* قصص قصيرة : السرداب والسجادة المسحورة
صفحة 1 من اصل 1
* قصص قصيرة : السرداب والسجادة المسحورة
السرداب
مُساهمة طارق فتحي في الثلاثاء 5 أبريل 2016 - 14:44
1
أستأجرنا بيتاً قديما في اقدم محلات بغداد الرصافة في العام 1958 ريثما يتم اكمال بناء دارنا الجديدة . فيه سرداب كبير مظلم في النهار ومخيف جدا حيث كنا نسمع اصوات مبهمة تصدر منه ليلا ونهاراً حتى نحن الاطفال آلفنا الاصوات ولم نعد نهتم بها كثيراً .
وحدث ذات يوم من العام نفسه ان وضع بائع السجاد بضاعته أمام منزلنا قائلا :
اختاري ما يعجبك وهو يحدث والدتي . أخذت تقلب في السجاجيد القليلة التي ألقاها على الأرض وكانت جميعها متشابهة مع اختلافات بسيطة في اللون ، عدا سجادة واحدة بدت لها مميزة بزخارفها وخامتها. لاحظ البائع اهتمامها بها فأخذ يخترع لها - بخبرته - مزايا متعددة واستخدامات مختلفة ومنافع كثيرة لهذه السجادة .
وحينها قلبت السجادة على وجهها الآخر لتجد آثارا مغسولة لبقعة كبيرة ، سألته
"هل هذه السجادة جديدة أم مستعملة ؟" .. أظهر البائع غضبا مصطنعا وهو يؤكد لها أنه لا يبيع إلا بضاعة جديدة يأخذها من محل شهير ويدور بها على المنازل وأنه ليس كباقي الباعة النصابين ، أما هذه البقعة فهي ربما قليل من الماء انسكب على السجادة في المخزن أثناء التنظيف ، وهي ستزول مع أول غسلة وحتى إن لم تزل فهي في الجهة السفلى من السجادة ولن يراها أحد.
تعرف أنه يكذب وأن كل بضاعته مستعملة يجمعها من البيوت التي تستغني عنها ويغسلها أحيانا بنفسه أو في مغسلة إذا كانت في حالة سيئة جدا .. وإلا لماذا يبيع هذه السجادة الأنيقة بهذا الثمن البخس ؟
وقد وجدت والدتي في هذه البقعة سببا وجيها لاعطائه أقل مما طلب مقابل الحصول عليها وهو لم يعترض كثيرا في الواقع .. حمل السجاجيد الباقية وانصرف ، ودخلت هي لمنزلناا بالسجادة..
في غمرة فرحتها بالصفقة الرابحة ، استيقظت العمة كميلة التي تعيش معنا في المنزل.. ففردت السجادة أمامها وهي تسألها عن أفضل مكان لوضعها ، وعرضت عليها أن تأخذها في غرفتها إن رغبت خاصة والشتاء قادم ..
وضعت العمةا نظارة الرؤية وتطلعت للسجادة المفرودة لثانيتين ثم صاحت : "هذه السجادة لا تدخل هذا الدار ، أعوذ بالله ، قلبي منقبض منها !"
دهشت والدتي من تصرف عمتها وحاولت اقناعها بالهدوء واللين ، إلا أن العجوز خلعت نظارتها ورفضت أن تلقى نظرة أخرى على السجادة ولا أن تناقش قرارها برفض السجادة تماما في أي مكان في المنزل ..
ولم يكن بيد والدتي حيلة حتى حضور والدي فاستقبلته باكية لتخبره بتصرفات العجوز التي تتعمد مضايقتها دائما ، فأشار عليها أن تتحلى بالحكمة وان تنادي بائع السجاجيد ليأخذ سجادته وأن تستبدل بها سجادة أخرى .
أما العجوز فقد هزت رأسها بتعجب من بنات هذه الأيام اللاتي أصبن بالعمى في البصيرة وإن كانت أبصارهن سليمة ، إذ كيف أن هذه السجادة لا تصلح لمنزلهم ..
لا تصلح أبدا ..
2
الذي حدث هو ان والدتي فرشت السجادة في السرداب المظلم وتركته هناك لعلمها ان لا احد يدخل السرداب لا في الليل ولا في النهار . بأستثناي ابي وفاطمة انه مهجور تماماً الا من بعض الحاجيات واللوحات القديمة المتروكة .
فاطمة امرأة كردية جميلة ومثقفة جدا تعاني من مرض نفسي او ما شابه ذلك اتى بها والدها من الشمال لاغراض علاجها في بغداد وتبنى والدي الموضوع كونه وابو فاطمة صديقان حميمان ايام زمان قبل زمانهم هذا . فاطمة هي الوحيدة القادرة على دخول السرداب ذو السلالم الخمسة هبوطا تحت الارض .
مرت الايام مسرعة واخذت امور غريبة عجيبة تحدث في منزلنا . وكانت الاشياء تختفي من المنزل دون ان نعثر عليها قميص والدي وساعته الذهبية واختفاء بعض الفواكه واشياف الرقي المقضومة . كثرت المعارك الكلامية بين امي وأبي على غير عادتهما . في كل يوم تقريبا يختلفان على امر ما . وعلى اثر هذه المشاحنات والسجالات الكلامية قرر ابي ان نسافر جميعا الى الموصل كعادتنا في كل سنة منتهزين فرصة حلول العطلة المدرسية الصيفية وكان لنا ذلك
كنا والحق يقال نتهم فاطمة وتنكر هي أنها فعلت ذلك ، وأحيانا تختفي الأشياء تماما ! وهذا عجيب جدا ، فهي لا تخرج من البيت فأين ذهبت بساعته التي يضعها في نفس المكان كل يوم منذ سنوات ولا يمكن أن ينسى مكانها أبدا .. لو كانت تخرج لقال إنها سرقتها وباعتها .
طرد ابي هذا الخاطر من ذهنه ، فاطمة لا يمكن أن تفعل هذا ، ثم أنه لا يحرمها من أية نقود تطلبها ، ولا يبخل عليها في أكل أو شرب أو ملابس ، وبين الحين والآخر يهبها هدية أو يعطيها مبلغا من المال في يدها ..
التفسير الوحيد هو أن فاطمة ضاقت بسجنها وأن حالتها النفسية هي التي تدفعها لهذه الأفعال الغير مفهومة .. غدا سيستشير ابي صديقه الذي درس الاجتماع وعلم النفس وسيرشده للحل .. مع أن هذا الصديق لا يعمل في هذا المجال ، لكنه الوحيد الذي يمكن أن يأتمنه على أسرار العائلة ، لا يمكن أن يذهب بفاطمة لطبيب نفسي حقيقي ويسيء إلى سمعتها وسمعة عائلتها..
عندها أحس والدي بحركة مريبة في السرداب ! لم يسمع أي صوت ولكنه مجرد احساس أن شيئا ما يتحرك هناك .. فاطمة تنام قبله نوما عميقا ونادرا ما تستيقظ قبل الفجر ،
فماذا عساه يكون في الشراب إذاً ؟
تسلل بحذر إلى الزاوية التي يمكن أن يرى منها السرداب ثم تردد في أن يلقى عليها نظرة.. فالذي يتحرك دون أن يحدث صوتا في الليل هو شخص أو شيء رهيب .. لعله لص محترف !
تراجع للخلف ودخل غرفة فاطمة ، أيقظها بهلع وقال بصوت منخفض : "هناك لص في السرداب !" .. والحق أنها لم تخف ، فوجود ابي سيحميها من اللص ، بل إن شيئا من السرور دخل على نفسها لأن اللص أمر جديد في حياتها المملة ، سيكون هناك الكثير من الإثارة وسيجري الأدرينالين في دمائها لأول مرة منذ سنوات .
قامت مع أبي وبحرص شديد اقتربا من السرداب ، وبدا واضحا لهما أن هناك حركة فيها بسبب انعكاس الضوء على الحائط المقابل .. تسمرا مكانهما للحظة اختفت خلالها حركة الضوء الساقط على الحائط وعاد إلى سكونه.. تبادلا النظرات وقررا أن يقتربا أكثر ببطء حتى أصبح السرداب كله أمامهم ..
3
لم يكن هناك أي شيء غريب في السرداب .. كل قطع الأثاث البسيط في مكانها واللوحات مكانها وحتى الأتربة التي كانت تعلو الاشياء كما هي .. بحسم قال ابي : يبدو أني متوتر من العمل ومن التفكير في بعض الأمور .. وربما كان هناك فأر وخرج من حيث دخل إنه شباك المطبخ المكسور بكل تأكيد .. " واستدار للمطبخ ليضع لوحا من الخشب على القطعة المكسورة من الشباك مؤقتا حتى يستدعي النجار لإصلاحه.
أما فاطمة فلم تقتنع بهذا التفسير إنها تعيش في البيت وتعرف كل قطعة فيه .. بل إنها تعرف ترتيب ذرات الهواء في كل غرفة كيف كانت عندما تركتها آخر مرة .. واحساسها الداخلي يخبرها بأن ما كان في السرداب ليس فأرا بالتأكيد .. وبما أن قطع الأثاث القديم ليست من عادتها أن تتحرك ، فإن الأحتمال الباقي هو أن السجادة هي التي تحركت .. وارتجف قلبها لهذا الخاطر وهي تسرح في الزخارف العجيبة التي زينت بها السجادة وخيل إليها أنها عبارة عن وجه ، وأن الوجه يبتسم لها !
كانت تعرف أن هذه خواطر فارغة وغير حقيقية .. السجاد لا يتحرك ولا يبتسم ، هذه حقيقة يعرفها الجميع .. وقد حان الوقت للقيام بتنظيف الأتربة من السرداب وتجاهل هذه الأوهام .. كان ابي خارج المنزل وهي لا تجد ما تفعله ككل يوم . اتجهت السرداب وبدأت تنفض التراب عن الكراسي وتمسح اللوحات ..
استغرقت في التنظيف ونسيت كل ما يخص السجادة التي استقرت على الارضية ، تعمل في بطء فهي ليس لديها شيء آخر تفعله حتى نهاية اليوم. صعدت فوق كرسي لتمسح لوحة وألتفتت عفويا إلى الأرض حيث ستسقط الأتربة التي تنفضها من اللوحات ، والتي ستكنسها بعد ذلك في الخطوة الأخيرة من عملية التنظيف .. ولكنها تسمرت في مكانها عندما لاحظت تلك الآثار .. كانت هناك آثار واضحة لقدم شخص سار على هذه البقعة !!
نزلت من على الكرسي وأخذت تتفحص الآثار .. ففي الأسبوعين السابقين لم تسر هي في هذا المكان من الأرض بالتأكيد ، ولا ابي يسير حافيا على البلاط هكذا .. ثم إن هذه القدم أكبر بكثير من قدمها أو قدم والدي .. هناك شخص ما كان يسير هنا ، ويبدو أنه نسي أن يزيل آثار أقدامه أو لم ينتبه لها أصلا ..
لكن السؤال الذي دار بذهنها هو : من أين جاء صاحب هذه الآثار ؟ وأين اختفى ؟ هل هو رجل خفي يسير ولا يراه أحد لكنه يترك آثاره على الأرض كما يحدث في الأفلام ؟
كان لديها شعور بأن للسجادة دور في هذه الأمور كلها ،لعلها هي التي كانت تتحرك ، وربما كان لها أرجل أيضا .. ورغم سذاجة الفكرة إلا أنها لم تستطع أن تقاوم رغبتها في رؤية السجادة من الجهة السفلى لتتأكد من أنها بلا أرجل !
السرداب 4 -5 - 6
السرداب 4
طارق فتحي
قلبت السجادة ، وخاب ظنها عندما رأتها سجادة عادية جدا . كل ما يميزها هو بقعة من سائل ما ، يبدو أنه انسكب عليها وقد غسلت آثاره من الجهة العلوية فقط . واضح أن هذه السجادة مستعملة ، وهي لم تتفاجأ بالأمر فمنذ أن دخلت بها امي حاملة إياها هي والبائع وهي تدرك هذا. إن للسجاد الجديد رائحة وملمس لا يخطئهما أحد ..
القصة تتضح إذن ، هذه سجادة انسكب عليها شيء فتخلص منها أصحابها ، وقد غسلها بائع السجاجيد وباعها .. لكن ما علاقة هذا بآثار الأقدام ؟ وما الذي يتحرك في السرداب في الليالي ؟ بل أين أختفت ساعة الاب والأغراض الأخرى ؟
خطر تفسير واحد ببالها وهو تفسير علمي تماما ، نابع من متابعتها لبرنامج الدكتور مصطفى محمود عن العلم والإيمان وبعض حلقات الخيال العلمي الأجنبية ورواياتين أو ثلاثة للدكتور نبيل فاروق أحضرهم لها الاب ذات يوم كهدية صلح بعد أحد الخلافات ..
التفسير هو أن هذه البقعة هي فجوة بين عالمين ! هناك سائل رهيب انكسب على السجادة وفتح الحاجز الذي يفصل بيننا وبين الجن أو الأشباح أو أي مخلوقات أخرى . وهذه المخلوقات تخرج من البقعة لتمرح في الشقة وتسرق الأغراض ، ثم تعود إلى عالمها !
سوف يضحك الاب من هذا التفسير ويتهمها بالجهل ولن يصدقها أحد .. حتى هي نفسها ستشك في عقلانية الفكرة واحتمال حدوثها إذا جادلها الاب قليلا .. عندما يعود ستسأله إن كان هو صاحب هذه الآثار أو إن كان لديه تفسيرا أكثر عقلانية لوجودها ..
أما الآن فقد نوت أن تغسل آثار السائل التي على ظهر السجادة ، فإن لم تكن هذه الآثار بوابة بين عالمنا وعالم آخر ، فهي بقعة غير نظيفة يجب أن يتم غسلها بالماء والصابون المعطر والكلور.. جهزت أدوات التنظيف وبدأت العمل دون أن تدرى أن ما تفعله خطير .. وأن ما سيترتب عليه أشد خطورة !
5
عاد ابي في نهاية اليوم وقبل أن يخلع ملابسه أخذته فاطمة من يده إلى آثر القدم المطبوعة في التراب.. كانت قد غسلت السجادة جيدا وأزالت ما كان بها من أوساخ ولكنها لم تكمل تنظيف السرداب حتى تبقى آثار الشخص أو الشيء الذي كان يسير عليها موجودة ..
وعندما أتمت شرح نظريتها حول العالمين الذين انفتحا على بعضهما من خلال بقعة في سجادة الصالة ، مؤيدة كلامها بآثار الأقدام التي لم تكن للأب طبعا ، بدأ هو يحلل الأمور من وجهة نظر أخرى مستذكراً كلام صديقه ومستشاره في الأمور النفسية ، والذي كان قد فاتحه في مشكلة فاطمة على استحياء ..
حين قال له صديقه :
" فاطمه تعاني من الوحدة ، إن الحبس الأنفرادي كعقاب للمجرمين هو من أقسى العقوبات لما يحدثه من تدمير لطاقة الفرد الحيوية والنفسية ، وأنت مخطيء في تعاملك مع فاطمة ، وهي حاولت أن تنبهك بالكلام والنقاش وأحيانا بالشجار حول أي سبب مهم أو تافه ، فقط لتظهر لك عدم رضاها ..
وأخيرا عندما لم تفلح كل هذه الوسائل بدأت في محاولة لفت انتباهك بطريقة أخرى وذلك عندما تركت شباك المطبخ المكسور مفتوحا ليدخل منه فأر ، واستغلت وجود الفأر لتصنع قصة عن لص أو شبح .. ولا أستغرب إن كانت ستؤلف لك غدا قصة عن كائنات فضائية تخرج من المطبخ .
اسمع ياصديقي ، فاطمة بحاجة إلى أهتمام أكبر منك وبأن تفتح لها مساحة في عالم الواقع بدلا من أن تفتح لنفسها هي بابا لعالم الأوهام والأمراض النفسية المعقدة ، وعندها لن استطيع أن أفيدك وستضطر للذهاب إلى طبيب نفسي حقيقي .. أرجوك حاول أن تساعدها وإن كان هذا سيتطلب منك مجهودا أكبر وتذكر أن لا الهدايا ولا الأموال يمكنها أن تنفع من كان في الحبس الإنفرادي .."
لقد اختلقت فاطمة كل هذه الأحداث وربطتها مع بعضها بخيال تحسد عليه ولم تكتف بهذا ، بل صنعت هذه الآثار بمهارة .. إنها تبدو حقيقة لولا أنه يستحيل أن يكون هناك من سار في هذه المنطقة من السرداب دون علمه أو علمها.. كما أن أثر القدم الي صنعتها " فاطمة " تبدو غير متقنة ولا يمكن أن تكون أدمية أبدا ..
6
في تلك الليلة ساد الهدوء الشقة ولم تكن هناك أي أصوات غريبة ، حتى أن "فاطمة" قررت أن تنام نوما هنيئا بعد أن أغلقت بوابة الجحيم كما تصورت .. كانت تتخيل أنها لا تقل بطولة عن أقوى الرجال ، فهي بغسيلها للبقعة التي كانت على ظهر السجادة قد حمت الأرض كلها من شر لا يعرف أحد حدوده !
وفي غمرة فرحتها بالإنجاز الذي لم يعترف به الاب ، شعرت بالعطش فتوجهت للمطبخ لتحضر كوبا من الماء .. تحركت في خفة حتى لا يستيقظ احداً من في الدار منزعجا ، ولما اقتربت من اغلسرداب شعرت بحركة سريعة وخاطفة .. انتابها القلق من أن يكون انجازها الكبير في تنظيف السرداب لم يؤت كل ثماره وأن الفجوة لا تزال مفتوحة ، فوقفت خلف ستارة بعيدة تنظر للسرداب في الظلام متفحصة كل شبر فيها ..
كان كل شيء في مكانه ، لا يوجد ما يثير الاستغراب أو يدعو للقلق .. لكنها استمرت واقفة في مخبئها ربع ساعة لا تتحرك لتتأكد تماما من أن كل شيء على ما يرام.. وبعد فترة من الاختباء أدركت أنها لا فائدة مما تفعله فهمت بالعودة إلى المطبخ لتحضر كوب الماء ، عندما لمحت حركة خفيفة على سطح السجادة ..
لم تتبين طبيعة الحركة وهي بعيدة نسبيا عن السجادة ، وخافت أن تقترب فتتوقف الحركة .. انتظرت في مكانها حابسة أنفاسها وهي ترى خيوط السجادة تخرج منها وتدور حول نفسها في الهواء كأنها اعصار صغير ، ثم تتجمع في شكل غير واضح ..
مرت ثوان والشكل يتكون .. حتى ظهر بوضوح رغم الظلام رجل كامل ! رجل ضخم من خيوط ووبر مختلفة الألوان ، لكنها بدت متناسقة عليه كأنها لباس مزخرف وكان بها شبه كبير من زخرفة السجادة التي بدت في هذه اللحظات عارية إلا من بعض الخيوط القليلة التي بقيت متعلقة بأطرافها ..
كان وجه الرجل ينظر إلى زاوية غير التي تختفي فيها ، ولهذا لم يلمحها وهي تفتح فمها في انبهار وخوف دون أن يصدر عنها أي صوت.. قام رجل السجادة بتحريك جسده كأنه كان محبوسا في صندوق ضيق وتحرر منه.. أخذ يشد أطرافه في حركات أشبه بتمارين رياضية ، فبدت عضلاته المكسوة بالخيوط الملونة للسجادة في منتهى التناسق والجمال ، وأطراف الخيوط تتمايل مع حركاته في مشهد ساكن رهيب ..
كان هذا المنظر فوق احتمالها فشهقت في فزع شهقة قوية انتبه لها رجل السجادة ، فالتفت فجأة إليها والتقت عيناه بعينيها لمدة لا تزيد عن جزء من مائة جزء من الثانية ، تفكك بعدها فورا وعادت الخيوط إلى أماكنها في ثانية واحدة !
وعلى صوت الشهقة استيقظ الاب مفزوعا ومتضايقا في نفس الوقت ، متوقعا من منها حكاية جديدة تلفت بها انتباهه لمشاكلها التي يعرفها وقد قرر بالفعل أن يبدأ في حلها .. في كلمات متقطعة أخذت تصف له الرجل الذي تكون جلده من خيوط السجادة وكيف أنه كان يقف في السرداب ويتحرك ثم عاد مرة أخرى إلى السجادة عندما رأها ..
7
كان الوقت متأخرا وابي يروم النوم ليلحق بعمله في الصباح الباكر ، ولذلك وقف بعصبية على السجادة وأخذ يقفز عليها قائلا :"هذه هي السجادة .. لا شيء فيها ، لا رجال ولا نساء ولا شيء ، انظري إليها ، تعالي قفي عليها ، امسكيها.. هل فيها أي شيء غريب ؟ هل أصابك الجنون ؟ هل .." ثم قطع عبارته بغتة عندما لاحظ شيئا وأخذ يتأمل السجادة لحظة
قطعت تأمله فاطمة عندما ارتمت عليه باكية ، ورجته أن يلقي بالسجادة خارج المنزل .. وأن يأخذها الى اهلها في الشمال . ضمها إليه وأخذها إلى غرفتها مهدئا إياها دون جدوى ، إذ ظلت تبكي حتى الصباح رافضة أن تنام أو تتركه ينام إلا في نفس الغرفة جوارها قبل الفجر بقليل عندما نفذت طاقتها ونامت هي أيضا ..
أما ابي فقد استيقظ لعمله وارتدى ثيابه بينما فاطمة نائمة ، ومر بالسرداب ناظرا إلى السجادة محاولا تذكر شيء ما خطر على باله بالأمس لكنه نسيه .. هناك شيء غير مريح في السجادة لكنه لا يعرف ما هو .. نفض عن رأسه هذه الأفكار ونزل من البيت .. تاركا فاطمة نائمة وحدها ، مع السجادة .. أو بعبارة أدق مع رجل السجادة . حيث كانت العائلة جميعها مسافرة الى الموصل لقضاء فترة العطلة المدرسية الصيفية هناك ..
كان قد تأخر على ميعاد العمل بسبب سهرة الليلة الماضية .. فأسرع الخطوات نحو الطريق العمومي ليستقل سيارة أجرة.. لكنه لمح على ناصية الشارع المقابل رجلا يحمل سجاجيد ، إنه البائع الذي اشترى منه السجادة.. أسرع نحوه وحياه.. استقبله الرجل بترحاب عارضا عليه سجاجيده الجديدة ومذكرا إياه بأنه باع له في المرة السابقة سجادة مميزة. فقال ابي عندئذ :" هذا ما جئت لك من أجله ، كنت أريد أن أسألك من أي منزل أشتريت هذه السجادة التي بعتها لي من قبل ؟" ، بدأ الضيق على الرجل وحاول انكار أنه يبيع سجاجيد مستعملة ، وعاد يكرر حكاية شركة السجاد التي يعمل بها كمندوب مبيعات !
قال ابي : "اسمعني جيدا ، ساعطيك ثمن السجادة مرة أخرى لو أخبرتني من أين أخذتها ، أي بيت باعها لك ؟ إنه ليس بعيدا عن هنا بالتأكيد فأنت لن تقدر على حمل السجاد لمسافة كبيرة دون سيارة"
رد البائع وهو بين الرجاء في الانتفاع بالمال وبين الخوف على سمعته إن اعترف بأنها سجادة مستعملة :"أنا لم يسألني أحد من قبل هذا السؤال رغم أني أعمل في بيع السجاد منذ كنت طفلا.. لم يطلب أحد أن يعرف أين كانت سجادته قبل أن تصل إليه .. إن هذا سيسبب لي مشكلة مع أصحابها الأولين ولن يفيد صاحبها الجديد.."
قال ابي : "الجميع يعلم أن سجادك مستعمل وأنك تأتي به من المنازل ، لا تضيع وقتي من فضلك وأعطني عنوان المنزل الذي اشتريت منه السجادة ، إن السجادة تعجبني وأريد أن أعرف من أي مصنع حصلوا عليها وبكم ، لن يسبب لك هذا أية مشاكل .." ، وأخرج من جيبه بعض النقود ليعدها أمامه ..
قال البائع وعينه على النقود التي تتحرك في يد ابي : "لقد نسيت العنوان يا سيدي ، إن هذا الأمر كان من فترة طويلة".
ولكن النقود التي يعدها ابي وصلت إلى ما يساوي ثمن السجادة مرة ونصف ، وهو مبلغ لا يكسبه البائع إن عمل أسبوعا متواصلا خاصة في هذه الأيام التي ليس فيها بيع ولا شراء ..
8
قال البائع :"حسنا ، لقد تذكرت .. إن أصحاب هذه السجادة ليسوا هنا .. إنهم في حي (..) ، شارع (..) ، تدخل يمينا إلى شارع صغير ، ستجد محلا اسمه (..) وعلى الجهة المقابلة ستجد سيدة جالسة على كرسيها في الشارع ، اسألها عن منزل الأسطة (..) ، وحاول أن تخبرها في البداية أنك لست من الحكومة لأن مظهرك يوحي بأنك موظف ، وهي تبيع الدجاجات المذبوحة بطريقة لا تخضع لرقابة "الصحة" ، اذهب إلى المنزل على يمينك هي التي أخذت منها السجادة "
اختطف البائع النقود من يد ابي ، واستدار راجعا للشارع الرئيسي وهو ينوي ألا يبيع أو يشتري اليوم احتفالا بهذه المكسب.. رفع البائع يده وتحدث إلى أحدهم طالبا منه أن يحضر السيارة.. هنا فهم ابي كيف وصلت السجادة من ذلك الحي البعيد إلى هنا ، إن هناك سيارة ربما لصديق أو شريك للبائع تحمل السجاد من منطقة لأخرى .. بدا هذا منطقيا ، إذ لا يصح أن يبيع السجاد المستعمل لجيران في نفس المنطقة فيزور بعضهم بعضا ويشاهدون سجادهم ، وينكشف أمره ويعرف الناس أن السجاد كله مستعمل.
وضع ابي العنوان في جيبه ، وتوجه إلى عمله وهو لا يعلم لماذا أنفق هذا المبلغ الكبير على العنوان .. ربما يكون قد تسرع قليلا ، فماذا سيفيده معرفة أصحاب السجادة السابقين ؟ إن السجادة عادية تماما وليس فيها أي شيء مريب ، ماعدا شيء واحد كان قد لاحظه بالأمس لكنه لا يتذكر ما هو .. عموما العنوان لن يضر في شيء.. وفاطمة الآن في أمان ، فحتى لو كانت هناك وحوش تخرج من السجادة فإنها لن تغامر بالخروج في وضح النهار ..
هدأ باله وهو يدخل لمكان عمله ويجلس على مكتبه ويشعر أن الأمور كلها تحت السيطرة ، وهو لا يدري أنه قد ترك أخته التي كان يخاف عليها من نسيم الهواء وحدها في شقة صغيرة مع كائن ضخم مخيف .. كائن لا يعرف معنى الليل ولا النهار .. ولكنه يخرج من السجادة متى يحلو له ..
استيقظت فاطمة من النوم متأخرة ، وتذكرت أحداث الليلة السابقة ولكنها لم تكن خائفة فقد كانت تحلم للتو بحلم جميل ، فيه رجل قوي يحتضنها ويأخذ بيدها ويقبلها .. بينما تراقصت على شفتيه خيوط ملونة بتناسق بديع وكانت له نفس عين رجل السجادة..
إنها تلك الأحلام المركبة ، الرغبة في الزواج تداخلت مع شكل رجل السجادة لتصنع هذا الحلم العجيب .. وانتبهت فاطمة إلى أن رجل السجادة هذا هو أول رجل غريب تراه في حياتها غير أخيها منذ سنوات ! خرجت إلى السراب وجلست بالقرب من السجادة وأخذت تحدثها :
"لا داعي للاختباء ، أنا وأنت نعرف أنك موجود .. اخرج وكلمني ، أنا وحيدة مثلك .. أعرف أنك لن تؤذيني ، وأنا أيضا لن أضرك في شيء .. هيا .. تكون كما تكونت بالأمس ولا تخف .. لن يعود الاب الآن"
استمرت تتكلم هكذا دون أن يحدث شيء حتى بدا لها أنها جنت .. ولكن أطراف السجادة بدأت تتحرك .. خفق قلبها وارتعدت أطرافها كطفل يقرأ في كتب الجن غير مصدق لها وفجأة يظهر له جنيا ! أعادت كلماتها ورجاءها مرات ومرات ..
إنها وحدها في المنزل وليس هناك أكثر إثارة من مداعبة هذه السجادة الغريبة .. لكن السجادة لم تكن تلعب . إن اللعب ليس موجودا في قاموس رجل السجادة ، فعندما يناديه أحد بهذه العبارات فإن هذا معناه أن يخرج .. يخرج لمهمة محددة طال انتظارها ..
9
فجأة وبدون مقدمات تذكر ابي وهو على مكتبه في العمل .. زخارف السجادة التي رآها بالأمس لم تكن منتظمة ! هذا ما لفت نظره قبل أن تبدأ فاطمة في البكاء.. فعندما عاد الرجل بسرعة إلى السجادة لم تنتظم الزخارف في نفس الأشكال بالضبط ..
إذن ربما تكون فاطمة على صواب .. رغم صعوبة تقبل الفكرة ، لكنه التفسير الأقرب للمنطق لما حدث لزخارف السجادة .. ليس معقولا أن فاطمة هي التي فككت الخيوط والوبر وفعلت هذا ..
أخرج العنوان من جيبه واستأذن من عمله ليغادر مبكرا .. سمح له مديره بصعوبة فقد جاء متأخرا أصلا ، لكنه أخبره أن فاطمة مريضة وهو يرجو في داخله ألا يتجاوز الأمر مسألة المرض والخيالات ..
استغرق الطريق إلى ذلك المنزل ساعتين ، لكنه وصل المنزل الذي كانت ترقد على أرضيتها تلك السجادة الرهيبة ذات يوم.. طرق الباب بحرج ، وهو يحاول أن يتذكر الكلمات التي جهزها طوال الطريق ليقولها في هذا الموقف..
فتح الباب رجل عجوز يتحرك بصعوبة ، وإن كانت نظراته تشي بذكاء واضح .. أرتبك ابي قليلا وهو يشرح سبب حضوره :"لقد اشتريت سجادة من أحد البائعين و .." ، لم يكمل عبارته فقد قاطعه الرجل باشارة من يده داعيا إياه للدخول !
زال الارتباك عن ابي وحلت مكانه الدهشة ، فالرجل يبدو وكأنه يتوقع قدومه .. جلس ابي حيث أشار إليه الرجل وظل صامتا في انتظار أن يسمع منه شيئا عن السجادة ، لكن الرجل لم يتكلم .. فتنحنح ابي وقال :"هي سجادة جميلة ، ولكن فاطمة لديها خيال واسع ، تقول إن هناك رجل يخرج من السجادة .. طبعا أنا لم أصدق هذا الكلام لكن بالأمس فقط لاحظت أن زخارف السجادة قد تغيرت. لا أعرف إن كانت هذه تهيؤات أم حقيقة .. قررت أن أحسم الأمر وآتي إليك لتخبرني ما أمر هذه السجادة ؟"
لم يجب الرجل مباشرة ، بل التقط نفسين أو ثلاثة قبل أن يرد بهدوء :"اسمح لي أن أعرفك بنفسي في البداية ، أسمي هو "عماد" ، وأنا رجل عجوز وحيد لا يؤنس وحدتي إلا أحفادي الذين يأتون من منزلهم في الشارع الخلفي .. وفي الصيف الماضي كنت في رحلة طويلة وطلبوا مني مفتاح المنزل لكي يأتوا مع أصحابهم ليلهوا في منزلي.. انا لا أحب أن يدخل أحد بيتي في غيابي ، لكن هؤلاء الأولاد كثيرا ما يسألون عني وعندما تصل إلى مثل عمري ستفهم معنى أن يسأل أحد عنك وأنت لم تعد لك فوائد كثيرة"
"لا أعرف ماذا حدث بالضبط ، لكني عندما عدت من الرحلة أخبروني أن الملل قد أصابهم قليلا فقرروا أن يخترعوا لعبة غريبة ، أنت تعرف المراهقين وجنونهم ، كانت اللعبة أن ينزف كل منهم بعضا من دمه حتى يصاب بالإغماء ، ومن يستطيع أن يصمد أكثر يكون فائزا .. نوع من اختبار القوة الاحمق"
"كانت هناك أدوات حادة لقطع الأوردة والشرايين ، وكؤوس لقياس كميات الدم ، وقطع من القطن توهموا أنها كافية لإيقاف النزيف عند الحاجة .. طبعا انتهى الأمر بطلب الإسعاف ولم يصب أحد بسوء كبير من هذه الحماقة ، إلا أنا .. فقد انسكبت كميات كبيرة من الدماء فوق سجادتي التي كانوا يلعبون عليها .."
10
"أعطيت السجادة لحارس المحلة ليغسلها وقد بذل مجهودا كبيرا حتى أعادها كما كانت تقريبا .. بعد تلك الحادثة مباشرة بدأ رجل السجادة في الخروج"
شهق ابي مفزوعا وقال :"إذن هناك رجل فعلا في السجادة .. فاطمة لم تكن تتخيل"
قال العجوز وهو يهز رأسه نافيا :"لا ، فاطمة لم تتوهم ، لقد أدت تلك الحادثة إلى تحرير روح السجادة فتشكلت على شكل رجل ، وهو شكل مناسب لنموذج القوة التي كان الأولاد المراهقون يتخيلونها أثناء لعبتهم .. إن الأرواح ليست لها أشكال بالمعنى الخاص بنا كما تعلم"
بدا الارتياب على ابي وهو يفكر بصوت عال قائلا :"ولكن كيف يكون انسكاب الدم وحده هو الذي أتى بهذا الكائن ؟ أعطني سجادة وساسكب عليها طن من الدماء وأتحداك لو تلبس بها جني أو أي روح أعتقد أن هؤلاء الصبية كانوا يمارسون طقوسا سحرية أو أي شيء من هذه التخاريف التي تدعي تحضير الجن".
رد العجوز : "لقد أصبت في جزء من كلامك ولكن بقيته ليست كذلك .. أنا متفق معك في أن انسكاب كمية من الدم على السجادة لا يحدث تأثيرا على الاطلاق .. لابد أن يكون هناك تعويذة ما ، هذه قاعدة أساسية في السحر أن المواد التي تدخل في الطقس السحري لا تتفاعل مع نفسها تلقائيا هكذا ، لابد أن يلقى شخص ما عبارات معينة أو يقوم بحركات مثلا.. وغالبا ما يكون واعيا لهذا.. لكن هؤلاء الأولاد لن يقولوا الحقيقة أبدا ، ربما تكون قصة لعبة الدم من وحي خيالهم ليداروا بها لعبة أكبر لتحضير الجن مثلا كما قلت.. ولأنهم يعرفون خطورة اللعبة فإن المكان المناسب لتجربتها كان هو بيت جدهم العجوز ، الرجل الذي لم يبق في عمره ولا صحته الكثير وأي ضرر سيصيبه فلن تكون الخسارة كبيرة
كان يتحدث عن تقدمه في العمر بمرارة واضحة ، ويبدو أنه أدرك أن أحفاده يتقربون إليه طمعا فيه ، لا ريب أنه يعطيهم من النقود بعلم آبائهم أو بدون علمهم ليكسب ودهم .. ثم قرر هؤلاء الأوغاد ناكري الجميل أن يلوثوا شقته بالأفعال السحرية. إنه لأمر محزن فعلا ولكن "فؤاد" لم يات ليناقش هذه المشاكل العائلية ..
قال ابي : "وما الذي أخطأت فيه إذن ، ما دمت متفقا معي ؟"
رجع العجوز برأسه للخلف ، وقال :"أنت تعتقد أن هناك روحا قد تلبست بالسجادة ، أليس كذلك ؟" .. هز ابي رأسه موافقا. فتابع الرجل :"هذا الخطأ شائع جدا للأسف ، ولكن الحقيقة غير ذلك .. كل الجمادات التي تراها وتعتقد أنها بلا حياة بداخلها شكل من أشكال الروح مثلك تماما. في جلسات تحضير الأرواح لا تأتي روح من خارج المكان أبدا ، إنما الذي ينطق ويتحرك هو روح لشيء موجود !"
بدا عدم الفهم على وجه ابي، فتابع العجوز شارحا :"إذا كانت هناك شمعة مثلا فإن الروح تكون هي روح الشمعة ، تتشكل كما يطلب منها الحاضرون حسب التعويذات التي يقومون بها ، لذلك إذا كان الفعل السحري له علاقة بشخص فإن الساحر يطلب أثرا منه ، قطعة من ملابسه مثلا تستطيع روحها أن تتعرف على من قام بلبسها وإذا وجهت لها تعويذات معينة ربما تؤثر عليه. لاحظ أن هذه الأرواح مختلفة عن أرواحنا ، يمكنك أن تتصورها أطيافا ناقصة ليس لها شكل .."
"رجل السجادة ليس روحا أو جنيا سكن السجادة ، إنه هو السجادة نفسها ! والسجادة التي تراها أنت هي قشرته الخارجية ، كما أنك لست الجسد الذي يجلس أمامي . الجسد هو غلاف لروحك .. "
11
امتلأ قلب ابي بالرهبة وهو يقلب الفكرة في رأسه .. ولم يمنع نفسه من النظر حوله في قطع الأثاث والمفارش والستائر وكأنه يتخيل كل هذه الكائنات التي كانت تحيط به من قبل ساكنة جامدة قد دبت فيها الحياة وأصبحت أفرادا ، رجالا ونساء ..
قال العجوز : "دعنا نعود لقصتنا ، كان رجل السجادة قد بدأ يخرج ويتحرك في المنزل وأنا أشعر به ولكني لم أهتم كثيرا.. في البداية ظننتها تهيؤات رجل عجوز.. كانت السجادة في ذلك الوقت قد أمتلأت بالأتربة وربما وقعت عليها بقايا من الطعام دون أن أنتبه .. كنت مهملا لها ولم أعد أحافظ عليها كما كنت أفعل قبل لعبة الدم تلك .. وعندما بلغت القذارة فيها حدا معينا ، بدأ الرجل في الظهور أمامي..
"إنه لا يحب أن يتلوث جسده ، لا أحد يحب هذا.. لكنه أيضا لا يملك تنظيفها بنفسه ، فهذه الأطياف ضعيفة ومحدودة الإمكانيات ، ولكنها قادرة على الإيذاء أحيانا.. إن السجادة التي تبقى بلا تنظيف لفترة طويلة قد تصيب صاحبها بأمراض كالربو والحساسية.. سيقول الأطباء أن لهذه الأمراض أسبابا علمية ويضيعون وقتهم في تحليلها ، ولن يصدق أحد أن هذا انتقام من طيف السجادة أو روحها.."
شرد فكر ابي قليلا وهو يقول :"لقد نظفت فاطمة السجادة أمس .. أعتقد أنها لا تزال نظيفة حتى الآن"
قال العجوز : "جميل جدا ما فعلته فاطمة ، سوف يحبها رجل السجادة ولن يؤذيها أبدا.. لنعد لقصتنا مرة أخرى ، عندما ظهر لي الرجل بوضوح مستنكرا ما فعلته بسجادته كان هذا فوق احتمالي فأنا رجل عجوز كما ترى .. أعطيت السجادة مرة أخرى لحارس المحلة لكي ينظفها ثم يتخلص منها ، لن أحتفظ بسجادة تخرج منها روحها وتسير بحرية في منزلي كما لابد أنك لو كنت مكاني كنت ستفعل نفس الشيء .. الحارس طلب مني أن يأخذها لنفسه فرفضت وأصررت أن يبيعها لأتأكد من أنها ستذهب بعيدا عني.. وذات يوم جاء الحارس ومعه بعض النقود وقال إنه باع السجادة.. أعطيته جزءا من النقود واحتفظت لنفسي بالباقي ونسيت أمرها تماما حتى جئت لي اليوم "
ساد الصمت للحظات ، حتى قال ابي : "معك حق ، يبدو أن هذا هو الحل الأمثل لهذه السجادة ، ساذهب الآن وأتخلص منها.. اعذرني لانصرافي هكذا فجأة ولكن يجب أن أعود للمنزل قبل المساء حتى لا يظهر ذلك الشبح لفاطمة ."
ثم وقف عازما على مغادرة المكان فاضطر مضيفه الرجل العجوز إلى أن يقوم أيضا ، ولكن وجهه كان يحمل استغرابا وهو يقول :"ومن قال لك أنه يظهر في المساء فقط ؟ إن رجل السجادة يستطيع أن يخرج منها في أي وقت ، وفي الغالب هو الآن جالس مع فاطمة إذا لم يكن هناك غيرها في المنزل !"
امتقع وجه ابي وطلب أن يستخدم هاتف المنزل الخاص بالرجل ليتصل بفاطمة فورا .. وعندما سمع صوتها صاح بها :"أخرجي فورا من الشقة .. أفتحي الباب ونادي على الجيران .. لا تجلسي وحدك في المنزل .. هناك عفريت في السجادة .. اهربي .."
ولكن أخته "فايزة" كانت هادئة وهي ترد عليه :"أعرف ، لقد خرج من السجادة وتفاهمنا سويا .. لن أستطيع أن أخرج من المنزل ولا أن أطلب مساعدة الجيران.. أنا لا أعرفهم وليست لي بهم أي علاقة ، كما أنه ليس مخيفا ولا مؤذيا .. إنه لطيف جدا ، لقد دعاني للذهاب معه إلى عالمه وسوف نرحل بعد قليل .. جميل أنك اتصلت الآن كي أودعك .. كنت أتمنى أن أسلم عليك بنفسي قبل أن أذهب ولكن يبدو أني لن استطيع .. وداعا.. وداعا "
12
وضعت السماعة بينما كان ابي لا يزال ممسكا سماعة هاتف الرجل بيده مذهولا لنصف دقيقة لم يستطع الكلام ، حتى سأله الرجل عما به .. لم يجب ولكنه وضع السماعة مكانها وسأله في كلمات متقطعة :"هل .. هل يمكن أن يذهب إنسان إلى داخل السجادة مع ذلك الرجل ؟ فاطمة تقول إنها ستذهب معه إلى هناك .. هل هذا ممكن ؟"
بدا التعاطف على وجه العجوز، وأجاب بنبرة الخبير بهذه الأمور :"في عالم السحر لا أحد يسأل إن كان شيء ما ممكنا أم لا .. كل شيء ممكن إذا عرفت التعويذة المناسبة وكانت هناك الروح المناسبة .. لكن هذا قد يستغرق بعض الوقت ، فإذا كان منزلكم قريبا من هنا فقد تتمكن من إيقاف الأمر وإنقاذها .."
قال ابي وهو شبه منهار :"لا ، إن بيتنا بعيد .. ساحتاج إلى نصف ساعة على الأقل وليس معي سيارة".
جذب الرجل مفاتيح سيارته من أحد الأدراج وقال له :"أنا سأوصلك .. فالذنب ذنبي في الأساس .. لا وقت لأغير ملابسي .. هيا بنا بسرعة قبل أن يأخذها الرجل معه ولا تراها مرة أخرى"
هم ابي بالاعتراض واقناع العجوز بأنه سيذهب بسيارة أجرة ، لأنه ظن أن الرجل العجوز سيقود ببطء شديد ، لكنه فوجئ بالسرعة التي يقود بها العجوز سيارته كأي شاب طائش في العشرينيات من عمره.. هذا الرجل لا يريد أن يعترف بأنه تجاوز سن الشباب .. ربما تكون قصة أحفاده ولعبهم بالدم فوق السجادة غير دقيقة إن الفكرة الأقرب للمنطق هي أن من قام بالطقوس السحرية العجوز نفسه.. يبدو أنه يعرف الكثير عن السحر ولعله قرأ في كتاب ما عن وصفه تعيد الشباب فقام بتجربتها فكان من نتائجها تحرير رجل السجادة من سجنه..
لكنه لم يصارح العجوز باستنتاجه هذا ، واكتفى بمراقبة الطريق وأعصابه مشدودة وهو يتخيل فاطمة مع هذه الروح الغريبة التي تحررت من سجادتها على شكل رجل شاب قوي ولكن لماذا تذهب معه فاطمة بإرادتها ؟ هل تأثرت بشكله الخارجي أو يكون لذلك الشيء قدرات نفسية لجذب القلوب أو تنفيرها ؟
اختصرت سيارة العجوز زمن الطريق إلى ربع ساعة فقط ، وما أن اقتربت من المنزل حتى فتح ابي الباب ونزل يجري ، تاركا صاحب السيارة يبحث عن مكان مناسب ليوقفها فيه .. وعندما اقترب من المنزل سمع صوتا بداخله فاطمأن فليلا ، لازالت الطقوس مستمرة وهناك أمل في إيقافها ، فتح الباب بسرعة وألقى نظرة على السجادة الملقاه في السرداب وخيل إليه أن هناك حركة خافتة فوق سطحها اختفت بمجرد اقترابه .. بحث في جميع ارجاء المنزل عن فاطمة أو أي أثر لها فلم يجد شيئا .. لقد انتقلت إلى عالم السجادة في اللحظة التي كان هو يفتح فيها الباب !
13
الجزء الاخير ..
ارتمى ابي محبطا على أحد الكراسي تاركا باب المنزل مفتوحا وبعد قليل صعد العجوز وعندما تلاقت نظراتهما أدرك الأخير أن فاطمة قد رحلت .. قام ابي ووقف على السجادة وأخذ يقفز فوقها بهسيتريا وهو يصيح :"أخرج ، أخرج أيها الجبان وواجهني" ..
جذبه العجوز من ذراعيه وأجلسه مرة أخرى على الكرسي ، وقال له :"لا تحاول .. لن يخرج إلا برغبته ولو حرقت السجادة " .. رد ابي بحزن :"لا أستطيع حرقها وفاطمة بداخلها .. ربت العجوز على كتفه وقال وهو يغادر المنزل :" إذا أردت رأيي : تخلص من هذه السجادة بالطريقة التي تريحك .. لكن من فضلك لا تذكر أسمي أو عنواني لأحد ، ولا تخبر أحدا بما قلته لك .. لقد أردت أن أريح ضميري وساعدتك قدر استطاعتي ، وأخبرتك ما لدي من المعلومات عن السجادة ، أو ما يهمك أن تعرفه على الأقل .. والآن هي مسؤوليتك وأنا لا صلة لي بها .. اسمح لي أن أنصرف بعد إذنك" ..
بقيت السجادة في سرداب المنزل شهرا كاملا وكل يوم يجلس أمامها ابي ويحاول مع رجل السجادة بالترهيب أو الترغيب لعله يخرج ويكلمه ، لكن الرجل لم يكن يسمع شيئا من هذا الكلام فليس للسجادة آذان ولا عيون لتسمع وترى ، إنها تستقبل من العالم الخارجي عندما تريد فقط وهي لا ترغب في ذلك الآن.. ومع مرور الوقت بدأ ابي يشك في أن كل هذا قد حدث فعلا .. لم لا تكون فاطمة قد اختلقت قصة شبح السجادة لتهرب من المنزل ؟ ولم لا يكون الرجل العجوز المدعو "عماد" مجرد شخص مخبول وجد فرصة ليتسلى بسذاجته وقام بتأليف موضوع الأرواح هذا من عقله المريض ؟
وذات يوم بعد أن انتهى من صلاة المغرب جاءته فكرة لا بأس بها ، أن يهدي السجادة للجامع فيصلي عليها الناس وتحل الرحمة والسكينة على من في السجادة ، وربما تخرج فاطمة مرة أخرى من السجادة ببركة الصلاة .. وإن كانت كل هذه القصة كذبة كبيرة فهو لم يخسر شيئا ، على الأقل سيأخذ ثواب هديته للمسجد ..
حمل السجادة وانطلق للجامع وتحدث مع أحد العاملين فيه ، أخبره العامل أن الجامع ليس بحاجة إلى سجادة حاليا ولكنه سيضعها في المخزن لعلهم يحتاجونها قريبا بعد توسعة المسجد .. وبعد أسبوع اكتشف العامل أن التوسعة الجديدة سيكون فيها "موكيت" وأن السجادة لم تعد مفيدة للجامع فقرر أن يبيعها ويساهم بثمنها في شراء "الموكيت" الجديد .. وفي نيته أن يظل الثواب قائما لصاحبها بإذن الله .
هذا ما قصة ابي على مسامعنا في ليلة مقمرة من على سطح منزل جدتي في الموصل اثر سهرة جميلة ضمت الاقارب المقربون جدا مع حفنة من العمات اللطيفات . ولا زلنا ليومنا هذا لا نعلم علم اليقين هل عادت فاطمة الى اهلها في الشمال ام بقيت بصحبة رجل السجادة حتى كبرنا وعلمنا انها قصة نسجت من وحي الخيال كقصص الف ليلة وليلة للسمر والسهر فقط كانت فاطمة هي الشخصية الحقيقية في كل فصول هذه القصة .
مُساهمة طارق فتحي في الثلاثاء 5 أبريل 2016 - 14:44
1
أستأجرنا بيتاً قديما في اقدم محلات بغداد الرصافة في العام 1958 ريثما يتم اكمال بناء دارنا الجديدة . فيه سرداب كبير مظلم في النهار ومخيف جدا حيث كنا نسمع اصوات مبهمة تصدر منه ليلا ونهاراً حتى نحن الاطفال آلفنا الاصوات ولم نعد نهتم بها كثيراً .
وحدث ذات يوم من العام نفسه ان وضع بائع السجاد بضاعته أمام منزلنا قائلا :
اختاري ما يعجبك وهو يحدث والدتي . أخذت تقلب في السجاجيد القليلة التي ألقاها على الأرض وكانت جميعها متشابهة مع اختلافات بسيطة في اللون ، عدا سجادة واحدة بدت لها مميزة بزخارفها وخامتها. لاحظ البائع اهتمامها بها فأخذ يخترع لها - بخبرته - مزايا متعددة واستخدامات مختلفة ومنافع كثيرة لهذه السجادة .
وحينها قلبت السجادة على وجهها الآخر لتجد آثارا مغسولة لبقعة كبيرة ، سألته
"هل هذه السجادة جديدة أم مستعملة ؟" .. أظهر البائع غضبا مصطنعا وهو يؤكد لها أنه لا يبيع إلا بضاعة جديدة يأخذها من محل شهير ويدور بها على المنازل وأنه ليس كباقي الباعة النصابين ، أما هذه البقعة فهي ربما قليل من الماء انسكب على السجادة في المخزن أثناء التنظيف ، وهي ستزول مع أول غسلة وحتى إن لم تزل فهي في الجهة السفلى من السجادة ولن يراها أحد.
تعرف أنه يكذب وأن كل بضاعته مستعملة يجمعها من البيوت التي تستغني عنها ويغسلها أحيانا بنفسه أو في مغسلة إذا كانت في حالة سيئة جدا .. وإلا لماذا يبيع هذه السجادة الأنيقة بهذا الثمن البخس ؟
وقد وجدت والدتي في هذه البقعة سببا وجيها لاعطائه أقل مما طلب مقابل الحصول عليها وهو لم يعترض كثيرا في الواقع .. حمل السجاجيد الباقية وانصرف ، ودخلت هي لمنزلناا بالسجادة..
في غمرة فرحتها بالصفقة الرابحة ، استيقظت العمة كميلة التي تعيش معنا في المنزل.. ففردت السجادة أمامها وهي تسألها عن أفضل مكان لوضعها ، وعرضت عليها أن تأخذها في غرفتها إن رغبت خاصة والشتاء قادم ..
وضعت العمةا نظارة الرؤية وتطلعت للسجادة المفرودة لثانيتين ثم صاحت : "هذه السجادة لا تدخل هذا الدار ، أعوذ بالله ، قلبي منقبض منها !"
دهشت والدتي من تصرف عمتها وحاولت اقناعها بالهدوء واللين ، إلا أن العجوز خلعت نظارتها ورفضت أن تلقى نظرة أخرى على السجادة ولا أن تناقش قرارها برفض السجادة تماما في أي مكان في المنزل ..
ولم يكن بيد والدتي حيلة حتى حضور والدي فاستقبلته باكية لتخبره بتصرفات العجوز التي تتعمد مضايقتها دائما ، فأشار عليها أن تتحلى بالحكمة وان تنادي بائع السجاجيد ليأخذ سجادته وأن تستبدل بها سجادة أخرى .
أما العجوز فقد هزت رأسها بتعجب من بنات هذه الأيام اللاتي أصبن بالعمى في البصيرة وإن كانت أبصارهن سليمة ، إذ كيف أن هذه السجادة لا تصلح لمنزلهم ..
لا تصلح أبدا ..
2
الذي حدث هو ان والدتي فرشت السجادة في السرداب المظلم وتركته هناك لعلمها ان لا احد يدخل السرداب لا في الليل ولا في النهار . بأستثناي ابي وفاطمة انه مهجور تماماً الا من بعض الحاجيات واللوحات القديمة المتروكة .
فاطمة امرأة كردية جميلة ومثقفة جدا تعاني من مرض نفسي او ما شابه ذلك اتى بها والدها من الشمال لاغراض علاجها في بغداد وتبنى والدي الموضوع كونه وابو فاطمة صديقان حميمان ايام زمان قبل زمانهم هذا . فاطمة هي الوحيدة القادرة على دخول السرداب ذو السلالم الخمسة هبوطا تحت الارض .
مرت الايام مسرعة واخذت امور غريبة عجيبة تحدث في منزلنا . وكانت الاشياء تختفي من المنزل دون ان نعثر عليها قميص والدي وساعته الذهبية واختفاء بعض الفواكه واشياف الرقي المقضومة . كثرت المعارك الكلامية بين امي وأبي على غير عادتهما . في كل يوم تقريبا يختلفان على امر ما . وعلى اثر هذه المشاحنات والسجالات الكلامية قرر ابي ان نسافر جميعا الى الموصل كعادتنا في كل سنة منتهزين فرصة حلول العطلة المدرسية الصيفية وكان لنا ذلك
كنا والحق يقال نتهم فاطمة وتنكر هي أنها فعلت ذلك ، وأحيانا تختفي الأشياء تماما ! وهذا عجيب جدا ، فهي لا تخرج من البيت فأين ذهبت بساعته التي يضعها في نفس المكان كل يوم منذ سنوات ولا يمكن أن ينسى مكانها أبدا .. لو كانت تخرج لقال إنها سرقتها وباعتها .
طرد ابي هذا الخاطر من ذهنه ، فاطمة لا يمكن أن تفعل هذا ، ثم أنه لا يحرمها من أية نقود تطلبها ، ولا يبخل عليها في أكل أو شرب أو ملابس ، وبين الحين والآخر يهبها هدية أو يعطيها مبلغا من المال في يدها ..
التفسير الوحيد هو أن فاطمة ضاقت بسجنها وأن حالتها النفسية هي التي تدفعها لهذه الأفعال الغير مفهومة .. غدا سيستشير ابي صديقه الذي درس الاجتماع وعلم النفس وسيرشده للحل .. مع أن هذا الصديق لا يعمل في هذا المجال ، لكنه الوحيد الذي يمكن أن يأتمنه على أسرار العائلة ، لا يمكن أن يذهب بفاطمة لطبيب نفسي حقيقي ويسيء إلى سمعتها وسمعة عائلتها..
عندها أحس والدي بحركة مريبة في السرداب ! لم يسمع أي صوت ولكنه مجرد احساس أن شيئا ما يتحرك هناك .. فاطمة تنام قبله نوما عميقا ونادرا ما تستيقظ قبل الفجر ،
فماذا عساه يكون في الشراب إذاً ؟
تسلل بحذر إلى الزاوية التي يمكن أن يرى منها السرداب ثم تردد في أن يلقى عليها نظرة.. فالذي يتحرك دون أن يحدث صوتا في الليل هو شخص أو شيء رهيب .. لعله لص محترف !
تراجع للخلف ودخل غرفة فاطمة ، أيقظها بهلع وقال بصوت منخفض : "هناك لص في السرداب !" .. والحق أنها لم تخف ، فوجود ابي سيحميها من اللص ، بل إن شيئا من السرور دخل على نفسها لأن اللص أمر جديد في حياتها المملة ، سيكون هناك الكثير من الإثارة وسيجري الأدرينالين في دمائها لأول مرة منذ سنوات .
قامت مع أبي وبحرص شديد اقتربا من السرداب ، وبدا واضحا لهما أن هناك حركة فيها بسبب انعكاس الضوء على الحائط المقابل .. تسمرا مكانهما للحظة اختفت خلالها حركة الضوء الساقط على الحائط وعاد إلى سكونه.. تبادلا النظرات وقررا أن يقتربا أكثر ببطء حتى أصبح السرداب كله أمامهم ..
3
لم يكن هناك أي شيء غريب في السرداب .. كل قطع الأثاث البسيط في مكانها واللوحات مكانها وحتى الأتربة التي كانت تعلو الاشياء كما هي .. بحسم قال ابي : يبدو أني متوتر من العمل ومن التفكير في بعض الأمور .. وربما كان هناك فأر وخرج من حيث دخل إنه شباك المطبخ المكسور بكل تأكيد .. " واستدار للمطبخ ليضع لوحا من الخشب على القطعة المكسورة من الشباك مؤقتا حتى يستدعي النجار لإصلاحه.
أما فاطمة فلم تقتنع بهذا التفسير إنها تعيش في البيت وتعرف كل قطعة فيه .. بل إنها تعرف ترتيب ذرات الهواء في كل غرفة كيف كانت عندما تركتها آخر مرة .. واحساسها الداخلي يخبرها بأن ما كان في السرداب ليس فأرا بالتأكيد .. وبما أن قطع الأثاث القديم ليست من عادتها أن تتحرك ، فإن الأحتمال الباقي هو أن السجادة هي التي تحركت .. وارتجف قلبها لهذا الخاطر وهي تسرح في الزخارف العجيبة التي زينت بها السجادة وخيل إليها أنها عبارة عن وجه ، وأن الوجه يبتسم لها !
كانت تعرف أن هذه خواطر فارغة وغير حقيقية .. السجاد لا يتحرك ولا يبتسم ، هذه حقيقة يعرفها الجميع .. وقد حان الوقت للقيام بتنظيف الأتربة من السرداب وتجاهل هذه الأوهام .. كان ابي خارج المنزل وهي لا تجد ما تفعله ككل يوم . اتجهت السرداب وبدأت تنفض التراب عن الكراسي وتمسح اللوحات ..
استغرقت في التنظيف ونسيت كل ما يخص السجادة التي استقرت على الارضية ، تعمل في بطء فهي ليس لديها شيء آخر تفعله حتى نهاية اليوم. صعدت فوق كرسي لتمسح لوحة وألتفتت عفويا إلى الأرض حيث ستسقط الأتربة التي تنفضها من اللوحات ، والتي ستكنسها بعد ذلك في الخطوة الأخيرة من عملية التنظيف .. ولكنها تسمرت في مكانها عندما لاحظت تلك الآثار .. كانت هناك آثار واضحة لقدم شخص سار على هذه البقعة !!
نزلت من على الكرسي وأخذت تتفحص الآثار .. ففي الأسبوعين السابقين لم تسر هي في هذا المكان من الأرض بالتأكيد ، ولا ابي يسير حافيا على البلاط هكذا .. ثم إن هذه القدم أكبر بكثير من قدمها أو قدم والدي .. هناك شخص ما كان يسير هنا ، ويبدو أنه نسي أن يزيل آثار أقدامه أو لم ينتبه لها أصلا ..
لكن السؤال الذي دار بذهنها هو : من أين جاء صاحب هذه الآثار ؟ وأين اختفى ؟ هل هو رجل خفي يسير ولا يراه أحد لكنه يترك آثاره على الأرض كما يحدث في الأفلام ؟
كان لديها شعور بأن للسجادة دور في هذه الأمور كلها ،لعلها هي التي كانت تتحرك ، وربما كان لها أرجل أيضا .. ورغم سذاجة الفكرة إلا أنها لم تستطع أن تقاوم رغبتها في رؤية السجادة من الجهة السفلى لتتأكد من أنها بلا أرجل !
السرداب 4 -5 - 6
السرداب 4
طارق فتحي
قلبت السجادة ، وخاب ظنها عندما رأتها سجادة عادية جدا . كل ما يميزها هو بقعة من سائل ما ، يبدو أنه انسكب عليها وقد غسلت آثاره من الجهة العلوية فقط . واضح أن هذه السجادة مستعملة ، وهي لم تتفاجأ بالأمر فمنذ أن دخلت بها امي حاملة إياها هي والبائع وهي تدرك هذا. إن للسجاد الجديد رائحة وملمس لا يخطئهما أحد ..
القصة تتضح إذن ، هذه سجادة انسكب عليها شيء فتخلص منها أصحابها ، وقد غسلها بائع السجاجيد وباعها .. لكن ما علاقة هذا بآثار الأقدام ؟ وما الذي يتحرك في السرداب في الليالي ؟ بل أين أختفت ساعة الاب والأغراض الأخرى ؟
خطر تفسير واحد ببالها وهو تفسير علمي تماما ، نابع من متابعتها لبرنامج الدكتور مصطفى محمود عن العلم والإيمان وبعض حلقات الخيال العلمي الأجنبية ورواياتين أو ثلاثة للدكتور نبيل فاروق أحضرهم لها الاب ذات يوم كهدية صلح بعد أحد الخلافات ..
التفسير هو أن هذه البقعة هي فجوة بين عالمين ! هناك سائل رهيب انكسب على السجادة وفتح الحاجز الذي يفصل بيننا وبين الجن أو الأشباح أو أي مخلوقات أخرى . وهذه المخلوقات تخرج من البقعة لتمرح في الشقة وتسرق الأغراض ، ثم تعود إلى عالمها !
سوف يضحك الاب من هذا التفسير ويتهمها بالجهل ولن يصدقها أحد .. حتى هي نفسها ستشك في عقلانية الفكرة واحتمال حدوثها إذا جادلها الاب قليلا .. عندما يعود ستسأله إن كان هو صاحب هذه الآثار أو إن كان لديه تفسيرا أكثر عقلانية لوجودها ..
أما الآن فقد نوت أن تغسل آثار السائل التي على ظهر السجادة ، فإن لم تكن هذه الآثار بوابة بين عالمنا وعالم آخر ، فهي بقعة غير نظيفة يجب أن يتم غسلها بالماء والصابون المعطر والكلور.. جهزت أدوات التنظيف وبدأت العمل دون أن تدرى أن ما تفعله خطير .. وأن ما سيترتب عليه أشد خطورة !
5
عاد ابي في نهاية اليوم وقبل أن يخلع ملابسه أخذته فاطمة من يده إلى آثر القدم المطبوعة في التراب.. كانت قد غسلت السجادة جيدا وأزالت ما كان بها من أوساخ ولكنها لم تكمل تنظيف السرداب حتى تبقى آثار الشخص أو الشيء الذي كان يسير عليها موجودة ..
وعندما أتمت شرح نظريتها حول العالمين الذين انفتحا على بعضهما من خلال بقعة في سجادة الصالة ، مؤيدة كلامها بآثار الأقدام التي لم تكن للأب طبعا ، بدأ هو يحلل الأمور من وجهة نظر أخرى مستذكراً كلام صديقه ومستشاره في الأمور النفسية ، والذي كان قد فاتحه في مشكلة فاطمة على استحياء ..
حين قال له صديقه :
" فاطمه تعاني من الوحدة ، إن الحبس الأنفرادي كعقاب للمجرمين هو من أقسى العقوبات لما يحدثه من تدمير لطاقة الفرد الحيوية والنفسية ، وأنت مخطيء في تعاملك مع فاطمة ، وهي حاولت أن تنبهك بالكلام والنقاش وأحيانا بالشجار حول أي سبب مهم أو تافه ، فقط لتظهر لك عدم رضاها ..
وأخيرا عندما لم تفلح كل هذه الوسائل بدأت في محاولة لفت انتباهك بطريقة أخرى وذلك عندما تركت شباك المطبخ المكسور مفتوحا ليدخل منه فأر ، واستغلت وجود الفأر لتصنع قصة عن لص أو شبح .. ولا أستغرب إن كانت ستؤلف لك غدا قصة عن كائنات فضائية تخرج من المطبخ .
اسمع ياصديقي ، فاطمة بحاجة إلى أهتمام أكبر منك وبأن تفتح لها مساحة في عالم الواقع بدلا من أن تفتح لنفسها هي بابا لعالم الأوهام والأمراض النفسية المعقدة ، وعندها لن استطيع أن أفيدك وستضطر للذهاب إلى طبيب نفسي حقيقي .. أرجوك حاول أن تساعدها وإن كان هذا سيتطلب منك مجهودا أكبر وتذكر أن لا الهدايا ولا الأموال يمكنها أن تنفع من كان في الحبس الإنفرادي .."
لقد اختلقت فاطمة كل هذه الأحداث وربطتها مع بعضها بخيال تحسد عليه ولم تكتف بهذا ، بل صنعت هذه الآثار بمهارة .. إنها تبدو حقيقة لولا أنه يستحيل أن يكون هناك من سار في هذه المنطقة من السرداب دون علمه أو علمها.. كما أن أثر القدم الي صنعتها " فاطمة " تبدو غير متقنة ولا يمكن أن تكون أدمية أبدا ..
6
في تلك الليلة ساد الهدوء الشقة ولم تكن هناك أي أصوات غريبة ، حتى أن "فاطمة" قررت أن تنام نوما هنيئا بعد أن أغلقت بوابة الجحيم كما تصورت .. كانت تتخيل أنها لا تقل بطولة عن أقوى الرجال ، فهي بغسيلها للبقعة التي كانت على ظهر السجادة قد حمت الأرض كلها من شر لا يعرف أحد حدوده !
وفي غمرة فرحتها بالإنجاز الذي لم يعترف به الاب ، شعرت بالعطش فتوجهت للمطبخ لتحضر كوبا من الماء .. تحركت في خفة حتى لا يستيقظ احداً من في الدار منزعجا ، ولما اقتربت من اغلسرداب شعرت بحركة سريعة وخاطفة .. انتابها القلق من أن يكون انجازها الكبير في تنظيف السرداب لم يؤت كل ثماره وأن الفجوة لا تزال مفتوحة ، فوقفت خلف ستارة بعيدة تنظر للسرداب في الظلام متفحصة كل شبر فيها ..
كان كل شيء في مكانه ، لا يوجد ما يثير الاستغراب أو يدعو للقلق .. لكنها استمرت واقفة في مخبئها ربع ساعة لا تتحرك لتتأكد تماما من أن كل شيء على ما يرام.. وبعد فترة من الاختباء أدركت أنها لا فائدة مما تفعله فهمت بالعودة إلى المطبخ لتحضر كوب الماء ، عندما لمحت حركة خفيفة على سطح السجادة ..
لم تتبين طبيعة الحركة وهي بعيدة نسبيا عن السجادة ، وخافت أن تقترب فتتوقف الحركة .. انتظرت في مكانها حابسة أنفاسها وهي ترى خيوط السجادة تخرج منها وتدور حول نفسها في الهواء كأنها اعصار صغير ، ثم تتجمع في شكل غير واضح ..
مرت ثوان والشكل يتكون .. حتى ظهر بوضوح رغم الظلام رجل كامل ! رجل ضخم من خيوط ووبر مختلفة الألوان ، لكنها بدت متناسقة عليه كأنها لباس مزخرف وكان بها شبه كبير من زخرفة السجادة التي بدت في هذه اللحظات عارية إلا من بعض الخيوط القليلة التي بقيت متعلقة بأطرافها ..
كان وجه الرجل ينظر إلى زاوية غير التي تختفي فيها ، ولهذا لم يلمحها وهي تفتح فمها في انبهار وخوف دون أن يصدر عنها أي صوت.. قام رجل السجادة بتحريك جسده كأنه كان محبوسا في صندوق ضيق وتحرر منه.. أخذ يشد أطرافه في حركات أشبه بتمارين رياضية ، فبدت عضلاته المكسوة بالخيوط الملونة للسجادة في منتهى التناسق والجمال ، وأطراف الخيوط تتمايل مع حركاته في مشهد ساكن رهيب ..
كان هذا المنظر فوق احتمالها فشهقت في فزع شهقة قوية انتبه لها رجل السجادة ، فالتفت فجأة إليها والتقت عيناه بعينيها لمدة لا تزيد عن جزء من مائة جزء من الثانية ، تفكك بعدها فورا وعادت الخيوط إلى أماكنها في ثانية واحدة !
وعلى صوت الشهقة استيقظ الاب مفزوعا ومتضايقا في نفس الوقت ، متوقعا من منها حكاية جديدة تلفت بها انتباهه لمشاكلها التي يعرفها وقد قرر بالفعل أن يبدأ في حلها .. في كلمات متقطعة أخذت تصف له الرجل الذي تكون جلده من خيوط السجادة وكيف أنه كان يقف في السرداب ويتحرك ثم عاد مرة أخرى إلى السجادة عندما رأها ..
7
كان الوقت متأخرا وابي يروم النوم ليلحق بعمله في الصباح الباكر ، ولذلك وقف بعصبية على السجادة وأخذ يقفز عليها قائلا :"هذه هي السجادة .. لا شيء فيها ، لا رجال ولا نساء ولا شيء ، انظري إليها ، تعالي قفي عليها ، امسكيها.. هل فيها أي شيء غريب ؟ هل أصابك الجنون ؟ هل .." ثم قطع عبارته بغتة عندما لاحظ شيئا وأخذ يتأمل السجادة لحظة
قطعت تأمله فاطمة عندما ارتمت عليه باكية ، ورجته أن يلقي بالسجادة خارج المنزل .. وأن يأخذها الى اهلها في الشمال . ضمها إليه وأخذها إلى غرفتها مهدئا إياها دون جدوى ، إذ ظلت تبكي حتى الصباح رافضة أن تنام أو تتركه ينام إلا في نفس الغرفة جوارها قبل الفجر بقليل عندما نفذت طاقتها ونامت هي أيضا ..
أما ابي فقد استيقظ لعمله وارتدى ثيابه بينما فاطمة نائمة ، ومر بالسرداب ناظرا إلى السجادة محاولا تذكر شيء ما خطر على باله بالأمس لكنه نسيه .. هناك شيء غير مريح في السجادة لكنه لا يعرف ما هو .. نفض عن رأسه هذه الأفكار ونزل من البيت .. تاركا فاطمة نائمة وحدها ، مع السجادة .. أو بعبارة أدق مع رجل السجادة . حيث كانت العائلة جميعها مسافرة الى الموصل لقضاء فترة العطلة المدرسية الصيفية هناك ..
كان قد تأخر على ميعاد العمل بسبب سهرة الليلة الماضية .. فأسرع الخطوات نحو الطريق العمومي ليستقل سيارة أجرة.. لكنه لمح على ناصية الشارع المقابل رجلا يحمل سجاجيد ، إنه البائع الذي اشترى منه السجادة.. أسرع نحوه وحياه.. استقبله الرجل بترحاب عارضا عليه سجاجيده الجديدة ومذكرا إياه بأنه باع له في المرة السابقة سجادة مميزة. فقال ابي عندئذ :" هذا ما جئت لك من أجله ، كنت أريد أن أسألك من أي منزل أشتريت هذه السجادة التي بعتها لي من قبل ؟" ، بدأ الضيق على الرجل وحاول انكار أنه يبيع سجاجيد مستعملة ، وعاد يكرر حكاية شركة السجاد التي يعمل بها كمندوب مبيعات !
قال ابي : "اسمعني جيدا ، ساعطيك ثمن السجادة مرة أخرى لو أخبرتني من أين أخذتها ، أي بيت باعها لك ؟ إنه ليس بعيدا عن هنا بالتأكيد فأنت لن تقدر على حمل السجاد لمسافة كبيرة دون سيارة"
رد البائع وهو بين الرجاء في الانتفاع بالمال وبين الخوف على سمعته إن اعترف بأنها سجادة مستعملة :"أنا لم يسألني أحد من قبل هذا السؤال رغم أني أعمل في بيع السجاد منذ كنت طفلا.. لم يطلب أحد أن يعرف أين كانت سجادته قبل أن تصل إليه .. إن هذا سيسبب لي مشكلة مع أصحابها الأولين ولن يفيد صاحبها الجديد.."
قال ابي : "الجميع يعلم أن سجادك مستعمل وأنك تأتي به من المنازل ، لا تضيع وقتي من فضلك وأعطني عنوان المنزل الذي اشتريت منه السجادة ، إن السجادة تعجبني وأريد أن أعرف من أي مصنع حصلوا عليها وبكم ، لن يسبب لك هذا أية مشاكل .." ، وأخرج من جيبه بعض النقود ليعدها أمامه ..
قال البائع وعينه على النقود التي تتحرك في يد ابي : "لقد نسيت العنوان يا سيدي ، إن هذا الأمر كان من فترة طويلة".
ولكن النقود التي يعدها ابي وصلت إلى ما يساوي ثمن السجادة مرة ونصف ، وهو مبلغ لا يكسبه البائع إن عمل أسبوعا متواصلا خاصة في هذه الأيام التي ليس فيها بيع ولا شراء ..
8
قال البائع :"حسنا ، لقد تذكرت .. إن أصحاب هذه السجادة ليسوا هنا .. إنهم في حي (..) ، شارع (..) ، تدخل يمينا إلى شارع صغير ، ستجد محلا اسمه (..) وعلى الجهة المقابلة ستجد سيدة جالسة على كرسيها في الشارع ، اسألها عن منزل الأسطة (..) ، وحاول أن تخبرها في البداية أنك لست من الحكومة لأن مظهرك يوحي بأنك موظف ، وهي تبيع الدجاجات المذبوحة بطريقة لا تخضع لرقابة "الصحة" ، اذهب إلى المنزل على يمينك هي التي أخذت منها السجادة "
اختطف البائع النقود من يد ابي ، واستدار راجعا للشارع الرئيسي وهو ينوي ألا يبيع أو يشتري اليوم احتفالا بهذه المكسب.. رفع البائع يده وتحدث إلى أحدهم طالبا منه أن يحضر السيارة.. هنا فهم ابي كيف وصلت السجادة من ذلك الحي البعيد إلى هنا ، إن هناك سيارة ربما لصديق أو شريك للبائع تحمل السجاد من منطقة لأخرى .. بدا هذا منطقيا ، إذ لا يصح أن يبيع السجاد المستعمل لجيران في نفس المنطقة فيزور بعضهم بعضا ويشاهدون سجادهم ، وينكشف أمره ويعرف الناس أن السجاد كله مستعمل.
وضع ابي العنوان في جيبه ، وتوجه إلى عمله وهو لا يعلم لماذا أنفق هذا المبلغ الكبير على العنوان .. ربما يكون قد تسرع قليلا ، فماذا سيفيده معرفة أصحاب السجادة السابقين ؟ إن السجادة عادية تماما وليس فيها أي شيء مريب ، ماعدا شيء واحد كان قد لاحظه بالأمس لكنه لا يتذكر ما هو .. عموما العنوان لن يضر في شيء.. وفاطمة الآن في أمان ، فحتى لو كانت هناك وحوش تخرج من السجادة فإنها لن تغامر بالخروج في وضح النهار ..
هدأ باله وهو يدخل لمكان عمله ويجلس على مكتبه ويشعر أن الأمور كلها تحت السيطرة ، وهو لا يدري أنه قد ترك أخته التي كان يخاف عليها من نسيم الهواء وحدها في شقة صغيرة مع كائن ضخم مخيف .. كائن لا يعرف معنى الليل ولا النهار .. ولكنه يخرج من السجادة متى يحلو له ..
استيقظت فاطمة من النوم متأخرة ، وتذكرت أحداث الليلة السابقة ولكنها لم تكن خائفة فقد كانت تحلم للتو بحلم جميل ، فيه رجل قوي يحتضنها ويأخذ بيدها ويقبلها .. بينما تراقصت على شفتيه خيوط ملونة بتناسق بديع وكانت له نفس عين رجل السجادة..
إنها تلك الأحلام المركبة ، الرغبة في الزواج تداخلت مع شكل رجل السجادة لتصنع هذا الحلم العجيب .. وانتبهت فاطمة إلى أن رجل السجادة هذا هو أول رجل غريب تراه في حياتها غير أخيها منذ سنوات ! خرجت إلى السراب وجلست بالقرب من السجادة وأخذت تحدثها :
"لا داعي للاختباء ، أنا وأنت نعرف أنك موجود .. اخرج وكلمني ، أنا وحيدة مثلك .. أعرف أنك لن تؤذيني ، وأنا أيضا لن أضرك في شيء .. هيا .. تكون كما تكونت بالأمس ولا تخف .. لن يعود الاب الآن"
استمرت تتكلم هكذا دون أن يحدث شيء حتى بدا لها أنها جنت .. ولكن أطراف السجادة بدأت تتحرك .. خفق قلبها وارتعدت أطرافها كطفل يقرأ في كتب الجن غير مصدق لها وفجأة يظهر له جنيا ! أعادت كلماتها ورجاءها مرات ومرات ..
إنها وحدها في المنزل وليس هناك أكثر إثارة من مداعبة هذه السجادة الغريبة .. لكن السجادة لم تكن تلعب . إن اللعب ليس موجودا في قاموس رجل السجادة ، فعندما يناديه أحد بهذه العبارات فإن هذا معناه أن يخرج .. يخرج لمهمة محددة طال انتظارها ..
9
فجأة وبدون مقدمات تذكر ابي وهو على مكتبه في العمل .. زخارف السجادة التي رآها بالأمس لم تكن منتظمة ! هذا ما لفت نظره قبل أن تبدأ فاطمة في البكاء.. فعندما عاد الرجل بسرعة إلى السجادة لم تنتظم الزخارف في نفس الأشكال بالضبط ..
إذن ربما تكون فاطمة على صواب .. رغم صعوبة تقبل الفكرة ، لكنه التفسير الأقرب للمنطق لما حدث لزخارف السجادة .. ليس معقولا أن فاطمة هي التي فككت الخيوط والوبر وفعلت هذا ..
أخرج العنوان من جيبه واستأذن من عمله ليغادر مبكرا .. سمح له مديره بصعوبة فقد جاء متأخرا أصلا ، لكنه أخبره أن فاطمة مريضة وهو يرجو في داخله ألا يتجاوز الأمر مسألة المرض والخيالات ..
استغرق الطريق إلى ذلك المنزل ساعتين ، لكنه وصل المنزل الذي كانت ترقد على أرضيتها تلك السجادة الرهيبة ذات يوم.. طرق الباب بحرج ، وهو يحاول أن يتذكر الكلمات التي جهزها طوال الطريق ليقولها في هذا الموقف..
فتح الباب رجل عجوز يتحرك بصعوبة ، وإن كانت نظراته تشي بذكاء واضح .. أرتبك ابي قليلا وهو يشرح سبب حضوره :"لقد اشتريت سجادة من أحد البائعين و .." ، لم يكمل عبارته فقد قاطعه الرجل باشارة من يده داعيا إياه للدخول !
زال الارتباك عن ابي وحلت مكانه الدهشة ، فالرجل يبدو وكأنه يتوقع قدومه .. جلس ابي حيث أشار إليه الرجل وظل صامتا في انتظار أن يسمع منه شيئا عن السجادة ، لكن الرجل لم يتكلم .. فتنحنح ابي وقال :"هي سجادة جميلة ، ولكن فاطمة لديها خيال واسع ، تقول إن هناك رجل يخرج من السجادة .. طبعا أنا لم أصدق هذا الكلام لكن بالأمس فقط لاحظت أن زخارف السجادة قد تغيرت. لا أعرف إن كانت هذه تهيؤات أم حقيقة .. قررت أن أحسم الأمر وآتي إليك لتخبرني ما أمر هذه السجادة ؟"
لم يجب الرجل مباشرة ، بل التقط نفسين أو ثلاثة قبل أن يرد بهدوء :"اسمح لي أن أعرفك بنفسي في البداية ، أسمي هو "عماد" ، وأنا رجل عجوز وحيد لا يؤنس وحدتي إلا أحفادي الذين يأتون من منزلهم في الشارع الخلفي .. وفي الصيف الماضي كنت في رحلة طويلة وطلبوا مني مفتاح المنزل لكي يأتوا مع أصحابهم ليلهوا في منزلي.. انا لا أحب أن يدخل أحد بيتي في غيابي ، لكن هؤلاء الأولاد كثيرا ما يسألون عني وعندما تصل إلى مثل عمري ستفهم معنى أن يسأل أحد عنك وأنت لم تعد لك فوائد كثيرة"
"لا أعرف ماذا حدث بالضبط ، لكني عندما عدت من الرحلة أخبروني أن الملل قد أصابهم قليلا فقرروا أن يخترعوا لعبة غريبة ، أنت تعرف المراهقين وجنونهم ، كانت اللعبة أن ينزف كل منهم بعضا من دمه حتى يصاب بالإغماء ، ومن يستطيع أن يصمد أكثر يكون فائزا .. نوع من اختبار القوة الاحمق"
"كانت هناك أدوات حادة لقطع الأوردة والشرايين ، وكؤوس لقياس كميات الدم ، وقطع من القطن توهموا أنها كافية لإيقاف النزيف عند الحاجة .. طبعا انتهى الأمر بطلب الإسعاف ولم يصب أحد بسوء كبير من هذه الحماقة ، إلا أنا .. فقد انسكبت كميات كبيرة من الدماء فوق سجادتي التي كانوا يلعبون عليها .."
10
"أعطيت السجادة لحارس المحلة ليغسلها وقد بذل مجهودا كبيرا حتى أعادها كما كانت تقريبا .. بعد تلك الحادثة مباشرة بدأ رجل السجادة في الخروج"
شهق ابي مفزوعا وقال :"إذن هناك رجل فعلا في السجادة .. فاطمة لم تكن تتخيل"
قال العجوز وهو يهز رأسه نافيا :"لا ، فاطمة لم تتوهم ، لقد أدت تلك الحادثة إلى تحرير روح السجادة فتشكلت على شكل رجل ، وهو شكل مناسب لنموذج القوة التي كان الأولاد المراهقون يتخيلونها أثناء لعبتهم .. إن الأرواح ليست لها أشكال بالمعنى الخاص بنا كما تعلم"
بدا الارتياب على ابي وهو يفكر بصوت عال قائلا :"ولكن كيف يكون انسكاب الدم وحده هو الذي أتى بهذا الكائن ؟ أعطني سجادة وساسكب عليها طن من الدماء وأتحداك لو تلبس بها جني أو أي روح أعتقد أن هؤلاء الصبية كانوا يمارسون طقوسا سحرية أو أي شيء من هذه التخاريف التي تدعي تحضير الجن".
رد العجوز : "لقد أصبت في جزء من كلامك ولكن بقيته ليست كذلك .. أنا متفق معك في أن انسكاب كمية من الدم على السجادة لا يحدث تأثيرا على الاطلاق .. لابد أن يكون هناك تعويذة ما ، هذه قاعدة أساسية في السحر أن المواد التي تدخل في الطقس السحري لا تتفاعل مع نفسها تلقائيا هكذا ، لابد أن يلقى شخص ما عبارات معينة أو يقوم بحركات مثلا.. وغالبا ما يكون واعيا لهذا.. لكن هؤلاء الأولاد لن يقولوا الحقيقة أبدا ، ربما تكون قصة لعبة الدم من وحي خيالهم ليداروا بها لعبة أكبر لتحضير الجن مثلا كما قلت.. ولأنهم يعرفون خطورة اللعبة فإن المكان المناسب لتجربتها كان هو بيت جدهم العجوز ، الرجل الذي لم يبق في عمره ولا صحته الكثير وأي ضرر سيصيبه فلن تكون الخسارة كبيرة
كان يتحدث عن تقدمه في العمر بمرارة واضحة ، ويبدو أنه أدرك أن أحفاده يتقربون إليه طمعا فيه ، لا ريب أنه يعطيهم من النقود بعلم آبائهم أو بدون علمهم ليكسب ودهم .. ثم قرر هؤلاء الأوغاد ناكري الجميل أن يلوثوا شقته بالأفعال السحرية. إنه لأمر محزن فعلا ولكن "فؤاد" لم يات ليناقش هذه المشاكل العائلية ..
قال ابي : "وما الذي أخطأت فيه إذن ، ما دمت متفقا معي ؟"
رجع العجوز برأسه للخلف ، وقال :"أنت تعتقد أن هناك روحا قد تلبست بالسجادة ، أليس كذلك ؟" .. هز ابي رأسه موافقا. فتابع الرجل :"هذا الخطأ شائع جدا للأسف ، ولكن الحقيقة غير ذلك .. كل الجمادات التي تراها وتعتقد أنها بلا حياة بداخلها شكل من أشكال الروح مثلك تماما. في جلسات تحضير الأرواح لا تأتي روح من خارج المكان أبدا ، إنما الذي ينطق ويتحرك هو روح لشيء موجود !"
بدا عدم الفهم على وجه ابي، فتابع العجوز شارحا :"إذا كانت هناك شمعة مثلا فإن الروح تكون هي روح الشمعة ، تتشكل كما يطلب منها الحاضرون حسب التعويذات التي يقومون بها ، لذلك إذا كان الفعل السحري له علاقة بشخص فإن الساحر يطلب أثرا منه ، قطعة من ملابسه مثلا تستطيع روحها أن تتعرف على من قام بلبسها وإذا وجهت لها تعويذات معينة ربما تؤثر عليه. لاحظ أن هذه الأرواح مختلفة عن أرواحنا ، يمكنك أن تتصورها أطيافا ناقصة ليس لها شكل .."
"رجل السجادة ليس روحا أو جنيا سكن السجادة ، إنه هو السجادة نفسها ! والسجادة التي تراها أنت هي قشرته الخارجية ، كما أنك لست الجسد الذي يجلس أمامي . الجسد هو غلاف لروحك .. "
11
امتلأ قلب ابي بالرهبة وهو يقلب الفكرة في رأسه .. ولم يمنع نفسه من النظر حوله في قطع الأثاث والمفارش والستائر وكأنه يتخيل كل هذه الكائنات التي كانت تحيط به من قبل ساكنة جامدة قد دبت فيها الحياة وأصبحت أفرادا ، رجالا ونساء ..
قال العجوز : "دعنا نعود لقصتنا ، كان رجل السجادة قد بدأ يخرج ويتحرك في المنزل وأنا أشعر به ولكني لم أهتم كثيرا.. في البداية ظننتها تهيؤات رجل عجوز.. كانت السجادة في ذلك الوقت قد أمتلأت بالأتربة وربما وقعت عليها بقايا من الطعام دون أن أنتبه .. كنت مهملا لها ولم أعد أحافظ عليها كما كنت أفعل قبل لعبة الدم تلك .. وعندما بلغت القذارة فيها حدا معينا ، بدأ الرجل في الظهور أمامي..
"إنه لا يحب أن يتلوث جسده ، لا أحد يحب هذا.. لكنه أيضا لا يملك تنظيفها بنفسه ، فهذه الأطياف ضعيفة ومحدودة الإمكانيات ، ولكنها قادرة على الإيذاء أحيانا.. إن السجادة التي تبقى بلا تنظيف لفترة طويلة قد تصيب صاحبها بأمراض كالربو والحساسية.. سيقول الأطباء أن لهذه الأمراض أسبابا علمية ويضيعون وقتهم في تحليلها ، ولن يصدق أحد أن هذا انتقام من طيف السجادة أو روحها.."
شرد فكر ابي قليلا وهو يقول :"لقد نظفت فاطمة السجادة أمس .. أعتقد أنها لا تزال نظيفة حتى الآن"
قال العجوز : "جميل جدا ما فعلته فاطمة ، سوف يحبها رجل السجادة ولن يؤذيها أبدا.. لنعد لقصتنا مرة أخرى ، عندما ظهر لي الرجل بوضوح مستنكرا ما فعلته بسجادته كان هذا فوق احتمالي فأنا رجل عجوز كما ترى .. أعطيت السجادة مرة أخرى لحارس المحلة لكي ينظفها ثم يتخلص منها ، لن أحتفظ بسجادة تخرج منها روحها وتسير بحرية في منزلي كما لابد أنك لو كنت مكاني كنت ستفعل نفس الشيء .. الحارس طلب مني أن يأخذها لنفسه فرفضت وأصررت أن يبيعها لأتأكد من أنها ستذهب بعيدا عني.. وذات يوم جاء الحارس ومعه بعض النقود وقال إنه باع السجادة.. أعطيته جزءا من النقود واحتفظت لنفسي بالباقي ونسيت أمرها تماما حتى جئت لي اليوم "
ساد الصمت للحظات ، حتى قال ابي : "معك حق ، يبدو أن هذا هو الحل الأمثل لهذه السجادة ، ساذهب الآن وأتخلص منها.. اعذرني لانصرافي هكذا فجأة ولكن يجب أن أعود للمنزل قبل المساء حتى لا يظهر ذلك الشبح لفاطمة ."
ثم وقف عازما على مغادرة المكان فاضطر مضيفه الرجل العجوز إلى أن يقوم أيضا ، ولكن وجهه كان يحمل استغرابا وهو يقول :"ومن قال لك أنه يظهر في المساء فقط ؟ إن رجل السجادة يستطيع أن يخرج منها في أي وقت ، وفي الغالب هو الآن جالس مع فاطمة إذا لم يكن هناك غيرها في المنزل !"
امتقع وجه ابي وطلب أن يستخدم هاتف المنزل الخاص بالرجل ليتصل بفاطمة فورا .. وعندما سمع صوتها صاح بها :"أخرجي فورا من الشقة .. أفتحي الباب ونادي على الجيران .. لا تجلسي وحدك في المنزل .. هناك عفريت في السجادة .. اهربي .."
ولكن أخته "فايزة" كانت هادئة وهي ترد عليه :"أعرف ، لقد خرج من السجادة وتفاهمنا سويا .. لن أستطيع أن أخرج من المنزل ولا أن أطلب مساعدة الجيران.. أنا لا أعرفهم وليست لي بهم أي علاقة ، كما أنه ليس مخيفا ولا مؤذيا .. إنه لطيف جدا ، لقد دعاني للذهاب معه إلى عالمه وسوف نرحل بعد قليل .. جميل أنك اتصلت الآن كي أودعك .. كنت أتمنى أن أسلم عليك بنفسي قبل أن أذهب ولكن يبدو أني لن استطيع .. وداعا.. وداعا "
12
وضعت السماعة بينما كان ابي لا يزال ممسكا سماعة هاتف الرجل بيده مذهولا لنصف دقيقة لم يستطع الكلام ، حتى سأله الرجل عما به .. لم يجب ولكنه وضع السماعة مكانها وسأله في كلمات متقطعة :"هل .. هل يمكن أن يذهب إنسان إلى داخل السجادة مع ذلك الرجل ؟ فاطمة تقول إنها ستذهب معه إلى هناك .. هل هذا ممكن ؟"
بدا التعاطف على وجه العجوز، وأجاب بنبرة الخبير بهذه الأمور :"في عالم السحر لا أحد يسأل إن كان شيء ما ممكنا أم لا .. كل شيء ممكن إذا عرفت التعويذة المناسبة وكانت هناك الروح المناسبة .. لكن هذا قد يستغرق بعض الوقت ، فإذا كان منزلكم قريبا من هنا فقد تتمكن من إيقاف الأمر وإنقاذها .."
قال ابي وهو شبه منهار :"لا ، إن بيتنا بعيد .. ساحتاج إلى نصف ساعة على الأقل وليس معي سيارة".
جذب الرجل مفاتيح سيارته من أحد الأدراج وقال له :"أنا سأوصلك .. فالذنب ذنبي في الأساس .. لا وقت لأغير ملابسي .. هيا بنا بسرعة قبل أن يأخذها الرجل معه ولا تراها مرة أخرى"
هم ابي بالاعتراض واقناع العجوز بأنه سيذهب بسيارة أجرة ، لأنه ظن أن الرجل العجوز سيقود ببطء شديد ، لكنه فوجئ بالسرعة التي يقود بها العجوز سيارته كأي شاب طائش في العشرينيات من عمره.. هذا الرجل لا يريد أن يعترف بأنه تجاوز سن الشباب .. ربما تكون قصة أحفاده ولعبهم بالدم فوق السجادة غير دقيقة إن الفكرة الأقرب للمنطق هي أن من قام بالطقوس السحرية العجوز نفسه.. يبدو أنه يعرف الكثير عن السحر ولعله قرأ في كتاب ما عن وصفه تعيد الشباب فقام بتجربتها فكان من نتائجها تحرير رجل السجادة من سجنه..
لكنه لم يصارح العجوز باستنتاجه هذا ، واكتفى بمراقبة الطريق وأعصابه مشدودة وهو يتخيل فاطمة مع هذه الروح الغريبة التي تحررت من سجادتها على شكل رجل شاب قوي ولكن لماذا تذهب معه فاطمة بإرادتها ؟ هل تأثرت بشكله الخارجي أو يكون لذلك الشيء قدرات نفسية لجذب القلوب أو تنفيرها ؟
اختصرت سيارة العجوز زمن الطريق إلى ربع ساعة فقط ، وما أن اقتربت من المنزل حتى فتح ابي الباب ونزل يجري ، تاركا صاحب السيارة يبحث عن مكان مناسب ليوقفها فيه .. وعندما اقترب من المنزل سمع صوتا بداخله فاطمأن فليلا ، لازالت الطقوس مستمرة وهناك أمل في إيقافها ، فتح الباب بسرعة وألقى نظرة على السجادة الملقاه في السرداب وخيل إليه أن هناك حركة خافتة فوق سطحها اختفت بمجرد اقترابه .. بحث في جميع ارجاء المنزل عن فاطمة أو أي أثر لها فلم يجد شيئا .. لقد انتقلت إلى عالم السجادة في اللحظة التي كان هو يفتح فيها الباب !
13
الجزء الاخير ..
ارتمى ابي محبطا على أحد الكراسي تاركا باب المنزل مفتوحا وبعد قليل صعد العجوز وعندما تلاقت نظراتهما أدرك الأخير أن فاطمة قد رحلت .. قام ابي ووقف على السجادة وأخذ يقفز فوقها بهسيتريا وهو يصيح :"أخرج ، أخرج أيها الجبان وواجهني" ..
جذبه العجوز من ذراعيه وأجلسه مرة أخرى على الكرسي ، وقال له :"لا تحاول .. لن يخرج إلا برغبته ولو حرقت السجادة " .. رد ابي بحزن :"لا أستطيع حرقها وفاطمة بداخلها .. ربت العجوز على كتفه وقال وهو يغادر المنزل :" إذا أردت رأيي : تخلص من هذه السجادة بالطريقة التي تريحك .. لكن من فضلك لا تذكر أسمي أو عنواني لأحد ، ولا تخبر أحدا بما قلته لك .. لقد أردت أن أريح ضميري وساعدتك قدر استطاعتي ، وأخبرتك ما لدي من المعلومات عن السجادة ، أو ما يهمك أن تعرفه على الأقل .. والآن هي مسؤوليتك وأنا لا صلة لي بها .. اسمح لي أن أنصرف بعد إذنك" ..
بقيت السجادة في سرداب المنزل شهرا كاملا وكل يوم يجلس أمامها ابي ويحاول مع رجل السجادة بالترهيب أو الترغيب لعله يخرج ويكلمه ، لكن الرجل لم يكن يسمع شيئا من هذا الكلام فليس للسجادة آذان ولا عيون لتسمع وترى ، إنها تستقبل من العالم الخارجي عندما تريد فقط وهي لا ترغب في ذلك الآن.. ومع مرور الوقت بدأ ابي يشك في أن كل هذا قد حدث فعلا .. لم لا تكون فاطمة قد اختلقت قصة شبح السجادة لتهرب من المنزل ؟ ولم لا يكون الرجل العجوز المدعو "عماد" مجرد شخص مخبول وجد فرصة ليتسلى بسذاجته وقام بتأليف موضوع الأرواح هذا من عقله المريض ؟
وذات يوم بعد أن انتهى من صلاة المغرب جاءته فكرة لا بأس بها ، أن يهدي السجادة للجامع فيصلي عليها الناس وتحل الرحمة والسكينة على من في السجادة ، وربما تخرج فاطمة مرة أخرى من السجادة ببركة الصلاة .. وإن كانت كل هذه القصة كذبة كبيرة فهو لم يخسر شيئا ، على الأقل سيأخذ ثواب هديته للمسجد ..
حمل السجادة وانطلق للجامع وتحدث مع أحد العاملين فيه ، أخبره العامل أن الجامع ليس بحاجة إلى سجادة حاليا ولكنه سيضعها في المخزن لعلهم يحتاجونها قريبا بعد توسعة المسجد .. وبعد أسبوع اكتشف العامل أن التوسعة الجديدة سيكون فيها "موكيت" وأن السجادة لم تعد مفيدة للجامع فقرر أن يبيعها ويساهم بثمنها في شراء "الموكيت" الجديد .. وفي نيته أن يظل الثواب قائما لصاحبها بإذن الله .
هذا ما قصة ابي على مسامعنا في ليلة مقمرة من على سطح منزل جدتي في الموصل اثر سهرة جميلة ضمت الاقارب المقربون جدا مع حفنة من العمات اللطيفات . ولا زلنا ليومنا هذا لا نعلم علم اليقين هل عادت فاطمة الى اهلها في الشمال ام بقيت بصحبة رجل السجادة حتى كبرنا وعلمنا انها قصة نسجت من وحي الخيال كقصص الف ليلة وليلة للسمر والسهر فقط كانت فاطمة هي الشخصية الحقيقية في كل فصول هذه القصة .
مواضيع مماثلة
» * قصص قصيرة : جنون حمهوري - قصص رعب قصيرة جدا - خروج الروح وعودتها
» قصص قصيرة : جبل الشيطان -
» * قصص قصيرة - تكسي بغداد : من ( 11- 23 )
» * قصص قصيرة - تكسي بغداد : من ( 1- 10 )
» *قصص قصيرة - فزاعة الحب : الاجزاء من ( 11-20 )
» قصص قصيرة : جبل الشيطان -
» * قصص قصيرة - تكسي بغداد : من ( 11- 23 )
» * قصص قصيرة - تكسي بغداد : من ( 1- 10 )
» *قصص قصيرة - فزاعة الحب : الاجزاء من ( 11-20 )
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى