقة الروم اسمه لشكري.
(1/138)
و فيها في ذي القعدة توفي السلطان ركن الدين صاحب الروم و ملك ابنه قلج أرسلان و كان صغيرا. و كان غياث الدين كيخسرو أخو ركن الدين يومئذ بقلعة من قلاع القسطنطينية و لما سمع بموت أخيه سار إلى قونية و قبض على الصبي و ملكها و جمع الله له البلاد جميعها و عظم شأنه و قوي أمره و كان ذلك في رجب سنة إحدى و ستمائة. و فيها أغارت الكرج على أذربيجان و أكثروا النهب و السبي ثم اغاروا على خلاط وارجيش فأوغلوا في البلاد حتى بلغوا ملازكرد و لم يخرج إليهم من المسلمين أحد يمنعهم فجاسوا خلال البلاد ينهبون و يأسرون. و في سنة ثلاث و ستمائة قبض عسكر خلاط على صاحبها محمد بن بكتمر و ملكها بلبان مملوك شاه أرمن بن سكمان. و في سنة أربع و ستمائة ملك الملك الأوحد نجم الدين أيوب بن الملك العادل مدينة خلاط. و لما سار عنها إلى ملاذكرد ليقرر قواعدها و ثب أهلها على من بها من العسكر فأخرجوه من عندهم و عصوا و نادوابشعار شاه أرمن و إن كان ميتا يعنون بذلك رد الملك إلى أصحابه و مماليكه. فعاد إليهم الأوحد و قتل بها خلقا كثيرا من أعيان أهلها فذل أهل خلاط و تفرقت كلمة الفتيان و كان الحكم إليهم و كفي الناس شرهم فإنهم كانوا يقيمون ملكا و يقتلون آخر و السلطنة عندهم لا حكم لها و إنما الحكم لهم و إليهم. و في سنة ست و ستمائة ملك الملك العادل أبو بكر بن أيوببلد الخابور و مدينة نصيبين و حصر سنجار ثم عاد عنها.
و فيها استولى جنكزخان على بلاد قراخطا و كان أمير بلاد الايغور و هم طائفة كثيرة من الترك في طاعة ملك الخطا فلما صار الصيت لجنكزخان و شاع ذكره في البلاد أرسل إليه أمير الايغور و هو الذي يسمونه ايدي قوب أي صاحب الدولة يطلب الأمانلنفسه و رعيته و الدخول في زمرته. فأكرم جنكزخان رسله و تقدم بوصوله إليه. فبادر ايدي قوب إلى الحضور في خدمته من غير توقف. فأقبل عليه جنكزخان و أحسن قبوله و أعاده إلى بلاده مكرما.
و في سنة سبع و ستمائة أواخر رجب توفي نور الدين أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود بن زنكي بن اقسنقر صاحب الموصل و كانت مدة ملكه ثماني عشرة سنة و كان شهما شجاعا ذا سياسة للرعايا شديدا على أصحابه أعاد ناموس البيت الأتابكي و جاهه و حرمته بعد أن كانت قد ذهبت. و لما حضره الموت رتب في الملك ولده الملك القاهر عز الدين مسعود و أمر أن يتولى تدبير مملكته و يقوم بحفظها و ينظر في مصالحها مملوكه بدر الدين لؤلؤ لما رأى من عقله و سداد رأيه و حسن سياسته و كمال السيادة فيه. و أعطى ولده الأصغر عماد الدين زنكي قلعة العقر الحميدية و قلعة شوش و سيره إلى العقر.
مواضيع مماثلة
» * تاريخ مختصر الدول - من آدم ابو البشر - الى موسى ع
» * تاريخ مختصر الدول : من ابن كنزي - الى المأمون
» * تاريخ مختصر الدول : من قسطنطينوس - الى الفراعنة
» * تاريخ مختصر الدول : من المطيع لله - الى ابو جعفر بن كاكويه
» * تاريخ مختصر الدول : من منشا بن حزقيا الى بطليموس
» * تاريخ مختصر الدول : من ابن كنزي - الى المأمون
» * تاريخ مختصر الدول : من قسطنطينوس - الى الفراعنة
» * تاريخ مختصر الدول : من المطيع لله - الى ابو جعفر بن كاكويه
» * تاريخ مختصر الدول : من منشا بن حزقيا الى بطليموس
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى