* النفس و الحس و المحسوس - آداب المتعلم والمعلم - تعليم الولدان
صفحة 1 من اصل 1
* النفس و الحس و المحسوس - آداب المتعلم والمعلم - تعليم الولدان
النفس و الحس و المحسوس
طبائع الحيوان و الثامن يشتمل على معرفة النفس و قواها المدركة و المتحركة و يشتمل عليه كتابا النفس و الحس و المحسوس و أماالأقسام الفرعية من الحكمة الطبيعيةفمنها الطب و يبحث فيه عن أحوال البدنالإنساني و أركانه و أمزجته و كيفياته وكيانه من حيث استعداده للصحة و المرض وأسبابها و علاماتها و منها أحكام النجوم والغرض فيه الاستدلال من أوضاع الكواكب وأشكالها و وقوعها في درج البروج على أحوالهذا العالم و هو تخميني و منها علم الفراسةو فيه الاستدلال من الخلق على الخلق و منهاعلم التعبير و منها علم الطلسمات و الغرضفيه تمريج القوى السماوية بقوى بعضالأرضيات لحصول أمر غريب في هذا العلم ومنها علم النيرنجات و الغرض فيه تمزيجالقوى التي في الأجسام الأرضية لصدور فعلغريب و منها علم الكيميا و هو معرفة أنيسلب من بعض المعدنيات خواصها و إفادتهاخواص غيرها ليتوصل بها إلى اتخاذ جوهرثمين كالذهب و الفضة من هذه الأجساد (قولهو كذلك الخلقيات) أي و كذلك العلوم السياسةو الخلقية في أن موضوعها ليس الموجود بماهو موجود بل شيء آخر تحته و أن موضوعهايثبت في علم هو فوقها (قوله و أما العلمالرياضي فقد كان موضوعه إما مقدارا مجرداإلى آخره) قد علمت أن أصول العلم الرياضيأربعة و انقسامه إلى الأربعة باعتبارانقسام موضوعه إليها و الشيخ أشار إليهاجميعا فقوله إما مقدارا مجردا في الذهنإشارة إلى موضوع الهندسة و قوله إمامقدارا مأخوذا في الذهن مع المادة إشارةإلى موضوع الهيئة و قوله إما عددا مجردا عنالمادة إشارة إلى موضوع الحساب و إما عددافي المادة إشارة إلى موضوع الموسيقى (قولهو لم يكن أيضا ذلك البحث متجها إلى آخره) قدعلمت أن البحث عن وجود الشيء و حقيقته ومقوم حقيقته من وظائف العلم الإلهي فالبحثعن كون الشيء مقدارا متصلا و كون الخمسةأو الستة عددا أو كما و من كون هذه الأشياءجواهر أو أعراضا كل ذلك لا يقع إلا فيالعلم الأعلى و إنما يقع البحث في العلمالأوسط عن الأحوال العارضة لهذه الأموربعد وضع وجودها و تمام حقيقتها (قوله والعلوم التي تحت الرياضيات) الأقسامالفرعية للعلوم الرياضية كثيرة فمن فروعالحساب علم الجمع و التفريق و علم الجبر والمقابلة و من فروع الهندسة علم المساحة وعلم الحيل المحركة و علم جر الأثقال و علمالأوزان و الموازين و علم الناظر والمرايا و علم نقل المياه و من فروع الهيئةعلم التقاويم و من فروع الموسيقى اتخاذالآلات العجيبة لحصول النغمات المبهجةللنفس المهيجة لقواها و دواعيهاكالأرغنون و ما يشبهه (قوله ثم البحث عنالجوهر بما هو موجود إلى آخره) لما بين أنموضوعات سائر العلوم و مقوماتها الذاتيةلا يبحث عن وجودها و وجود ذاتياتها في تلكالعلوم فإيراد أن يبين أن تلك الأمور لا بدأن يبحث عن وجودها في علم آخر لتبين أنموضوعه ما ذا و أنه الموجود بما هو موجودفهو موضوع الفلسفة الأولى و لا يبعد أنيكون هذا شروع في منهج آخر في تحقيق موضوعالفلسفة الأولى و إثبات إنيتها فيما بينالعلوم و المنهج الذي سبق بيانه كان من جهةإثبات موضوعات سائر العلوم الحكمية و هيالطبيعيات و الخلقيات و الرياضيات والمنطقيات و أن موضوعاتها جميعا إنما يثبتفي علم آخر هو فوقها و هذا المنهج من جهة أنهاهنا أمورا لا بد من إثبات وجودها ومهيتها و لا يقع بيان وجودها و مهياتها إلافي علم هو غير تلك العلوم الجزئية و هو علمالأبدان يكون موضوعه أعم الأشياء و ما ذلكإلا العلم الإلهي الذي موضوعه الموجودالمطلق بما هو موجود مطلق (قوله أو هي فيمادة غير مادة الأجسام) اعلم أن الصورةبمعنى الذي هو أمر بالفعل يصلح أن يعقل هيقسمان قسم يفتقر في قوام وجوده الخارجيإلى مادة جسمانية و قسم لا يفتقر إلى مادةجسمانية و هذا القسم أيضا قسمان قسم يفتقرفي قوام وجوده الفعلي العقلي إلى مادةعقلية كالعلوم التصورية و التصديقيةللإنسان فإنها صور ذاتية على ذات النفس والنفس موضوعها و هي مادة غير جسمانية و قسملا يفتقر أصلا إلى مادة لا عقلية و لاغيرها كذوات العقول المفارقة على الإطلاقو هي الصورة المحضة المطلقة (قوله و ليسيجوز أن يكون من جملة العلم بالمحسوساتإلى آخره) أي ليس يجوز أن يكون البحث عن هذهالأمور المذكورة من الجهة المذكورة داخلافي العلوم الطبيعية الباحثة عن المحسوساتالتي لا يمكن تجردها عن المادة المحسوسةلا خارجا و لا ذهنا و لا داخلا في العلومالباحثة عن المحسوسات المفتقرة إلىالمادة المحسوسة إلا بحسب الذهن لأن هذهالأمور مما ليس وجودها مفتقرا إلى المادةالمحسوسة لا خارجا و لا ذهنا كما سنبينهفلا يجوز أن يكون العلم بها من جملة هذينالعلمين أعني الطبيعي و الرياضي و إنما لميذكر الخلقي في نفي كون العلم بها منه لأنذلك الاحتمال بعيد عن العقل و أما المنطقفيجيء ذكره
في آداب المتعلم والمعلم
الإعلام الثامن : في آداب المتعلم والمعلم
آداب المتعلم
أما المتعلم : فآدابه ووظائفه كثيرة ولكن ينظم تفاريقها عشر جمل :
الأولى : تقديم طهارة النفس عن رذائل الخلاق ومذموم الأوصاف : إذ العلم عبادة القلب وصلاح السر وقربة الباطن إلى الله تعالى فلا تصح هذه العبادة إلا بعد طهارة القلب عن خبائت الأخلاق وأنجاس الأوصاف
الثانية : أن يقلل علائقه من الاشتغال بالدنيا ويبعد عن الأهل والوطن : فإن العلائق شاغلة وصارفه وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه
ومهما توزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق ولذلك قيل : العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه إياك بعضه على خطر والفكرة المتوزعة على أمور متفرقة كجدول تفرق ماؤه فنشفت الأرض بعضه واختطف الهواء بعضه فلا يبقى منه ما يجتمع ويبلغ الزرع
الثالثة : أن لا يتكبر على العلم ولا يتأمر على المعلم : بل يلقي إليه زمام أمره بالكلية في كل تفصيل ويذعن لنصيحته إذعان المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق وينبغي أن يتواضع لمعلمه ويطلب الثواب والشرف بخدمته
الرابعة : أن يحترز الخائض في العلم في مبدأ الأمر عن الإصغاء إلى اختلاف الناس : سواء كان ما خاض فيه من علوم الدنيا أو من علوم الآخرة فإن ذلك يدهش عقله ويحير ذهنه ويفتر رأيه ويؤيسه من الإدراك والاطلاع
بل ينبغي أن يتقن أولا الطريقة الحميدة الواحدة المرضية عند أستاذه ثم بعد ذلك يصغي إلى المذاهب والشبه وإن لم يكن أستاذه مستقلا باختيار رأي واحد وإنما عادته نقل المذاهب وما قيل فيها فليحترز منه فإن إضلاله أكثر من إرشاده فلا يصلح الأعمى لقود العميان وإرشادهم ومن هذا حاله بعد في عمى الحيرة وشبه الجهل
الخامسة : أن لا يدع طالب العلم فنا من العلوم المحمودة ولا نوعا من أنواعها : إلا وينظر فيه نظرا يطلع به على مقصده وغايته ثم إن ساعده العمر طلب التبحر فيه وإلا اشتغل بالأهم منه واستوفاه وتطرف من البقية فإن العلوم متعاونة وبعضها مرتبط ببعض
ويستفيد منه في الحال الانفكاك عن عداوة ذلك العلم بسبب . جهله فإن الناس أعداء ما جهلوا
قال تعالى : ( وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم )
فالعلوم على درجاتها إما سالكة بالعبد إلى الله تعالى أو معينة على السلوك نوعا من الإعانة ولها منازل مرتبة في القرب والبعد من المقصود والقوامون بها حفظة كحافظ الرباطات والثغور ولكل واحد رتبة وله بحسب درجته أجر في الآخرة إذا قصد به وجه الله تعالى
السادسة : أن لا يأخذ في فن من فنون العلم دفعة : بل يراعي الترتيب ويبتدئ بالأهم
فإن العمر إذا كان لا يتسع لجميع العلوم غالبا فالحزم أن يأخذ من كل شيء أحسنه ويكتفي منه بشمه ويصرف جمام قوته في الميسور من علمه إلى استكمال العلم الذي هو أشرف العلوم وهو علم الآخرة ولست أعني به الاعتقاد الذي يتلقنه العامي وراثة أو تلقفا ولا طريق تحرير الكلام والمجادلة فيه عن مراوغات الخصوم كما هو غاية المتكلم بل ذلك نوع يقين هو ثمرة نور يقذفه الله تعالى في قلب عبد طهر بالمجاهدة باطنه عن الخبائث حتى ينتهي إلى رتبة إيمان الصديق رضي الله عنه الذي لو وزن بإيمان العالمين لرجح
السابعة : أن لا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله : فإن العلوم مرتبة ترتيبا ضروريا وبعضها طرق إلى بعض والموفق من راعى ذلك الترتيب والتدريج وليكن قصده في كل علم يتحراه الترقي إلى ما هو فوقه
وبنبغي أن يعرف الشيء في نفسه فلا كل علم يستقل بالإحاطة به كل شخص ولذلك قال علي رضي الله عنه : ( ( لا تعرف الحق بالرجال . اعرف الحق تعرف أهله ) )
الثامنة : أن يعرف السبب الذي به يدرك شرف العلوم : وأن ذلك يراد به شيئان :
أحدهما : شرف الثمرة :
والثاني : وثاقة الدليل وقوته
وذلك : كعلم الدين وعلم الطب
التاسعة : أن يكون قصد المتعلم في الحال تخلية باطنه وتحميله بالفضيلة : وفي الحال القرب من الله سبحانه والترقي إلى جوار الملأ العلى من الملائكة والمقربين
ولا يقصد به الرياسة والمال والجاه ومجاراة السفهاء ومباهاة الأقران . وإذا كان هذا مقصده - طلب لا محالة - الأقرب إلى مقصوده وهو علم الآخرة
ومع هذا فلا ينبغي أن ينظر بعين الحقارة إلى سائر العلوم كالنحو واللغة المتعلقين بالكتاب والسنة وغير ذلك
العاشرة : أن يعلم نسبة العلوم إلى المقصد : كما يؤثر القريب الرفيع على البعيد الوضيع والمهم على غيره
ومعنى المهم ما يهمك ولا يهمك إلا شأنك في الدنيا والآخرة وإذا لم يمكنك الجمع بين ملاذ الدنيا ونعيم الآخرة كما نطق به القرآن وشهد له نور البصائر ما يجري مجرى العيان فالأهم ما يبقى أبد الآباد وعند ذلك تصير الدنيا منزلا والبدن مركبا والأعمال سعيا إلى المقصد ولا مقصد إلا لقاء الله تعالى ففيه النعيم كله وإن كان لا يعرف في هذا العالم قدره إلا الأقلون
في وجه الصواب في تعليم العلوم
الإعلام السابع : في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته
أعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا ويلقي عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية وضعيفة وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله . ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته . ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصا ولا مبهما ولا مغلقا إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته
هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه
وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفادته ويحضرون المتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصوابا فيه ويكلفونه وعي ذلك وتحصيله
ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها وقبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا ويكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن
وتكرارها عليه والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل ويحيط بمسائل الفن
وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه وإنما أتى ذلك من سوء التعليم
ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته وعلى نسبة قبوله للتعليم مبتدئا كان أو منتهيا ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره ويحصل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره لأن المتعلم إذا حصل له ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم
وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التحصيل وهجر العلم والتعليم والله يهدي من يشاء
وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها
وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولا وأحكم ارتباطا وأقرب صبغة لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره
وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه والله علمكم ما لم تكونوا تعلمون
ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة على المتعلم عدم جمع العلمين معا فإنه قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معا ويستصعبان ويعود منهما بالخيبة
وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربما كان ذلك أجدر بتحصيله والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب
قف : اعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك فإن تلقيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة
وأقدم لك مقدمة تعينك في فهمها وذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته وهو وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانية على نظام وترتيب وتارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجه إلى المطلوب وقد تصور طرفيه ويروم نفيه أو إثباته
فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحدا وينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعددا ويصير إلى الظفر بمطلوبه
هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشر من بين سائر الحيوانات
ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية تصفه ليعلم سداده من خطئه لأنها وإن كان الصواب لها ذاتيا إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا وترتيبها للنتاج فتعين المنطق للتخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض
فالمنطق إذا أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية ومنطبق على صورة فعلها
ولكونه أمرا صناعيا استغني عنه في الأكثر ولذلك تجد كثيرا من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة المنطق ولا سيما مع صدق النية والتعرض لرحمة الله فإن ذلك أعظم معنى ويسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها فيفضي بالطبع إلى حصول الوسط والعلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه
ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعلم وهي معرفة الألفاظ ودلالاتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب
فلا بد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك
فأولا : دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفها . ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة
ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق
ثم تلك المعاني مجردة في الفكر أشراكا يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله ومواهبه
وليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة ولا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في أشراك الأدلة بشغب الجدال والشبهات وقعد عن تحصيل المطلوب ولم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليل ممن هداه الله
فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشبهات واترك الأمر الصناعي جملة واخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه وسرح نظرك فيه وفرغ ذهنك له للغوص على مرامك منه واضعا لها حيث وضعها أكابر النظار قبلك مستعرضا للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون
فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك وحصل الإلهام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات ذاتيات هذا الفكر وفطره عليه كما قلنا فارجع به إلى قوالب الأدلة وصورها فأفرغه فيها ووفه حقه من القانون الصناعي ثم اكسه صور الألفاظ وأبرزه إلى عالم الخطاب والمشافهة وثيق العرى صحيح البنيان
وأما إن وقفت عند المناقشة والشبهة في الأدلة الصناعية وتمحيص صوابها من خطئها - وهذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة وتتشابه لأجل الوضع والاصطلاح - فلا تتميز جهة الحق منها إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع فيستمر ما حصل من الشك والارتياب وتسدل الحجب عن المطلوب وتقعد بالناظر عن تحصيله وهذا شأن الأكثرين من النظار والمتأخرين سيما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه
ومن حصل له شغف بالقانون المنطقي تعصب له فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة وشكوكها
ولا يكاد يخلص منها والذريعة إلى درك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه إذا جرد عن جميع الأوهام وتعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى
وأما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه لذلك في الأكثر
فاعتبر ذلك واستمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصواب والله الهادي إلى رحمته وما العلم إلا من عند الله تعالى ) )
قف : ( ( اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين :
علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة
وعلوم هي آلية وسيلة لهذه العلوم كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات وكالمنطق للفلسفة وربما كان آلة لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخرين
فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار
فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته وإيضاحا لمعانيها المقصودة
وأما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط ولا يوسع فيها الكلام ولا تفرع المسائل لأن ذلك مخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها
وربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها مع أن شأنها أهم والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة
فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر وشغلا بما لا يعني وهذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق وأصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها وأكثروا من التفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها من المقاصد وربما يقع فيها أنظار لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللغو وهي أيضا مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها
فإذا قطعوا لهذا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقصاد فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستبحروا في شأنها وينبهوا المتعلم على الغرض منها ويقفوا به عنده فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل فليرق له ما شاء من المراق صعبا أو سهلا وكل ميسر لما خلق له )
الشدة على المتعلمين مضرة بهم
الإعلام السادس : في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم
وذلك أن إرهاف الحد في التعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة
ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى لكسل وحمله على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس عاد في أسفل السافلين
وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف
واعتبره في كل من يملك أمره عليه
ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به وتجد ذلك فيهم استقراء وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالحرج ومعناه في الاصطلاح المشهور : التخابث والكيد وسببه ما قلناه
فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدوا عليهم في التأديب
وقد قال محمد بن أبي زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين والمتعلمين : ( ( لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا ) )
ومن كلام عمر رضي الله عنه : ( ( من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله ) ) حرصا على صون النفوس عن مذلة التأديب وعلما بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته
ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين فقال : ( ( يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين
أقرئه القرآن وعرفه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن وبصره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا في أوقاته وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة ) ) والله أعلم
الإعلام السابع : في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته
( أعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا ويلقي عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية وضعيفة وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله . ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته . ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصا ولا مبهما ولا مغلقا إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته
هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه
وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفادته ويحضرون المتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصوابا فيه ويكلفونه وعي ذلك وتحصيله
ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها وقبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا ويكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن
وتكرارها عليه والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل ويحيط بمسائل الفن
وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه وإنما أتى ذلك من سوء التعليم
ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته وعلى نسبة قبوله للتعليم مبتدئا كان أو منتهيا ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره ويحصل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره لأن المتعلم إذا حصل له ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم
وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التحصيل وهجر العلم والتعليم والله يهدي من يشاء
وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها
وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولا وأحكم ارتباطا وأقرب صبغة لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره
وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه والله علمكم ما لم تكونوا تعلمون
ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة على المتعلم عدم جمع العلمين معا فإنه قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معا ويستصعبان ويعود منهما بالخيبة
وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربما كان ذلك أجدر بتحصيله والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب
قف : اعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك فإن تلقيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة
وأقدم لك مقدمة تعينك في فهمها وذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته وهو وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانية على نظام وترتيب وتارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجه إلى المطلوب وقد تصور طرفيه ويروم نفيه أو إثباته
فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحدا وينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعددا ويصير إلى الظفر بمطلوبه
هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشر من بين سائر الحيوانات
ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية تصفه ليعلم سداده من خطئه لأنها وإن كان الصواب لها ذاتيا إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا وترتيبها للنتاج فتعين المنطق للتخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض
فالمنطق إذا أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية ومنطبق على صورة فعلها
ولكونه أمرا صناعيا استغني عنه في الأكثر ولذلك تجد كثيرا من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة المنطق ولا سيما مع صدق النية والتعرض لرحمة الله فإن ذلك أعظم معنى ويسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها فيفضي بالطبع إلى حصول الوسط والعلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه
ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعلم وهي معرفة الألفاظ ودلالاتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب
فلا بد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك
فأولا : دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفها . ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة
ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق
ثم تلك المعاني مجردة في الفكر أشراكا يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله ومواهبه
وليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة ولا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في أشراك الأدلة بشغب الجدال والشبهات وقعد عن تحصيل المطلوب ولم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليل ممن هداه الله
فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشبهات واترك الأمر الصناعي جملة واخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه وسرح نظرك فيه وفرغ ذهنك له للغوص على مرامك منه واضعا لها حيث وضعها أكابر النظار قبلك مستعرضا للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون
فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك وحصل الإلهام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات ذاتيات هذا الفكر وفطره عليه كما قلنا فارجع به إلى قوالب الأدلة وصورها فأفرغه فيها ووفه حقه من القانون الصناعي ثم اكسه صور الألفاظ وأبرزه إلى عالم الخطاب والمشافهة وثيق العرى صحيح البنيان
وأما إن وقفت عند المناقشة والشبهة في الأدلة الصناعية وتمحيص صوابها من خطئها - وهذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة وتتشابه لأجل الوضع والاصطلاح - فلا تتميز جهة الحق منها إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع فيستمر ما حصل من الشك والارتياب وتسدل الحجب عن المطلوب وتقعد بالناظر عن تحصيله وهذا شأن الأكثرين من النظار والمتأخرين سيما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه
ومن حصل له شغف بالقانون المنطقي تعصب له فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة وشكوكها
ولا يكاد يخلص منها والذريعة إلى درك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه إذا جرد عن جميع الأوهام وتعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى
وأما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه لذلك في الأكثر
فاعتبر ذلك واستمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصواب والله الهادي إلى رحمته وما العلم إلا من عند الله تعالى ) )
قف : ( ( اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين :
علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة
وعلوم هي آلية وسيلة لهذه العلوم كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات وكالمنطق للفلسفة وربما كان آلة لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخرين
فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار
فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته وإيضاحا لمعانيها المقصودة
وأما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط ولا يوسع فيها الكلام ولا تفرع المسائل لأن ذلك مخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها
وربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها مع أن شأنها أهم والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة
فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر وشغلا بما لا يعني وهذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق وأصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها وأكثروا من التفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها من المقاصد وربما يقع فيها أنظار لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللغو وهي أيضا مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها
فإذا قطعوا لهذا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقصاد فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستبحروا في شأنها وينبهوا المتعلم على الغرض منها ويقفوا به عنده فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل فليرق له ما شاء من المراق صعبا أو سهلا وكل ميسر لما خلق له )
في تعليم الولدان
الإعلام الخامس : في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه
اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث وصار القرآن أصل التعليم الذي يبتني عليه ما يحصل بعد من الملكات
وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخا وهو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما يبتني عليه
واختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات
فأما أهل المغرب : فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة
وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة . وكذا في الكبير إذا راجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم . وأما أهل الأندلس : فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو وهذا هو الذي يراعونه في التعليم . إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك وأسه ومنبع الدين والعلوم جعلوه أصلا في التعليم فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسل وأخذ هم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب
ولا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما وبرز في الخط والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم ولكنهم ينقطعون عند ذلك فانقطاع سند التعليم في آفاقهم ولا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد المعلم
وأما أهل إفريقية : فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن واستظهار الولدان إياه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه وعنايتهم بالخط تبع لذلك . وبالجملة فطريقتهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس واستقروا بتونس وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك
وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا ولا أدري بم عنايتهم منها والذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشبيبة ولا يخلطون بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان . وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة . ومن أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه ويبتغيه من أهل صنعته
فأما أهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة وذلك أن القرآن لا ينشا عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها وليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام
وربما كان أهل إفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التصرف ومحاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة لما أن أكثر محفوظهم عبارات العلوم النازلة عن البلاغة كما سيأتي في موضعه
وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل ومدارسة العربية من أول العمر حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي وقصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الذي هو أصل العلوم وأساسها فكانوا لذلك أهل حظ وأدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبا
ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب ( رحلته ) إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك وأبدأ وقدم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس : قال لأن الشعر ديوان العرب . ويدعو إلى تقديمه وتعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة
ثم قال : ( ( ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول أمره يقرأ مالا يفهم وينصب في أمر غيره أهم عليه ) )
قال : ( ( ثم ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث وعلومه ) )
ونهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجوده الفهم والنشاط
هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله وهو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال ووجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثارا للتبرك والثواب وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم فيفوته القرآن فإنه ما دام في الحجر منقاد للحكم فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساحل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر وربقه الحكم تحصيل القرآن لئلا يذهب خلوا منه
ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى مما أخذ به أهل المغرب والمشرق ولكن الله تعالى يحكم ما يشار لا معقب لحكمه ) ) . وهو أحكم الحاكمين
طبائع الحيوان و الثامن يشتمل على معرفة النفس و قواها المدركة و المتحركة و يشتمل عليه كتابا النفس و الحس و المحسوس و أماالأقسام الفرعية من الحكمة الطبيعيةفمنها الطب و يبحث فيه عن أحوال البدنالإنساني و أركانه و أمزجته و كيفياته وكيانه من حيث استعداده للصحة و المرض وأسبابها و علاماتها و منها أحكام النجوم والغرض فيه الاستدلال من أوضاع الكواكب وأشكالها و وقوعها في درج البروج على أحوالهذا العالم و هو تخميني و منها علم الفراسةو فيه الاستدلال من الخلق على الخلق و منهاعلم التعبير و منها علم الطلسمات و الغرضفيه تمريج القوى السماوية بقوى بعضالأرضيات لحصول أمر غريب في هذا العلم ومنها علم النيرنجات و الغرض فيه تمزيجالقوى التي في الأجسام الأرضية لصدور فعلغريب و منها علم الكيميا و هو معرفة أنيسلب من بعض المعدنيات خواصها و إفادتهاخواص غيرها ليتوصل بها إلى اتخاذ جوهرثمين كالذهب و الفضة من هذه الأجساد (قولهو كذلك الخلقيات) أي و كذلك العلوم السياسةو الخلقية في أن موضوعها ليس الموجود بماهو موجود بل شيء آخر تحته و أن موضوعهايثبت في علم هو فوقها (قوله و أما العلمالرياضي فقد كان موضوعه إما مقدارا مجرداإلى آخره) قد علمت أن أصول العلم الرياضيأربعة و انقسامه إلى الأربعة باعتبارانقسام موضوعه إليها و الشيخ أشار إليهاجميعا فقوله إما مقدارا مجردا في الذهنإشارة إلى موضوع الهندسة و قوله إمامقدارا مأخوذا في الذهن مع المادة إشارةإلى موضوع الهيئة و قوله إما عددا مجردا عنالمادة إشارة إلى موضوع الحساب و إما عددافي المادة إشارة إلى موضوع الموسيقى (قولهو لم يكن أيضا ذلك البحث متجها إلى آخره) قدعلمت أن البحث عن وجود الشيء و حقيقته ومقوم حقيقته من وظائف العلم الإلهي فالبحثعن كون الشيء مقدارا متصلا و كون الخمسةأو الستة عددا أو كما و من كون هذه الأشياءجواهر أو أعراضا كل ذلك لا يقع إلا فيالعلم الأعلى و إنما يقع البحث في العلمالأوسط عن الأحوال العارضة لهذه الأموربعد وضع وجودها و تمام حقيقتها (قوله والعلوم التي تحت الرياضيات) الأقسامالفرعية للعلوم الرياضية كثيرة فمن فروعالحساب علم الجمع و التفريق و علم الجبر والمقابلة و من فروع الهندسة علم المساحة وعلم الحيل المحركة و علم جر الأثقال و علمالأوزان و الموازين و علم الناظر والمرايا و علم نقل المياه و من فروع الهيئةعلم التقاويم و من فروع الموسيقى اتخاذالآلات العجيبة لحصول النغمات المبهجةللنفس المهيجة لقواها و دواعيهاكالأرغنون و ما يشبهه (قوله ثم البحث عنالجوهر بما هو موجود إلى آخره) لما بين أنموضوعات سائر العلوم و مقوماتها الذاتيةلا يبحث عن وجودها و وجود ذاتياتها في تلكالعلوم فإيراد أن يبين أن تلك الأمور لا بدأن يبحث عن وجودها في علم آخر لتبين أنموضوعه ما ذا و أنه الموجود بما هو موجودفهو موضوع الفلسفة الأولى و لا يبعد أنيكون هذا شروع في منهج آخر في تحقيق موضوعالفلسفة الأولى و إثبات إنيتها فيما بينالعلوم و المنهج الذي سبق بيانه كان من جهةإثبات موضوعات سائر العلوم الحكمية و هيالطبيعيات و الخلقيات و الرياضيات والمنطقيات و أن موضوعاتها جميعا إنما يثبتفي علم آخر هو فوقها و هذا المنهج من جهة أنهاهنا أمورا لا بد من إثبات وجودها ومهيتها و لا يقع بيان وجودها و مهياتها إلافي علم هو غير تلك العلوم الجزئية و هو علمالأبدان يكون موضوعه أعم الأشياء و ما ذلكإلا العلم الإلهي الذي موضوعه الموجودالمطلق بما هو موجود مطلق (قوله أو هي فيمادة غير مادة الأجسام) اعلم أن الصورةبمعنى الذي هو أمر بالفعل يصلح أن يعقل هيقسمان قسم يفتقر في قوام وجوده الخارجيإلى مادة جسمانية و قسم لا يفتقر إلى مادةجسمانية و هذا القسم أيضا قسمان قسم يفتقرفي قوام وجوده الفعلي العقلي إلى مادةعقلية كالعلوم التصورية و التصديقيةللإنسان فإنها صور ذاتية على ذات النفس والنفس موضوعها و هي مادة غير جسمانية و قسملا يفتقر أصلا إلى مادة لا عقلية و لاغيرها كذوات العقول المفارقة على الإطلاقو هي الصورة المحضة المطلقة (قوله و ليسيجوز أن يكون من جملة العلم بالمحسوساتإلى آخره) أي ليس يجوز أن يكون البحث عن هذهالأمور المذكورة من الجهة المذكورة داخلافي العلوم الطبيعية الباحثة عن المحسوساتالتي لا يمكن تجردها عن المادة المحسوسةلا خارجا و لا ذهنا و لا داخلا في العلومالباحثة عن المحسوسات المفتقرة إلىالمادة المحسوسة إلا بحسب الذهن لأن هذهالأمور مما ليس وجودها مفتقرا إلى المادةالمحسوسة لا خارجا و لا ذهنا كما سنبينهفلا يجوز أن يكون العلم بها من جملة هذينالعلمين أعني الطبيعي و الرياضي و إنما لميذكر الخلقي في نفي كون العلم بها منه لأنذلك الاحتمال بعيد عن العقل و أما المنطقفيجيء ذكره
في آداب المتعلم والمعلم
الإعلام الثامن : في آداب المتعلم والمعلم
آداب المتعلم
أما المتعلم : فآدابه ووظائفه كثيرة ولكن ينظم تفاريقها عشر جمل :
الأولى : تقديم طهارة النفس عن رذائل الخلاق ومذموم الأوصاف : إذ العلم عبادة القلب وصلاح السر وقربة الباطن إلى الله تعالى فلا تصح هذه العبادة إلا بعد طهارة القلب عن خبائت الأخلاق وأنجاس الأوصاف
الثانية : أن يقلل علائقه من الاشتغال بالدنيا ويبعد عن الأهل والوطن : فإن العلائق شاغلة وصارفه وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه
ومهما توزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق ولذلك قيل : العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه إياك بعضه على خطر والفكرة المتوزعة على أمور متفرقة كجدول تفرق ماؤه فنشفت الأرض بعضه واختطف الهواء بعضه فلا يبقى منه ما يجتمع ويبلغ الزرع
الثالثة : أن لا يتكبر على العلم ولا يتأمر على المعلم : بل يلقي إليه زمام أمره بالكلية في كل تفصيل ويذعن لنصيحته إذعان المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق وينبغي أن يتواضع لمعلمه ويطلب الثواب والشرف بخدمته
الرابعة : أن يحترز الخائض في العلم في مبدأ الأمر عن الإصغاء إلى اختلاف الناس : سواء كان ما خاض فيه من علوم الدنيا أو من علوم الآخرة فإن ذلك يدهش عقله ويحير ذهنه ويفتر رأيه ويؤيسه من الإدراك والاطلاع
بل ينبغي أن يتقن أولا الطريقة الحميدة الواحدة المرضية عند أستاذه ثم بعد ذلك يصغي إلى المذاهب والشبه وإن لم يكن أستاذه مستقلا باختيار رأي واحد وإنما عادته نقل المذاهب وما قيل فيها فليحترز منه فإن إضلاله أكثر من إرشاده فلا يصلح الأعمى لقود العميان وإرشادهم ومن هذا حاله بعد في عمى الحيرة وشبه الجهل
الخامسة : أن لا يدع طالب العلم فنا من العلوم المحمودة ولا نوعا من أنواعها : إلا وينظر فيه نظرا يطلع به على مقصده وغايته ثم إن ساعده العمر طلب التبحر فيه وإلا اشتغل بالأهم منه واستوفاه وتطرف من البقية فإن العلوم متعاونة وبعضها مرتبط ببعض
ويستفيد منه في الحال الانفكاك عن عداوة ذلك العلم بسبب . جهله فإن الناس أعداء ما جهلوا
قال تعالى : ( وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم )
فالعلوم على درجاتها إما سالكة بالعبد إلى الله تعالى أو معينة على السلوك نوعا من الإعانة ولها منازل مرتبة في القرب والبعد من المقصود والقوامون بها حفظة كحافظ الرباطات والثغور ولكل واحد رتبة وله بحسب درجته أجر في الآخرة إذا قصد به وجه الله تعالى
السادسة : أن لا يأخذ في فن من فنون العلم دفعة : بل يراعي الترتيب ويبتدئ بالأهم
فإن العمر إذا كان لا يتسع لجميع العلوم غالبا فالحزم أن يأخذ من كل شيء أحسنه ويكتفي منه بشمه ويصرف جمام قوته في الميسور من علمه إلى استكمال العلم الذي هو أشرف العلوم وهو علم الآخرة ولست أعني به الاعتقاد الذي يتلقنه العامي وراثة أو تلقفا ولا طريق تحرير الكلام والمجادلة فيه عن مراوغات الخصوم كما هو غاية المتكلم بل ذلك نوع يقين هو ثمرة نور يقذفه الله تعالى في قلب عبد طهر بالمجاهدة باطنه عن الخبائث حتى ينتهي إلى رتبة إيمان الصديق رضي الله عنه الذي لو وزن بإيمان العالمين لرجح
السابعة : أن لا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله : فإن العلوم مرتبة ترتيبا ضروريا وبعضها طرق إلى بعض والموفق من راعى ذلك الترتيب والتدريج وليكن قصده في كل علم يتحراه الترقي إلى ما هو فوقه
وبنبغي أن يعرف الشيء في نفسه فلا كل علم يستقل بالإحاطة به كل شخص ولذلك قال علي رضي الله عنه : ( ( لا تعرف الحق بالرجال . اعرف الحق تعرف أهله ) )
الثامنة : أن يعرف السبب الذي به يدرك شرف العلوم : وأن ذلك يراد به شيئان :
أحدهما : شرف الثمرة :
والثاني : وثاقة الدليل وقوته
وذلك : كعلم الدين وعلم الطب
التاسعة : أن يكون قصد المتعلم في الحال تخلية باطنه وتحميله بالفضيلة : وفي الحال القرب من الله سبحانه والترقي إلى جوار الملأ العلى من الملائكة والمقربين
ولا يقصد به الرياسة والمال والجاه ومجاراة السفهاء ومباهاة الأقران . وإذا كان هذا مقصده - طلب لا محالة - الأقرب إلى مقصوده وهو علم الآخرة
ومع هذا فلا ينبغي أن ينظر بعين الحقارة إلى سائر العلوم كالنحو واللغة المتعلقين بالكتاب والسنة وغير ذلك
العاشرة : أن يعلم نسبة العلوم إلى المقصد : كما يؤثر القريب الرفيع على البعيد الوضيع والمهم على غيره
ومعنى المهم ما يهمك ولا يهمك إلا شأنك في الدنيا والآخرة وإذا لم يمكنك الجمع بين ملاذ الدنيا ونعيم الآخرة كما نطق به القرآن وشهد له نور البصائر ما يجري مجرى العيان فالأهم ما يبقى أبد الآباد وعند ذلك تصير الدنيا منزلا والبدن مركبا والأعمال سعيا إلى المقصد ولا مقصد إلا لقاء الله تعالى ففيه النعيم كله وإن كان لا يعرف في هذا العالم قدره إلا الأقلون
في وجه الصواب في تعليم العلوم
الإعلام السابع : في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته
أعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا ويلقي عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية وضعيفة وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله . ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته . ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصا ولا مبهما ولا مغلقا إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته
هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه
وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفادته ويحضرون المتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصوابا فيه ويكلفونه وعي ذلك وتحصيله
ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها وقبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا ويكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن
وتكرارها عليه والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل ويحيط بمسائل الفن
وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه وإنما أتى ذلك من سوء التعليم
ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته وعلى نسبة قبوله للتعليم مبتدئا كان أو منتهيا ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره ويحصل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره لأن المتعلم إذا حصل له ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم
وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التحصيل وهجر العلم والتعليم والله يهدي من يشاء
وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها
وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولا وأحكم ارتباطا وأقرب صبغة لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره
وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه والله علمكم ما لم تكونوا تعلمون
ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة على المتعلم عدم جمع العلمين معا فإنه قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معا ويستصعبان ويعود منهما بالخيبة
وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربما كان ذلك أجدر بتحصيله والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب
قف : اعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك فإن تلقيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة
وأقدم لك مقدمة تعينك في فهمها وذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته وهو وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانية على نظام وترتيب وتارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجه إلى المطلوب وقد تصور طرفيه ويروم نفيه أو إثباته
فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحدا وينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعددا ويصير إلى الظفر بمطلوبه
هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشر من بين سائر الحيوانات
ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية تصفه ليعلم سداده من خطئه لأنها وإن كان الصواب لها ذاتيا إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا وترتيبها للنتاج فتعين المنطق للتخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض
فالمنطق إذا أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية ومنطبق على صورة فعلها
ولكونه أمرا صناعيا استغني عنه في الأكثر ولذلك تجد كثيرا من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة المنطق ولا سيما مع صدق النية والتعرض لرحمة الله فإن ذلك أعظم معنى ويسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها فيفضي بالطبع إلى حصول الوسط والعلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه
ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعلم وهي معرفة الألفاظ ودلالاتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب
فلا بد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك
فأولا : دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفها . ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة
ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق
ثم تلك المعاني مجردة في الفكر أشراكا يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله ومواهبه
وليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة ولا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في أشراك الأدلة بشغب الجدال والشبهات وقعد عن تحصيل المطلوب ولم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليل ممن هداه الله
فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشبهات واترك الأمر الصناعي جملة واخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه وسرح نظرك فيه وفرغ ذهنك له للغوص على مرامك منه واضعا لها حيث وضعها أكابر النظار قبلك مستعرضا للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون
فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك وحصل الإلهام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات ذاتيات هذا الفكر وفطره عليه كما قلنا فارجع به إلى قوالب الأدلة وصورها فأفرغه فيها ووفه حقه من القانون الصناعي ثم اكسه صور الألفاظ وأبرزه إلى عالم الخطاب والمشافهة وثيق العرى صحيح البنيان
وأما إن وقفت عند المناقشة والشبهة في الأدلة الصناعية وتمحيص صوابها من خطئها - وهذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة وتتشابه لأجل الوضع والاصطلاح - فلا تتميز جهة الحق منها إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع فيستمر ما حصل من الشك والارتياب وتسدل الحجب عن المطلوب وتقعد بالناظر عن تحصيله وهذا شأن الأكثرين من النظار والمتأخرين سيما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه
ومن حصل له شغف بالقانون المنطقي تعصب له فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة وشكوكها
ولا يكاد يخلص منها والذريعة إلى درك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه إذا جرد عن جميع الأوهام وتعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى
وأما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه لذلك في الأكثر
فاعتبر ذلك واستمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصواب والله الهادي إلى رحمته وما العلم إلا من عند الله تعالى ) )
قف : ( ( اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين :
علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة
وعلوم هي آلية وسيلة لهذه العلوم كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات وكالمنطق للفلسفة وربما كان آلة لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخرين
فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار
فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته وإيضاحا لمعانيها المقصودة
وأما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط ولا يوسع فيها الكلام ولا تفرع المسائل لأن ذلك مخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها
وربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها مع أن شأنها أهم والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة
فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر وشغلا بما لا يعني وهذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق وأصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها وأكثروا من التفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها من المقاصد وربما يقع فيها أنظار لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللغو وهي أيضا مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها
فإذا قطعوا لهذا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقصاد فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستبحروا في شأنها وينبهوا المتعلم على الغرض منها ويقفوا به عنده فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل فليرق له ما شاء من المراق صعبا أو سهلا وكل ميسر لما خلق له )
الشدة على المتعلمين مضرة بهم
الإعلام السادس : في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم
وذلك أن إرهاف الحد في التعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة
ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى لكسل وحمله على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس عاد في أسفل السافلين
وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف
واعتبره في كل من يملك أمره عليه
ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به وتجد ذلك فيهم استقراء وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالحرج ومعناه في الاصطلاح المشهور : التخابث والكيد وسببه ما قلناه
فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدوا عليهم في التأديب
وقد قال محمد بن أبي زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين والمتعلمين : ( ( لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا ) )
ومن كلام عمر رضي الله عنه : ( ( من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله ) ) حرصا على صون النفوس عن مذلة التأديب وعلما بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته
ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين فقال : ( ( يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين
أقرئه القرآن وعرفه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن وبصره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا في أوقاته وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة ) ) والله أعلم
الإعلام السابع : في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته
( أعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا ويلقي عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية وضعيفة وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله . ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته . ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصا ولا مبهما ولا مغلقا إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته
هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه
وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفادته ويحضرون المتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصوابا فيه ويكلفونه وعي ذلك وتحصيله
ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها وقبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا ويكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن
وتكرارها عليه والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل ويحيط بمسائل الفن
وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه وإنما أتى ذلك من سوء التعليم
ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته وعلى نسبة قبوله للتعليم مبتدئا كان أو منتهيا ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره ويحصل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره لأن المتعلم إذا حصل له ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم
وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التحصيل وهجر العلم والتعليم والله يهدي من يشاء
وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها
وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولا وأحكم ارتباطا وأقرب صبغة لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره
وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه والله علمكم ما لم تكونوا تعلمون
ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة على المتعلم عدم جمع العلمين معا فإنه قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معا ويستصعبان ويعود منهما بالخيبة
وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربما كان ذلك أجدر بتحصيله والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب
قف : اعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك فإن تلقيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة
وأقدم لك مقدمة تعينك في فهمها وذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته وهو وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانية على نظام وترتيب وتارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجه إلى المطلوب وقد تصور طرفيه ويروم نفيه أو إثباته
فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحدا وينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعددا ويصير إلى الظفر بمطلوبه
هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشر من بين سائر الحيوانات
ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية تصفه ليعلم سداده من خطئه لأنها وإن كان الصواب لها ذاتيا إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا وترتيبها للنتاج فتعين المنطق للتخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض
فالمنطق إذا أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية ومنطبق على صورة فعلها
ولكونه أمرا صناعيا استغني عنه في الأكثر ولذلك تجد كثيرا من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة المنطق ولا سيما مع صدق النية والتعرض لرحمة الله فإن ذلك أعظم معنى ويسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها فيفضي بالطبع إلى حصول الوسط والعلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه
ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعلم وهي معرفة الألفاظ ودلالاتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب
فلا بد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك
فأولا : دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفها . ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة
ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق
ثم تلك المعاني مجردة في الفكر أشراكا يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله ومواهبه
وليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة ولا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في أشراك الأدلة بشغب الجدال والشبهات وقعد عن تحصيل المطلوب ولم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليل ممن هداه الله
فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشبهات واترك الأمر الصناعي جملة واخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه وسرح نظرك فيه وفرغ ذهنك له للغوص على مرامك منه واضعا لها حيث وضعها أكابر النظار قبلك مستعرضا للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون
فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك وحصل الإلهام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات ذاتيات هذا الفكر وفطره عليه كما قلنا فارجع به إلى قوالب الأدلة وصورها فأفرغه فيها ووفه حقه من القانون الصناعي ثم اكسه صور الألفاظ وأبرزه إلى عالم الخطاب والمشافهة وثيق العرى صحيح البنيان
وأما إن وقفت عند المناقشة والشبهة في الأدلة الصناعية وتمحيص صوابها من خطئها - وهذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة وتتشابه لأجل الوضع والاصطلاح - فلا تتميز جهة الحق منها إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع فيستمر ما حصل من الشك والارتياب وتسدل الحجب عن المطلوب وتقعد بالناظر عن تحصيله وهذا شأن الأكثرين من النظار والمتأخرين سيما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه
ومن حصل له شغف بالقانون المنطقي تعصب له فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة وشكوكها
ولا يكاد يخلص منها والذريعة إلى درك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه إذا جرد عن جميع الأوهام وتعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى
وأما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه لذلك في الأكثر
فاعتبر ذلك واستمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصواب والله الهادي إلى رحمته وما العلم إلا من عند الله تعالى ) )
قف : ( ( اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين :
علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة
وعلوم هي آلية وسيلة لهذه العلوم كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات وكالمنطق للفلسفة وربما كان آلة لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخرين
فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار
فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته وإيضاحا لمعانيها المقصودة
وأما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط ولا يوسع فيها الكلام ولا تفرع المسائل لأن ذلك مخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها
وربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها مع أن شأنها أهم والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة
فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر وشغلا بما لا يعني وهذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق وأصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها وأكثروا من التفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها من المقاصد وربما يقع فيها أنظار لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللغو وهي أيضا مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها
فإذا قطعوا لهذا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقصاد فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستبحروا في شأنها وينبهوا المتعلم على الغرض منها ويقفوا به عنده فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل فليرق له ما شاء من المراق صعبا أو سهلا وكل ميسر لما خلق له )
في تعليم الولدان
الإعلام الخامس : في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه
اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث وصار القرآن أصل التعليم الذي يبتني عليه ما يحصل بعد من الملكات
وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخا وهو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما يبتني عليه
واختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات
فأما أهل المغرب : فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة
وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة . وكذا في الكبير إذا راجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم . وأما أهل الأندلس : فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو وهذا هو الذي يراعونه في التعليم . إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك وأسه ومنبع الدين والعلوم جعلوه أصلا في التعليم فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسل وأخذ هم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب
ولا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما وبرز في الخط والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم ولكنهم ينقطعون عند ذلك فانقطاع سند التعليم في آفاقهم ولا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد المعلم
وأما أهل إفريقية : فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن واستظهار الولدان إياه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه وعنايتهم بالخط تبع لذلك . وبالجملة فطريقتهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس واستقروا بتونس وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك
وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا ولا أدري بم عنايتهم منها والذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشبيبة ولا يخلطون بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان . وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة . ومن أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه ويبتغيه من أهل صنعته
فأما أهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة وذلك أن القرآن لا ينشا عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها وليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام
وربما كان أهل إفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التصرف ومحاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة لما أن أكثر محفوظهم عبارات العلوم النازلة عن البلاغة كما سيأتي في موضعه
وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل ومدارسة العربية من أول العمر حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي وقصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الذي هو أصل العلوم وأساسها فكانوا لذلك أهل حظ وأدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبا
ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب ( رحلته ) إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك وأبدأ وقدم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس : قال لأن الشعر ديوان العرب . ويدعو إلى تقديمه وتعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة
ثم قال : ( ( ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول أمره يقرأ مالا يفهم وينصب في أمر غيره أهم عليه ) )
قال : ( ( ثم ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث وعلومه ) )
ونهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجوده الفهم والنشاط
هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله وهو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال ووجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثارا للتبرك والثواب وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم فيفوته القرآن فإنه ما دام في الحجر منقاد للحكم فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساحل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر وربقه الحكم تحصيل القرآن لئلا يذهب خلوا منه
ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى مما أخذ به أهل المغرب والمشرق ولكن الله تعالى يحكم ما يشار لا معقب لحكمه ) ) . وهو أحكم الحاكمين
مواضيع مماثلة
» * من عدائب القرآن:زلازل آخر الزمان - مشيب الولدان - الشمس والقمر- الجلد يتكلم - السماء تتكلم
» * تعريف علم النفس الاحلام
» * آداب الخطبة الكفاءة في الزواج _ عدم اختلال الاسرة - عوامل الثبات
» * توارد الخواطر- علم النفس الموازي - الحاسة السادسة - اللاإدراك.
» * الخيال العلمي - وهم سبق الرؤية - قراءة الأفكار- علم ما وراء النفس.
» * تعريف علم النفس الاحلام
» * آداب الخطبة الكفاءة في الزواج _ عدم اختلال الاسرة - عوامل الثبات
» * توارد الخواطر- علم النفس الموازي - الحاسة السادسة - اللاإدراك.
» * الخيال العلمي - وهم سبق الرؤية - قراءة الأفكار- علم ما وراء النفس.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى