* قواعد الثبات على الدين - خلق الرحمة - خلق التواضع
صفحة 1 من اصل 1
* قواعد الثبات على الدين - خلق الرحمة - خلق التواضع
عشر قواعد من عوامل الثبات
اعداد : طارق فتحي
الحمد لله (إن الحُكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين)1 ، ونشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له (بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون)2 ، ونشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين)3 ؛ عباد الله اتقوا الله (وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون)4 أما بعد:
فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن من كلامه تعالى قوله : (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) 5، وإدراك سنن الثبات ورفع المعنويات ضروري للإنسان في كل وقت فكيف إذا كان داعية إلى الله يقفو آثار الأنبياء الكرام ويتعلم من شيخهم نوح عليه السلام الثبات المذهل على المبدأ خلال الأحقاب الطويلة المضنية ، وإذا كان الأنبياء من معدن مبارك زكي واصطفاهم الله لرسالته ؛ فإن كل مؤمن من أتباعهم ووراثهم له حظ من صفات الثبات ، والمعنويات العالية تعينه في كل وقت وحين .. يجدها معالم ساطعة في طريقه إلى الله ، وتعقيدات الحياة الحاضرة يخفف منها فقه قرآني سنني نبوي مبثوث لطالب الفقه والثبات نمر على بعض قواعده بشكل مجمل فنقول: إن مما يعينك على الثبات ويرفع معنوياتك ويبقيها حية متجددة ويبعد عنك اليأس والإحباط والشلل النفسي فقه ما يلي :
1- اعمل قدر طاقتك ، ودليله قوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) 6؛ (فاتقوا الله ما استطعتم) 7.
2- ما تطيقه نفذه بعزيمة وهمة ؛ قال تعالى: (خذوا ما آتيناكم بقوة) 8.
3- ليكن اهتمامك بالحقيقة لا بآراء الناس ؛ قال تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) 9.
4- أنت مطالب باتخاذ الأسباب لا بحصول النتائج ؛ قال تعالى: (ما على الرسول إلا البلاغ) 10؛ (فهل على الرسول إلا البلاغ المبين) 11.
5- فكر ضمن الممكن لا المستحيل ؛ قال تعالى: (فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين) 12.
6- لا تفكر بما يعمل غيرك من السلبيات فربما تشوش قلبك وانظر ما هو دورك فالمسؤولية فردية ؛ قال تعالى: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين) 13.
7- تمسك بما تعرفه واحرص عليه ؛ قال تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) 14.
8- لا تبن موقفا ولا حكما على الظن ؛ قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم) 15، وقال تعالى (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) 16.
9- تحرك بمبدئك ولا تقتله بجمودك ؛ قال تعالى: (قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته) 17.
10- تواصل داخليا مع هدفك ؛ قال تعالى: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون)18.
هذه قواعد عشر لا نزيدها اليوم ونعيد التذكير بها كي تستقر فنقول:
1- اعمل قدر طاقتك ؛ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (مه عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا)19؛ ومعنى لا يمل الله أي لا يقطع ثوابه عنكم ؛ فينبغي لكم أن تأخذوا ماتطيقون الدوام عليه ليدوم ثوابه لكم وفضله عليكم كما ذكر الإمام النووي في شرحه للحديث.
2- ما تطيقه نفذه بعزيمة وهمة ؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فان أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)20.
3- ليكن اهتمامك بالحقيقة لا بآراء الناس ؛ لما جعل المخلفون في غزوة تبوك يعتذرون لرسول الله ويحلفون له فكان يقبل معذرتهم وعلانيتهم إلا كعب بن مالك فإنه قال لرسول الله: (يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ؛ لقد أعطيتُ جدلا ولكني والله لقد علمت ولئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي)21.
4- أنت مطالب باتخاذ الأسباب لا بحصول النتائج ؛ عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم خيبر لعلي رضي الله عنه : (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حُمُر النعم)22.
5- فكر ضمن الممكن لا المستحيل ؛ عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فان تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وان أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)23 ؛ فالمستحيل هنا الحصول على الماء بالخرق والممكن التعاون لدرء الخطر عن السفينة.
6- لا تفكر بما يعمل غيرك من السلبيات فربما تشوش قلبك والمسؤولية فردية. قال عليه الصلاة والسلام: (لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا)24.
7- تمسك بما تعرفه واحرص عليه ؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: شبك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصابعه وقال: (كيف أنت يا عبد الله إذا بقيت في حثالة قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا! قال: فكيف أصنع يا رسول الله؟ قال: تأخذ ما تعرف وتدع ما تنكر وتقبل على خاصتك وتدعهم وعوامهم)25.
8- لا تبن موقفا ولا حكما على الظن ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا)26؛ فكل تلك الآفات منشؤها ظن السوء.
9- تحرك بمبدئك ولا تقتله بجمودك ، ولما كانت غزوة بدر قال سعد بن معاذ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؛ قال: أجل ؛ قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ؛ إنا لصُبُرٌ في الحرب صدق عند اللقاء ؛ لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله)27.
10- تواصل داخليا مع هدفك ؛ عن أنس رضي الله عنه قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إن أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا حبسهم العذر)28.
هذه القوانين لو أردنا العيش في أفيائها وأبعادها التطبيقية الحاضرة فكيف نترجمها؟
1- اعمل قدر طاقتك : فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ، والعمل فوق الطاقة يرهق الأعصاب ويتعب الذهن والجسم ، والإنتاج المتواصل المنتظم الدائم خير من إنتاج شديد يعقبه كساد هائل ، ونفسك مطية لك فارفق بها ، وإن (أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل)29 ، حدد طاقتك الفعلية واعمل من خلالها فالعمل بحجم الهم يدمر أما العمل بقدر الطاقة فهو يثمر خيرا كثيرا.
2- ما تطيقه نفذه بعزيمة : المشكلة عندنا في تربيتنا فلقد تعودنا على الكسل وكثيرة هي الأمور التي نستطيع فعلها ولكن حب الرفاهية والدلال والتنعم والخوف الذي لا مبرر له ينشئ أطفالنا ويربيهم ؛ بعد أن نشأنا نحن كذلك بحيث أن أداءهم أقل من إمكانياتهم بكثير ، وكما أنفقنا سنين طويلة في لغو التفكير أو العمل أو التفكير فعلينا الإقلاع بجدية في كل جوانب حياتنا الإيمانية والدنيوية ؛ يحدثك الواحد عن إعجابه بالصناعة اليابانية ، ومواعيده مواعيد أصحاب الخصال النفاقية : (إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)30.
3- ليكن اهتمامك بالحقيقة لا بآراء الناس: إرضاء الناس غاية لا تدرك وما فيه رضا الله وخيرك فافعله ؛ أعراف الناس المغلوطة لا أحقية لها ؛ تحتاج إلى من يهتكها وإذا تزوجت يا أخا الإسلام ولم تستطع أن تضع في غرفة ضيوفك إلا حصيرا وإسفنجا فلا تهتم بالناس ؛ السعادة لا تأتي بالأثاث بل بالسكينة ومن لم يعجبه ممن حولك فضع له لافتة تقول: (من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه)31 والذي يدل الناس على شيء يعرفونه فإنما يخرب بيوتهم فلا تهتم بهم ، ومن قال لنا: لماذا سمحتم للنساء بحضور صلاة الجمعة قلنا له: لو كانت هناك أخت واحدة تريد الحضور لوجب على أولياء المساجد تأمين مكان لها ، وإذا كان الجاهل يجهل والعالم يجيب تقية تفاديا لقلة علم الناس فمتى يتبين الحق.
4- أنت مطالب باتخاذ الأسباب لا بحصول النتائج. أنت مخلوق ولست خالقا. أنت مرزوق ولست رازقا. عرفناك أكالا ولم نعرفك رزاقا. (لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا)32 الاستقامة واجب عليك. صلاح الدنيا ليس بيدك ولكن ادفع حصتك.
5- فكر ضمن الممكن لا المستحيل ؛ فأحلام اليقظة تستهلك وتقتل ؛ كم من موطن خير حقيقي أضعته بأحلامك ؛ إذا كنت لا تستطيع إلغاء الرشوة في مجتمع فأنت تستطيع تقليلها ولو خمسة بالمائة. إن كان هناك من يظلمك فلا تكن أنت ظالما لغيرك ؛ المرتشي الملعون ربما يقهرك بنفوذ أو جاه ولكن بم تبرر غشا تفعله مع أخيك المسلم ؛ فكرت بالبعيد فزهدت في القريب ، ورحم الله من قال لدعاة متعجلين: أقيموا الإسلام في قلوبكم تقم خلافته في دياركم. أنت ما دفعت حصتك فعلام تصيح وتنادي ... وأنت أول مُدبر.
6- لا تفكر بما يعمل غيرك من السلبيات فربما تشوش قلبك: انظر ما هو دورك فالمسؤولية فردية. إذا نظرت إلى غيرك غششت نفسك وربما تظن أن ما عنده هو الصواب وربما كان الخراب ؛ لا تقل: أنا خير من فلان بل قل: فلان خير مني لا تقل فلان أساء أكثر بل قل: فلان أحسنَ أكثر ؛ رسل الله ما انتظروا أحدا ؛ الدعوة إلى الله رأس مالها التجرد ولا تقبل شريكا. جنتك يا مؤمن ويا مؤمنة في صدوركم ؛ نار الانحراف يطفئها سكون الإيمان. السكينة لا تأتي مع العجلة والفوضى. لا يعجبني الشاب الذي لا يحب إلا الكتب الممنوعة فإذا حازها أعجبته نفسه ولا يقرأ الموجودة بين يديه ؛ يعجبني موقف الإمام الكاندهلوي إذ قال له تلاميذه (بعد خمسة عشر عاما من الدعوة إلى الله وهم يقرؤون كتاب رياض الصالحين) : أما من كتاب آخر؟ فقال: انظروا إلى الحديث الأول فلم أنته منه بعد ، والحديث الأول هو الحديث الصحيح: (إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى)33 .. فانظر نيتك يا مؤمن وانظري نيتك يا مؤمنة.
7- تمسك بما تعرفه واحرص عليه : التفريط كثير والهمة قليلة ؛ أسألك بالله يامؤمن ؛ أسألك بالله يامؤمنة :كم مرة نصحتَ ونصحتِ نفسك ؛ أنتم تعلمون أن (الدين النصيحة)34 فلماذا لا تنصحون نفوسكم ؛ طهروا أنفسكم من العيوب تفتح لكم أبواب الغيوب ؛ تتركون ما في أيديكم من النعم وتبحثون عن سراب ؛ الأخ الصالح والأخت الصالحة من يفرط بهما؟ مجلس الخير من يفرط به؟ المؤمن جندي لله ؛ يبقى على العهد حتى يلقاه ؛ من غير وبدل تنكرت له نفسه والدنيا. (من رضي الله عنه وضع له القبول في الأرض)35 ... اللهم ارض عنا رضاء لا سخط بعده.
8- لا تبن موقفا ولا حكما على الظن: الظن ريبة وفساد ؛ المؤمن لا يقفُ ما ليس له به علم ؛ لسانه محبوس حتى يطلقه الحق وإلا فهو ساكت ؛ كم فتنة أوقدها لسان شيطان ؛ المرأة العاقلة لا تسمع من نمامة ولا صاحبة غيبة ؛ الرجل العاقل لا يصاحب ثرثارا ولا آكل لحوم ؛ الصالحون يطفئون الفتن في أرضها.
9- تحرك بمبدئك ولا تقتله بجمودك: فإن صاحب العقيدة لا يمكنه لجمها في قلبه فتخرج في سره وعلانيته وجوارحه وحركاته وسكناته ؛ بل السائر المشمر يصبح مثل الحسن البصري فقد كان إذا دخل السوق ما بقي أحد إلا ذكر الله لجلاله وتقواه وكذا المؤمن ؛ دوحة وارفة وظلال باسقة وعطر شذي لا يكونان في موطن إلا وحركا الإيمان في النفوس.
10- تواصل داخليا مع هدفك : من خطب حسناء لم ينم الليل وهو يفكر بها فكيف بمن يريد جمع مهر جنة عرضها السماوات والأرض. إنما يخرج من لسانك وجوارحك ما اختزنته في قلبك ؛ ما يشغل باطنك يعمر ظاهرك ؛ النجاح والفوز من المعاناة ؛ إن كان قلبك باردا فكبر على نفسك أربعا ؛ القلب البارد ميت لا حياة فيه ولا منه.
أخيراً نعيد تلخيص ما ذكرناه بعبارات العلماء والمربين :
1- اعمل قدر طاقتك ؛ قال مالك بن نبي: (إن حركة التاريخ إنما تصنعها آلاف الجهود الصغيرة التي لا نلقي لها بالاً).
2- ما تطيقه نفذه بعزيمة وهمة ؛ سأل رجل ابن الجوزي: أيجوز لي أن أفسح نفسي في المباحات والملاهي ؛ فقال له : (عند نفسك من الغفلة ما يكفيها).
3- ليكن اهتمامك بالحقيقة لا بآراء الناس فإن (إرضاء الناس غاية لا تدرك).
4- أنت مطالب باتخاذ الأسباب لا بحصول النتائج ؛ (سعيك فيما ضُمن لك وتقصيرك فيما طُلب منك دليل انطماس بصيرتك).
5- فكر ضمن الممكن لا المستحيل (سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار) .
6- لا تفكر بما يعمل غيرك من السلبيات (من جمع زلة كل عالم فهو زنديق).
7- تمسك بما تعرفه واحرص عليه (لو بعت لحظة من إقبالك على الله بمقدار عمر نوح في ملك قارون لكنت مغبون العقد).
8- لا تبن موقفا ولا حكما على الظن (علمك بنفسك يقين ، وعلم الناس بك ظن ، والأحمق من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس).
9- تحرك بمبدئك ولا تقتله بجمودك (إنما يعين القائد همم الرجال من حوله).
10- تواصل داخليا مع هدفك ( لو صح لك الهوى لبرعت في الحيل).
اللهم اجعل قلوبنا في هواك وأعمالنا في تقواك وأرواحنا في نجواك.
اللهم أوزعنا شكر نعماك وفرحنا بلقاك ولا تخزنا يوم يبعثون.
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون.
خـلق الرحمـة >>
إن الحمد لله نحمده ونستعين به ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ؛ من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ نعبده مخلصين له الدين و لو كره الكافرون ، ونشهد أن الهادي محمدا عبده ورسوله جاء بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير أما بعد:
فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وإن من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم قوله : اسم الله الأعظم من هاتين الآيتين1: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم)2 وفاتحة آل عمران (آلم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم)3. وقد أخرج ابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها يوما: (يا عائشة هل علمت أن الله قد دلني على الاسم الذي إذا دعي به أجاب ؛ قالت: فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله فعلمنيه ؛ قال: إنه لا ينبغي لك يا عائشة ؛ قالت: فتنحيت وجلست ساعة ثم قمت فقبلت رأسه ثم قلت له: يا رسول الله علمنيه ؛ قال: إنه لا ينبغي لك يا عائشة أن أعلمك ؛ إنه لا ينبغي أن تسألي به شيئا للدنيا ؛ قالت : فقمت فتوضأت ثم صليت ركعتين ثم قلت: الله إني أدعوك الله وأدعوك الرحمن وأدعوك البر الرحيم وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها ؛ ما علمت منها وما لم أعلم أن تغفر لي وترحمني ؛ قالت عائشة: فاستضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم [أي لإصرار عائشة وعزمها وابتغائها أن تدعو الله بأسمائه كلها] ثم قال: إنه لفي الأسماء التي دعوتيه بها)4.
والمشاهد أن عند المسلمين كثيرا من التقصير في التوجه إلى الله تعالى من خلال التعرف على أسمائه وصفاته فان كل اسم وكل صفة له سبحانه لها عند مشاهدة القلب لآثارها واجتلاء العيون لأنوارها ما لا تحيط به الأقلام ، ولا تقوى على وصفه الألسن ، والتخلق بآثار أسماء الله وصفاته لها فيوضات لا يفوتها إلا محروم ، ومما ذكره بعض أهل العلم عن حظ المؤمن من بعض الأسماء الحسنى ما يلي: حظ المؤمن من اسم الرحمن أن يتخلق بعين الرحمة وعون المخلوقات ، وما لنا نبحث عن ما ذكروه! والقدوة العظمى نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم ينطق كل سلوك له بالرحمة والحب للعباد والشفقة عليهم مصداقا لقوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)5 ووصفه تعالى بقوله (بالمؤمنين رؤوف رحيم)6 وأخرج البخاري عنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة ؛ اقرؤوا إن شئتم : (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)7 فأيما مؤمن ترك مالا فلترثه عصبته ما كانوا ، وإن ترك دينا أو ضياعا أو عيالا فليأتني فأنا مولاه)8 ، وما أبعد الشقة بين منطلقات الرحمة بالأمة ؛ التي يقررها سيد الرحماء صلى الله عليه وسلم ، وبين كثير من قوانين الضرائب في كثير من دول العالم القديمة والمعاصرة التي مؤداها : من ترك مالا ورثناه مع أمه وأبيه وصاحبته وبنيه! ومن ترك ضياعا من بعده أو أيتاما أو عيالا فان عاقبتهم هي الهلاك المبين ، ومن كان لنا مال عليه حجزنا عليه وصادرنا متاعه وألقيناه في الشارع وبعنا بيته! وأطفأنا ذكره وجعلناه عبرة لمن يتأخر عن تسديد ما عليه إلى دواوين الضرائب ، ولو كان معسرا وفي ضيق شديد! وصدق صلى الله عليه وسلم فإنما هو رحمة مهداة كما وصف نفسه : (إنما أنا رحمة مهداة)9 أما رُفع إليه ابن ابنته وهو في الموت ففاضت عيناه ؛ فسأله سعد ما هذا يا رسول الله؟ قال: (هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)10. وقد ذكر ابن الجوزي في كتاب الوفاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما مات عثمان بن مظعون كف صلى الله عليه وسلم الثوب عن وجهه وقبل بين عينيه ثم بكى طويلا ؛ فلما رفع عثمان على السرير؛ قال: طوبى لك يا عثمان ؛ لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها)11. أفرأيتم أحدا يرحم أصحابه كرحمة محمد صلى الله عليه وسلم بأصحابه!
أخرج البخاري عن أنس قال: (إن كانت الأَمَةُ لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت)12 وفي رواية أحمد: (فتنطلق به في حاجتها)13 أي ليقضي لها حاجتها من شراء طعام أو متاع ونحو ذلك ، وشكا رجل إلى رسول الله قسوة قلبه فقال له سيد الرحماء : (امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين)14 وأمر صلى الله عليه وسلم بالرحمة والرأفة حتى في البهائم ؛ فيقول: (إن الله يوصيكم بهذه البهائم العجم [مرتين أو ثلاثا] فإذا سرتم عليها فأنزلوها منازلها)15. وروى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)16، وأضجع رجل شاته ليذبحها وهي تنظر إليه كيف يحد شفرته فقال الهادي صلى الله عليه وآله وسلم : ( أتريد أن تميتها موتتين ؛ هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها)17.
إن البشرية تحتاج إلى الإسلام اليوم وتحتاج إلى هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأخلاقه الربانية التي تأبى أن تحد الشفرة والشاة تنظر إليها ؛ لا كما تفعل أحقر شعوب الأرض! هل سمعتم بذلك الطفل المسلم من ضحايا جلادي الصرب الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره ، والذي لقي الأهوال ثم أتيحت له فرصة الهرب مع بعض الناس من معسكرات التعذيب الرهيبة ؛ ليصل إلى دولة مجاورة ، وهو في شرود شديد ، وفي نُزُل اللاجئين وبالصدفة ؛ دخل إلى المطبخ الضخم الذي يقدم الطعام للآلاف ، ووقعت عينا الطفل فجأة على فرامة ضخمة للحم ؛ فذعر وتشنج وأخذ يصرخ بشكل هستيري مرعب ، وبعد أيام وجهد شديد من أطباء وموجهين نفسيين عرفت القصة: لقد كان الصرب في معسكرات التعذيب الخاصة بالأطفال ؛ يجمعون أولئك الأبرياء ثم يذبحونهم أحياء أمام بعضهم ، ثم يضعون أشلاءهم وأحيانا أيديهم وأرجلهم الغضة وهم أحياء في فرامات اللحم!!! وسبب هذا نوعا من الجنون والهستيريا للأطفال الذين شاهدوا تلك المشاهد المرعبة ، ومات بعضهم خوفا وهلعا وبعد ذلك يأتينا منصر أميركي وقح كالذي لقيناه من غير اتفاق قبل أيام فيقول لنا 18: الإسلام يدعو إلى القتل والدماء!! والنصرانية دين الرحمة والتسامح!! ولازم المسلمين (ببطل) [هذه عبارته] لازم المسلمين (ببطل هادا اللي اسمو جهاد] ويعلم الله أنه مامن دين سماوي يرضى بالمذابح والدماء ولكن مغالطتنا في ديننا واستغباءنا باسم التسامح أمر لا نرضاه بحال ، وحملات التنصير والتهويد والتعبيد للولايات المتحدة ومنطقها الهمجي في حرب الشعوب الإسلامية [بل حرب الفطرة في الأرض كلها] والالتفافات الماكرة القذرة على ديننا بشكل فكري أو ثقافي أو اقتصادي أو عسكري أو تجهيلي أمر لا ينطلي علينا ، وسنبقى نحاربه وننبه الناس إليه ونفضحه ما دامت أرواحنا فينا ، وإن كان لابد من الموت فيا مرحبا به ولا نعطي الدنية من ديننا.
ويا معسكرات التعذيب والاغتصاب في سراييفو .. ويا حملات الإبادة والتهجير في كشمير.. ويا جثث الأطفال الأتراك المتفحمة في ألمانية .. ويا أيها الرضع الذين لا يجدون الحليب في العراق .. ويا شعب كردستان المضطهد ويا أبطال حزب الله في جنوب لبنان .. ويا حرائر المسلمين في سجون اليهود .. ويا أطفال الحجارة الذين تتكسر عظامهم الغضة بحراب اليهود المجرمين .. ويا أيها المجاهدون المبعدون الصابرون من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تنخر فيكم الأمراض وتمنعون العلاج .. ويا جراح أبناء الصومال العزل في وجه قوى الكفر والإجرام .. ويا أيتها الأرض التي أتخمت بالدماء وامتلأت بالأشلاء وضجت بأصوات المعذبين والمقهورين ، وقتل فيها الشيوخ وذبح الأطفال وانتهكت أعراض النساء .. فلتشهدوا جميعا عدل العالم وإنصافه ورحمته ؛ بخرس الدول الكبرى ونفاق دول الغرب وصفاقة مجلس الأمن ووقاحة هيئة الأمم وصليبية أمينها العام.
ويا أيها الإسلام العظيم الذي صبغت أرضه بالنجيع الأحمر القاني ، وعانقت مآذنه حمرة الشفق الملتهب من دم الشهداء : أنت متهم بالهمجية والذبح والتقتيل ؛ أنت متهم بالإرهاب والأصولية ؛ أنت متهم بإثارة النعرات وتشريد الأمم وحرمان الكفرة من السلام ، وإقلاقهم وهم يخططون لاستعباد شعوب الأرض ، وإياك أن يظهر من أبنائك صلاح الدين جديد .. يدخل القدس فيعفو ويصفح ويدخلها الصليبيون فيذبحون في مسجدها سبعين ألفا! ورغم ذلك ينتصر صلاح الدين! وكم من المهازل تحوي هذه الحياة!
رغم كل الظروف المهلكة والرياح العاتية .. رغم كل ذلك نقول بثقة أن الإسلام قادم .. قادم ولن يستطيع أن يطوي أشرعته أحد .. ومناهج الأرض المنحرفة كل يوم تشهد إفلاسا مبينا ؛ فتسعى لتبطش وتسفك تغطي عوارها! (والله متم نوره ولو كره الكافرون)19.
ربما كان بأس المسلمين شديدا فيما بينهم في بعض الظروف والأوقات .. ولكن سلوا الأقليات التي عاشت بينهم: لقد كانوا أرحم أمة ، وإن مناهج الأرض لا يكاد يوجد فيها شيء اسمه رحمة ؛ لأن أغلبها مذاهب عمياء ليس لها إله تدعوه باسمه ( الرحمن ) وليس لها قائد هاد يكون لها رحمة مهداة ؛ فهي مفلسة ابتداء وانتهاء ، ولعلها تشبه المشركين الأُوَل الذين لما نزل قوله تعالى : (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعو فله الأسماء الحسنى)20. سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: (يا الله ؛ يا رحمن ؛ فقالوا: كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو بإلهين)21 ؛ عميان قلوب وعقول ؛ أصحاب مغالطات وتفلسف وإلقاء شبهات ؛ وتعالى الله الملك الحق المبين.
إن في آيات الله الحسنى وأسمائه آفاقا واسعة وفي خلق نبيكم أسوة ، والسعيد من اتبع واقتدى واقتفى ، والدنيا ساعة والصبح قريب ولكنكم قوم تستعجلون.
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون.
خلق التواضع : من خصال أهل القرآن
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ؛ من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن الهادي سيدنا محمداً عبد الله ورسوله جاء بالهدى ودين الحق للناس كافة بشيرا ونذيرا.
عباد الله اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ؛ أما بعد فان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، ومن جملة إعجازه بناؤه لحملة العقيدة الربانية ، وإن الأمة تبقى بخير مادام فيها رجال ونساء يتحققون بأخلاق القرآن ؛ ينفون الخبث ويسطعون أقمار هداية في بحور ظلمات الجاهلية ، ويفضحون بخلقهم القرآني النبيل سلوك أهل الباطل ؛ حتى يتضح للكل أن الانحراف جهل كله وضلال كله وظلمة كله ، وأن معاقد الخير كلها إنما هي في القرآن ومن القرآن وبالقرآن ، ومن خصال أهل القرآن : خلق التواضع وهو أدب رفيع يكتسبه المؤمن من متابعة الأنبياء ، وقد ورد في الصحيح أن موسى عليه السلام سُئل: هل في الأرض أحد أعلم منك؟ فقال: لا أو حدثته نفسه بذلك ؛ فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه وأراد تعريفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه 1 فكانت قصة موسى مع الخضر عبرة لكل مؤمن أن يتواضع أبدا وينسب العلم إلى الله تعالى ، ومن متابعة الأنبياء جواب عيسى عليه السلام : (قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنتُ قلته فقد علمتَه تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك انك أنت علام الغيوب)2 ، وقام نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم ليلة بآية يرددها3: (إن تعذبهم فانهم عبادك وإن تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم)4 وفي حديث مسلم أنه (رفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى)5.
فمن أخلاق الأنبياء معرفتهم بجلال الله تعالى وعظمته والتأدب معه غاية التأدب ، والمتابع لهم صلوات الله عليهم يتعلم منهم آداب العبودية ويكتسب لوازم الهداية من رحمة الخلق وحب الهداية والتذلل لله في مواطن السجود فيورثه ذلك خلق التواضع ، وروح التواضع كما يقول ابن القيم رحمه الله: أن يتواضع العبد لصولة الحق ويخضع لها وينقاد إليها فلا يقابلها بصولته عليها.
ولا تصح لك درجة التواضع حتى تقبل الحق ممن تحب وممن تبغض ؛ فتقبله من عدوك كما تقبله من وليك وإذا تم هذا المقام للسالك إلى الله تحقق بقوله تعالى : (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين)6 فإنه ليس للمؤمن من نفسه شيء ، وتمام التواضع لله أن يكون العبد معه كما يريد سبحانه لا كما يريد هو ؛ فإن كان أمر الله في الذلة على المؤمنين ؛ كان [العبد]كذلك وإن كان أمر الله تعالى بالعزة على الكافرين كان المؤمن كذلك ، وعند بعض الناس آفتان الأولى: آفة الذلة على المؤمنين ، والذلة على الكافرين معاً وهذا اتباع هوى أو تأثر بأهل انحراف وخبث أو جبن غالب وهلع قاتل ، والآفة الثانية : آفة العزة على المؤمنين ،والعزة على الكافرين ، وهذه نفس شيطانية عصبية ليس لها من آداب العبودية حظ ولا نصيب فهي سهم يرميه شيطان ويؤزه بالحقد والانتقام ، وأسوأ من الآفتين خصلة كفرانية محضة ، وهي العزة على المؤمنين والذلة على الكافرين ولا ترى كفورا ولا صاحب نفاق ولا عدوا لله ورسوله وللمؤمنين إلا وله منها المكيال الأوفى.
والسلامة من الآفات إنما تكون في الاعتصام بالكتاب والسنة ومعرفة إعجاز التوازن في بناء الخلق والسلوك ولازال دأب المؤمنين معرفة حقوق الله فيكتسبون بذلك التواضع الذي هو كما قلنا الخضوع للحق والانقياد له فيكون منهجهم دائما (الذلة على المؤمنين والعزة على الكافرين) ومما قد يبتلى به بعض من ينطلقون باسم الدعوة إلى الله ؛ ماتراه عند بعضهم من جفاء الخلق وغلظة الخطاب مع المؤمنين والترفع عليهم والتكبر على علمائهم وعوامهم ؛ مما تشك معه بأنهم قد انصرفوا يوما إلى تهذيب نفوسهم بأخلاق الأنبياء قبل انصرافهم إلى التصدي للدعوة إلى الله ؛ بطريقة تنفر الناس من الدعوة وتحملهم على إساءة الظن بالدعاة وزيادة البعد عن الإسلام ؛ وهم مخالفون بذلك قوله تعالى (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين)7 وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد)8 وصدق الله تعالى يصف سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم : (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)9 وقد كان عليه الصلاة والسلام آية في الرحمة والشفقة والتواضع يمر على الصبيان فيسلم عليهم وتأخذ الأمة بيده فتنطلق به حيث شاءت ، وفي بيته يكون في خدمة أهله فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة ، ولم يكن ينتقم لنفسه قط وما ضرب امرأة ولا خادما ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يخصف نعله ويرقع ثوبه ويحلب الشاة لأهله ويأكل مع الخادم ويجالس المساكين ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما ويبدأ من لقيه بالسلام ، ومن خلق هذا النبي العظيم المتواضع انسكب الخير ألوانا في الأمة المسلمة خلال عصورها وحتى اليوم وبقي رجالها يعلمون الناس التواضع لله ويفضحون المنحرفين بسلوك استقوه من معين الأنبياء ؛ قال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا ؛ فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة فأردت أن أكسرها! فرحم الله عمرا ، ورحم الله أمة فيها مثل عمر ، وهذا الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز بلغه أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه : بلغني أنك اشتريت فصا بألف درهم فبعه [يا ابن الأمير] وأشبع به ألف بطن واتخذ خاتما بدرهمين واكتب عليه: رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه.
وسارت معالم التواضع فمن رؤسائها الشافعي رحمه الله إذ يقول: كلما ازددت علما ازددت معرفة بجهلي ؛ وصار شعار أهل العلم : نصف العلم أن تقول لا أدري.
ومن التواضع أن يعرف الإنسان لمن علموه أو سبقوه فضلهم ؛ فكان من كريم خُلُق السلف ؛ منهجهم : الحر من راعى وداد لحظة أو انتمى لمن أفاده لفظه ؛ وأحكمها الشافعي لما قال لأصحابه حاضا لهم على التواضع ومعرفة الحقوق : من ساوى بنفسه فوق ما يساوي رده الله إلى قيمته ؛ ففاقد التواضع مغرور يعطي نفسه قيمة هي أكبر مما يستحق فيفضح نفسه ؛ كرجل سمعنا عنه شارك في مؤتمر إسلامي وطرح مغالطات فقام شاب نبيه يستدرك عليه ؛ فما وجد الرجل حجة في وجهه البتة إلا بأن قال له : كيف يخاطبني مثلك وماذا لديك من الشهادات؟ ألا تعلم أني أحمل كذا دكتوراه وكذا.. وكذا.. فأفحم الناس بجهله وغروره وفضح نفسه10، وكذلك كل مغرور لا تكون عنده حجة فيقول : أنا عملت كذا وكذا ، وفعلت كذا ... فماذا فعلتم أنتم؟ وربما كان يخاطب من سبقوه في كثير من الأمور وهو لا يدري! وأول ما سبقوه به نجاتهم من العجب القاتل فإن العمل الصالح لا يرفع وفيه عجب ، فإن اجتمع معه حب محمدة الناس أو المصانعة والرياء لهم فهناك المقتل ، والعامل لله لا يحتاج إلى بوق ينفخ فيه ليري الناس فضله وإنما يزكيه صالح عمله ، والعمل إن لم يقترن بالإخلاص ، ولم يكن التواضع مفتاحه والانقياد للحق سبيله فهو مهلكة ، وقد ذكر الإمام السرخسي في كتابه شرح السير الكبير: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القتال في بعض أيام خيبر ؛ فقاتل رجل فقتل ؛ فقال صلى الله عليه وسلم :
لاتحل الجنة لعاص)11.
ومما ينسف العمل: فقدان التواضع في قبول النصيحة فإن المؤمن يطلبها أبدا ويتواضع لحاملها والحكمة ضالته ؛ أما المتكبر عليها فيقال له ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه : إن من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه اتق الله فيقول عليك نفسك [لا تتدخل في الأمر] أنت تأمرني!)12. والموفق من فقه ما قاله السلف رضي الله عنهم: الناس يمدحونك لما يظنونه فيك فكن أنت ذاما لنفسك لما تعلمه منها فإن الأحمق من ترك يقين ما عنده [وعلمه بنفسه يقين] لظن ما عند الناس [وعلم الناس به ظن] ؛ لهذا لما مدح أحد الصالحين بكى وقال يناجي الله تعالى:
يظنون بي خيرا وما بي من خـير ولكني عبد ظلوم كما تـدري
سترت عيوبي جميعا عن عيونهـم وألبستني ثوبا جميلا من السـتر
فلا تفضحني في القيامة بينهـم ولا تخزني يارب في موقف الحشر
أما بشر الحافي فعلم قدر نفسه بين يدي الله تعالى فقال: لو كانت للذنوب رائحة ما قدر أن يقترب مني أحد [فماذا ينبغي أن نفعل نحن] وهو الذي لما سمع بأن الإمام أحمد بن حنبل مصفد في الأغلال نظر إلى ساقيه وقال: ما أقبح أن لا توضع الأغلال في هذه الساق ؛ نصرة لأحمد رضي الله عنه ، وحملها الخلف عن السلف حتى قام سلطان الزهاد إبراهيم بن أدهم ، وكان من الملوك وأبناء الملوك فترك ذلك كله وذهب للرباط على ثغور الشام ، ولما ضربه رجل لم يعرفه يوما ؛ طأطأ رأسه وترقرقت الدمعة في عينه وقال: اضرب رأسا طالما عصى الله تعالى! [وما يحمد الإنسان إذا ترك الناس يضربونه] ولكنها تربية لنفسه وتذكيرا لها بالتواضع في جانب الله تعالى ؛ فإن نفوسنا لو تُعاتَبُ على ما اجترحت لما حق فيها إلا قوله تعالى (ولو يؤاخذُ الله الناسَ بظلمهم ما ترك عليها من دابة)13. فان الإنسان يلزمه تذكر نقصه ليسعى نحو الكمال ؛ أما إن ظن بنفسه الكمال فهناك أول الهلاك ، ومن العبر المخيفة المعاصرة في الدعوة الإسلامية قصة رجل من كبار الدعاة ؛ حاول احتواءه المخلطون وأصحاب الأغراض فما استطاعوا تشويش أفكاره! فقدموه يوما للصلاة إماما وأكبرُ زعمائهم وراءه! فما أطاق عقله ذلك ، وظن أنهم إنما قدموه لأنه صار الرأس من دون منازع ولم يدر أنها خدعة دخلت إليه من ثغرة في نفسه فخدع بهم وبتبجيلهم واحترامهم الكاذب .. ثم خرج ما في قلبه على لسانه! فصار يقول لمن يلقاهم : صليت إماما بفلان .. صليت إماما بفلان .. ثم دخل معهم وأساء مثلما أساءوا .. ولو تفكر وأمثاله قليلا في قوله تعالى ( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا )14 لاتعظ وعرف قدر نفسه ؛ أما الموفقون فيسيرون على نهج الأنبياء تواضعا واقتداء بسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم وقد وصفه تعالى بقوله (وإنك لعلى خلق عظيم)15 ؛ فتسمع من أخبارهم أن العلامة الشيخ إبراهيم الغلاييني رحمه الله أتاه طالب تركي غاب طويلا وأراد الاعتذار للشيخ عن غيابه [والأتراك عندهم أدب عجيب مع العلماء] فقال للشيخ وعينه دامعة : "أنت مثل الكلب" وهو يريد أن يقول : "أنا مثل الكلب" [أي تقصيراً] فغلط في النسبة ؛ وصار الشيخ رحمه الله يبكي ويقول: يا ليتني يا بني أكون مثل الكلب حتى لا يحاسبني ربي [ لأنه إن حاسبني ]ولم يغفر لي لأكونن شرا من الكلاب ؛ فأبكى جلاسه بافتقاره إلى الله وتواضعه وانكساره!
وهذا مولانا إلياس الكاندهلوي .. يشد الناس اليه الرحال في طلب العلم والنصيحة ،وقد أتى قوم لزيارته ، وفي مجلسه عشرات من الناس ؛ فدخل إليهم من قدم لهم الشاي جميعا بنفسه وجلس ؛ وهم ينتظرون الشيخ ؛ فقالوا : متى يدخل الشيخ؟ فقال الجالسون : الشيخ هو الذي يقدم لكم الضيافة فعجبوا لإكرامه ضيوفه وتواضعه على جلالة قدره وكبر سنه .
وهذا العالم الصالح الشيخ حمدي الجويجاتي رحمه الله وقد نفعني الله به ؛ كان في أحد المساجد فدخل أحد كبار العلماء فصلى ثم أتى فسلم عليه ؛ فلما انصرف قال لي الشيخ: انظر كم هو متواضع هذا العالم! فقلت له : وكيف هذا يا سيدي؟ فقال: أما رأيته كيف أتى وسلم عليَّ ؛ فلولا تواضعه لما فعل ذلك ، وماذا نكون بجانبه من العلم ؛ وكان الشيخ حمدي رحمه الله وقتها قد جاوز الثمانين ؛ وهؤلاء القوم الصالحون ؛ إنما كانوا وراث نبوة باتباعهم الكتاب والسنة ؛ فبناهم القرآن أهل حق وتوازن وتواضع لله ؛ تهفو إليهم القلوب وتخرب الأمم من دون أمثالهم ، وما كان تواضعهم ضعفا بل انقيادا لما يحبه الله ، وإلا فقد كانوا في مواطن الجهر بالحق أول الناس..
وبعد كل ذلك يلزم المؤمن وتخصيصا الداعية إلى الله ؛ أن يعرف ما ألقاه إليه الإمام ابن القيم في مدارجه إذ يقول: "وليحذر العبد كل الحذر من طغيان (أنا) و (لي) و (عندي) فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلي بها إبليس وفرعون وقارون .. فأنا خير منه : لإبليس .. و لي ملك مصر: لفرعون .. و إنما أوتيته على علم عندي : لقارون ، وأحسن ما وضعت أنا في قول العبد : أنا العبد المذنب المخطئ المستغفر المقترف ونحوه ، ولي في قوله : لي الذنب ولي الجرم ولي المسكنة ولي الفقر والذل ، وعندي في قوله : اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي" اللهم نحن عبيدك المذنبون المقصرون المستغفرون ارحم فقرنا وذلنا بين يديك واسترنا يا ستار بسترك الجميل .. اللهم اغفر لنا جدنا وهزلنا وخطأنا وعمدنا وكل ذلك عندنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم ..
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون.
10- رحم الله العلامة المتقن الشيخ عبد الفتاح أبي غدة إذ يقول بلسان حال من يدخل الجامعات ليأخذ الدكتوراه دون أن ُيحصل علما :
ودخلت فيها جاهلا متواضعا وخرجت منها جاهلا دكتورا! (ويجوز أن تقول: مغرورا)
فكيف لو علم ما صار بعد وفاته بسنوات قليلة من كثرة البلوى بشراء شهادات الدكتوراه بالنقود ومن جامعات وهمية! ثم لا يستحي مدعي إحدى تلك الشهادات من أن يقرن اسمه بها ويتصدر بها في المحافل ثم يلقى الناس بوقاحة وعجرفة! لأن معه دكتوراه! والتي صار بعض حملتها يتناقشون في العقوبات التي ينبغي أن يعامل بها طلاب الدراسات الإسلامية في حال قيامهم بالغش في الامتحانات! إلى أن قال أخ كريم لبعض أولئك : كيف ستحاسبون الطلاب وشهاداتكم التي يحملها بعضكم [كحملة الأسفار] كلها غش وكذب وتزوير!
وقلت لأحدهم : ما هذه الحال التي صارت فيها شهادة [الدكتوراة في الشريعة الغراء] تشترى بألف دولار فقال: لو كانت بألف دولار لكان الأمر يسيراً ، ولأخذتها من وقت بعيد ؛ لقد وصل ثمنها إلى ثلاثة آلاف دولار !!! وما مضت مدة يسيرة حتى وجدت صاحبنا قد قرن اسمه الكريم بها ؛ فيا ضيعة العلم في مثل هذا الزمان .
وأخذ أحدهم تلك الشهادة العظيمة ؛ فقال له أحد العلماء : الناس إذا أكرمهم الله بالعلم ، أحبوا أن ينتفع الناس به ؛ فأين رسالتك العلمية تدل على علمك ؛ فسكت صاحب الشهادة المزورة ؛ فقال له العالم : أنا أتحداك أن تنشر رسالتك!! إن كانت هناك رسالة ؛ بل أتحداك أن تنشر أربع صفحات منها !!!
وزعم بعضهم وهذا أمر خطير جداً أن الجهاز الديني ستكون له هيبة أقوى ، وأن الحكومات وأجهزة الأمن! ستتعامل باحترام زائد مع حملة الشهادات العليا [ولو كانت مزورة] والحق أن الحكومات والمثقفين والعوام ، والمجتمعات ، بل أجهزة الأمن في كل الدنيا تعرف النائحة الثكلى من المستأجرة ، ولا تحترم بل تزدري أولئك المزورين ، ولو استخدمت بعضهم استخدام النعال التي ترميها بعد اهترائها ، وماداموا قد قبلوا الغش في شريعتهم ودينهم فأي احترام يبقى لهم!!
ومن باب النصيحة نقول لكل سالك طريق علم : إياك من الغش والتزوير ، والدعوى الكاذبة التي ستلقى أُمتك ثم الله بها ، واسلك سبيل علماء الأمة العظام الذين كان علمهم هداية وإيماناً وجدا واجتهادا وتعبا وبذلا ونورا قذفه الله في قلوبهم ؛ فصلحت بهم الأرض ، وعاشوا سادة أعزة ، وماتوا قادة خير كراما .
إن من أعظم البدع المهلكة والمسيئة إلى العلم وأهله تلك الأحوال المزرية التي صار فيها بعض حملة العلم يتاجرون باسمه وقد ضيعوا معناه وروحه وسمته وهديه ، وصدق الهادي صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول : (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ماشئت) .
11- محمد بن أحمد السرخسي ، شرح السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني ؛ تحقيق د.صلاح الدين المنجد ؛ معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية ، القاهرة ، مطبعة شركة الاعلانات الشرقية ، 1971، 1/173.
ولم أعرف سنده ، إلا أن في الصحيح قصة مدعم إذ جاءه سهم عائر، فقال الناس: هنيئا له الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل، والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارا) وهي في البخاري ، المغازي 3993.
12- أخرجه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ، وانظر مجمع الزوائد : المجلد 7 ، كتاب الفتن (32) ، الحديث12162. وفي معجم الطبراني الكبير ، حرف الظاء ؛ سنده : حدثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو نعيم ثنا سفيان عن أبي إسحاق عن سعد بن وهب عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ولم يتح لنا المجال للتأكد من اتصال السند.
اعداد : طارق فتحي
الحمد لله (إن الحُكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين)1 ، ونشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له (بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون)2 ، ونشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين)3 ؛ عباد الله اتقوا الله (وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون)4 أما بعد:
فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن من كلامه تعالى قوله : (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) 5، وإدراك سنن الثبات ورفع المعنويات ضروري للإنسان في كل وقت فكيف إذا كان داعية إلى الله يقفو آثار الأنبياء الكرام ويتعلم من شيخهم نوح عليه السلام الثبات المذهل على المبدأ خلال الأحقاب الطويلة المضنية ، وإذا كان الأنبياء من معدن مبارك زكي واصطفاهم الله لرسالته ؛ فإن كل مؤمن من أتباعهم ووراثهم له حظ من صفات الثبات ، والمعنويات العالية تعينه في كل وقت وحين .. يجدها معالم ساطعة في طريقه إلى الله ، وتعقيدات الحياة الحاضرة يخفف منها فقه قرآني سنني نبوي مبثوث لطالب الفقه والثبات نمر على بعض قواعده بشكل مجمل فنقول: إن مما يعينك على الثبات ويرفع معنوياتك ويبقيها حية متجددة ويبعد عنك اليأس والإحباط والشلل النفسي فقه ما يلي :
1- اعمل قدر طاقتك ، ودليله قوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) 6؛ (فاتقوا الله ما استطعتم) 7.
2- ما تطيقه نفذه بعزيمة وهمة ؛ قال تعالى: (خذوا ما آتيناكم بقوة) 8.
3- ليكن اهتمامك بالحقيقة لا بآراء الناس ؛ قال تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) 9.
4- أنت مطالب باتخاذ الأسباب لا بحصول النتائج ؛ قال تعالى: (ما على الرسول إلا البلاغ) 10؛ (فهل على الرسول إلا البلاغ المبين) 11.
5- فكر ضمن الممكن لا المستحيل ؛ قال تعالى: (فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين) 12.
6- لا تفكر بما يعمل غيرك من السلبيات فربما تشوش قلبك وانظر ما هو دورك فالمسؤولية فردية ؛ قال تعالى: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين) 13.
7- تمسك بما تعرفه واحرص عليه ؛ قال تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) 14.
8- لا تبن موقفا ولا حكما على الظن ؛ قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم) 15، وقال تعالى (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) 16.
9- تحرك بمبدئك ولا تقتله بجمودك ؛ قال تعالى: (قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته) 17.
10- تواصل داخليا مع هدفك ؛ قال تعالى: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون)18.
هذه قواعد عشر لا نزيدها اليوم ونعيد التذكير بها كي تستقر فنقول:
1- اعمل قدر طاقتك ؛ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (مه عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا)19؛ ومعنى لا يمل الله أي لا يقطع ثوابه عنكم ؛ فينبغي لكم أن تأخذوا ماتطيقون الدوام عليه ليدوم ثوابه لكم وفضله عليكم كما ذكر الإمام النووي في شرحه للحديث.
2- ما تطيقه نفذه بعزيمة وهمة ؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فان أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)20.
3- ليكن اهتمامك بالحقيقة لا بآراء الناس ؛ لما جعل المخلفون في غزوة تبوك يعتذرون لرسول الله ويحلفون له فكان يقبل معذرتهم وعلانيتهم إلا كعب بن مالك فإنه قال لرسول الله: (يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ؛ لقد أعطيتُ جدلا ولكني والله لقد علمت ولئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي)21.
4- أنت مطالب باتخاذ الأسباب لا بحصول النتائج ؛ عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم خيبر لعلي رضي الله عنه : (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حُمُر النعم)22.
5- فكر ضمن الممكن لا المستحيل ؛ عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فان تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وان أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)23 ؛ فالمستحيل هنا الحصول على الماء بالخرق والممكن التعاون لدرء الخطر عن السفينة.
6- لا تفكر بما يعمل غيرك من السلبيات فربما تشوش قلبك والمسؤولية فردية. قال عليه الصلاة والسلام: (لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا)24.
7- تمسك بما تعرفه واحرص عليه ؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: شبك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصابعه وقال: (كيف أنت يا عبد الله إذا بقيت في حثالة قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا! قال: فكيف أصنع يا رسول الله؟ قال: تأخذ ما تعرف وتدع ما تنكر وتقبل على خاصتك وتدعهم وعوامهم)25.
8- لا تبن موقفا ولا حكما على الظن ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا)26؛ فكل تلك الآفات منشؤها ظن السوء.
9- تحرك بمبدئك ولا تقتله بجمودك ، ولما كانت غزوة بدر قال سعد بن معاذ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؛ قال: أجل ؛ قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ؛ إنا لصُبُرٌ في الحرب صدق عند اللقاء ؛ لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله)27.
10- تواصل داخليا مع هدفك ؛ عن أنس رضي الله عنه قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إن أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا حبسهم العذر)28.
هذه القوانين لو أردنا العيش في أفيائها وأبعادها التطبيقية الحاضرة فكيف نترجمها؟
1- اعمل قدر طاقتك : فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ، والعمل فوق الطاقة يرهق الأعصاب ويتعب الذهن والجسم ، والإنتاج المتواصل المنتظم الدائم خير من إنتاج شديد يعقبه كساد هائل ، ونفسك مطية لك فارفق بها ، وإن (أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل)29 ، حدد طاقتك الفعلية واعمل من خلالها فالعمل بحجم الهم يدمر أما العمل بقدر الطاقة فهو يثمر خيرا كثيرا.
2- ما تطيقه نفذه بعزيمة : المشكلة عندنا في تربيتنا فلقد تعودنا على الكسل وكثيرة هي الأمور التي نستطيع فعلها ولكن حب الرفاهية والدلال والتنعم والخوف الذي لا مبرر له ينشئ أطفالنا ويربيهم ؛ بعد أن نشأنا نحن كذلك بحيث أن أداءهم أقل من إمكانياتهم بكثير ، وكما أنفقنا سنين طويلة في لغو التفكير أو العمل أو التفكير فعلينا الإقلاع بجدية في كل جوانب حياتنا الإيمانية والدنيوية ؛ يحدثك الواحد عن إعجابه بالصناعة اليابانية ، ومواعيده مواعيد أصحاب الخصال النفاقية : (إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)30.
3- ليكن اهتمامك بالحقيقة لا بآراء الناس: إرضاء الناس غاية لا تدرك وما فيه رضا الله وخيرك فافعله ؛ أعراف الناس المغلوطة لا أحقية لها ؛ تحتاج إلى من يهتكها وإذا تزوجت يا أخا الإسلام ولم تستطع أن تضع في غرفة ضيوفك إلا حصيرا وإسفنجا فلا تهتم بالناس ؛ السعادة لا تأتي بالأثاث بل بالسكينة ومن لم يعجبه ممن حولك فضع له لافتة تقول: (من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه)31 والذي يدل الناس على شيء يعرفونه فإنما يخرب بيوتهم فلا تهتم بهم ، ومن قال لنا: لماذا سمحتم للنساء بحضور صلاة الجمعة قلنا له: لو كانت هناك أخت واحدة تريد الحضور لوجب على أولياء المساجد تأمين مكان لها ، وإذا كان الجاهل يجهل والعالم يجيب تقية تفاديا لقلة علم الناس فمتى يتبين الحق.
4- أنت مطالب باتخاذ الأسباب لا بحصول النتائج. أنت مخلوق ولست خالقا. أنت مرزوق ولست رازقا. عرفناك أكالا ولم نعرفك رزاقا. (لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا)32 الاستقامة واجب عليك. صلاح الدنيا ليس بيدك ولكن ادفع حصتك.
5- فكر ضمن الممكن لا المستحيل ؛ فأحلام اليقظة تستهلك وتقتل ؛ كم من موطن خير حقيقي أضعته بأحلامك ؛ إذا كنت لا تستطيع إلغاء الرشوة في مجتمع فأنت تستطيع تقليلها ولو خمسة بالمائة. إن كان هناك من يظلمك فلا تكن أنت ظالما لغيرك ؛ المرتشي الملعون ربما يقهرك بنفوذ أو جاه ولكن بم تبرر غشا تفعله مع أخيك المسلم ؛ فكرت بالبعيد فزهدت في القريب ، ورحم الله من قال لدعاة متعجلين: أقيموا الإسلام في قلوبكم تقم خلافته في دياركم. أنت ما دفعت حصتك فعلام تصيح وتنادي ... وأنت أول مُدبر.
6- لا تفكر بما يعمل غيرك من السلبيات فربما تشوش قلبك: انظر ما هو دورك فالمسؤولية فردية. إذا نظرت إلى غيرك غششت نفسك وربما تظن أن ما عنده هو الصواب وربما كان الخراب ؛ لا تقل: أنا خير من فلان بل قل: فلان خير مني لا تقل فلان أساء أكثر بل قل: فلان أحسنَ أكثر ؛ رسل الله ما انتظروا أحدا ؛ الدعوة إلى الله رأس مالها التجرد ولا تقبل شريكا. جنتك يا مؤمن ويا مؤمنة في صدوركم ؛ نار الانحراف يطفئها سكون الإيمان. السكينة لا تأتي مع العجلة والفوضى. لا يعجبني الشاب الذي لا يحب إلا الكتب الممنوعة فإذا حازها أعجبته نفسه ولا يقرأ الموجودة بين يديه ؛ يعجبني موقف الإمام الكاندهلوي إذ قال له تلاميذه (بعد خمسة عشر عاما من الدعوة إلى الله وهم يقرؤون كتاب رياض الصالحين) : أما من كتاب آخر؟ فقال: انظروا إلى الحديث الأول فلم أنته منه بعد ، والحديث الأول هو الحديث الصحيح: (إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى)33 .. فانظر نيتك يا مؤمن وانظري نيتك يا مؤمنة.
7- تمسك بما تعرفه واحرص عليه : التفريط كثير والهمة قليلة ؛ أسألك بالله يامؤمن ؛ أسألك بالله يامؤمنة :كم مرة نصحتَ ونصحتِ نفسك ؛ أنتم تعلمون أن (الدين النصيحة)34 فلماذا لا تنصحون نفوسكم ؛ طهروا أنفسكم من العيوب تفتح لكم أبواب الغيوب ؛ تتركون ما في أيديكم من النعم وتبحثون عن سراب ؛ الأخ الصالح والأخت الصالحة من يفرط بهما؟ مجلس الخير من يفرط به؟ المؤمن جندي لله ؛ يبقى على العهد حتى يلقاه ؛ من غير وبدل تنكرت له نفسه والدنيا. (من رضي الله عنه وضع له القبول في الأرض)35 ... اللهم ارض عنا رضاء لا سخط بعده.
8- لا تبن موقفا ولا حكما على الظن: الظن ريبة وفساد ؛ المؤمن لا يقفُ ما ليس له به علم ؛ لسانه محبوس حتى يطلقه الحق وإلا فهو ساكت ؛ كم فتنة أوقدها لسان شيطان ؛ المرأة العاقلة لا تسمع من نمامة ولا صاحبة غيبة ؛ الرجل العاقل لا يصاحب ثرثارا ولا آكل لحوم ؛ الصالحون يطفئون الفتن في أرضها.
9- تحرك بمبدئك ولا تقتله بجمودك: فإن صاحب العقيدة لا يمكنه لجمها في قلبه فتخرج في سره وعلانيته وجوارحه وحركاته وسكناته ؛ بل السائر المشمر يصبح مثل الحسن البصري فقد كان إذا دخل السوق ما بقي أحد إلا ذكر الله لجلاله وتقواه وكذا المؤمن ؛ دوحة وارفة وظلال باسقة وعطر شذي لا يكونان في موطن إلا وحركا الإيمان في النفوس.
10- تواصل داخليا مع هدفك : من خطب حسناء لم ينم الليل وهو يفكر بها فكيف بمن يريد جمع مهر جنة عرضها السماوات والأرض. إنما يخرج من لسانك وجوارحك ما اختزنته في قلبك ؛ ما يشغل باطنك يعمر ظاهرك ؛ النجاح والفوز من المعاناة ؛ إن كان قلبك باردا فكبر على نفسك أربعا ؛ القلب البارد ميت لا حياة فيه ولا منه.
أخيراً نعيد تلخيص ما ذكرناه بعبارات العلماء والمربين :
1- اعمل قدر طاقتك ؛ قال مالك بن نبي: (إن حركة التاريخ إنما تصنعها آلاف الجهود الصغيرة التي لا نلقي لها بالاً).
2- ما تطيقه نفذه بعزيمة وهمة ؛ سأل رجل ابن الجوزي: أيجوز لي أن أفسح نفسي في المباحات والملاهي ؛ فقال له : (عند نفسك من الغفلة ما يكفيها).
3- ليكن اهتمامك بالحقيقة لا بآراء الناس فإن (إرضاء الناس غاية لا تدرك).
4- أنت مطالب باتخاذ الأسباب لا بحصول النتائج ؛ (سعيك فيما ضُمن لك وتقصيرك فيما طُلب منك دليل انطماس بصيرتك).
5- فكر ضمن الممكن لا المستحيل (سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار) .
6- لا تفكر بما يعمل غيرك من السلبيات (من جمع زلة كل عالم فهو زنديق).
7- تمسك بما تعرفه واحرص عليه (لو بعت لحظة من إقبالك على الله بمقدار عمر نوح في ملك قارون لكنت مغبون العقد).
8- لا تبن موقفا ولا حكما على الظن (علمك بنفسك يقين ، وعلم الناس بك ظن ، والأحمق من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس).
9- تحرك بمبدئك ولا تقتله بجمودك (إنما يعين القائد همم الرجال من حوله).
10- تواصل داخليا مع هدفك ( لو صح لك الهوى لبرعت في الحيل).
اللهم اجعل قلوبنا في هواك وأعمالنا في تقواك وأرواحنا في نجواك.
اللهم أوزعنا شكر نعماك وفرحنا بلقاك ولا تخزنا يوم يبعثون.
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون.
خـلق الرحمـة >>
إن الحمد لله نحمده ونستعين به ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ؛ من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ نعبده مخلصين له الدين و لو كره الكافرون ، ونشهد أن الهادي محمدا عبده ورسوله جاء بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير أما بعد:
فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وإن من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم قوله : اسم الله الأعظم من هاتين الآيتين1: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم)2 وفاتحة آل عمران (آلم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم)3. وقد أخرج ابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها يوما: (يا عائشة هل علمت أن الله قد دلني على الاسم الذي إذا دعي به أجاب ؛ قالت: فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله فعلمنيه ؛ قال: إنه لا ينبغي لك يا عائشة ؛ قالت: فتنحيت وجلست ساعة ثم قمت فقبلت رأسه ثم قلت له: يا رسول الله علمنيه ؛ قال: إنه لا ينبغي لك يا عائشة أن أعلمك ؛ إنه لا ينبغي أن تسألي به شيئا للدنيا ؛ قالت : فقمت فتوضأت ثم صليت ركعتين ثم قلت: الله إني أدعوك الله وأدعوك الرحمن وأدعوك البر الرحيم وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها ؛ ما علمت منها وما لم أعلم أن تغفر لي وترحمني ؛ قالت عائشة: فاستضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم [أي لإصرار عائشة وعزمها وابتغائها أن تدعو الله بأسمائه كلها] ثم قال: إنه لفي الأسماء التي دعوتيه بها)4.
والمشاهد أن عند المسلمين كثيرا من التقصير في التوجه إلى الله تعالى من خلال التعرف على أسمائه وصفاته فان كل اسم وكل صفة له سبحانه لها عند مشاهدة القلب لآثارها واجتلاء العيون لأنوارها ما لا تحيط به الأقلام ، ولا تقوى على وصفه الألسن ، والتخلق بآثار أسماء الله وصفاته لها فيوضات لا يفوتها إلا محروم ، ومما ذكره بعض أهل العلم عن حظ المؤمن من بعض الأسماء الحسنى ما يلي: حظ المؤمن من اسم الرحمن أن يتخلق بعين الرحمة وعون المخلوقات ، وما لنا نبحث عن ما ذكروه! والقدوة العظمى نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم ينطق كل سلوك له بالرحمة والحب للعباد والشفقة عليهم مصداقا لقوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)5 ووصفه تعالى بقوله (بالمؤمنين رؤوف رحيم)6 وأخرج البخاري عنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة ؛ اقرؤوا إن شئتم : (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)7 فأيما مؤمن ترك مالا فلترثه عصبته ما كانوا ، وإن ترك دينا أو ضياعا أو عيالا فليأتني فأنا مولاه)8 ، وما أبعد الشقة بين منطلقات الرحمة بالأمة ؛ التي يقررها سيد الرحماء صلى الله عليه وسلم ، وبين كثير من قوانين الضرائب في كثير من دول العالم القديمة والمعاصرة التي مؤداها : من ترك مالا ورثناه مع أمه وأبيه وصاحبته وبنيه! ومن ترك ضياعا من بعده أو أيتاما أو عيالا فان عاقبتهم هي الهلاك المبين ، ومن كان لنا مال عليه حجزنا عليه وصادرنا متاعه وألقيناه في الشارع وبعنا بيته! وأطفأنا ذكره وجعلناه عبرة لمن يتأخر عن تسديد ما عليه إلى دواوين الضرائب ، ولو كان معسرا وفي ضيق شديد! وصدق صلى الله عليه وسلم فإنما هو رحمة مهداة كما وصف نفسه : (إنما أنا رحمة مهداة)9 أما رُفع إليه ابن ابنته وهو في الموت ففاضت عيناه ؛ فسأله سعد ما هذا يا رسول الله؟ قال: (هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)10. وقد ذكر ابن الجوزي في كتاب الوفاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما مات عثمان بن مظعون كف صلى الله عليه وسلم الثوب عن وجهه وقبل بين عينيه ثم بكى طويلا ؛ فلما رفع عثمان على السرير؛ قال: طوبى لك يا عثمان ؛ لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها)11. أفرأيتم أحدا يرحم أصحابه كرحمة محمد صلى الله عليه وسلم بأصحابه!
أخرج البخاري عن أنس قال: (إن كانت الأَمَةُ لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت)12 وفي رواية أحمد: (فتنطلق به في حاجتها)13 أي ليقضي لها حاجتها من شراء طعام أو متاع ونحو ذلك ، وشكا رجل إلى رسول الله قسوة قلبه فقال له سيد الرحماء : (امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين)14 وأمر صلى الله عليه وسلم بالرحمة والرأفة حتى في البهائم ؛ فيقول: (إن الله يوصيكم بهذه البهائم العجم [مرتين أو ثلاثا] فإذا سرتم عليها فأنزلوها منازلها)15. وروى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)16، وأضجع رجل شاته ليذبحها وهي تنظر إليه كيف يحد شفرته فقال الهادي صلى الله عليه وآله وسلم : ( أتريد أن تميتها موتتين ؛ هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها)17.
إن البشرية تحتاج إلى الإسلام اليوم وتحتاج إلى هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأخلاقه الربانية التي تأبى أن تحد الشفرة والشاة تنظر إليها ؛ لا كما تفعل أحقر شعوب الأرض! هل سمعتم بذلك الطفل المسلم من ضحايا جلادي الصرب الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره ، والذي لقي الأهوال ثم أتيحت له فرصة الهرب مع بعض الناس من معسكرات التعذيب الرهيبة ؛ ليصل إلى دولة مجاورة ، وهو في شرود شديد ، وفي نُزُل اللاجئين وبالصدفة ؛ دخل إلى المطبخ الضخم الذي يقدم الطعام للآلاف ، ووقعت عينا الطفل فجأة على فرامة ضخمة للحم ؛ فذعر وتشنج وأخذ يصرخ بشكل هستيري مرعب ، وبعد أيام وجهد شديد من أطباء وموجهين نفسيين عرفت القصة: لقد كان الصرب في معسكرات التعذيب الخاصة بالأطفال ؛ يجمعون أولئك الأبرياء ثم يذبحونهم أحياء أمام بعضهم ، ثم يضعون أشلاءهم وأحيانا أيديهم وأرجلهم الغضة وهم أحياء في فرامات اللحم!!! وسبب هذا نوعا من الجنون والهستيريا للأطفال الذين شاهدوا تلك المشاهد المرعبة ، ومات بعضهم خوفا وهلعا وبعد ذلك يأتينا منصر أميركي وقح كالذي لقيناه من غير اتفاق قبل أيام فيقول لنا 18: الإسلام يدعو إلى القتل والدماء!! والنصرانية دين الرحمة والتسامح!! ولازم المسلمين (ببطل) [هذه عبارته] لازم المسلمين (ببطل هادا اللي اسمو جهاد] ويعلم الله أنه مامن دين سماوي يرضى بالمذابح والدماء ولكن مغالطتنا في ديننا واستغباءنا باسم التسامح أمر لا نرضاه بحال ، وحملات التنصير والتهويد والتعبيد للولايات المتحدة ومنطقها الهمجي في حرب الشعوب الإسلامية [بل حرب الفطرة في الأرض كلها] والالتفافات الماكرة القذرة على ديننا بشكل فكري أو ثقافي أو اقتصادي أو عسكري أو تجهيلي أمر لا ينطلي علينا ، وسنبقى نحاربه وننبه الناس إليه ونفضحه ما دامت أرواحنا فينا ، وإن كان لابد من الموت فيا مرحبا به ولا نعطي الدنية من ديننا.
ويا معسكرات التعذيب والاغتصاب في سراييفو .. ويا حملات الإبادة والتهجير في كشمير.. ويا جثث الأطفال الأتراك المتفحمة في ألمانية .. ويا أيها الرضع الذين لا يجدون الحليب في العراق .. ويا شعب كردستان المضطهد ويا أبطال حزب الله في جنوب لبنان .. ويا حرائر المسلمين في سجون اليهود .. ويا أطفال الحجارة الذين تتكسر عظامهم الغضة بحراب اليهود المجرمين .. ويا أيها المجاهدون المبعدون الصابرون من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تنخر فيكم الأمراض وتمنعون العلاج .. ويا جراح أبناء الصومال العزل في وجه قوى الكفر والإجرام .. ويا أيتها الأرض التي أتخمت بالدماء وامتلأت بالأشلاء وضجت بأصوات المعذبين والمقهورين ، وقتل فيها الشيوخ وذبح الأطفال وانتهكت أعراض النساء .. فلتشهدوا جميعا عدل العالم وإنصافه ورحمته ؛ بخرس الدول الكبرى ونفاق دول الغرب وصفاقة مجلس الأمن ووقاحة هيئة الأمم وصليبية أمينها العام.
ويا أيها الإسلام العظيم الذي صبغت أرضه بالنجيع الأحمر القاني ، وعانقت مآذنه حمرة الشفق الملتهب من دم الشهداء : أنت متهم بالهمجية والذبح والتقتيل ؛ أنت متهم بالإرهاب والأصولية ؛ أنت متهم بإثارة النعرات وتشريد الأمم وحرمان الكفرة من السلام ، وإقلاقهم وهم يخططون لاستعباد شعوب الأرض ، وإياك أن يظهر من أبنائك صلاح الدين جديد .. يدخل القدس فيعفو ويصفح ويدخلها الصليبيون فيذبحون في مسجدها سبعين ألفا! ورغم ذلك ينتصر صلاح الدين! وكم من المهازل تحوي هذه الحياة!
رغم كل الظروف المهلكة والرياح العاتية .. رغم كل ذلك نقول بثقة أن الإسلام قادم .. قادم ولن يستطيع أن يطوي أشرعته أحد .. ومناهج الأرض المنحرفة كل يوم تشهد إفلاسا مبينا ؛ فتسعى لتبطش وتسفك تغطي عوارها! (والله متم نوره ولو كره الكافرون)19.
ربما كان بأس المسلمين شديدا فيما بينهم في بعض الظروف والأوقات .. ولكن سلوا الأقليات التي عاشت بينهم: لقد كانوا أرحم أمة ، وإن مناهج الأرض لا يكاد يوجد فيها شيء اسمه رحمة ؛ لأن أغلبها مذاهب عمياء ليس لها إله تدعوه باسمه ( الرحمن ) وليس لها قائد هاد يكون لها رحمة مهداة ؛ فهي مفلسة ابتداء وانتهاء ، ولعلها تشبه المشركين الأُوَل الذين لما نزل قوله تعالى : (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعو فله الأسماء الحسنى)20. سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: (يا الله ؛ يا رحمن ؛ فقالوا: كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو بإلهين)21 ؛ عميان قلوب وعقول ؛ أصحاب مغالطات وتفلسف وإلقاء شبهات ؛ وتعالى الله الملك الحق المبين.
إن في آيات الله الحسنى وأسمائه آفاقا واسعة وفي خلق نبيكم أسوة ، والسعيد من اتبع واقتدى واقتفى ، والدنيا ساعة والصبح قريب ولكنكم قوم تستعجلون.
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون.
خلق التواضع : من خصال أهل القرآن
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ؛ من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن الهادي سيدنا محمداً عبد الله ورسوله جاء بالهدى ودين الحق للناس كافة بشيرا ونذيرا.
عباد الله اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ؛ أما بعد فان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، ومن جملة إعجازه بناؤه لحملة العقيدة الربانية ، وإن الأمة تبقى بخير مادام فيها رجال ونساء يتحققون بأخلاق القرآن ؛ ينفون الخبث ويسطعون أقمار هداية في بحور ظلمات الجاهلية ، ويفضحون بخلقهم القرآني النبيل سلوك أهل الباطل ؛ حتى يتضح للكل أن الانحراف جهل كله وضلال كله وظلمة كله ، وأن معاقد الخير كلها إنما هي في القرآن ومن القرآن وبالقرآن ، ومن خصال أهل القرآن : خلق التواضع وهو أدب رفيع يكتسبه المؤمن من متابعة الأنبياء ، وقد ورد في الصحيح أن موسى عليه السلام سُئل: هل في الأرض أحد أعلم منك؟ فقال: لا أو حدثته نفسه بذلك ؛ فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه وأراد تعريفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه 1 فكانت قصة موسى مع الخضر عبرة لكل مؤمن أن يتواضع أبدا وينسب العلم إلى الله تعالى ، ومن متابعة الأنبياء جواب عيسى عليه السلام : (قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنتُ قلته فقد علمتَه تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك انك أنت علام الغيوب)2 ، وقام نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم ليلة بآية يرددها3: (إن تعذبهم فانهم عبادك وإن تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم)4 وفي حديث مسلم أنه (رفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى)5.
فمن أخلاق الأنبياء معرفتهم بجلال الله تعالى وعظمته والتأدب معه غاية التأدب ، والمتابع لهم صلوات الله عليهم يتعلم منهم آداب العبودية ويكتسب لوازم الهداية من رحمة الخلق وحب الهداية والتذلل لله في مواطن السجود فيورثه ذلك خلق التواضع ، وروح التواضع كما يقول ابن القيم رحمه الله: أن يتواضع العبد لصولة الحق ويخضع لها وينقاد إليها فلا يقابلها بصولته عليها.
ولا تصح لك درجة التواضع حتى تقبل الحق ممن تحب وممن تبغض ؛ فتقبله من عدوك كما تقبله من وليك وإذا تم هذا المقام للسالك إلى الله تحقق بقوله تعالى : (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين)6 فإنه ليس للمؤمن من نفسه شيء ، وتمام التواضع لله أن يكون العبد معه كما يريد سبحانه لا كما يريد هو ؛ فإن كان أمر الله في الذلة على المؤمنين ؛ كان [العبد]كذلك وإن كان أمر الله تعالى بالعزة على الكافرين كان المؤمن كذلك ، وعند بعض الناس آفتان الأولى: آفة الذلة على المؤمنين ، والذلة على الكافرين معاً وهذا اتباع هوى أو تأثر بأهل انحراف وخبث أو جبن غالب وهلع قاتل ، والآفة الثانية : آفة العزة على المؤمنين ،والعزة على الكافرين ، وهذه نفس شيطانية عصبية ليس لها من آداب العبودية حظ ولا نصيب فهي سهم يرميه شيطان ويؤزه بالحقد والانتقام ، وأسوأ من الآفتين خصلة كفرانية محضة ، وهي العزة على المؤمنين والذلة على الكافرين ولا ترى كفورا ولا صاحب نفاق ولا عدوا لله ورسوله وللمؤمنين إلا وله منها المكيال الأوفى.
والسلامة من الآفات إنما تكون في الاعتصام بالكتاب والسنة ومعرفة إعجاز التوازن في بناء الخلق والسلوك ولازال دأب المؤمنين معرفة حقوق الله فيكتسبون بذلك التواضع الذي هو كما قلنا الخضوع للحق والانقياد له فيكون منهجهم دائما (الذلة على المؤمنين والعزة على الكافرين) ومما قد يبتلى به بعض من ينطلقون باسم الدعوة إلى الله ؛ ماتراه عند بعضهم من جفاء الخلق وغلظة الخطاب مع المؤمنين والترفع عليهم والتكبر على علمائهم وعوامهم ؛ مما تشك معه بأنهم قد انصرفوا يوما إلى تهذيب نفوسهم بأخلاق الأنبياء قبل انصرافهم إلى التصدي للدعوة إلى الله ؛ بطريقة تنفر الناس من الدعوة وتحملهم على إساءة الظن بالدعاة وزيادة البعد عن الإسلام ؛ وهم مخالفون بذلك قوله تعالى (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين)7 وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد)8 وصدق الله تعالى يصف سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم : (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)9 وقد كان عليه الصلاة والسلام آية في الرحمة والشفقة والتواضع يمر على الصبيان فيسلم عليهم وتأخذ الأمة بيده فتنطلق به حيث شاءت ، وفي بيته يكون في خدمة أهله فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة ، ولم يكن ينتقم لنفسه قط وما ضرب امرأة ولا خادما ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يخصف نعله ويرقع ثوبه ويحلب الشاة لأهله ويأكل مع الخادم ويجالس المساكين ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما ويبدأ من لقيه بالسلام ، ومن خلق هذا النبي العظيم المتواضع انسكب الخير ألوانا في الأمة المسلمة خلال عصورها وحتى اليوم وبقي رجالها يعلمون الناس التواضع لله ويفضحون المنحرفين بسلوك استقوه من معين الأنبياء ؛ قال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا ؛ فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة فأردت أن أكسرها! فرحم الله عمرا ، ورحم الله أمة فيها مثل عمر ، وهذا الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز بلغه أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه : بلغني أنك اشتريت فصا بألف درهم فبعه [يا ابن الأمير] وأشبع به ألف بطن واتخذ خاتما بدرهمين واكتب عليه: رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه.
وسارت معالم التواضع فمن رؤسائها الشافعي رحمه الله إذ يقول: كلما ازددت علما ازددت معرفة بجهلي ؛ وصار شعار أهل العلم : نصف العلم أن تقول لا أدري.
ومن التواضع أن يعرف الإنسان لمن علموه أو سبقوه فضلهم ؛ فكان من كريم خُلُق السلف ؛ منهجهم : الحر من راعى وداد لحظة أو انتمى لمن أفاده لفظه ؛ وأحكمها الشافعي لما قال لأصحابه حاضا لهم على التواضع ومعرفة الحقوق : من ساوى بنفسه فوق ما يساوي رده الله إلى قيمته ؛ ففاقد التواضع مغرور يعطي نفسه قيمة هي أكبر مما يستحق فيفضح نفسه ؛ كرجل سمعنا عنه شارك في مؤتمر إسلامي وطرح مغالطات فقام شاب نبيه يستدرك عليه ؛ فما وجد الرجل حجة في وجهه البتة إلا بأن قال له : كيف يخاطبني مثلك وماذا لديك من الشهادات؟ ألا تعلم أني أحمل كذا دكتوراه وكذا.. وكذا.. فأفحم الناس بجهله وغروره وفضح نفسه10، وكذلك كل مغرور لا تكون عنده حجة فيقول : أنا عملت كذا وكذا ، وفعلت كذا ... فماذا فعلتم أنتم؟ وربما كان يخاطب من سبقوه في كثير من الأمور وهو لا يدري! وأول ما سبقوه به نجاتهم من العجب القاتل فإن العمل الصالح لا يرفع وفيه عجب ، فإن اجتمع معه حب محمدة الناس أو المصانعة والرياء لهم فهناك المقتل ، والعامل لله لا يحتاج إلى بوق ينفخ فيه ليري الناس فضله وإنما يزكيه صالح عمله ، والعمل إن لم يقترن بالإخلاص ، ولم يكن التواضع مفتاحه والانقياد للحق سبيله فهو مهلكة ، وقد ذكر الإمام السرخسي في كتابه شرح السير الكبير: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القتال في بعض أيام خيبر ؛ فقاتل رجل فقتل ؛ فقال صلى الله عليه وسلم :
لاتحل الجنة لعاص)11.
ومما ينسف العمل: فقدان التواضع في قبول النصيحة فإن المؤمن يطلبها أبدا ويتواضع لحاملها والحكمة ضالته ؛ أما المتكبر عليها فيقال له ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه : إن من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه اتق الله فيقول عليك نفسك [لا تتدخل في الأمر] أنت تأمرني!)12. والموفق من فقه ما قاله السلف رضي الله عنهم: الناس يمدحونك لما يظنونه فيك فكن أنت ذاما لنفسك لما تعلمه منها فإن الأحمق من ترك يقين ما عنده [وعلمه بنفسه يقين] لظن ما عند الناس [وعلم الناس به ظن] ؛ لهذا لما مدح أحد الصالحين بكى وقال يناجي الله تعالى:
يظنون بي خيرا وما بي من خـير ولكني عبد ظلوم كما تـدري
سترت عيوبي جميعا عن عيونهـم وألبستني ثوبا جميلا من السـتر
فلا تفضحني في القيامة بينهـم ولا تخزني يارب في موقف الحشر
أما بشر الحافي فعلم قدر نفسه بين يدي الله تعالى فقال: لو كانت للذنوب رائحة ما قدر أن يقترب مني أحد [فماذا ينبغي أن نفعل نحن] وهو الذي لما سمع بأن الإمام أحمد بن حنبل مصفد في الأغلال نظر إلى ساقيه وقال: ما أقبح أن لا توضع الأغلال في هذه الساق ؛ نصرة لأحمد رضي الله عنه ، وحملها الخلف عن السلف حتى قام سلطان الزهاد إبراهيم بن أدهم ، وكان من الملوك وأبناء الملوك فترك ذلك كله وذهب للرباط على ثغور الشام ، ولما ضربه رجل لم يعرفه يوما ؛ طأطأ رأسه وترقرقت الدمعة في عينه وقال: اضرب رأسا طالما عصى الله تعالى! [وما يحمد الإنسان إذا ترك الناس يضربونه] ولكنها تربية لنفسه وتذكيرا لها بالتواضع في جانب الله تعالى ؛ فإن نفوسنا لو تُعاتَبُ على ما اجترحت لما حق فيها إلا قوله تعالى (ولو يؤاخذُ الله الناسَ بظلمهم ما ترك عليها من دابة)13. فان الإنسان يلزمه تذكر نقصه ليسعى نحو الكمال ؛ أما إن ظن بنفسه الكمال فهناك أول الهلاك ، ومن العبر المخيفة المعاصرة في الدعوة الإسلامية قصة رجل من كبار الدعاة ؛ حاول احتواءه المخلطون وأصحاب الأغراض فما استطاعوا تشويش أفكاره! فقدموه يوما للصلاة إماما وأكبرُ زعمائهم وراءه! فما أطاق عقله ذلك ، وظن أنهم إنما قدموه لأنه صار الرأس من دون منازع ولم يدر أنها خدعة دخلت إليه من ثغرة في نفسه فخدع بهم وبتبجيلهم واحترامهم الكاذب .. ثم خرج ما في قلبه على لسانه! فصار يقول لمن يلقاهم : صليت إماما بفلان .. صليت إماما بفلان .. ثم دخل معهم وأساء مثلما أساءوا .. ولو تفكر وأمثاله قليلا في قوله تعالى ( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا )14 لاتعظ وعرف قدر نفسه ؛ أما الموفقون فيسيرون على نهج الأنبياء تواضعا واقتداء بسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم وقد وصفه تعالى بقوله (وإنك لعلى خلق عظيم)15 ؛ فتسمع من أخبارهم أن العلامة الشيخ إبراهيم الغلاييني رحمه الله أتاه طالب تركي غاب طويلا وأراد الاعتذار للشيخ عن غيابه [والأتراك عندهم أدب عجيب مع العلماء] فقال للشيخ وعينه دامعة : "أنت مثل الكلب" وهو يريد أن يقول : "أنا مثل الكلب" [أي تقصيراً] فغلط في النسبة ؛ وصار الشيخ رحمه الله يبكي ويقول: يا ليتني يا بني أكون مثل الكلب حتى لا يحاسبني ربي [ لأنه إن حاسبني ]ولم يغفر لي لأكونن شرا من الكلاب ؛ فأبكى جلاسه بافتقاره إلى الله وتواضعه وانكساره!
وهذا مولانا إلياس الكاندهلوي .. يشد الناس اليه الرحال في طلب العلم والنصيحة ،وقد أتى قوم لزيارته ، وفي مجلسه عشرات من الناس ؛ فدخل إليهم من قدم لهم الشاي جميعا بنفسه وجلس ؛ وهم ينتظرون الشيخ ؛ فقالوا : متى يدخل الشيخ؟ فقال الجالسون : الشيخ هو الذي يقدم لكم الضيافة فعجبوا لإكرامه ضيوفه وتواضعه على جلالة قدره وكبر سنه .
وهذا العالم الصالح الشيخ حمدي الجويجاتي رحمه الله وقد نفعني الله به ؛ كان في أحد المساجد فدخل أحد كبار العلماء فصلى ثم أتى فسلم عليه ؛ فلما انصرف قال لي الشيخ: انظر كم هو متواضع هذا العالم! فقلت له : وكيف هذا يا سيدي؟ فقال: أما رأيته كيف أتى وسلم عليَّ ؛ فلولا تواضعه لما فعل ذلك ، وماذا نكون بجانبه من العلم ؛ وكان الشيخ حمدي رحمه الله وقتها قد جاوز الثمانين ؛ وهؤلاء القوم الصالحون ؛ إنما كانوا وراث نبوة باتباعهم الكتاب والسنة ؛ فبناهم القرآن أهل حق وتوازن وتواضع لله ؛ تهفو إليهم القلوب وتخرب الأمم من دون أمثالهم ، وما كان تواضعهم ضعفا بل انقيادا لما يحبه الله ، وإلا فقد كانوا في مواطن الجهر بالحق أول الناس..
وبعد كل ذلك يلزم المؤمن وتخصيصا الداعية إلى الله ؛ أن يعرف ما ألقاه إليه الإمام ابن القيم في مدارجه إذ يقول: "وليحذر العبد كل الحذر من طغيان (أنا) و (لي) و (عندي) فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلي بها إبليس وفرعون وقارون .. فأنا خير منه : لإبليس .. و لي ملك مصر: لفرعون .. و إنما أوتيته على علم عندي : لقارون ، وأحسن ما وضعت أنا في قول العبد : أنا العبد المذنب المخطئ المستغفر المقترف ونحوه ، ولي في قوله : لي الذنب ولي الجرم ولي المسكنة ولي الفقر والذل ، وعندي في قوله : اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي" اللهم نحن عبيدك المذنبون المقصرون المستغفرون ارحم فقرنا وذلنا بين يديك واسترنا يا ستار بسترك الجميل .. اللهم اغفر لنا جدنا وهزلنا وخطأنا وعمدنا وكل ذلك عندنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم ..
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون.
10- رحم الله العلامة المتقن الشيخ عبد الفتاح أبي غدة إذ يقول بلسان حال من يدخل الجامعات ليأخذ الدكتوراه دون أن ُيحصل علما :
ودخلت فيها جاهلا متواضعا وخرجت منها جاهلا دكتورا! (ويجوز أن تقول: مغرورا)
فكيف لو علم ما صار بعد وفاته بسنوات قليلة من كثرة البلوى بشراء شهادات الدكتوراه بالنقود ومن جامعات وهمية! ثم لا يستحي مدعي إحدى تلك الشهادات من أن يقرن اسمه بها ويتصدر بها في المحافل ثم يلقى الناس بوقاحة وعجرفة! لأن معه دكتوراه! والتي صار بعض حملتها يتناقشون في العقوبات التي ينبغي أن يعامل بها طلاب الدراسات الإسلامية في حال قيامهم بالغش في الامتحانات! إلى أن قال أخ كريم لبعض أولئك : كيف ستحاسبون الطلاب وشهاداتكم التي يحملها بعضكم [كحملة الأسفار] كلها غش وكذب وتزوير!
وقلت لأحدهم : ما هذه الحال التي صارت فيها شهادة [الدكتوراة في الشريعة الغراء] تشترى بألف دولار فقال: لو كانت بألف دولار لكان الأمر يسيراً ، ولأخذتها من وقت بعيد ؛ لقد وصل ثمنها إلى ثلاثة آلاف دولار !!! وما مضت مدة يسيرة حتى وجدت صاحبنا قد قرن اسمه الكريم بها ؛ فيا ضيعة العلم في مثل هذا الزمان .
وأخذ أحدهم تلك الشهادة العظيمة ؛ فقال له أحد العلماء : الناس إذا أكرمهم الله بالعلم ، أحبوا أن ينتفع الناس به ؛ فأين رسالتك العلمية تدل على علمك ؛ فسكت صاحب الشهادة المزورة ؛ فقال له العالم : أنا أتحداك أن تنشر رسالتك!! إن كانت هناك رسالة ؛ بل أتحداك أن تنشر أربع صفحات منها !!!
وزعم بعضهم وهذا أمر خطير جداً أن الجهاز الديني ستكون له هيبة أقوى ، وأن الحكومات وأجهزة الأمن! ستتعامل باحترام زائد مع حملة الشهادات العليا [ولو كانت مزورة] والحق أن الحكومات والمثقفين والعوام ، والمجتمعات ، بل أجهزة الأمن في كل الدنيا تعرف النائحة الثكلى من المستأجرة ، ولا تحترم بل تزدري أولئك المزورين ، ولو استخدمت بعضهم استخدام النعال التي ترميها بعد اهترائها ، وماداموا قد قبلوا الغش في شريعتهم ودينهم فأي احترام يبقى لهم!!
ومن باب النصيحة نقول لكل سالك طريق علم : إياك من الغش والتزوير ، والدعوى الكاذبة التي ستلقى أُمتك ثم الله بها ، واسلك سبيل علماء الأمة العظام الذين كان علمهم هداية وإيماناً وجدا واجتهادا وتعبا وبذلا ونورا قذفه الله في قلوبهم ؛ فصلحت بهم الأرض ، وعاشوا سادة أعزة ، وماتوا قادة خير كراما .
إن من أعظم البدع المهلكة والمسيئة إلى العلم وأهله تلك الأحوال المزرية التي صار فيها بعض حملة العلم يتاجرون باسمه وقد ضيعوا معناه وروحه وسمته وهديه ، وصدق الهادي صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول : (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ماشئت) .
11- محمد بن أحمد السرخسي ، شرح السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني ؛ تحقيق د.صلاح الدين المنجد ؛ معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية ، القاهرة ، مطبعة شركة الاعلانات الشرقية ، 1971، 1/173.
ولم أعرف سنده ، إلا أن في الصحيح قصة مدعم إذ جاءه سهم عائر، فقال الناس: هنيئا له الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل، والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارا) وهي في البخاري ، المغازي 3993.
12- أخرجه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ، وانظر مجمع الزوائد : المجلد 7 ، كتاب الفتن (32) ، الحديث12162. وفي معجم الطبراني الكبير ، حرف الظاء ؛ سنده : حدثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو نعيم ثنا سفيان عن أبي إسحاق عن سعد بن وهب عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ولم يتح لنا المجال للتأكد من اتصال السند.
مواضيع مماثلة
» * آداب الخطبة الكفاءة في الزواج _ عدم اختلال الاسرة - عوامل الثبات
» * قواعد ومسائل جفرية متنوعة - مسائل الخوارزميات
» * قواعد نزول الاوفاق الطبيعية من المثلث الى المعشر
» * قواعد جفرية : الملفوطية - في مستقبل الاحوال - البطون السبعة
» * قواعد وأسس الطريقة القادرية - ياولدي هذا تصوفنا - الربانية
» * قواعد ومسائل جفرية متنوعة - مسائل الخوارزميات
» * قواعد نزول الاوفاق الطبيعية من المثلث الى المعشر
» * قواعد جفرية : الملفوطية - في مستقبل الاحوال - البطون السبعة
» * قواعد وأسس الطريقة القادرية - ياولدي هذا تصوفنا - الربانية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى