مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

* حرف الباء: البيروني - برسي كوكس - برينكي - بلال بن رباح

اذهب الى الأسفل

* حرف الباء: البيروني - برسي كوكس - برينكي - بلال بن رباح  Empty * حرف الباء: البيروني - برسي كوكس - برينكي - بلال بن رباح

مُساهمة  طارق فتحي الجمعة يناير 09, 2015 1:23 pm

البيروني والمنهج النقدي
مُساهمة  طارق فتحي في الإثنين 24 مارس 2014 - 15:56

البيروني والمنهج النقدي , الجزء السادس والاخير
من العناصر المهمة التي تساهم في بلورة المنهج النقدي عند العالم هو الوفاء للعلم والإخلاص للحقيقة. ومن أجل أن يكون العالم قادراً على الوفاء للعلم إلى أبعد الحدود ينبغي أن تتوفر فيه جملة من الصفات، مثل الشجاعة والنزاهة والمثابرة على العمل المتواصل. ومع أن هذه الصفات ليست صفات علمية، لكنها في المخال العلمي تكتسب طابعها وسماتها الخاصة جداً.
الوفاء للعلم ليس مجرد عبارة تقال بحق هذا العالم أو ذاك، بل هي السمة الأساسية التي تحدد شخصية العالم وروحه وموقفه في الحياة ومبادئه الأخلاقية. والوفاء للعلم يعني بالمرتبة الأولى السعي الدؤوب والمتواصل من أجل الحقيقة والكشف عنهابكل أبعادها وتفاصيلها، ومهما كانت هذه الحقيقة، ومن ثم الإخلاص لها والاستعداد للدفاع عنها بكل السبل والوسائل. والوفاء للعلم يعني أيضاً استعداد العالم للتخلي عن "الحقيقة" التي كرس لها وقته وجهده، وناضل في سبيلها ودافع عنها إذا ما اكتشف أنهالم تعد هي الحقيقة العلمية. والوفاء للعلم يعني النزاهة في التعامل مع الباحثين الآخرين والسمو بالنفس فوق أية مصلحة ذاتية أو فكرة دينية أو طائفية أو قومية، وتجريد الذات من أهوائها ونزواتها والابتعاد الكلي عن محاولة استغلال العلم من أجل مصالح أنانية ضيقة، أو لتحقيق مآرب شخصية، كالشهرة والقوة أو الارتقاء في السلم الوظيفي والمرتبة الاجتماعية.
والوفاء للعلم يعني أن يتمتع الباحث بقدر كاف من الصلابة والشجاعة لمواجهة الصعاب التي تقف في طريقه ليتحدى ما هو سائد في العلم ومواصلة البحث وعدم الخوف من الفشل، وأن يكون على استعداد للتضحية بكل شيء في سبيل الحقيقة. والحقيقة العلمي غالباً ما تكون صعبة المنال ولا يمكن بلوغها إلا بجهد قد يفوق تصور الناس.
لقد أدرك منذ عهد مبكر من حياته العلمية أن المنهج الذي يتبعه في دراساته ليس بالأمر السهل، ومع ذلك لم يتردد في مواصلة المسيرة في الاتجاه الذي رسمه. فقد تحدث بوضوح عما يلاقيه خلال بحثه عن الحقائق التاريخية في مقدمة كتابه، وهو لم يبلغ الخامسة والعشرين "على أن الأصل الذي أصلته والطريق الذي مهدته ليس بقريب المأخذ بل كأنه من بعده وصعوبته يشبه أن يكون غير موصول إليه".
كان يرى أن الشجاعة يمكن أن تتجلى بأنبل معانيها في قول كلمة الحق. واستشهد بما ورد في القرآن وبأقوال المسيح، وقال:
"فقد قيل: "قولوا الحق ولو على أنفسكم". وقال المسيح عليه السلام في الإنجيل ما معناه: "لا تبالوا بصولة الملوك عند الإفصاح بالحق بين أيديهم، فليسوا يملكون منكم غير البدن؛ وأما النفس فليس لهم عليها يد". وهذا أمر منه أمر بالتشجع الحقيقي. فالخلق الذي تظنه العامة شجاعة، إذا رأوا إقداماً على المعارك، وتهوراً في خوض المهالك، وهو نوع منها؛ فأما جنسها العالي على أنواعها، فهو الاستهانة بالموت. ثم سواء كانت في قول أو كانت في فعل".
أية شجاعة تلك التي ينبغي أن يتمتع بها شاب في العشرين من عمره ليجابه مشاهير علماء الفلك ويشكك بالجداول الفلكية التي بين أيديهم بعد أن لاحظ التضارب بين القياسات المختلفة، إن كانت نتائجهم الخاصة أو تلك التي قام بها علماء مشهورون من اليونان ومن المسلمين؟ وأية عزيمة فولاذية تلك التي يستطيع بفضلها أن يتحدى الصعاب والمخاطر ويقدم على صناعة آلات رصد، بإمكانيات بسيطة جداً ليثبت صحة وجهة نظره؟ هذا مع العلم أن بعض هذه الأرصاد كانت تتم في مناطق صحراوية نائية وفي ظروف سياسية معقدة أجبرته على قطع أرصاده أكثر من عشرين سنة، لكنه يعود إليها من جديد. يقول:
"فإذا كان الحال على هذا، وليس فيه غير التقليد بعد حصول الهداية للمقصود، والتهدي لمأخذه، مع الحرص على الحق والثبوت على الأمانة والصدق، لم تسكن نفسي إلى غير المشاهدة، فاعتبرته في حداثتي بضل المنقلب الصيفي.. وعدت إلى مثله بعد نيف وعشرين سنة..".
وقد كتب يصف الظروف التي كانت تحيط به والصعوبات التي يواجهها وهو يحاول أن يحدد خطوط العرض لبعض المواقع في غزنة: "مثاله أني يوم كتابتي هذا الفصل.. كنت بحيفور قرية إلى جانب كابل، وقد حملني شدة الحرص على رصد عروض هذه المواضع، وأنا ممتحن بما أظن أن نوحاً ولوطاً عليهما السلام لم يمتحنا به وراج أن أكون ثالثهما في نيل رحمة الله والغياث بمنه..".
ووقف البيروني موقفاً حازماً ضد المنجمين، الذين حاولوا استغلال العلم لمصالح شخصية، وحاولوا استغلال العلم للشعوذة، مع أن الكثير منهم كانوا من المقربين إلى الحكام والأمراء. وقد حورب من قبل هؤلاء بشتى السبل والوسائل. كذلك وجه سهام نقده ضد العلماء الذين حاولوا استغلال الدين لأغراضهم أو الذين حاولوا التستر بالدين لإخفاء عجزهم وجهلهم.
أما عن نزاهة البيروني وإخلاصه وترفعه عن المكاسب المادية والمناصب فقد كتب الكثير من المؤرخين القدامى ما يشبه الأساطير. لقد قادته الظروف إلى النشاط السياسي في خوارزم، وأصبح لبضع سنوات من المقربين إلى الأمين ومستشاره. وكان بوسعه أن ينعم براحة البال ومكارم السلطان، لكنه آثر طريق العلم غير مبال لما يواجهه من مصاعب. وقد أشار في إحدى قصائده إلى بعض العلماء الذين كانوا يركضون خلف الشهرة والثروة فقال:
ومن حام حول المجد غير مجاهد ثوى طاعماً للمكرمات وكاسيا
وبات قرير العين في ظل راحة ولكنه عن حلة المـجد عاريا
وقد عبر بكل وضوح عن أسفه لأن المنصب السياسي الرفيع الذي شغله بعد عودته إلى بلاده من المنفى قد شغله عن دراساته وأبحاثه. وقال:
"ولم يستقر بي بعدها القرار بضع سنين، حتى سمح الزمان باجتماع الشمل، فأكرهت من أحوال الدنيا ما حسدني عليه الجاهل، وأشفق علي فيها الشفيق العاقل.. ثم تفرغت للرصد قليل تفرغ في أيام الأمير الشهيد أبي العباس..".
وفي جرجان استقبله السلطان قابوس في قصره وأكرمه وعرض عليه الوزارة لكنه رفض ذلك. وقد ساءت علاقته بسبب ذلك مع السلطان مما اضطره للهرب إلى الري. وقد أشار إلى ذلك في شعره أيضاً حيث قال:
وشمس المعالي كان يرتاد خدمتي على نفرة مني وقد كان قاسيا
وتحدث في "الآثار الباقية" عن ضعف إمكانياته وعدم توفر الآلات لمواصلة عمله، فاضطر إلى التوقف عن أرصاده بسبب ذلك، بالرغم من الوعود التي قطعت له. وأشار بوضوح إلى فقر حاله وما يعانيه من سوء معاملة البعض من "زملائه العلماء" الميسورين.
وحافظ البيروني على نزاهته طيلة حياته. ولم يحاول أن يستغل علمه لتحقيق مكاسب شخصية حتى عندما كانت علاقته جيدة مع الحكام. ويروى أنه عندما انتهى من كتابه "القانون المسعودي" الذي أهداه إلى السلطان مسعود، والذي كان على علاقة جيدة به أهداه السلطان حمل فيل من المال، لكنه "رده إلى الخزانة فقد رأى الاستغناء عنه".
وللبيروني موقف يستحق أن يدرس لطلبة العلم وللعلماء على حد سواء كمثال نادر عن شجاعة العالم ونزاهته وسموه فوق كل الاعتبارات الشخصية. يعتبر قياس محيط الأرض من المواضيع التي شغلت اهتمامه على مدى أكثر من عشرين سنة. فقد لاحظ الاختلاف الكبير بين نتائج القياسات القديمة والمتداولة بين العلماء. ومن المعروف أن المأمون كان قد أمر بقياس محيط الأرض، فشكلت لهذا الغرض بعثة خاصة قامت بقياساتها في بادية سنجار بالقرب من مدينة الموصل. ونتيجة للتضارب بين النتائج قرر أن يقوم بقياساته الخاصة عندما كان في منفاه الأول في جرجان. فاختار لذلك كما يقول "قاعاً صفصافا ". لكنه لم يفلح بإتمام قياساته بسبب الظروف التي كانت قائمة آنذاك. ثم عاد إلى قياساته من جديد عندما كان في الهند بصحبة محمود الغزنوي، فاختار "جبلاً مشرفاً على صحراء مستوية الوجه، ناب استواؤها عن ملامسة سطح البحر". وقد أسفرت قياساته عن نتيجة مقاربة لنتيجة القياسات القديمة، التي قامت بها بعثة المأمون.
أي عالم آخر ومهما بلغ من الموضوعية سيفرح لنتائج قياساته ويعتمدها، بعد أن تأكد من صحتها. لكن أبا الريحان لم يصب بالغرور وتجرد كلياً من كلمة "أنا" وقرر أن يعتمد النتائج القديمة، ليس اعترافاً منه بأنها الأقرب إلى الحقيقة، بل لأنهم سبقوه إلى تلك الأرصاد، ولأن آلاتهم أدق وجهدهم وتعبهم كان أكثر. يقول بعد أن يورد نتائج القياسات المختلفة:
"فقد قارب ذلك وجود القوم بل لاصقه، وسكن القلب إلى ما ذكروه فاستعملناه إذ كانت آلاتهم أدق، وتعبهم في تحصيله أشد وأشق..".
ويبرز البيروني أمامنا كناقد جريء وباحث موضوعي محايد عند تعامله مع موضوعة طالما شغلت اهتمام الإنسان منذ أقدم العصور، ألا وهي مسألة بدأ العالم وما يتعلق بتاريخ الإنسان وعمر الأرض. وقد تناول هذا الموضوع من جوانب متعددة في أهم مؤلفاته المعروفة. ويتضح أنه كان ملماً بالمعتقدات الدينية وثقافات مختلف الشعوب القديمة منها والحديثة وبالشكل الذي يدعو إلى الدهشة. قارن بين الآراء المختلفة، والتي كانت في غالبيتها مفاهيم دينية اعتمدت على تفسير ما ورد في الكتب المقدسة، مثل التوراة والإنجيل، وكذلك في الكتب الدينية الهندية والزردشتية. وتناول أيضاً ما كتبه علماء النجوم القدامى، والتي كانت تعتمد على قرانات الكواكب، لتحديد تاريخ الطوفان، والذي كان يعتبر من الأحداث المهمة التي استخدمت لتاريخ الجنس البشري.
لقد وقف موقفاً ناقداً ومشككاً في كل هذه الآراء. وقد أثبت بالأرقام الاختلافات الجوهرية بين التواريخ المقدمة من قبل مختلف الفرقاء (اليهود والنصارى والصابئة والهنود والفرس وأهل بابل والصين وغيرهم) حول عمر الأرض والإنسان، أو ما يتعلق بتاريخ طوفان نوح. بل أشار إلى وجود اختلافات جوهرية في مفهوم الطوفان بحد ذاته لدى الأقوام المختلفة. وقد رفض جميع تلك الأرقام لأسباب علمية بحتة. أما بالنسبة للمسلمين، فحسب تعبيره أن "القرآن فلم ينطبق من ذلك بشيء". لكن الكثيرين منهم وقع تحت تأثير التعاليم المسيحية، وأخذ بالتاريخ المعتمد في الإنجيل. وأثبت وجود تباين كبير في المعلومات الواردة في الأناجيل الأربعة، إن كان ما يتعلق بعمر الأرض أو ما يتعلق بتاريخ الطوفان. ولهذه المعلومة أهمية كبيرة، لأن المصادر الأوربية الحديثة تشير إلى أن الأوربيين لم يكتشفوا الاختلافات في الأناجيل إلا في القرن السابع عشر.
رفض الآراء المطروحة، وأعلن أن العالم قديم جداً، ولا يمكننا تحديد عمره بدقة. والسبيل الوحيد لتحديد تاريخ الأرض هو اللجوء إلى الأرض ذاتها والغوص في أعماقها لدراسة طبقاتها وصخورها. وهذا ما توصل إليه علماء الجيولوجيا في أوربا، ولكن بعد مضي أكثر من سبعة قرون، حيث أن أوربا العلمية بقيت متمسكة بعمر الأرض الذي حددته التوراة حتى القرن التاسع عشر.
* * *
عاش البيروني زهاء ثمانين سنة كرسها في سبيل العلم والبحث عن الحقيقة. وقد بدأت رحلته في سبيل المعرفة منذ نعومة أظافره. وقد أبا ألا يفارق هذه الدنيا قبل أن يأخذ منها آخر قطرة علم في آخر لحظة من لحظاته، ليكون حتى في مماته مثالاً على حب المعرفة والتفاني في سبيل الحقيقة.
يشير المستشرق الروسي كراتشكوفسكي عن البيروني: "لا نملك إزاء هذا إلا الانحناء في خشوع واحترام أمام النتائج العلمية الباهرة التي توصل إليها، والتراث العلمي الحافل الذي أنتجه في ظروف الزمان الذي عاش فيه". ما من شك أن الكثير من تلك "النتائج العلمية الباهرة" قد تجاوزها العلم الحديث وغدت من اهتمامات المتخصصين في تاريخ العلوم. لكن مناهج البحث التي ابتكرها أو تلك التي ساهم مساهمة كبيرة في بلورتها تخطت "الزمن الذي عاش فيه" لتصبح من المناهج العلمي الحديثة. ويقف في مقدمة هذه المناهج المنهج النقدي، الذي يعتبر بحق من أهم رواده.
وإذا كان "البيروني أعظم عبقرية عرفها التاريخ"، فإن أثمن وأهم العبر والدروس التي يمكن أن نستخلصها من سيرة حياة هذا الرجل هو أن العبقرية مهما عظمت فإنها، ومن أجل أن تتألق بإشعاع الفكر والمعرفة، تبقى بأمس الحاجة إلى روح نقدية متأججة وفكر مغامر، وقوة عزيمة وإصرار على تحدي الصعاب في سبيل بلوغ الحقيقة. لقد كان قدوة للباحث الموضوعي الصادق ليس في إنجازاته واكتشافاته الباهرة فحسب، بل وفي إخفاقاته وهفواته أيضاً.
ليس من الصعب على من يتتبع سيرة حياة هذا الرجل ويطلع على مؤلفاته أن يدرك أنه أمام شخصية فريدة من نوعها، جمعت بين العبقرية والشجاعة والصبر والمثابرة على العمل وتحمل الصعاب، وبين البساطة والتواضع والحب اللامتناهي للبحث العلمي، والاستعداد لبذل الغالي من أجل الحقيقة.

برسي كوكس ...
برسي كوكس المندوب السامي البريطاني في العراق
ولد بيرسي زكريا كوكس, في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 1864 في هيرون بيت في منطقة إكسيس البريطانية، . وتخرج من الكلية الملكية البريطانية العسكرية في ساند هيرست، وعين مباشرة بعد تخرجه في الهند في العام 1884 وحتى عام 1890 مع الحامية البريطانية هناك. ثم حول في نهاية خدمته العسكرية إلى الخدمة السياسية في الهند أيضا . ونقل للعمل في منطقة الخليج العربي وإيران في العام 1893 ، تقلد خلالها عدة مناصب رفيعة، وفي العام 1911 منح لقب سير كأفضل سياسي في المنطقة وكان ذلك بسبب خدماته أثناء الحرب العالمية الأولى.
ذهب إلى العراق أول مرة مع الجنرال مود وعهد اليه بوظيفة حاكم سياسي من قبل القائد العام في العراق 1917
في اوائل تشرين الاول1920 ارسل السير “برسي كوكس” الى العراق ليشغل منصب المندوب السامي لأنه كان يتمتع بالسمعة الطيبة وبخبرته الطويلة الممتازة، وصداقته التي اكتسبها بحكمته ورويته في الأمور اثناء ما كان حاكماً مدنياً على العراق قبل ارتحاله الى ايران. اصبح كوكس منذ وصوله الى بغداد يلقب (بالمندوب السامي) وكان قبلئذ يلقب (الحاكم السياسي العام) وكان القصد من ذلك الإشارة الى أنه لم يعد حاكماً على العراق بل مندوباً عن بريطانيا لانشاء حكومة وطنية فيه .
وسعى تشكيل الحكومة الموقتة، فألفها برئاسة عبد الرحمن النقيب، تحت نظام الانتداب البريطاني .وحضر كوكس مؤتمر القاهرة لبحث موضوع عرش العراق ، فسعى بقوة لتولي الأمير فيصل بن الحسين هذا العرش .
منحته حكومته وسام الإمبراطورية البريطانية السامي من الدرجة الأولى وبقي كوكس في الخدمة في المنطقة حتى تقاعد عام 1923 ، فانصرف الى حياته الخاصة .
عام 1937 توفي عن عمر ناهز الـ 73عاماً.

بيرنيكي 33. م
ملك »اليهود في اللغات الأوربية الحديثة. وهي حفيدة أخت هيرود الأعظم « بيرنيس » وتُنطَق ،« حاملة النصر » اسم يوناني معناه « بيرنيكي «
وابنة أجريبا الأول .وُلدت عام 33 ميلادية، وكانت مشهورة بجمالها وبتعدد أزواجها وعشاقها. تزوَّجت وهى بعد في الثالثة « عشرة من ماركوس، ابن ألكسندر ليسيماخوس كبير موظفي (ألبارخ (الإسكندرية. وبعد موته، تزوَّجت عمها شقيق أبيها هيرود حاآم كالخيس. وبعد موت هذا الأخير، عاشت مع أخيها أجريبا الثاني. وقد انتشرت الشائعات بين الرومان أنها كانت على علاقة آثمة بأخيهاهذا.

ويُلاحَظ أن الجماع بالمحارم في فترة انحلال الإمبراطورية الرومانية لم يكن أمراً غريباً بين أعضاء الأرستقراطية التي كانت تنتمي إليها بيرنيكي وأخوها. وربما لإسكات الشائعات، ونظراً لغيرتها من أختها دروسيلا التي تزوجت من ملك، أقنعت بيرنيكي بوليمون الثاني ملك كليكيه بأن يتهود ويتختن ويتزوجها فتزوجها في عام 69 م.

ولكن بيرنيكي لم تكن على مستوى عال من الأخلاق أوالوفاء الزوجي الأمر الذي أثار اشمئزاز بوليمون منها ومن عقيدتها فطلَّقها .وعادت بيرنيكي لتعيش مع أخيها، ووقفت إلى جواره في محاولته تهدئة الجماهير اليهودية الحانقة مع بدايات التمرد اليهودي الأول 66 70 م. ولكن الجماهير أضرمت النار في قصرها .

ومع سقوط القدس في يد المتمردين، فرَّت بيرنيكي إلى الإسكندرية عند أقاربها تايبريوس يوليوس ألكسندر ابن عم فيلون السكندري، وغيره

وهناك، قابلت الجنرال تيتوس ابن الإمبراطور فسبسيان الذي كان يُعدُّ حملته لقمع التمرد اليهودي الأول وأصبحت عشيقته،وأعلن هو عن حبه لها وكان عمرها (حينذاك) تسعة وثلاثين عاماً .وقد صاحبته هي وأخوها أجريبا الثاني (الذي كان يقود جيشاً يهودياً صغيراً) أثناء حملته التي انتهت بسقوط القدس وتحطيم الهيكل. وحين عاد تيتوس إلى روما، انضمت إليه هناك عام 75 م، واستمرا في ويبدو أنه كان على وشك الزواج منها بالفعل، ولكن الأرستقراطية الرومانية ». زوجة تيتوس » علاقتهما،

بل وكان يشار إليها باعتبارها عارضت ذلك .وحينما عادت بيرنيكي إلى روما مرة أخرى عام 79 م، بعد أن أصبح تيتوس إمبراطوراً، وبعد أن بلغت هي الخمسين، تجاهلها عشيقها السابق، فعادت أدراجها إلى فلسطين حيث لم يُسمع عنها شيء بعد ذلك التاريخ .

ووجود بيرنيكي اليهودية - وجيش أخيها) إلى جوار تيتوس أثناء حملته على القدس لهدم الهيكل لم يُغيِّر شيئاً في خطته العسكرية التي كانت تمليها الاعتبارات الإستراتيجية الكبرى للإمبراطورية الرومانية. ربما لو كان تيتوس قد عدل عن تحطيم الهيكل في آخر لحظة - لاعتبارات خاصة بمصالح الإمبراطورية الرومانية لانقض على هذه الواقعة أصحاب النماذج الاختزالية وتحدثوا عن نفوذ المرأة اليهودية،

وكيف أن اليهود يستخدمون الجنس في تنفيذ مخططاتهم. بل ولأضافوا أن بيرنيكي، صاحبة الاسم اليوناني والسلوك الوثني والرؤية المنحلة، ظلت مع هذا يهودية تخدم المصالح اليهودية، وهو ما يدل - حسب رأيهم- على أن وظيفة اليهود ثابتة عبر الزمان والمكان. ولا تتحدث المراجع الصهيونية عن عبقرية بيرنيكي اليهودية في اصطياد الرجال بخاصة من فئة الملوك وقواد الجيوش .

ولم تكن بيرنيكي المرأة اليهودية الوحيدة التي لعبت دوراً في دهاليز النخبة الحاكمة. فقد تزوجت اختها دروسيلا من ملك يُدعَى عزيز في إميسيا حمص . ويبدو أن إيزاط ملك حدياب في بابل 36 - 60 م تَهوَّد بسبب علاقته بامرأة يهودية .

بلال بن رباح الساخر من الاهوال
كان عمر بن الخطاب، اذا ذكر أبو بكر قال: " أبو بكر سيدنا وأعتق سيّدنا".. يعني بلالا رضي الله عنه..وان رجلا يلقبه عمر بسيدنا هو رجل عظيم ومحظوظ..لكن هذا الرجل الشديد السمرة، النحيف الناحل، المفرط الطول الكث الشعر، الخفيف العارضين، لم يكن يسمع كلمات المدح والثناء توجه اليه، وتغدق عليه، الا ويحني رأسه ويغض طرفه، ويقول وعبراته على وجنتيه تسيل:

"انما أنا حبشي.. كنت بالأمس عبدا"..!!

فمن هذا الحبشي الذي كان بالأمس عبدا..!!

انه "بلال بن رباح" مؤذن الاسلام، ومزعج الأصنام..

انه احدى معجزات الايمان والصدق.

احدى معجزات الاسلام العظيم..

في كل عشرة مسلمين. منذ بدأ الاسلام الى اليوم، والى ما شاء الله سنلتقي بسبعة على الأقل يعرفون بلالا..

أي أن هناك مئات الملايين من البشر عبر القرون والأجيال عرفوا بلالا، وحفظوا اسمه، وعرفوا دوره. تماما كما عرفوا أعظم خليفتين في الاسلام: أبي بكر وعمر...!!

وانك لتسأل الطفل الذي لا يزال يحبو في سنوات دراسته الأولى في مصر، أ، باكستان، أ، الصين..

وفي الأمريكيتين، وأوروبا وروسيا..

وفي تاعراق ، وسوريا، وايران والسودان..

في تونس والمغرب والجزائر..

في أعماق أفريقيا، وفوق هضاب آسيا..

في كل يقعة من الأرض يقتنها مسلمون، تستطيع أن تسأل أي طفل مسلم: من بلال يا غلام؟

فيجيبك: انه مؤذن الرسول.. وانه العبد الذي كان سيّده يعذبه بالحجارة المستعرّة ليردّه عن دينه، فيقول: "أحد.. أحد.."
وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه الاسلام بلالا.. فاعلم أن بلال هذا، لم يكن قبل الاسلام أكثر من عبد رقيق، يرعى ابل سيّده على حفنات من التمر، حتى يطو به الموت، ويطوّح به الى أعماق النسيان..

لكن صدق ايمانه، وعظمة الدين الذي آمن به بوأه في حياته، وفي تاريخه مكانا عليّا في الاسلام بين العظماء والشرفاء والكرماء...

ان كثيرا من عليّة البشر، وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم، لم يظفروا بمعشار الخلود الذي ظفر به بلال العبد الحبشي..!!

بل ان كثيرا من أبطال التاريخ لم ينالوا من الشهرة التاريخية بعض الذي ناله بلال..

ان سواد بشرته، وتواضع حسبه ونسبه، وهوانه على الانس كعبد رقيق، لم يحرمه حين آثر الاسلام دينا، من أن يتبوأ المكان الرفيع الذي يؤهله له صدقه ويقينه، وطهره، وتفانيه..

ان ذلك كله لم يكن له في ميزان تقييمه وتكريمه أي حساب، الا حساب الدهشة حين توجد العظمة في غير مظانها..

فلقد كان الناس يظنون أن عبدا مثل بلال، ينتمي الى أصول غريبة.. ليس له أهل، ولا حول، ولا يملك من حياته شيئا، فهو ملك لسيّده الذي اشتراه بماله.. يروح ويغدو وسط شويهات سيده وابله وماشيته..

كانوا يظنون أن مثل هذا الكائن، لا يمكن أن يقدر على شيء ولا أن يكون شيئا..

ثم اذا هو يخلف الظنون جميعا، فيقدر على ايمان، هيهات أن يقدر على مثله سواه.. ثم يكون أول مؤذن للرسول والاسلام العمل الذي كان يتمناه لنفسه كل سادة قريش وعظمائها من الذين أسلموا واتبعوا الرسول..!!

أجل.. بلال بن رباح!
أيّة بطولة.. وأيّة عظمة تعبر عنها هذه الكلمات الثلاث بلال ابن رباح..؟!
انه حبشي من أمة السود... جعلته مقاديره عبدا لأناس من بني جمح بمكة، حيث كانت أمه احدى امائهم وجواريهم..
كان يعيش عيشة الرقيق، تمضي أيامه متشابهة قاحلة، لا حق له في يومه، ولا أمل له في غده..!!
ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه، حين أخذ الانس في مكة يتناقلونها، وحين كان يصغي الى أحاديث ساداته وأضيافهم، سيما "أمية بن خلف" أحد شيوخ بني جمح القبيلة التي كان بلال أحد عبيدها..

لطالما سمع أمية وهو يتحدّث مع أصدقائه حينا، وأفراد قبيلته أحيانا عن الرسول حديثا يطفح غيظا، وغمّا وشرا..
وكانت أذن بلال تلتقط من بين كلمات الغيظ المجنون، الصفات التي تصور له هذا الدين الجديد.. وكان يحس أنها صفات جديدة على هذه البيئة التي يعيش فيها.. كما كانت أذنه تلتقط من خلال أحاديثهم الراعدة المتوعدة اعترافهم بشرف محمد وصدقه وأمانته..!!
أجل انه ليسمعهم يعجبون، ويحارون، في هذا الذي جاء به محمد..!!
ويقول بعضهم لبعض: ما كان محمد يوما كاذبا. ولا ساحرا..ولا مجنونا.. وان ام يكن لنا بد من وصمه اليوم بذلك كله، حتى نصدّ عنه الذين سيسارعون الى دينه..!!
سمعهم يتحدّثون عن أمانته..عن وفائه..عن رجولته وخلقه..عن نزاهته ورجاحة عقله..

وسمعهم يتهامسون بالأسباب التي تحملهم على تحديّ وعداوته، تلك هي: ولاؤهم لدين آبائهم أولا. والخوف على مجد قريش ثانيا، ذلك المجد الذي يفيئه عليها مركزها الديني، كعاصمة للعبادة والنسك في جزيرة العرب كلها، ثم الحقد على بني هاشم، أن يخرج منهم دون غيرهم نبي ورسول...!
وذات يوم يبصر بلال ب رباح نور الله، ويسمع في أعماق روحه الخيّرة رنينه، فيذهب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلم..

ولا يلبث خبر اسلامه أن يذيع.. وتدور الأرض برؤوس أسياده من بني جمح.. تلك الرؤوس التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور..!! وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أميّة بن خلف الذي رأى في اسلام عبد من عبيدهم لطمة جللتهم جميعا بالخزي والعار..

عبدهم الحبشي يسلم ويتبع محمد..؟!

ويقول أميّة لنفسه: ومع هذا فلا بأس.. ان شمس هذا اليوم لن تغرب الا ويغرب معها اسلام هذا العبد الآبق..!!

ولكن الشمس لم تغرب قط باسلام بلال بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها، وحماة الوثنية فيها...!

أما بلال فقد كان له موقف ليس شرفا للاسلام وحده، وان كان الاسلام أحق به، ولكنه شرف للانسانية جميعا..

لقد صمد لأقسى الوان التعذيب صمود البرار العظام.

ولكأنما جعله الله مثلا على أن سواد البشرة وعبودية الرقبة لا ينالان من عظمة الروح اذا وجدت ايمانها، واعتصمت بباريها، وتشبثت بحقها..

لقد أعطى بلال درسا بليغا للذين في زمانه، وفي كل مان، للذين على دينه وعلى كل دين.. درسا فحواه أن حريّة الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهبا، ولا بملئها عذابا..

لقد وضع عريانا فوق الجمر، على أن يزيغ عن دينه، أو يزيف اقتناعه فأبى..

لقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام، والاسلام، من هذا العبد الحبشي المستضعف أستاذا للبشرية كلها في فن احترام الضمير، والدفاع عن حريته وسيادته..

لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها الى جهنم قاتلة.. فيطرحونه على حصاها الماتهب وهو عريان، ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال، ويلقون به فوق جسده وصدره..

ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، حتى رقّت لبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه، فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله، على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم، ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم واصراره..

ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع أن يلقيها من وراء قلبه، ويشتري بها حياته نفسه، دون أن يفقد ايمانه، ويتخلى عن اقتناعه..

حتى هذه الكلمة الواحدة رفض بلال أن يقولها..!

نعم لقد رفض أن يقولها، وصار يردد مكانها نشيده الخالد:"أحد أحد"

يقولون له: قل كما نقول..

فيجيبهم في تهكم عجيب وسخرية كاوية:

"ان لساني لا يحسنه"..!!

ويظل بلال في ذوب الحميم وصخره، حتى اذا حان الأصيل أقاموه، وجعلوا في عنقه حبلا، ثم أمروا صبيانهم أن يطوفوا به جبال مكة وشوارعها. وبلال لا يلهج لسانه بغير نشيده المقدس:" أحد أحد". وكأني اذا جنّ عليهم الليل يساومونه: غدا قل كلمات خير في آلهتنا، قل ربي اللات والعزى، لنذرك وشأتك، فقد تعبنا من تعذيبك، حتى لكأننا نحن المعذبون! فيهز رأسه ويقول:" أحد.. أحد..".

ويلكزه أمية بن خلف وينفجر غمّا وغيظا، ويصيح: أي شؤم رمانا بك يا عبد السوء..؟واللات والعزى لأجعلنك للعبيد والسادة مثلا.

ويجيب بلال في يقين المؤمن وعظمة القديس: "أحد.. أحد.."

ويعود للحديث والمساومة، من وكل اليه تمثيل دور المشفق عليه، فيقول:

خل عنك يا أميّة.. واللات لن يعذب بعد اليوم، ان بلالا منا أمه جاريتنا، وانه لن يرضى أن يجعلنا باسلامه حديث قريش وسخريّتها..

ويحدّق بلال في الوجوه الكاذبة الماكرة، ويفتر ثغره عن ابتسامة كضوء الفجر، ويقول في هدوء يزلزلهم زلزالا: "أحد.. أحد.." وتجيء الغداة وتقترب الظهيرة، ويؤخذ بلال الى الرمضاء، وهو صابر محتسب، صامد ثابت. ويذهب اليهم أبو بكر الصديق وهو يعذبونه، ويصيح بهم:
(أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)؟؟ ثم يصيح في أميّة بن خلف: خذ أكثر من ثمنه واتركه حرا.. وكأنما كان أمية يغرق وأدركه زورق النجاة.. لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره اذ كان اليأس من تطويع لال قد بلغ في في نفوسهم أشده، ولأنهم كانوا من التجار، فقد أردكوا أن بيعه أربح لهم من موته..

باعوه لأبي بكر الذي حرّره من فوره، وأخذ بلال مكانه بين الرجال الأحرار...

وحين كان الصدّيق يتأبط ذراع بلال منطلقا به الى الحرية قال له أمية:

خذه، فواللات والعزى، لو أبيت الا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها..

وفطن أبو بكر لما في هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة الأمل وكان حريّا بألا يجيبه..

ولكن لأن فيها مساسا بكرامة هذا الذي قد صار أخا له، وندّا،أجاب أمية قائلا:

والله لو أبيتم أنتم الا مائة أوقية لدفعتها..!!

وانطلق بصاحبه الى رسول الله يبشره بتحريره.. وكان عيدا عظيما!

وبعد هجرة الرسول والمسلمين الى المدينة، واستقرارهم بها، يشرّع الرسول للصلاة أذانها..

فمن يكون المؤذن للصلاة خمس مرات كل يوم..؟ وتصدح عبر الأفق تكبيراته وتهليلاته..؟

انه بلال.. الذي صاح منذ ثلاث عشرة سنة والعذاب يهدّه ويشويه أن: "الله أحد..أحد".

لقد وقع اختيار الرسول عليه اليوم ليكون أول مؤذن للاسلام.

وبصوته النديّ الشجيّ مضى يملأ الأفئدة ايمانا، والأسماع روعة وهو ينادى للصلاة :

ونشب القتال بين المسلمين وجيش قريش الذي قدم الى المدينة غازيا..

وتدور الحرب عنيفة قاسية ضارية..وبلال هناك يصول ويجول في أول غزوة يخوضها الاسلام، غزوة بدر.. تلك الغزوة التي أمر الرسول عليه السلام أن يكون شعارها: "أحد..أحد".

في هذه الغزوة ألقت قريش بأفلاذ أكبادها، وخرج أشرافها جميعا لمصارعهم..!!

ولقد همّ بالنكوص عن الخروج "أمية بن خلف" .. هذا الذي كان سيدا لبلال، والذي كان يعذبه في وحشيّة قاتلة..

همّ بالنكوص لولا أن ذهب اليه صديقه "عقبة بن أبي معيط" حين علم عن نبأ تخاذله وتقاعسه، حاملا في يمينه مجمرة حتى اذا واجهه وهو جالس وسط قومه، ألقى الجمرة بين يديه وقال له: يا أبا علي، استجمر بهبذ، فانما أنت من النساء..!!!

وصاح به أمية قائلا: قبحك الله، وقبّح ما جئت به..

ثم لم يجد بدّا من الخروج مع الغزاة فخرج..

أيّة أسرار للقدر، يطويها وينشرها..؟

لقد كان عقبة بن أبي معيط أكبر مشجع لأمية على تعذيب بلال، وغير بلال من المسلمين المستضعفين..

واليوم هو نفسه الذي يغريه بالخروج الى غزوة بدر التي سيكون فيها مصرعه..!!

كما سيكون فيها مصرع عقبة أيضا!

لقد كان أمية من القاعدين عن الحرب.. ولولا تشهير عقبة به على هذا النحو الذي رأيناه لما خرج..!!

ولكن الله بالغ أمره، فليخرج أمية فان بينه وبين عبد من عباد الله حسابا قديما، جاء أوان تصفيته، فالديّان لا يموت، وكما تدينون تدانون..!!

وان القدر ليحلو له أن يسخر بالجبارين.. فعقبة الذي كان أمية يصغي لتحريضه، ويسارع اى هواه في تعذيب المؤمنين الأبرياء، هو نفسه الذب سيقود أميّة الى مصرعه..

وبيد من..؟ بيد بلال نفسه.. وبلال وحده!! نفس اليد التي طوّقها أميّة بالسلاسل، وأوجع صاحبها ضربا، وعذابا..
مع هذه اليد ذاتها، هي اليوم، وفي غزوة بدر، على موعد أجاد القدر توقيته، مع جلاد قريش الذي أذل المؤمنين بغيا وعدوا.. ولقد حدث هذا تماما..

وحين بدأ القتال بين الفريقين، وارتج جانب المعركة من قبل المسلمين بشعارهم:" أحد.. أحد" انخلع قلب أمية، وجاءه النذير..

ان الكلمة التي كان يرددها بالأمس عبد تحت وقع العذاب والهول قد صارت اليوم شعار دين بأسره وشعار الأمة الجديدة كلها..!!

"أحد..أحد"؟؟!!

أهكذا..؟ وبهذه السرعة.. وهذا النمو العظيم..؟؟

وتلاحمت السيوف وحمي القتال..

وبينما المعركة تقترب من نهايتها، لمح أمية بن خلف" عبد الرحمن بن عوف" صاحب رسول الله، فاحتمى به، وطلب اليه أن يكون أسيره رجاء أن يخلص بحياته..

وقبل عبد الرحمن عرضه وأجاره، ثم سار به وسط العمعمة الى مكان السرى.

وفي الطريق لمح بلال فصاح قائلا:

"رأس الكفر أميّة بن خلف.. لا نجوت ان نجا".

ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي لطالما أثقله الغرور والكبر، فصاح به عبد الرحمن بن عوف:

"أي بلال.. انه أسيري".

أسير والحرب مشبوبة دائرة..؟

أسير وسيفه يقطر دما مما كان يصنع قبل لحظة في أجساد المسلمين..؟

لا.. ذلك في رأي بلال ضحك بالعقول وسخرية.. ولقد ضحك أمية وسخر بما فيه الكفاية..

سخر حتى لم يترك من السخرية بقية يدخرها ليوم مثل هذا اليوم، وهذا المأزق، وهذا المصير..!!

ورأى بلال أنه لن يقدر وحده على اقتحام حمى أخيه في الدين عبد الرحمن بن عوف، فصاح بأعلى صوته في المسلمين:

"يا أنصار الله.. رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت ان نجا"...!

وأقبلت كوكبة من المسلمين تقطر سيوفهم المنايا، وأحاطت بأمية وابنه ولم يستطع عبد الرحمن بن عوف أن يصنع شيئا.. بل لم يستطع أن يحمي أذراعه التي بددها الزحتم.

وألقى بلال على جثمان أمية الذي هوى تحت السيوف القاصفة نظرة طويلة، ثم هرول عنه مسرعا وصوته النديّ يصيح: "أحد.. أحد.."

لا أظن أن من حقنا أن نبحث عن فضيلة التسامح لدى بلال في مثل هذا المقام..

فلو أن اللقاء بين بلال وأمية تمّ في ظروف أخرى، لجازنا أن نسال بلالا حق التسامح، وما كان لرجل في مثل ايمانه وتقاه أن يبخل به.

لكن اللقاء الذي تم بينهما، كان في حرب، جاءها كل فريق ليفني غريمه..

السيوف تتوهج.. والقتلى يسقطون.. والمنايا تتواثب، ثم يبصر بلال أمية الذي لم يترك في جسده موضع أنملة الا ويحمل آثار تعذيب.

وأين يبصره وكيف..؟

يبصره في ساحة الحرب والقتال يحصد بسيفه كل ما يناله من رؤوس المسلمين، ولو أدرك رأس بلال ساعتئذ لطوّح به..

في ظروف كهذه يلتقي الرجلان فيها، لا يكون من المنطق العادل في شيء أن نسأل بلالا: لماذا لم يصفح الصفح الجميل..؟؟

وتمضي الأيام وتفتح مكة..

ويدخلها الرسول شاكرا مكبرا على رأس عشرة آلاف من المسلمين..

ويتوجه الى الكعبة رأسا.. هذا المكان المقدس الذي زحمته قريش بعدد أيام السنة من الأصنام..!!

لقد جاء الحق وزهق الباطل..

ومن اليوم لا عزى.. ولا لات.. ولا هبل.. لن يجني الانسان بعد اليوم هامته لحجر، ولا وثن.. ولن يعبد الناس ملء ضمائرهم الا الله الي ليس كمثله شيء، الواحد الأحد، الكبير المتعال..

ويدخل الرسول الكعبة، مصطحبا معه بلال..!

ولا يكاد يدخلها حتى يواجه تمثالا منحوتا، يمثل ابراهيم عليه السلام وهو يستقسم بالأزلام، فيغضب الرسول ويقول:

"قاتلهم الله..

ما كان شيخنا يستقسم بالأزلام.. ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين".

ويأمر بلال أن يعلو ظهر المسجد، ويؤذن.

ويؤذن بلال.. فيالروعة الزمان، واملكان، والمناسبة..!!

كفت الحياة في مكة عن الحركة، ووقفت الألوف المسلمة كالنسمة الساكنة، تردد في خشوع وهمس كلمات الآذان ورء بلال.

والمشركون في بيوتهم لا يكادون يصدقون:

أهذا هو محمد وفقراؤه الذين أخرجوا بالأمس من هذا الديار..؟؟

أهذا هو حقا، ومعه عشرة آلاف من المؤمنين..؟؟

أهذا هو حقا الذي قاتلناه، وطاردنبه، وقتلنا أحب الناس اليه..؟

أهذا هو حقا الذي كان يخاطبنا من لحظات ورقابنا بين يديه، ويقول لنا:

"اذهبوا فأنتم الطلقاء"..!!

ولكن ثلاثة من أشراف قريش، كانوا جلوسا بفناء الكعبة، وكأنما يلفحهم مشهد بلال وهو يدوس أصنامهم بقدميه، ويرسل من فوق ركامها المهيل صوته بالأذان المنتشر في آفاق مكة كلها كعبير الربيع..

أما هؤلاء الثلاثة فهم، أبوسفيان بن حرب، وكان قد أسلم منذ ساعات، وعتّاب بن أسيد، والحارث بن هشام، وكانا لم يسلما بعد.

قال عتاب وعينه على بلال وهو يصدح بأذانه:

لقد أكرم الله اسيدا، ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث:

أما والله لو أعلم أن محمدا محق لاتبعته..!!

وعقب أبو سفيان الداهية على حديثهما قائلا:

اني لا أقول شيئا، فلو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى!! وحين غادر النبي الكعبة رآهم، وقرأ وجوههم في لحظة، قال وعيناه تتألقان بنور الله، وفرحة النصر:

قد علمت الذي قلتم..!!!

ومضى يحدثهم بما قالوا..

فصاح الحارث وعتاب:

نشهد أنك رسول الله، والله ما سمعنا أحد فنقول أخبرك..!!

واستقبلا بلال بقلوب جديدة..في أفئدتهم صدى الكلمات التي سمعوها في خطاب الرسول أول دخول مكة:

" يامعشر قريش..

ان الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء..

الناس من آدم وآدم من تراب"..

وعاش بلال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشهد معه المشاهد كلها، يؤذن للصلاة، ويحيي ويحمي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات الى النور، ومن الرق الى الحريّة..

وعلا شأن الاسلام، وعلا معه شأن المسلمين، وكان بلال يزداد كل يوم قربا من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يصفه بأنه:" رجل من أهل الجنة"..

لكن بلالا بقي كما هو كريما متواضعا، لا يرى نفسه الا أنه:" الحبشي الذي كان بالأمس عبدا"..!!

ذهب يوما يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال لأبيهما:

"أنا بلال، هذا أخي عبدان من الحبشة.. كنا ضالين فهدانا الله.. ومنا عبدين فأعتقنا الله.. ان تزوّجونا فالحمد لله.. وان تمنعونا فالله أكبر.."!!

وذهب الرسول الى الرفيق الأعلى راضيا مرضيا، ونهض بأمر المسلمين من بعده خليفته أبو بكر الصديق..

وذهب بلال الى خليفة رسول الله يقول له:

" يا خليفة رسول الله..

اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أفضل عمل لبمؤمن الجهاد في سبيل الله"..

فقال له أبو بكر: فما تشاء يا بلال..؟

قال: أردت أن أرابط في سبيل الله حتىأموت..

قال أبو بكر ومن يؤذن لنا؟

قال بلال وعيناه تفيضان من الدمع، اني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله.

قال أبو بكر: بل ابق وأذن لنا يا بلال..

قال بلال: ان كنت أعتقتني لأكون لك فليكن لك ما تريد. وان كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له..

قالأبو بكر: بل أعتقتك لله يا بلال..

ويختلف الرواة، فيروي بعضهم أنه سافر الى الشام حيث بقي فيها مجاهدا مرابطا.

ويروي بعضهم الآخر، أنه قبل رجاء أبي بكر في أن يبقى معه بالمدينة، فلما قبض وولي عمر الخلافة استأذنه وخرج الى الشام.

على أية حال، فقد نذر بلال بقية حياته وعمره للمرابطة في ثغور الاسلام، مصمما أن يلقى الله ورسوله وهو على خير عمل يحبانه.

ولم يعد يصدح بالأذان بصوته الشجي الحفيّ المهيب، ذلك أنه لم ينطق في أذانه "أشهد أن محمدا رسول الله" حتى تجيش به الذمؤيات فيختفي صوته تحت وقع أساه، وتصيح بالكلمات دموعه وعبراته.

وكان آخر أذان له أيام زار أمير المؤمنين عمر وتوسل المسلمون اليه أن يحمل بلالا على أن يؤذن لهم صلاة واحدة.

ودعا أمير المؤمنين بلال، وقد حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذن لها.

وصعد بلال وأذن.. فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله وبلال يؤذن له.. بكوا كما لم يبكوا من قبل أبدا.. وكان عمر أشدهم بكاء..!!

ومات بلال في الشام مرابطا في سبيل الله كما أراد.
وتحت ثرى دمشق يثوي اليوم رفات رجل من أعظم رجال البشر صلابة في الوقوف الى جانب العقيدة والاقتناع...
طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى