* في رحاب التفسير 1
صفحة 1 من اصل 1
* في رحاب التفسير 1
(1)
*{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }*
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف قـيـل: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً } وقد علـمت أن الهاء والـميـم من قوله: { مَثَلُهُمْ } كناية جماعة من الرجال أو الرجال والنساء. «والذي» دلالة علـى واحد من الذكور؟ فكيف جعل الـخبر عن واحد مثلاً لـجماعة؟ وهلاّ قـيـل: مثلهم كمثل الذين استوقدوا ناراً وإن جاز عندك أن تـمثل الـجماعة بـالواحد فتـجيز لقائل رأى جماعة من الرجال فأعجبته صورهم وتـمام خـلقهم وأجسامهم أن يقول: كأن هؤلاء، أو كأن أجسام هؤلاء، نـخـلة.
قـيـل: أما فـي الـموضع الذي مثل ربنا جل ثناؤه جماعة من الـمنافقـين بـالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلاً فجائز حسن، وفـي نظائره كما قال جل ثناؤه فـي نظير ذلك: تَدُورُ أعْيُنُهُمْ كالَّذِي يُغْشَى عَلَـيْهِ مِنَ الـمَوْتِ يعنـي كدوران عين الذي يغشى علـيه من الـموت، وكقوله: ما خَـلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ بـمعنى إلا كبعث نفس واحدة.
وأما فـي تـمثـيـل أجسام الـجماعة من الرجال فـي طول وتـمام الـخـلق بـالواحدة من النـخيـل، فغير جائز ولا فـي نظائره لفرق بـينهما.
فأما تـمثـيـل الـجماعة من الـمنافقـين بـالـمستوقد الواحد، فإنـما جاز لأن الـمراد من الـخبر عن مثل الـمنافقـين الـخبر عن مثل استضاءتهم بـما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون من اعتقاداتهم الرديئة، وخـلطهم نفـاقهم البـاطن بـالإقرار بـالإيـمان الظاهر. والاستضاءةُ وإن اختلفت أشخاص أهلها معنى واحد لا معان مختلفة. فـالـمثل لها فـي معنى الـمَثَل للشخص الواحد من الأشياء الـمختلفة الأشخاص. وتأويـل ذلك: مثل استضاءة الـمنافقـين بـما أظهروه من الإقرار بـالله وبـمـحمد صلى الله عليه وسلم، وبـما جاء به قولاً وهم به مكذّبون اعتقاداً، كمثل استضاءة الـموقد ناراً. ثم أسقط ذكر الاستضاءة وأضيف الـمثل إلـيهم، كما قال نابغة بنـي جعدة:
وكَيْفَ تُواصِلُ مَن أصْبَحَتْ خِلالَتُهُ كأبـي مَرْحَبِ
يريد كخلالة أبـي مرحب، فأسقط «خلالة»، إذ كان فـيـما أظهر من الكلام دلالة لسامعيه علـى ما حذف منه. فكذلك القول فـي قوله: { مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً } لـما كان معلوماً عند سامعيه بـما أظهر من الكلام أن الـمثل إنـما ضرب لاستضاءة القوم بـالإقرار دون أعيان أجسامهم حسن حذف ذكر الاستضاءة وإضافة الـمثل إلـى أهله. والـمقصود بـالـمثل ما ذكرنا، فلـما وصفنا جاز وحسن قوله: { مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً } ويشبه مثل الـجماعة فـي اللفظ بـالواحد، إذ كان الـمراد بـالـمثل الواحد فـي الـمعنى. وأما إذا أريد تشبـيه الـجماعة من أعيان بنـي آدم أو أعيان ذوي الصور والأجسام بشيء، فـالصواب من الكلام تشبـيه الـجماعة بـالـجماعة والواحد بـالواحد، لأن عين كل واحد منهم غير أعيان الآخرين. ولذلك من الـمعنى افترق القول فـي تشبـيه الأفعال والأسماء، فجاز تشبـيه أفعال الـجماعة من الناس وغيرهم إذا كانت بـمعنى واحد بفعل الواحد، ثم حذف أسماء الأفعال، وإضافة الـمثل والتشبـيه إلـى الذين لهم الفعل، فـيقال: ما أفعالكم إلا كفعل الكلب، ثم يحذف فـيقال: ما أفعالكم إلا كالكلب أو كالكلاب، وأنت تعنـي: إلا كفعل الكلب وإلا كفعل الكلاب.
{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }*
قال أبو جعفر: إن قال قائل: وكيف اشترى هؤلاء القوم الضلالة بـالهدى، وإنـما كانوا منافقـين لـم يتقدم نفـاقهم إيـمان فـيقال فـيهم بـاعوا هداهم الذي كانوا علـيه بضلالتهم التـى استبدلوها منه؟ وقد علـمت أن معنى الشراء الـمفهوم اعتـياض شيء ببذل شيء مكانه عوضاً منه، والـمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة لـم يكونوا قط علـى هدى فـيتركوه ويعتاضوا منه كفراً ونفـاقاً؟ قـيـل: قد اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك، فنذكر ما قالوا فـيه، ثم نبـين الصحيح من التأويـل فـي ذلك إن شاء الله.
حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَروا الضَّلالَةَ بـالهُدَى } أي الكفر بـالإيـمان.
وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم: { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَروا الضَّلالَةَ بـالهُدَى } يقول أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَروا الضَّلالَةَ بـالهُدَى }: استـحبّوا الضلالة علـى الهدى.
وحدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد فـي قوله: { أولَئِكَ الَّذِينَ اشْتروا الضَّلالَةَ بـالهُدَى } آمنوا ثم كفروا.
وحدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله.
قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا فـي تأويـل ذلك: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وجهوا معنى الشراء إلـى أنه أخذ الـمشتري مكان الثمن الـمشترى به، فقالوا: كذلك الـمنافق والكافر قد أخذا مكان الإيـمان الكفر، فكان ذلك منهما شراء للكفر والضلالة اللذين أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى، وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضا من الضلالة التـي أخذاها.
وأما الذين تأولوا أن معنى قوله: «اشتروا»: «استـحبوا»، فإنهم لـما وجدوا الله جل ثناؤه قد وصف الكفـار فـي موضع آخر فنسبهم إلـى استـحبـابهم الكفر علـى الهدى، فقال:
{ وأمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهمْ فـاسْتَـحَبُّوا العَمَى علـى الهُدَى }
صرفوا قوله: { اشْتَروا الضَّلالَةَ بـالهُدَى } إلـى ذلك وقالوا: قد تدخـل البـاء مكان «علـى»، و«علـى» مكان البـاء، كما يقال: مررت بفلان ومررت علـى فلان بـمعنى واحد، وكقول الله جل ثناؤه: { وَمنْ أهْلِ الكِتابِ مَنْ إنْ تأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤدّهِ إلَـيْكَ } أي: علـى قنطار. فكان تأويـل الآية علـى معنى هؤلاء: أولئك الذين اختاروا الضلالة علـى الهدى.
{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }*
قال أبو جعفر: اختلف فـي صفة استهزاء الله جل جلاله الذي ذكر أنه فـاعله بـالـمنافقـين الذين وصف صفتهم. فقال بعضهم: استهزاؤه بهم كالذي أخبرنا تبـارك اسمه أنه فـاعل بهم يوم القـيامة فـي قوله تعالـى:
{ يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتُ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ }
قـيل
{ ٱرْجِعُواْ وَرَاءكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَـٰهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ يُنَـٰدُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ }
الآية، وكالذي أخبرنا أنه فعل بـالكفـار بقوله:
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً }
فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جل وعز وسخريته ومكره وخديعته للـمنافقـين وأهل الشرك به، عند قائلـي هذا القول ومتأوّلـي هذا التأويـل. وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم: توبـيخه إياهم ولومه لهم علـى ما ركبوا من معاصي الله والكفر به، كما يقال: إن فلاناً لـيهزأ منه الـيوم ويسخر منه يراد به توبـيخ الناس إياه ولومهم له، أو إهلاكه إياهم وتدميره بهم، كما قال عَبِـيد بن الأبرص:
سائِلْ بِنا حُجْرَ ابْنَ أُمّ قَطامِ إذْ ظَلَّتْ بهِ السُّمْرُ النَّوَاهلُ تَلْعَبُ
فزعموا أن السمر وهي القنا لا لعب منها، ولكنها لـما قتلتهم وشردتهم جعل ذلك من فعلها لعبـاً بـمن فعلت ذلك به قالوا: فكذلك استهزاء الله جل ثناؤه بـمن استهزأ به من أهل النفـاق والكفر به، إما إهلاكه إياهم وتدميره بهم، وإما إملاؤه لهم لـيأخذهم فـي حال أمنهم عند أنفسهم بغتة، أو توبـيخه لهم ولأئمته إياهم. قالوا: وكذلك معنى الـمكر منه والـخديعة والسخرية.
وقال آخرون: قوله:
{ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ }
علـى الـجواب، كقول الرجل لـمن كان يخدعه إذا ظفر به: أنا الذي خدعتك ولـم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذْ صار الأمر إلـيه. قالوا: وكذلك قوله:
{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ }
والله يستهزىء بهم علـى الـجواب، والله لا يكون منه الـمكر ولا الهزء. والـمعنى: أن الـمكر والهزء حاق بهم.
وقال آخرون: قوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } وقوله:
{ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }
وقوله:
{ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ وَنَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ }
وما أشبه ذلك، إخبـار من الله أنه مـجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الـخداع. فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي علـيه استـحقوا العقاب فـي اللفظ وإن اختلف الـمعنـيان، كما قال جل ثناؤه:
{ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها }
ومعلوم أن الأولـى من صاحبها سيئة إذ كانت منه لله تبـارك وتعالـى معصية، وأن الأخرى عدل لأنها من الله جزاء للعاصي علـى الـمعصية. فهما وإن اتفق لفظاهما مختلفـا الـمعنى. وكذلك قوله:
{ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ }
فـالعدوان الأول ظلـم، والثانـي جزاء لا ظلـم، بل هو عدل لأنه عقوبة للظالـم علـى ظلـمه وإن وافق لفظه لفظ الأول.
{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ }*
قال أبو جعفر: وهذه الآية نظير الآية الأخرى التـي أخبر الله جل ثناؤه فـيها عن الـمنافقـين بخداعهم الله ورسوله والـمؤمنـين، فقال:
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بـاللَّهِ وَبـالـيَوْمِ الآخِرِ }
ثم أكذبهم تعالـى ذكره بقوله:
{ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ }
وأنهم بقـيـلهم ذلك يخادعون الله والذين آمنوا. وكذلك أخبر عنهم فـي هذه الآية أنهم يقولون للـمؤمنـين الـمصدقـين بـالله وكتابه ورسوله بألسنتهم: آمنا وصدّقنا بـمـحمدٍ وبـما جاء به من عند الله، خداعا عن دمائهم وأموالهم وذراريهم، ودرءا لهم عنها، وأنهم إذا خـلوا إلـى مَرَدَتِهم وأهل العتوّ والشرّ والـخبث منهم ومن سائر أهل الشرك الذين هم علـى مثل الذي هم علـيه من الكفر بـالله وبكتابه ورسوله وهم شياطينهم. وقد دللنا فـيـما مضى من كتابنا علـى أن شياطين كل شيء مردته قالوا لهم: { إنَّا مَعَكُمْ } أي إنا معكم علـى دينكم، وظهراؤكم علـى من خالفكم فـيه، وأولـياؤكم دون أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم، إنـما نـحن مستهزئون بـالله وبكتابه ورسوله وأصحابه. كالذي:
حدثنا مـحمد بن العلاء: قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال حدثنا بشر بن عمار عن أبـي روق، عن الضحاك، عن ابن عبـاس فـي قوله: { وَإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا } قال: كان رجال من الـيهود إذا لقوا أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم أو بعضهم، قالوا: إنا علـى دينكم، وإذا خـلوا إلـى أصحابهم وهم شياطينهم { قالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ }.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { وَإذَا لَقُوا اللَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وإذا خَـلَوْا إلـى شَياطِينِهِمْ } قال: إذا خـلوا إلـى شياطينهم من يهود الذين يأمرونهم بـالتكذيب، وخلاف ما جاء به الرسول { قالُوا إنَّا مَعَكُمْ } أي إنا علـى مثل ما أنتـم علـيه { إنَّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ }.
حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطِينِهِمْ أما شياطينهم } أما شياطينهم، فهم رؤوسهم فـي الكفر.
حدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: { وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطِينِهِمْ } أي رؤسائهم وقادتهم فـي الشرّ،
{ قالُوا إنـما نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُون }
حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة فـي قوله: { وَإذَا خَـلَوْا إلـى شياطينِهِمْ } قال: الـمشركون.
حدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، قال: حدثنا عبد الله بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول الله عز وجل: { وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطِينِهِمْ } قال: إذا خلا الـمنافقون إلـى أصحابهم من الكفـار.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }*
قال أبو جعفر: وتأويـل قوله: { وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ آمِنُوا كما آمَنَ النَّاسُ } يعنـي: وإذا قـيـل لهؤلاء الذين وصفهم الله ونعتهم بأنهم يقولون { آمَنَّا بـاللَّهِ وَبِـالـيَوْمِ الآخِرِ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ }: صَدِّقوا بـمـحمد وبـما جاء به من عند الله كما صدّق به الناس. ويعنـي «بالناس» الـمؤمنـين الذين آمنوا بـمـحمد ونبوّته وما جاء به من عند الله. كما:
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمار، عن أبـي روق، عن الضحاك عن ابن عبـاس فـي قوله: { وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ آمِنُوا كما آمَنَ النَّاسُ } يقول: وإذا قـيـل لهم صدّقوا كما صدّق أصحاب مـحمد، قولوا: إنه نبـيّ ورسول، وإن ما أنزل علـيه حق. وصَدِّقوا بـالآخرة، وأنكم مبعوثون من بعد الـموت.
وإنـما أدخـلت الألف واللام فـي «الناس» وهم بعض الناس لا جميعهم لأنهم كانوا معروفـين عند الذين خوطبوا بهذه الآية بأعيانهم. وإنـما معناه: آمنوا كما آمن الناس الذين تعرفونهم من أهل الـيقـين والتصديق بـالله وبـمـحمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند الله وبـالـيوم الآخر، فلذلك أدخـلت الألف واللام فـيه كما أدخـلتا فـي قوله:
{ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ }
لأنه أشير بدخولها إلـى ناس معروفـين عند من خوطب بذلك.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالوا أنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ }.
قال أبو جعفر: والسفهاء جمع سفـيه، كالعلـماء جمع علـيـم، والـحكماء جمع حكيـم. والسفـيه: الـجاهل الضعيف الرأي، القلـيـل الـمعرفة بـمواضع الـمنافع والـمضارّ ولذلك سمى الله عزّ وجل النساء والصبـيان سفهاء، فقال تعالـى:
{ وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَاء أَمْوٰلَكُمُ ٱلَّتِى جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ }
قِـياماً فقال عامة أهل التأويـل: هم النساء والصبـيان لضعف آرائهم، وقلة معرفتهم بـمواضع الـمصالـح والـمضارّ التـي تصرف إلـيها الأموال. وإنـما عنى الـمنافقون بقـيـلهم أنؤمن كما آمن السفهاء، إذْ دُعوا إلـى التصديق بـمـحمد صلى الله عليه وسلم، وبـما جاء به من عند الله، والإقرار بـالبعث، فقال لهم: آمنوا كما آمن أصحاب مـحمد وأتبـاعه من الـمؤمنـين الـمصدقـين به أهل الإيـمان والـيقـين والتصديق بـالله وبـما افترض علـيهم علـى لسان رسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم وفـي كتابه وبـالـيوم الآخر، فقالوا إجابة لقائل ذلك لهم: أنؤمن كما آمن أهل الـجهل ونصدق بـمـحمد صلى الله عليه وسلم كما صدق به هؤلاء الذين لا عقول لهم ولا أفهام كالذي:
حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم، قالوا: { أنُؤْمِنُ كما آمَنَ السُّفَهاءُ } يعنون أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم.
{ *وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } * { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } * { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } * { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }
«وإذا قيل لهم» معطوف على يكذبون. ويجوز أن يعطف على (يقول آمنا) لأنك لو قلت: ومن الناس من إذا قيل لهم لا تفسدوا، كان صحيحاً، والأوّل أوجه.
والفساد: خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به، ونقيضه؛ الصلاح، وهو الحصول على الحال المستقيمة النافعة. والفساد في الأرض: هيج الحروب والفتن، لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية. قال الله تعالى:
{ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلاْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ }
[البقرة: 205]
{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَاء }
[البقرة: 30]. ومنه قيل لحرب كانت بين طيء: حرب الفساد. وكان فساد المنافقين في الأرض. أنهم كانوا يمايلون الكفار ويمالئونهم على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم عليهم، وذلك مما يؤدّي إلى هيج الفتن بينهم، فلما كان ذلك من صنيعهم مؤدياً إلى الفساد قيل لهم: { لا تفسدوا } ، كما تقول للرجل: لا تقتل نفسك بيدك، ولا تلق نفسك في النار، إذا أقدم على ما هذه عاقبته. و { إِنَّمَا } لقصر الحكم على شيء، كقولك: إنما ينطق زيد، أو لقصر الشيء على حكم كقولك: إنما زيد كاتب. ومعنى { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد. و { ألآ } مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي، لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقاً كقوله:
{ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ }
[القيامة: 40]؟ ولكونها في هذا المنصب من التحقيق، لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدّرة بنحو ما يتلقى به القسم. وأختها التي هي «أما» من مقدّمات اليمين وطلائعها:
أَمَا والَّذِي لا يَعْلَمُ الغَيْبَ غيْرُهُ أَمَا والَّذِي أَبْكَى وأَضحَكَ
ردّ الله ما ادعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ ردّ وأدله على سخط عظيم، والمبالغة فيه من جهة الاستئناف وما في كلتا الكلمتين ألا. وإن من التأكيدين وتعريف الخبر وتوسيط الفصل. وقوله: { لاَّ يَشْعُرُونَ } أتوهم في النصيحة من وجهين: أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده من الصواب وجرّه إلى الفساد والفتنة. والثاني: تبصيرهم الطريق الأسد من أتباع ذوي الأحلام، ودخولهم في عدادهم؛ فكان من جوابهم أن سفهوهم لفرط سفههم، وجهلوهم لتمادي جهلهم. وفي ذلك تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة. فإن قلت: كيف صح أن يسند «قيل» إلى «لا تفسدوا، وآمنوا» وإسناد الفعل إلى الفعل مما لا يصح؟ قلت: الذي لا يصح هو إسناد الفعل إلى معنى الفعل، وهذا إسناد له إلى لفظه، كأنه قيل: وإذا قيل لهم هذا القول وهذا الكلام. فهو نحو قولك: «ألف» ضرب من ثلاثة أحرف.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }*
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل هذه الآية، فروي عن سلـمان الفـارسي أنه كان يقول: لـم يجيءْ هؤلاء بعد.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثام بن علـيّ، قال: حدثنا الأعمش، قال: سمعت الـمنهال بن عمرو يحدّث عن عبـاد بن عبد الله، عن سلـمان، قال: ما جاء هؤلاء بعد، الذين { إذَا قـيـلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فـي الأرْضِ قالُوا إنَّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ }.
حدثنـي أحمد بن عثمان بن حكيـم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شريك، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي الأعمش، عن زيد بن وهب وغيره، عن سلـمان أنه قال فـي هذه الآية: { وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فـي الأرْضِ قالُوا إنَّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ } قال ما جاء هؤلاء بعد. وقال آخرون بـما:
حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: { وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فـي الأرْض قالُوا إنَّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ } هم الـمنافقون. أما { لا تفسدوا فـي الأرض } فإن الفساد هو الكفر والعمل بـالـمعصية.
وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: { وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فـي الأرْضِ } يقول: لا تعصوا فـي الأرض. قال: فكان فسادهم علـى أنفسهم ذلك معصية الله جل ثناؤه، لأن من عصى الله فـي الأرض أو أمر بـمعصيته فقد أفسد فـي الأرض، لأن إصلاح الأرض والسماء بـالطاعة.
وأولـى التأويـلـين بـالآية تأويـل من قال: إن قول الله تبـارك اسمه: { وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فـي الأرْضِ قالُوا إنَّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ } نزلت فـي الـمنافقـين الذين كانوا علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان معنـياً بها كل من كان بـمثل صفتهم من الـمنافقـين بعدهم إلـى يوم القـيامة. وقد يحتـمل قول سلـمان عند تلاوة هذه الآية: «ما جاء هؤلاء بعد» أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصفة علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خبراً منه عمن جاء منهم بعدهم ولـما يجيء بعد، لا أنه عنى أنه لـم يـمض مـمن هذه صفته أحد.
وإنـما قلنا أولـى التأويـلـين بـالآية ما ذكرنا، لإجماع الـحجة من أهل التأويـل علـى أن ذلك صفة من كان بـين ظهرانـي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الـمنافقـين، وأن هذه الآيات فـيهم نزلت. والتأويـل الـمـجمع علـيه أولـى بتأويـل القرآن من قول لا دلالة علـى صحته من أصل ولا نظير.
{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }*
وأصل الـمرض: السقم، ثم يقال ذلك فـي الأجساد والأديان فأخبر الله جل ثناؤه أن فـي قلوب الـمنافقـين مرضاً. وإنـما عنى تبـارك وتعالـى بخبره عن مرض قلوبهم الـخبر عن مرض ما فـي قلوبهم من الاعتقاد ولكن لـما كان معلوماً بـالـخبر عن مرض القلب أنه معنىّ به مرض ما هم معتقدوه من الاعتقاد استغنى بـالـخبر عن القلب بذلك والكناية عن تصريح الـخبر عن ضمائرهم واعتقاداتهم كما قال عمر بن لـجأ:
وَسَبَّحَتِ الـمَدِينَةُ لا تَلُـمْها رأتْ قَمَراً بِسُوقِهِمُ نَهارا
يريد وسبح أهل الـمدينة. فـاستغنى بـمعرفة السامعين خبره بـالـخبر عن الـمدينة عن الـخبر عن أهلها. ومثله قول عنترة العبسيّ:
هَلاَّ سألْتِ الـخَيْـلَ يا ابنْةَ مالِ كِإنْ كُنْتِ جاهِلَةً بِـمَا لَـمْ تَعْلَـمِي
يريد: هلا سألت أصحاب الـخيـل؟ ومنه قولهم: يا خيـل الله اركبـي، يراد: يا أصحاب خيـل الله اركبوا.
والشواهد علـى ذلك أكثر من أن يحصيها كتاب، وفـيـما ذكرنا كفـاية لـمن وفق لفهمه. فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه: { فـي قُلُوبِهمْ مَرَضٌ } إنـما يعنـي فـي اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه فـي الدين والتصديق بـمـحمد صلى الله عليه وسلم، وبـما جاء به من عند الله مرض وسقم. فـاجتزأ بدلالة الـخبر عن قلوبهم علـى معناه عن تصريح الـخبر عن اعتقادهم. والـمرض الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه فـي اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه هو شكهم فـي أمر مـحمد، وما جاء به من عند الله وتـحيرهم فـيه، فلا هم به موقنون إيقان إيـمان، ولا هم له منكرون إنكار إشراك ولكنهم كما وصفهم الله عز وجل
{ مذبذبون بـين ذلك لا إلـى هؤلاء ولا إلـى هؤلاء }
كما يقال: فلان يـمرض فـي هذا الأمر، أي يضعف العزم ولا يصحح الروية فـيه. وبـمثل الذي قلنا فـي تأويـل ذلك تظاهر القول فـي تفسيره من الـمفسرين ذكر من قال ذلك:
حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { فـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي شكّ.
وحدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق عن الضحاك، عن ابن عبـاس، قال: الـمرض: النفـاق.
حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: { فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } يقول: فـي قلوبهم شك.
حدثنـي يونس بن عبد الأعلَـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد فـي قوله: { فـي قُلُوبِهِمْ مَرَض } قال: هذا مرض فـي الدين ولـيس مرضاً فـي الأجساد.
{ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ }*
قال أبو جعفر: وخداع الـمنافق ربه والـمؤمنـين إظهاره بلسانه من القول والتصديق خلاف الذي فـي قلبه من الشك والتكذيب لـيدرأ عن نفسه بـما أظهر بلسانه حُكْمَ الله عز وجل،اللازمَ من كان بـمثل حاله من التكذيب لو لـم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار من القتل والسبـاء، فذلك خداعه ربه وأهل الإيـمان بـالله.
فإن قال قائل: وكيف يكون الـمنافق لله وللـمؤمنـين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقـية؟ قـيـل: لا تـمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي هو فـي ضميره تقـية لـينـجو مـما هو له خائف، فنـجا بذلك مـما خافه مخادعاً لـمن تـخـلص منه بـالذي أظهر له من التقـية، فكذلك الـمنافق سمي مخادعاً لله وللـمؤمنـين بـاظهاره ما أظهر بلسانه تقـية مـما تـخـلص به من القتل والسبـاء والعذاب العاجل، وهو لغير ما أظهر مستبطن، وذلك من فعله وإن كان خداعاً للـمؤمنـين فـي عاجل الدنـيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنـيتها ويسقـيها كأس سرورها، وهو موردها به حياض عطبها، ومـجرّعها به كأس عذابها، ومذيقها من غضب الله وألـيـم عقابه ما لا قبل لها به. فذلك خديعته نفسه ظنّا منه مع إساءته إلـيها فـي أمر معادها أنه إلـيها مـحسن، كما قال جل ثناؤه: { وَما يَخْدَعُونَ إلاَّ أنْفُسَهُمْ وَما يَشْعَرُونَ } إعلاماً منه عبـاده الـمؤمنـين أن الـمنافقـين بإساءتهم إلـى أنفسهم فـي إسخاطهم ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم علـى عمياء من أمرهم مقـيـمون.
وبنـحو ما قلنا فـي تأويـل ذلك كان ابن زيد يقول.
حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب قال: سألت عبد الرحمن بن زيد، عن قول الله جل ذكره: يُخادعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا إلـى آخر الآية، قال: هؤلاء الـمنافقون يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا، أنهم مؤمنون بـما أظهروا.
وهذه الآية من أوضح الدلـيـل علـى تكذيب الله جل ثناؤه قول الزاعمين: إن الله لا يعذب من عبـاده إلا من كفر به عناداً، بعد علـمه بوحدانـيته، وبعد تقرّر صحة ما عاند ربه تبـارك وتعالـى علـيه من توحيده والإقرار بكتبه ورسله عنده لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عن الذين وصفهم بـما وصفهم به من النفـاق وخداعهم إياه والـمؤمنـين أنهم لا يشعرون أنهم مبطلون فـيـما هم علـيه من البـاطل مقـيـمون، وأنهم بخداعهم الذي يحسبون أنهم به يخادعون ربهم وأهل الإيـمان به مخدوعون. ثم أخبر تعالـى ذكره أن لهم عذابـاً ألـيـماً بتكذيبهم بـما كانوا يكذبونه من نبوّة نبـيه واعتقاد الكفر به، وبـما كانوا يكذبون فـي زعمهم أنهم مؤمنون، وهم علـى الكفر مصرّون
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }*
قال أبو جعفر: أما قوله: { وَمِنَ النَّاسِ } فإن فـي الناس وجهين: أحدهما أن يكون جمعاً لا واحد له من لفظه، وإنـما واحده إنسان وواحدته إنسانة. والوجه الآخر: أن يكون أصله «أُناس» أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها، ثم دخـلتها الألف واللام الـمعرّفتان، فأدغمت اللام التـي دخـلت مع الألف فـيها للتعريف فـي النون، كما قـيـل فـي:
{ لكنّ هُوَ اللّهُ رَبـي }
علـى ما قد بـينا فـي اسم الله الذي هو الله.
وقد زعم بعضهم أن الناس لغة غير أناس، وأنه سمع العرب تصغره نُوَيْس من الناس، وأن الأصل لو كان أناس لقـيـل فـي التصغير: أُنَـيْس، فردّ إلـى أصله.
وأجمع جميع أهل التأويـل علـى أن هذه الآية نزلت فـي قوم من أهل النفـاق، وأن هذه الصفة صفتهم. ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويـل بأسمائهم:
حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بـاللّهِ وَبـالْـيَوْمِ الآخرِ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنـينَ } يعنـي الـمنافقـين من الأوس والـخزرج، ومن كان علـى أمرهم. وقد سُمِّي فـي حديث ابن عبـاس هذا أسماؤهم عن أبـيّ بن كعب، غير أنـي تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم.
حدثنا الـحسين بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة فـي قوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بـاللّهِ وَبـالْـيَوْمِ الآخِرِ وَما هُم بِـمُؤْمِنِـينَ } حتـى بلغ:
{ فَمَا رَبِحَتْ تِـجارَتُهُمْ وَما كَانُوا مُهْتَدِينَ }
قال: هذه فـي الـمنافقـين.
حدثنا مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، قال: حدثنا عبد الله بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: هذه الآية إلـى ثلاث عشرة فـي نعت الـمنافقـين.
حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله.
حدثنا سفـيان، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن رجل، عن مـجاهد مثله.
حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن إسماعيـل السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرّة، وعن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: { وَمِنَ الناسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بـاللّهِ وَبـالـيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِـمؤْمِنِـينَ } هم الـمنافقون.
حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس فـي قوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بـاللّهِ وَبـالْـيَوْمِ الآخِرِ } إلـى:
{ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرضاً وَلَهُمُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ }
قال: هؤلاء أهل النفـاق.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج فـي قوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بـاللّهِ وَبـالـيَوْمِ الآخِرِ وَما همْ بِـمُؤْمِنِـينَ } قال: هذا الـمنافق يخالف قولُه فعلَه وسرُّه علانـيَته، ومدخـلُه مخرجَه، ومشهدُه مغيَبه
{ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }*
القول في تأويل قوله جل ثناؤه { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهموعلى أبصارهم غِشاوة ولهم عذاب عظيم } وأصل الختم الطبع، والخاتم:هو الطابع، يقال: منه ختمت الكتاب: إذا طبعته،
فإن قال لنا قائل: وكيف يختم على القلوب،وإنما الختم طبع على الأوعية والظروف والغلف؟ قيل: فإن قلوب العباد أوعية لما أودعت من العلوم وظروف لما جعل فيها من المعارف بالأمور، فمعنى الختم عليها وعلى الاسماع التي بها تدرك المسموعات، ومن قبلها يوصل إلى معرفة حقائق الأنباء،عن المغيبات نظير معنى الختم،على سائر الأوعية والظروف.
فإن قال: فهل لذلك من صفة تصفها لنا فنفهمها؟ أهي مثل الختم الذي يعرف لما ظهر للأبصار، أم هي بخلاف ذلك؟ قيل: قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك، وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم.
فحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملى،قال: حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش قال أرانا مجاهد بيده فقال كانوا يرون أن القلب في مثل هذا يعني الكف فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه وقال بإصبعه الخنصر هكذا فإذا أذنب ضم وقال بإصبع أخرى فإذا أذنب ضم وقال باصبع أخرى هكذا حتى ضم اصابعه كلها قال ثم يطبع عليه بطابع قال مجاهد وكانوا يرون أن ذلك الرين.
حدثناأبو كريب، قال: حدثنا وكيع عن الأعمش، عن مجاهد قال القلب مثل الكف، فإذا أذنب ذنبا قبض أصبعا حتى يقبض أصابعه كلها، وكان أصحابنا يرون أنه الران.
حدثناالقاسم بن الحسن، قال حدثنا الحسين بن داود، قال حدثني حجاج، قال حدثنا ابن جريج، قال: قال مجاهد: نبئت أن الذنوب على القلب تحف به من نواحيه حتى تلتقي عليه فالتقاؤها عليه الطبع، والطبع الختم. قال ابن جريج:الختم، ختم على القلب والسمع.
حدثناالقاسم، قال: حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن ابن جريج،قال: حدثني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهد يقول: الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الاقفال، والإقفال أشد ذلك كله.
وقال بعضهم: إنما معنى قوله: { ختم الله على قلوبهم } إخبار من الله جل ثناؤه عن تكبرهم واعراضهم عن الاستماع لما دوا إليه من الحق كما يقال إن فلاناً الأصم عن هذا الكلام إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبرا.
والحق في ذلك عندي ما صحّ بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما.حدثنا به محمد بن يسار، قال حدثنا صفوان بن عيسى، قال حدثنا:ابن عجلان عن القعقاع،عن أبي صالح،عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كان نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد زادت حتى يغلف قلبه، فذلك الران الذي قال الله جل ثناؤه: "*
*{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }*
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف قـيـل: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً } وقد علـمت أن الهاء والـميـم من قوله: { مَثَلُهُمْ } كناية جماعة من الرجال أو الرجال والنساء. «والذي» دلالة علـى واحد من الذكور؟ فكيف جعل الـخبر عن واحد مثلاً لـجماعة؟ وهلاّ قـيـل: مثلهم كمثل الذين استوقدوا ناراً وإن جاز عندك أن تـمثل الـجماعة بـالواحد فتـجيز لقائل رأى جماعة من الرجال فأعجبته صورهم وتـمام خـلقهم وأجسامهم أن يقول: كأن هؤلاء، أو كأن أجسام هؤلاء، نـخـلة.
قـيـل: أما فـي الـموضع الذي مثل ربنا جل ثناؤه جماعة من الـمنافقـين بـالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلاً فجائز حسن، وفـي نظائره كما قال جل ثناؤه فـي نظير ذلك: تَدُورُ أعْيُنُهُمْ كالَّذِي يُغْشَى عَلَـيْهِ مِنَ الـمَوْتِ يعنـي كدوران عين الذي يغشى علـيه من الـموت، وكقوله: ما خَـلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ بـمعنى إلا كبعث نفس واحدة.
وأما فـي تـمثـيـل أجسام الـجماعة من الرجال فـي طول وتـمام الـخـلق بـالواحدة من النـخيـل، فغير جائز ولا فـي نظائره لفرق بـينهما.
فأما تـمثـيـل الـجماعة من الـمنافقـين بـالـمستوقد الواحد، فإنـما جاز لأن الـمراد من الـخبر عن مثل الـمنافقـين الـخبر عن مثل استضاءتهم بـما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون من اعتقاداتهم الرديئة، وخـلطهم نفـاقهم البـاطن بـالإقرار بـالإيـمان الظاهر. والاستضاءةُ وإن اختلفت أشخاص أهلها معنى واحد لا معان مختلفة. فـالـمثل لها فـي معنى الـمَثَل للشخص الواحد من الأشياء الـمختلفة الأشخاص. وتأويـل ذلك: مثل استضاءة الـمنافقـين بـما أظهروه من الإقرار بـالله وبـمـحمد صلى الله عليه وسلم، وبـما جاء به قولاً وهم به مكذّبون اعتقاداً، كمثل استضاءة الـموقد ناراً. ثم أسقط ذكر الاستضاءة وأضيف الـمثل إلـيهم، كما قال نابغة بنـي جعدة:
وكَيْفَ تُواصِلُ مَن أصْبَحَتْ خِلالَتُهُ كأبـي مَرْحَبِ
يريد كخلالة أبـي مرحب، فأسقط «خلالة»، إذ كان فـيـما أظهر من الكلام دلالة لسامعيه علـى ما حذف منه. فكذلك القول فـي قوله: { مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً } لـما كان معلوماً عند سامعيه بـما أظهر من الكلام أن الـمثل إنـما ضرب لاستضاءة القوم بـالإقرار دون أعيان أجسامهم حسن حذف ذكر الاستضاءة وإضافة الـمثل إلـى أهله. والـمقصود بـالـمثل ما ذكرنا، فلـما وصفنا جاز وحسن قوله: { مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً } ويشبه مثل الـجماعة فـي اللفظ بـالواحد، إذ كان الـمراد بـالـمثل الواحد فـي الـمعنى. وأما إذا أريد تشبـيه الـجماعة من أعيان بنـي آدم أو أعيان ذوي الصور والأجسام بشيء، فـالصواب من الكلام تشبـيه الـجماعة بـالـجماعة والواحد بـالواحد، لأن عين كل واحد منهم غير أعيان الآخرين. ولذلك من الـمعنى افترق القول فـي تشبـيه الأفعال والأسماء، فجاز تشبـيه أفعال الـجماعة من الناس وغيرهم إذا كانت بـمعنى واحد بفعل الواحد، ثم حذف أسماء الأفعال، وإضافة الـمثل والتشبـيه إلـى الذين لهم الفعل، فـيقال: ما أفعالكم إلا كفعل الكلب، ثم يحذف فـيقال: ما أفعالكم إلا كالكلب أو كالكلاب، وأنت تعنـي: إلا كفعل الكلب وإلا كفعل الكلاب.
{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }*
قال أبو جعفر: إن قال قائل: وكيف اشترى هؤلاء القوم الضلالة بـالهدى، وإنـما كانوا منافقـين لـم يتقدم نفـاقهم إيـمان فـيقال فـيهم بـاعوا هداهم الذي كانوا علـيه بضلالتهم التـى استبدلوها منه؟ وقد علـمت أن معنى الشراء الـمفهوم اعتـياض شيء ببذل شيء مكانه عوضاً منه، والـمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة لـم يكونوا قط علـى هدى فـيتركوه ويعتاضوا منه كفراً ونفـاقاً؟ قـيـل: قد اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك، فنذكر ما قالوا فـيه، ثم نبـين الصحيح من التأويـل فـي ذلك إن شاء الله.
حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَروا الضَّلالَةَ بـالهُدَى } أي الكفر بـالإيـمان.
وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم: { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَروا الضَّلالَةَ بـالهُدَى } يقول أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَروا الضَّلالَةَ بـالهُدَى }: استـحبّوا الضلالة علـى الهدى.
وحدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد فـي قوله: { أولَئِكَ الَّذِينَ اشْتروا الضَّلالَةَ بـالهُدَى } آمنوا ثم كفروا.
وحدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله.
قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا فـي تأويـل ذلك: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وجهوا معنى الشراء إلـى أنه أخذ الـمشتري مكان الثمن الـمشترى به، فقالوا: كذلك الـمنافق والكافر قد أخذا مكان الإيـمان الكفر، فكان ذلك منهما شراء للكفر والضلالة اللذين أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى، وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضا من الضلالة التـي أخذاها.
وأما الذين تأولوا أن معنى قوله: «اشتروا»: «استـحبوا»، فإنهم لـما وجدوا الله جل ثناؤه قد وصف الكفـار فـي موضع آخر فنسبهم إلـى استـحبـابهم الكفر علـى الهدى، فقال:
{ وأمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهمْ فـاسْتَـحَبُّوا العَمَى علـى الهُدَى }
صرفوا قوله: { اشْتَروا الضَّلالَةَ بـالهُدَى } إلـى ذلك وقالوا: قد تدخـل البـاء مكان «علـى»، و«علـى» مكان البـاء، كما يقال: مررت بفلان ومررت علـى فلان بـمعنى واحد، وكقول الله جل ثناؤه: { وَمنْ أهْلِ الكِتابِ مَنْ إنْ تأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤدّهِ إلَـيْكَ } أي: علـى قنطار. فكان تأويـل الآية علـى معنى هؤلاء: أولئك الذين اختاروا الضلالة علـى الهدى.
{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }*
قال أبو جعفر: اختلف فـي صفة استهزاء الله جل جلاله الذي ذكر أنه فـاعله بـالـمنافقـين الذين وصف صفتهم. فقال بعضهم: استهزاؤه بهم كالذي أخبرنا تبـارك اسمه أنه فـاعل بهم يوم القـيامة فـي قوله تعالـى:
{ يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتُ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ }
قـيل
{ ٱرْجِعُواْ وَرَاءكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَـٰهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ يُنَـٰدُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ }
الآية، وكالذي أخبرنا أنه فعل بـالكفـار بقوله:
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً }
فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جل وعز وسخريته ومكره وخديعته للـمنافقـين وأهل الشرك به، عند قائلـي هذا القول ومتأوّلـي هذا التأويـل. وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم: توبـيخه إياهم ولومه لهم علـى ما ركبوا من معاصي الله والكفر به، كما يقال: إن فلاناً لـيهزأ منه الـيوم ويسخر منه يراد به توبـيخ الناس إياه ولومهم له، أو إهلاكه إياهم وتدميره بهم، كما قال عَبِـيد بن الأبرص:
سائِلْ بِنا حُجْرَ ابْنَ أُمّ قَطامِ إذْ ظَلَّتْ بهِ السُّمْرُ النَّوَاهلُ تَلْعَبُ
فزعموا أن السمر وهي القنا لا لعب منها، ولكنها لـما قتلتهم وشردتهم جعل ذلك من فعلها لعبـاً بـمن فعلت ذلك به قالوا: فكذلك استهزاء الله جل ثناؤه بـمن استهزأ به من أهل النفـاق والكفر به، إما إهلاكه إياهم وتدميره بهم، وإما إملاؤه لهم لـيأخذهم فـي حال أمنهم عند أنفسهم بغتة، أو توبـيخه لهم ولأئمته إياهم. قالوا: وكذلك معنى الـمكر منه والـخديعة والسخرية.
وقال آخرون: قوله:
{ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ }
علـى الـجواب، كقول الرجل لـمن كان يخدعه إذا ظفر به: أنا الذي خدعتك ولـم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذْ صار الأمر إلـيه. قالوا: وكذلك قوله:
{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ }
والله يستهزىء بهم علـى الـجواب، والله لا يكون منه الـمكر ولا الهزء. والـمعنى: أن الـمكر والهزء حاق بهم.
وقال آخرون: قوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } وقوله:
{ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }
وقوله:
{ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ وَنَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ }
وما أشبه ذلك، إخبـار من الله أنه مـجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الـخداع. فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي علـيه استـحقوا العقاب فـي اللفظ وإن اختلف الـمعنـيان، كما قال جل ثناؤه:
{ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها }
ومعلوم أن الأولـى من صاحبها سيئة إذ كانت منه لله تبـارك وتعالـى معصية، وأن الأخرى عدل لأنها من الله جزاء للعاصي علـى الـمعصية. فهما وإن اتفق لفظاهما مختلفـا الـمعنى. وكذلك قوله:
{ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ }
فـالعدوان الأول ظلـم، والثانـي جزاء لا ظلـم، بل هو عدل لأنه عقوبة للظالـم علـى ظلـمه وإن وافق لفظه لفظ الأول.
{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ }*
قال أبو جعفر: وهذه الآية نظير الآية الأخرى التـي أخبر الله جل ثناؤه فـيها عن الـمنافقـين بخداعهم الله ورسوله والـمؤمنـين، فقال:
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بـاللَّهِ وَبـالـيَوْمِ الآخِرِ }
ثم أكذبهم تعالـى ذكره بقوله:
{ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ }
وأنهم بقـيـلهم ذلك يخادعون الله والذين آمنوا. وكذلك أخبر عنهم فـي هذه الآية أنهم يقولون للـمؤمنـين الـمصدقـين بـالله وكتابه ورسوله بألسنتهم: آمنا وصدّقنا بـمـحمدٍ وبـما جاء به من عند الله، خداعا عن دمائهم وأموالهم وذراريهم، ودرءا لهم عنها، وأنهم إذا خـلوا إلـى مَرَدَتِهم وأهل العتوّ والشرّ والـخبث منهم ومن سائر أهل الشرك الذين هم علـى مثل الذي هم علـيه من الكفر بـالله وبكتابه ورسوله وهم شياطينهم. وقد دللنا فـيـما مضى من كتابنا علـى أن شياطين كل شيء مردته قالوا لهم: { إنَّا مَعَكُمْ } أي إنا معكم علـى دينكم، وظهراؤكم علـى من خالفكم فـيه، وأولـياؤكم دون أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم، إنـما نـحن مستهزئون بـالله وبكتابه ورسوله وأصحابه. كالذي:
حدثنا مـحمد بن العلاء: قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال حدثنا بشر بن عمار عن أبـي روق، عن الضحاك، عن ابن عبـاس فـي قوله: { وَإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا } قال: كان رجال من الـيهود إذا لقوا أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم أو بعضهم، قالوا: إنا علـى دينكم، وإذا خـلوا إلـى أصحابهم وهم شياطينهم { قالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ }.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { وَإذَا لَقُوا اللَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وإذا خَـلَوْا إلـى شَياطِينِهِمْ } قال: إذا خـلوا إلـى شياطينهم من يهود الذين يأمرونهم بـالتكذيب، وخلاف ما جاء به الرسول { قالُوا إنَّا مَعَكُمْ } أي إنا علـى مثل ما أنتـم علـيه { إنَّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ }.
حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطِينِهِمْ أما شياطينهم } أما شياطينهم، فهم رؤوسهم فـي الكفر.
حدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: { وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطِينِهِمْ } أي رؤسائهم وقادتهم فـي الشرّ،
{ قالُوا إنـما نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُون }
حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة فـي قوله: { وَإذَا خَـلَوْا إلـى شياطينِهِمْ } قال: الـمشركون.
حدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، قال: حدثنا عبد الله بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول الله عز وجل: { وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطِينِهِمْ } قال: إذا خلا الـمنافقون إلـى أصحابهم من الكفـار.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }*
قال أبو جعفر: وتأويـل قوله: { وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ آمِنُوا كما آمَنَ النَّاسُ } يعنـي: وإذا قـيـل لهؤلاء الذين وصفهم الله ونعتهم بأنهم يقولون { آمَنَّا بـاللَّهِ وَبِـالـيَوْمِ الآخِرِ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ }: صَدِّقوا بـمـحمد وبـما جاء به من عند الله كما صدّق به الناس. ويعنـي «بالناس» الـمؤمنـين الذين آمنوا بـمـحمد ونبوّته وما جاء به من عند الله. كما:
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمار، عن أبـي روق، عن الضحاك عن ابن عبـاس فـي قوله: { وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ آمِنُوا كما آمَنَ النَّاسُ } يقول: وإذا قـيـل لهم صدّقوا كما صدّق أصحاب مـحمد، قولوا: إنه نبـيّ ورسول، وإن ما أنزل علـيه حق. وصَدِّقوا بـالآخرة، وأنكم مبعوثون من بعد الـموت.
وإنـما أدخـلت الألف واللام فـي «الناس» وهم بعض الناس لا جميعهم لأنهم كانوا معروفـين عند الذين خوطبوا بهذه الآية بأعيانهم. وإنـما معناه: آمنوا كما آمن الناس الذين تعرفونهم من أهل الـيقـين والتصديق بـالله وبـمـحمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند الله وبـالـيوم الآخر، فلذلك أدخـلت الألف واللام فـيه كما أدخـلتا فـي قوله:
{ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ }
لأنه أشير بدخولها إلـى ناس معروفـين عند من خوطب بذلك.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالوا أنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ }.
قال أبو جعفر: والسفهاء جمع سفـيه، كالعلـماء جمع علـيـم، والـحكماء جمع حكيـم. والسفـيه: الـجاهل الضعيف الرأي، القلـيـل الـمعرفة بـمواضع الـمنافع والـمضارّ ولذلك سمى الله عزّ وجل النساء والصبـيان سفهاء، فقال تعالـى:
{ وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَاء أَمْوٰلَكُمُ ٱلَّتِى جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ }
قِـياماً فقال عامة أهل التأويـل: هم النساء والصبـيان لضعف آرائهم، وقلة معرفتهم بـمواضع الـمصالـح والـمضارّ التـي تصرف إلـيها الأموال. وإنـما عنى الـمنافقون بقـيـلهم أنؤمن كما آمن السفهاء، إذْ دُعوا إلـى التصديق بـمـحمد صلى الله عليه وسلم، وبـما جاء به من عند الله، والإقرار بـالبعث، فقال لهم: آمنوا كما آمن أصحاب مـحمد وأتبـاعه من الـمؤمنـين الـمصدقـين به أهل الإيـمان والـيقـين والتصديق بـالله وبـما افترض علـيهم علـى لسان رسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم وفـي كتابه وبـالـيوم الآخر، فقالوا إجابة لقائل ذلك لهم: أنؤمن كما آمن أهل الـجهل ونصدق بـمـحمد صلى الله عليه وسلم كما صدق به هؤلاء الذين لا عقول لهم ولا أفهام كالذي:
حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم، قالوا: { أنُؤْمِنُ كما آمَنَ السُّفَهاءُ } يعنون أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم.
{ *وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } * { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } * { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } * { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }
«وإذا قيل لهم» معطوف على يكذبون. ويجوز أن يعطف على (يقول آمنا) لأنك لو قلت: ومن الناس من إذا قيل لهم لا تفسدوا، كان صحيحاً، والأوّل أوجه.
والفساد: خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به، ونقيضه؛ الصلاح، وهو الحصول على الحال المستقيمة النافعة. والفساد في الأرض: هيج الحروب والفتن، لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية. قال الله تعالى:
{ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلاْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ }
[البقرة: 205]
{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَاء }
[البقرة: 30]. ومنه قيل لحرب كانت بين طيء: حرب الفساد. وكان فساد المنافقين في الأرض. أنهم كانوا يمايلون الكفار ويمالئونهم على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم عليهم، وذلك مما يؤدّي إلى هيج الفتن بينهم، فلما كان ذلك من صنيعهم مؤدياً إلى الفساد قيل لهم: { لا تفسدوا } ، كما تقول للرجل: لا تقتل نفسك بيدك، ولا تلق نفسك في النار، إذا أقدم على ما هذه عاقبته. و { إِنَّمَا } لقصر الحكم على شيء، كقولك: إنما ينطق زيد، أو لقصر الشيء على حكم كقولك: إنما زيد كاتب. ومعنى { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد. و { ألآ } مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي، لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقاً كقوله:
{ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ }
[القيامة: 40]؟ ولكونها في هذا المنصب من التحقيق، لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدّرة بنحو ما يتلقى به القسم. وأختها التي هي «أما» من مقدّمات اليمين وطلائعها:
أَمَا والَّذِي لا يَعْلَمُ الغَيْبَ غيْرُهُ أَمَا والَّذِي أَبْكَى وأَضحَكَ
ردّ الله ما ادعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ ردّ وأدله على سخط عظيم، والمبالغة فيه من جهة الاستئناف وما في كلتا الكلمتين ألا. وإن من التأكيدين وتعريف الخبر وتوسيط الفصل. وقوله: { لاَّ يَشْعُرُونَ } أتوهم في النصيحة من وجهين: أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده من الصواب وجرّه إلى الفساد والفتنة. والثاني: تبصيرهم الطريق الأسد من أتباع ذوي الأحلام، ودخولهم في عدادهم؛ فكان من جوابهم أن سفهوهم لفرط سفههم، وجهلوهم لتمادي جهلهم. وفي ذلك تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة. فإن قلت: كيف صح أن يسند «قيل» إلى «لا تفسدوا، وآمنوا» وإسناد الفعل إلى الفعل مما لا يصح؟ قلت: الذي لا يصح هو إسناد الفعل إلى معنى الفعل، وهذا إسناد له إلى لفظه، كأنه قيل: وإذا قيل لهم هذا القول وهذا الكلام. فهو نحو قولك: «ألف» ضرب من ثلاثة أحرف.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }*
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل هذه الآية، فروي عن سلـمان الفـارسي أنه كان يقول: لـم يجيءْ هؤلاء بعد.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثام بن علـيّ، قال: حدثنا الأعمش، قال: سمعت الـمنهال بن عمرو يحدّث عن عبـاد بن عبد الله، عن سلـمان، قال: ما جاء هؤلاء بعد، الذين { إذَا قـيـلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فـي الأرْضِ قالُوا إنَّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ }.
حدثنـي أحمد بن عثمان بن حكيـم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شريك، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي الأعمش، عن زيد بن وهب وغيره، عن سلـمان أنه قال فـي هذه الآية: { وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فـي الأرْضِ قالُوا إنَّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ } قال ما جاء هؤلاء بعد. وقال آخرون بـما:
حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: { وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فـي الأرْض قالُوا إنَّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ } هم الـمنافقون. أما { لا تفسدوا فـي الأرض } فإن الفساد هو الكفر والعمل بـالـمعصية.
وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: { وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فـي الأرْضِ } يقول: لا تعصوا فـي الأرض. قال: فكان فسادهم علـى أنفسهم ذلك معصية الله جل ثناؤه، لأن من عصى الله فـي الأرض أو أمر بـمعصيته فقد أفسد فـي الأرض، لأن إصلاح الأرض والسماء بـالطاعة.
وأولـى التأويـلـين بـالآية تأويـل من قال: إن قول الله تبـارك اسمه: { وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فـي الأرْضِ قالُوا إنَّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ } نزلت فـي الـمنافقـين الذين كانوا علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان معنـياً بها كل من كان بـمثل صفتهم من الـمنافقـين بعدهم إلـى يوم القـيامة. وقد يحتـمل قول سلـمان عند تلاوة هذه الآية: «ما جاء هؤلاء بعد» أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصفة علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خبراً منه عمن جاء منهم بعدهم ولـما يجيء بعد، لا أنه عنى أنه لـم يـمض مـمن هذه صفته أحد.
وإنـما قلنا أولـى التأويـلـين بـالآية ما ذكرنا، لإجماع الـحجة من أهل التأويـل علـى أن ذلك صفة من كان بـين ظهرانـي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الـمنافقـين، وأن هذه الآيات فـيهم نزلت. والتأويـل الـمـجمع علـيه أولـى بتأويـل القرآن من قول لا دلالة علـى صحته من أصل ولا نظير.
{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }*
وأصل الـمرض: السقم، ثم يقال ذلك فـي الأجساد والأديان فأخبر الله جل ثناؤه أن فـي قلوب الـمنافقـين مرضاً. وإنـما عنى تبـارك وتعالـى بخبره عن مرض قلوبهم الـخبر عن مرض ما فـي قلوبهم من الاعتقاد ولكن لـما كان معلوماً بـالـخبر عن مرض القلب أنه معنىّ به مرض ما هم معتقدوه من الاعتقاد استغنى بـالـخبر عن القلب بذلك والكناية عن تصريح الـخبر عن ضمائرهم واعتقاداتهم كما قال عمر بن لـجأ:
وَسَبَّحَتِ الـمَدِينَةُ لا تَلُـمْها رأتْ قَمَراً بِسُوقِهِمُ نَهارا
يريد وسبح أهل الـمدينة. فـاستغنى بـمعرفة السامعين خبره بـالـخبر عن الـمدينة عن الـخبر عن أهلها. ومثله قول عنترة العبسيّ:
هَلاَّ سألْتِ الـخَيْـلَ يا ابنْةَ مالِ كِإنْ كُنْتِ جاهِلَةً بِـمَا لَـمْ تَعْلَـمِي
يريد: هلا سألت أصحاب الـخيـل؟ ومنه قولهم: يا خيـل الله اركبـي، يراد: يا أصحاب خيـل الله اركبوا.
والشواهد علـى ذلك أكثر من أن يحصيها كتاب، وفـيـما ذكرنا كفـاية لـمن وفق لفهمه. فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه: { فـي قُلُوبِهمْ مَرَضٌ } إنـما يعنـي فـي اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه فـي الدين والتصديق بـمـحمد صلى الله عليه وسلم، وبـما جاء به من عند الله مرض وسقم. فـاجتزأ بدلالة الـخبر عن قلوبهم علـى معناه عن تصريح الـخبر عن اعتقادهم. والـمرض الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه فـي اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه هو شكهم فـي أمر مـحمد، وما جاء به من عند الله وتـحيرهم فـيه، فلا هم به موقنون إيقان إيـمان، ولا هم له منكرون إنكار إشراك ولكنهم كما وصفهم الله عز وجل
{ مذبذبون بـين ذلك لا إلـى هؤلاء ولا إلـى هؤلاء }
كما يقال: فلان يـمرض فـي هذا الأمر، أي يضعف العزم ولا يصحح الروية فـيه. وبـمثل الذي قلنا فـي تأويـل ذلك تظاهر القول فـي تفسيره من الـمفسرين ذكر من قال ذلك:
حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { فـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي شكّ.
وحدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق عن الضحاك، عن ابن عبـاس، قال: الـمرض: النفـاق.
حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: { فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } يقول: فـي قلوبهم شك.
حدثنـي يونس بن عبد الأعلَـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد فـي قوله: { فـي قُلُوبِهِمْ مَرَض } قال: هذا مرض فـي الدين ولـيس مرضاً فـي الأجساد.
{ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ }*
قال أبو جعفر: وخداع الـمنافق ربه والـمؤمنـين إظهاره بلسانه من القول والتصديق خلاف الذي فـي قلبه من الشك والتكذيب لـيدرأ عن نفسه بـما أظهر بلسانه حُكْمَ الله عز وجل،اللازمَ من كان بـمثل حاله من التكذيب لو لـم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار من القتل والسبـاء، فذلك خداعه ربه وأهل الإيـمان بـالله.
فإن قال قائل: وكيف يكون الـمنافق لله وللـمؤمنـين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقـية؟ قـيـل: لا تـمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي هو فـي ضميره تقـية لـينـجو مـما هو له خائف، فنـجا بذلك مـما خافه مخادعاً لـمن تـخـلص منه بـالذي أظهر له من التقـية، فكذلك الـمنافق سمي مخادعاً لله وللـمؤمنـين بـاظهاره ما أظهر بلسانه تقـية مـما تـخـلص به من القتل والسبـاء والعذاب العاجل، وهو لغير ما أظهر مستبطن، وذلك من فعله وإن كان خداعاً للـمؤمنـين فـي عاجل الدنـيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنـيتها ويسقـيها كأس سرورها، وهو موردها به حياض عطبها، ومـجرّعها به كأس عذابها، ومذيقها من غضب الله وألـيـم عقابه ما لا قبل لها به. فذلك خديعته نفسه ظنّا منه مع إساءته إلـيها فـي أمر معادها أنه إلـيها مـحسن، كما قال جل ثناؤه: { وَما يَخْدَعُونَ إلاَّ أنْفُسَهُمْ وَما يَشْعَرُونَ } إعلاماً منه عبـاده الـمؤمنـين أن الـمنافقـين بإساءتهم إلـى أنفسهم فـي إسخاطهم ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم علـى عمياء من أمرهم مقـيـمون.
وبنـحو ما قلنا فـي تأويـل ذلك كان ابن زيد يقول.
حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب قال: سألت عبد الرحمن بن زيد، عن قول الله جل ذكره: يُخادعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا إلـى آخر الآية، قال: هؤلاء الـمنافقون يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا، أنهم مؤمنون بـما أظهروا.
وهذه الآية من أوضح الدلـيـل علـى تكذيب الله جل ثناؤه قول الزاعمين: إن الله لا يعذب من عبـاده إلا من كفر به عناداً، بعد علـمه بوحدانـيته، وبعد تقرّر صحة ما عاند ربه تبـارك وتعالـى علـيه من توحيده والإقرار بكتبه ورسله عنده لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عن الذين وصفهم بـما وصفهم به من النفـاق وخداعهم إياه والـمؤمنـين أنهم لا يشعرون أنهم مبطلون فـيـما هم علـيه من البـاطل مقـيـمون، وأنهم بخداعهم الذي يحسبون أنهم به يخادعون ربهم وأهل الإيـمان به مخدوعون. ثم أخبر تعالـى ذكره أن لهم عذابـاً ألـيـماً بتكذيبهم بـما كانوا يكذبونه من نبوّة نبـيه واعتقاد الكفر به، وبـما كانوا يكذبون فـي زعمهم أنهم مؤمنون، وهم علـى الكفر مصرّون
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }*
قال أبو جعفر: أما قوله: { وَمِنَ النَّاسِ } فإن فـي الناس وجهين: أحدهما أن يكون جمعاً لا واحد له من لفظه، وإنـما واحده إنسان وواحدته إنسانة. والوجه الآخر: أن يكون أصله «أُناس» أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها، ثم دخـلتها الألف واللام الـمعرّفتان، فأدغمت اللام التـي دخـلت مع الألف فـيها للتعريف فـي النون، كما قـيـل فـي:
{ لكنّ هُوَ اللّهُ رَبـي }
علـى ما قد بـينا فـي اسم الله الذي هو الله.
وقد زعم بعضهم أن الناس لغة غير أناس، وأنه سمع العرب تصغره نُوَيْس من الناس، وأن الأصل لو كان أناس لقـيـل فـي التصغير: أُنَـيْس، فردّ إلـى أصله.
وأجمع جميع أهل التأويـل علـى أن هذه الآية نزلت فـي قوم من أهل النفـاق، وأن هذه الصفة صفتهم. ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويـل بأسمائهم:
حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بـاللّهِ وَبـالْـيَوْمِ الآخرِ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنـينَ } يعنـي الـمنافقـين من الأوس والـخزرج، ومن كان علـى أمرهم. وقد سُمِّي فـي حديث ابن عبـاس هذا أسماؤهم عن أبـيّ بن كعب، غير أنـي تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم.
حدثنا الـحسين بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة فـي قوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بـاللّهِ وَبـالْـيَوْمِ الآخِرِ وَما هُم بِـمُؤْمِنِـينَ } حتـى بلغ:
{ فَمَا رَبِحَتْ تِـجارَتُهُمْ وَما كَانُوا مُهْتَدِينَ }
قال: هذه فـي الـمنافقـين.
حدثنا مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، قال: حدثنا عبد الله بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: هذه الآية إلـى ثلاث عشرة فـي نعت الـمنافقـين.
حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله.
حدثنا سفـيان، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن رجل، عن مـجاهد مثله.
حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن إسماعيـل السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرّة، وعن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: { وَمِنَ الناسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بـاللّهِ وَبـالـيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِـمؤْمِنِـينَ } هم الـمنافقون.
حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس فـي قوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بـاللّهِ وَبـالْـيَوْمِ الآخِرِ } إلـى:
{ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرضاً وَلَهُمُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ }
قال: هؤلاء أهل النفـاق.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج فـي قوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بـاللّهِ وَبـالـيَوْمِ الآخِرِ وَما همْ بِـمُؤْمِنِـينَ } قال: هذا الـمنافق يخالف قولُه فعلَه وسرُّه علانـيَته، ومدخـلُه مخرجَه، ومشهدُه مغيَبه
{ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }*
القول في تأويل قوله جل ثناؤه { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهموعلى أبصارهم غِشاوة ولهم عذاب عظيم } وأصل الختم الطبع، والخاتم:هو الطابع، يقال: منه ختمت الكتاب: إذا طبعته،
فإن قال لنا قائل: وكيف يختم على القلوب،وإنما الختم طبع على الأوعية والظروف والغلف؟ قيل: فإن قلوب العباد أوعية لما أودعت من العلوم وظروف لما جعل فيها من المعارف بالأمور، فمعنى الختم عليها وعلى الاسماع التي بها تدرك المسموعات، ومن قبلها يوصل إلى معرفة حقائق الأنباء،عن المغيبات نظير معنى الختم،على سائر الأوعية والظروف.
فإن قال: فهل لذلك من صفة تصفها لنا فنفهمها؟ أهي مثل الختم الذي يعرف لما ظهر للأبصار، أم هي بخلاف ذلك؟ قيل: قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك، وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم.
فحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملى،قال: حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش قال أرانا مجاهد بيده فقال كانوا يرون أن القلب في مثل هذا يعني الكف فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه وقال بإصبعه الخنصر هكذا فإذا أذنب ضم وقال بإصبع أخرى فإذا أذنب ضم وقال باصبع أخرى هكذا حتى ضم اصابعه كلها قال ثم يطبع عليه بطابع قال مجاهد وكانوا يرون أن ذلك الرين.
حدثناأبو كريب، قال: حدثنا وكيع عن الأعمش، عن مجاهد قال القلب مثل الكف، فإذا أذنب ذنبا قبض أصبعا حتى يقبض أصابعه كلها، وكان أصحابنا يرون أنه الران.
حدثناالقاسم بن الحسن، قال حدثنا الحسين بن داود، قال حدثني حجاج، قال حدثنا ابن جريج، قال: قال مجاهد: نبئت أن الذنوب على القلب تحف به من نواحيه حتى تلتقي عليه فالتقاؤها عليه الطبع، والطبع الختم. قال ابن جريج:الختم، ختم على القلب والسمع.
حدثناالقاسم، قال: حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن ابن جريج،قال: حدثني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهد يقول: الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الاقفال، والإقفال أشد ذلك كله.
وقال بعضهم: إنما معنى قوله: { ختم الله على قلوبهم } إخبار من الله جل ثناؤه عن تكبرهم واعراضهم عن الاستماع لما دوا إليه من الحق كما يقال إن فلاناً الأصم عن هذا الكلام إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبرا.
والحق في ذلك عندي ما صحّ بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما.حدثنا به محمد بن يسار، قال حدثنا صفوان بن عيسى، قال حدثنا:ابن عجلان عن القعقاع،عن أبي صالح،عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كان نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد زادت حتى يغلف قلبه، فذلك الران الذي قال الله جل ثناؤه: "*
مواضيع مماثلة
» * في رحاب التفسير 2
» * في رحاب أول آية في القران 3
» * في رحاب أول آية في القران 4
» * في رحاب أول آية في القران 5
» * ائمة التفسير والاعجاز القراني
» * في رحاب أول آية في القران 3
» * في رحاب أول آية في القران 4
» * في رحاب أول آية في القران 5
» * ائمة التفسير والاعجاز القراني
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى