مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

* حرق القاف : قطز - سيف الدين قطز- قسطنطين بن قيصر زريق

اذهب الى الأسفل

* حرق القاف : قطز - سيف الدين قطز- قسطنطين بن قيصر زريق Empty * حرق القاف : قطز - سيف الدين قطز- قسطنطين بن قيصر زريق

مُساهمة  طارق فتحي السبت ديسمبر 27, 2014 6:26 am

سيف الدين قطز
مُساهمة  طارق فتحي في الأحد 19 أكتوبر 2014 - 8:07
هو الملك المظفَّر سيف الدين قطز بن عبد الله المعزي سلطان مصر المملوكي، يُعتبر أبرز ملوك دولة المماليك على الرغم أن فترة حكمة لم تدم سوى عام واحد؛ لأنه استطاع أن يُوقف زحف المغول؛ الذي كاد أن يقضي على الدولة الإسلامية، وهزمهم هزيمة منكرة في معركة عين جالوت، ولاحق فلولهم حتى حرَّر الشام.
قطز أصله ونشأته
وُلد قطز أميرًا مسلمًا في ظلِّ الدولة الخوارزمية؛ فهو محمود بن ممدود ابن أخت السلطان جلال الدين خوارزم شاه، وُلِدَ في بلاد خوارزم شاه لأب اسمه ممدود، وأُمُّه التي كانت أخت الملك جلال الدين بن خوارزم شاه، وكان جدُّه من أعظم ملوك خوارزم شاه، وقد دخل جدُّه في حروب طويلة مع جنكيزخان ملك التتار، إلَّا أنه هُزم وتولَّى نجم الدين الحُكْمَ، وكانت بداية حكمه رائعة، وانتصر على التتار في كثير من المعارك، إلَّا أنه بعد ذلك قام بعدَّة سقطات إلى أن وصل التتار إلى عاصمة حُكْمِه، وتمَّ اختطافه عقب انهيار الدولة الخوارزمية عام (628هـ= 1231م) على يد المغول، وحُمل هو وغيره من الأطفال إلى دمشق، وتمَّ بيعهم في سوق الرقيق، وأُطلق عليه اسم قطز، ظلَّ قطز عبدًا يُباع ويُشترى إلى أن انتهى به المطاف في يد عز الدين أيبك، أحد أمراء مماليك البيت الأيوبي بمصر.
ويروي شمس الدين الجزري في تاريخه عن سيف الدين قطز: «لمَّا كان في رِقِّ موسى بن غانم المقدسي بدمشق، ضربه سيِّده وسبَّه بأبيه وجدِّه، فبكى ولم يأكل شيئًا سائر يومه، فأمر ابن الزعيم الفرَّاش أن يترضَّاه ويُطعمه، فروى الفرَّاش أنه جاءه بالطعام، وقال له: كُلُّ هذا البكاء من لطمة؟ فقال قطز: إنما بكائي من سَبِّه لأبي وجدِّي وهما خير منه. فقلتُ: مَنْ أبوك؟ واحد كافر؟! فقال: والله! ما أنا إلَّا مسلم ابن مسلم، أنا محمود بن ممدود ابن أخت خوارزم شاه من أولاد الملوك. فسكتُّ وترضَّيْتُه».
كما يُرْوَى أنه أخبر في صغره أحدَ أقرانه أنه رأى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقد بشَّره بأنه سيملك مصر ويكسر التتار، وهذا يعني أن الرجل كان يعتبر نفسه صاحب مهمَّة، وأنه من الصلاح بحيث رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم واصطفاه الله بذلك.
ولا شكَّ أن قطز رحمه الله كان مبعوث رحمة الله ومبعوث العناية الإلهية بالأُمَّة العربية والإسلامية وبالعالم؛ كي يُخَلِّصَ العالم من شرِّ وخطر التتار إلى الأبد، وكان وصوله إلى حكم مصر من حُسن حَظِّها وحظِّ العالمَيْنِ العربي والإسلامي.
وقد وُصف قطز بأنه كان شابًّا أشقر، كثَّ اللحية، بطلًا شجاعًا عفًّا عن المحارم، مترفِّعًا عن الصغائر، مواظبًا على الصلاة والصيام وتلاوة الأذكار، تزوَّج من بني قومه، ولم يخلِّف ولدًا ذكرًا؛ بل ترك ابنتين لم يسمع عنهما الناس شيئًا بعده.
قطز ووصايته على الحكم
قام الملك عز الدين أيبك بتعيين قطز نائبًا للسلطنة، وبعد أن قُتل الملك المعز عز الدين أيبك على يد زوجته شجر الدر، وقُتلت من بعده زوجته شجر الدر على يد جواري الزوجة الأولى لأيبك، تولَّى الحكم السلطان نور الدين علي بن أيبك، وتولَّى سيف الدين قطز الوصاية على السلطان الصغير، الذي كان يبلغ من العمر 15 سنة فقط.
وأحدث صعود الطفل نور الدين إلى كرسي الحكم اضطرابات كثيرة في مصر والعالم الإسلامي، وكانت أكثر الاضطرابات تأتي من قِبَل بعض المماليك البحرية؛ الذين مكثوا في مصر، ولم يهربوا إلى الشام مع مَنْ هرب منها أيام الملك المعز عز الدين أيبك، وتزعَّم أحد هؤلاء المماليك البحرية واسمه سنجر الحلبي الثورة، وكان يرغب في الحكم لنفسه بعد مقتل عز الدين أيبك، فاضطر قطز إلى القبض عليه وحبسه، كذلك قبض قطز على بعض رءوس الثورات المختلفة، فأسرع بقية المماليك البحرية إلى الهرب إلى الشام؛ وذلك ليلحقوا بزعمائهم الذين فرُّوا قبل ذلك إلى هناك أيام الملك المعز، ولمَّا وصل المماليك البحرية إلى الشام شجَّعُوا الأمراء الأيوبيين على غزو مصر، واستجاب لهم بالفعل بعض هؤلاء الأمراء؛ ومنهم «مغيث الدين عمر» أمير الكرك، الذي تقدَّم بجيشه لغزو مصر.. ووصل مغيث الدين بالفعل بجيشه إلى مصر، وخرج له قطز فصدَّه عن دخول مصر، وذلك في ذي القعدة من سنة (655هـ= 1257م)، ثم عاد مغيث الدين تراوده الأحلام لغزو مصر من جديد، ولكن صدَّه قطز مرَّة أخرى في ربيع الآخر سنة (656 هـ= 1258م).
قطز وتوليه الحكم
كان قطز محمود بن ممدود بن خوارزم شاه يُدير الأمور فعليًّا في مصر، ولكن الذي كان يجلس على كرسي الحكم سلطان طفل، فرأى قطز أن هذا يُضعف من هيبة الحُكْمِ في مصر، ويُزَعْزع من ثقة الناس بملكهم، ويُقَوِّي من عزيمة الأعداء؛ إذ يرون الحاكم طفلًا؛ فقد كان السلطان الطفل مهتمًّا بمناقرة الديوك، ومناطحة الكباش، وتربية الحمام، وركوب الحمير في القلعة، ومعاشرة الأراذل والسوقة، تاركًا لأُمِّه ومَنْ وراءها تسيير أمور الدولة في تلك الأوقات العصيبة، وقد استمرَّ هذا الوضع الشاذُّ قُرابة ثلاث سنوات، على الرغم من تعاظم الأخطار وسقوط بغداد بيد المغول، وكان من أشدِّ المتأثِّرين بذلك والمدركين لهذه الأخطار الأمير قطز، الذي كان يحزُّ في نفسه ما كان يراه من رعونة الملك، وتحكُّم النساء في مقدرات البلاد، واستبداد الأمراء، وإيثارهم مصالحهم الخاصة على مصلحة البلاد والعباد.
هنا اتَّخذ قطز القرار الجريء، وهو عزل السلطان الطفل نور الدين علي، وتولَّى عرش مصر، حدث هذا الأمر في 24 من ذي القعدة (657هـ= 1259م)؛ أي: قبل وصول هولاكو إلى حلب بأيام، ومنذ أن صَعِد قطز إلى كرسي الحكم وهو يُعِدُّ العُدَّة للقاء التتار.
عندما تولَّى قطز الحكم كان الوضع السياسي الداخلي متأزِّمًا للغاية، فقد جلس على كرسي الحُكْم في مصر خلال عشرة أعوام تقريبًا ستة حُكَّام؛ وهم: الملك الصالح نجم الدين أيوب، ولده توران شاه، شجر الدر، الملك المعز عز الدين أيبك، السلطان نور الدين علي بن أيبك، وسيف الدين قطز. كما كان هناك الكثير من المماليك الطامعين في الحُكْم، ويقومون بالتنازُع عليه.
كما كانت هناك أزمة اقتصادية طاحنة تمرُّ بالبلاد من جرَّاء الحملات الصليبية المتكرِّرة، ومن جرَّاء الحروب التي دارت بين مصر وجيرانها من الشام، ومن جرَّاء الفتن والصراعات على المستوى الداخلي. فعمل قطز على إصلاح الوضع في مصر خلال إعداده للقاء التتار.
قطز والإعداد للقاء التتار
قطع قطز أطماع المماليك في الحُكْم عن طريق توحيدهم خلف هدف واحد، وهو وقف زحف التتار ومواجهتهم، فقام بجمع الأمراء وكبار القادة وكبار العلماء وأصحاب الرأي في مصر، وقال لهم في وضوح: «إني ما قصدت (أي ما قصدت من السيطرة على الحُكْم) إلَّا أنْ نجتمع على قتال التتر، ولا يتأتى ذلك بغير مَلِكٍ، فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدوَّ، فالأمرُ لكم، أقيموا في السلطة مَنْ شئتم». فهدأ معظم الحضور ورضوا بذلك، كما قَبِلَ قطز الصلح مع بيبرس؛ الذي أرسل الرُّسُل لقطز كي يَتَّحدا للتصدَّي لجيوش المغول؛ التي كانت قد دخلت دمشق آسرةً الناصر يوسف مَلِكَها، وعظَّم قطز من شأن بيبرس كثيرًا، وأنزله دار الوزارة، وأقطعه قليوب وما حولها من القرى، وعامله كأمير من الأمراء المُقَدَّمين، بل وجعله على مُقَدِّمَة الجيوش في معركة عين جالوت.
واستعدادًا للمعركة الفاصلة مع التتار فقد راسل قطز أمراء الشام، فاستجاب له الأمير المنصور صاحب حماة، وجاء من حماة ومعه بعض جيشه للالتحاق بجيش قطز في مصر، أمَّا المغيث عمر صاحب الكرك وبدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل فقد فضَّلَا التحالف مع المغول والخيانة، وأمَّا الملك السعيد حسن بن عبد العزيز صاحب بانياس فقد رفض التعاون مع قطز هو الآخر رفضًا قاطعًا، بل انضمَّ بجيشه إلى قوَّات التتار ليُساعدهم في محاربة المسلمين.
اقترح قطز أن تُفرض على الناس ضرائب لدعم الجيش، وهذا قرار يحتاج إلى فتوى شرعية؛ لأن المسلمين في دولة الإسلام لا يدفعون سوى الزكاة، ولا يدفعها إلَّا القادر عليها، وبشروط الزكاة المعروفة، أمَّا فرض الضرائب فوق الزكاة فهذا لا يكون إلَّا في ظروف خاصة جدًّا، ولا بُدَّ من وجود سند شرعي يُبيح ذلك؛ فاستفتى قطز الشيخ العز بن عبد السلام؛ فأفتى قائلاً: «إذا طرق العدوُّ البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم، وجاز أن يُؤخذ من الرعية ما يُستعان به على جهازهم؛ بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء، وأن تبيعوا ما لكم من الممتلكات والآلات، ويقتصر كلٌّ منكم على فرسه وسلاحه، وتتساووا في ذلك أنتم والعامَّة، وأمَّا أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا» (1).
قَبِلَ قطز كلام الشيخ العز بن عبد السلام، وبدأ بنفسه، فباع كلَّ ما يملك، وأمر الوزراء والأمراء أن يفعلوا ذلك، فانصاع الجميع، وتمَّ تجهيز الجيش كله.
وصول رسل التتار
بينما كان قطز يُعِدُّ الجيش والشعب للقاء التتار وصل رسل هولاكو يحملون رسالة تهديد لقطز؛ جاء فيها: «بسم إله السماء الواجب حقُّه، الذي مَلَّكَنا أرضه، وسلَّطنا على خلقه، الذي يعلم به الملك المظفر الذي هو من جنس المماليك، صاحب مصر وأعمالها، وسائر أمرائها وجندها وكتابها وعمالها، وباديها وحاضرها، وأكابرها وأصاغرها. إنَّا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلَّطنا على مَنْ حلَّ به غيظه، فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتَّعظوا بغيركم، وسلِّمُوا إلينا أمركم، قبل أن ينكشف الغطاء، ويعود عليكم الخطأ. فنحن ما نرحم مَنْ بكى، ولا نرقُّ لمن اشتكى، فتحنا البلاد، وطَهَّرنا الأرض من الفساد. فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب؛ فأيُّ أرضٍ تأويكم؟ وأيُّ بلادٍ تحميكم؟ وأيُّ ذلك ترى؟ ولنا الماء والثرى؟ فما لكم من سيوفنا خلاصٌ، ولا من أيدينا مناصٌ؛ فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق، وسهامنا لواحق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال؛ فالحصون لدينا لا تُمنع، والجيوش لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع؛ لأنكم أكلتم الحرام، وتعاظمتم عن ردِّ السلام، وخنتم الأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان؛ فأبشروا بالمذلَّة والهوان: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ} [الأحقاف:20]، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]. وقد ثبت أنا نحن الكفرة وأنتم الفجرة، وقد سلَّطنا عليكم مَنْ بيده الأمور المدبّرة، والأحكام المقدّرة. فكثيركم عندنا قليل، وعزيزكم لدينا ذليل، وبغير المذلَّة ما لملوككم علينا من سبيل، فلا تُطيلوا الخطاب، وأسرعوا ردَّ الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وتوري شرارها، فلا تجدون منا جاهًا ولا عزًّا، ولا كتابًا ولا حرزًا، إذ أزَّتْكُم رماحنا أزًّا، وتُدْهَوْنَ منَّا بأعظم داهية، وتُصبح بلادكم منكم خالية، وعلى عروشها خاوية، فقد أنصفناكم إذ أرسلنا إليكم، ومننَّا برسلنا عليكم» (2).
جمع قطز القادة والمستشارين وأطلعهم على الرسالة، وكان من رأي بعض القادة الاستسلام للتتار وتجنُّب ويلات الحرب، فما كان من قطز إلَّا أن قال:«أنا ألقى التتار بنفسي، يا أمراء المسلمين؛ لكم زمان تأكلون من بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجِّهٌ، فمَنِ اختار الجهاد يصحبني، ومَنْ لم يخترْ ذلك يرجع إلى بيته، وإنَّ الله مُطَّلِع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخِّرين عن القتال».
فتحمَّس القواد والأمراء لرؤيتهم قائدهم يُقَرِّر الخروج لمحاربة التتار بنفسه، بدلًا من أن يُرسل جيشًا ويبقى هو.
ثم وقف يُخاطب الأمراء وهو يبكي ويقول: «يا أمراء المسلمين؛ مَنْ للإسلام إن لم نكن نحن».
فقام الأمراء يُعلنون موافقتهم على الجهاد، وعلى مواجهة التتار مهما كان الثمن؛ وقد زاد من عزيمة المسلمين وصول رسالة من صارم الدين الأشرفي الذي وقع أسيرًا في يد المغول أثناء غزوهم الشام، ثم قبل الخدمة في صفوفهم وأوضح لهم فيها قلَّة عددهم، وشجَّعهم على قتالهم، وأن لا يخافوا منهم.
وقام قطز بقطع أعناق الرسل الذين أرسلهم إليه هولاكو بالرسالة التهديدية، وعلَّق رءوسهم في الريدانية في القاهرة، وأبقى على أحدهم ليحمل الأجساد لهولاكو. وأَرسل الرسل في الديار المصرية تُنادي بالجهاد في سبيل الله ووجوبه وفضائله، وكان العز بن عبد السلام يُنادي في الناس بنفسه فهبَّ نفرٌ كثير ليكونوا قلب وميسرة جيش المسلمين، أمَّا القوَّات النظامية من المماليك فكوَّنت الميمنة، واختبأت بَقِيَّتُها خلف التلال لتحسم المعركة.
معركة عين جالوت
التقى الفريقان في المكان المعروف باسم عين جالوت في فلسطين في 25 من رمضان 658هـ= 3 سبتمبر 1260م، وكانت الحرب ضاريةً؛ أخرج التتار فيها كلَّ إمكانياتهم، وظهر تفوُّق الميمنة التترية التي كانت تضغط على الجناح الأيسر للقوات الإسلامية، وبدأت القوات الإسلامية تتراجع تحت الضغط الرهيب للتتار، وبدأ التتار يخترقون الميسرة الإسلامية، وبدأ الشهداء يسقطون، ولو أكمل التتار اختراقهم للميسرة فسيلتفُّون حول الجيش الإسلامي.
كان قطز يقف في مكان عالٍ خلف الصفوف يُراقب الموقف بكامله، ويُوَجِّه فِرَق الجيش إلى سدِّ الثغرات، ويُخَطِّط لكلِّ كبيرة وصغيرة، وشاهد قطز المعاناة التي تعيشها ميسرة المسلمين، فدفع إليها بآخر الفرق النظامية من خلف التلال، ولكنَّ الضغط التتري استمرَّ.
فما كان من قطز إلَّا أن نزل ساحة القتال بنفسه؛ وذلك لتثبيت الجنود ورفع روحهم المعنوية، ألقى بخوذته على الأرض تعبيرًا عن اشتياقه للشهادة، وعدم خوفه من الموت، وأطلق صيحته الشهيرة: «وا إسلاماه!».
وقاتل قطز مع الجيش قتالًا شديدًا، حتى صَوَّب أحدُ التتر سهمه نحو قطز فأخطأه، ولكنه أصاب الفرس الذي كان يركب عليه قطز، فقُتل الفرسُ من ساعته، فترجَّل قطز على الأرض، وقاتل ماشيًا لا خيل له، ورآه أحد الأمراء وهو يُقاتل ماشيًا، فجاء إليه مسرعًا، وتنازل له عن فرسه، إلَّا أنَّه امتنع، وقال: «ما كنت لأحرم المسلمين نفعك!». وظلَّ يُقاتل ماشيًا إلى أن أتوه بفرس من الخيول الاحتياطية، وقد لامه بعض الأمراء على هذا الموقف وقالوا له: «لمَ لمْ تركب فرس فلان؟ فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك، وهلك الإسلام بسببك».
فقال قطز: «أمَّا أنا كنت أروح إلى الجنة، وأمَّا الإسلام فله ربٌّ لا يُضيعه، وقد قُتل فلان وفلان وفلان... حتى عدَّ خلقًا من الملوك (مثل عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم) فأقام الله للإسلام مَنْ يحفظه غيرهم، ولم يضع الإسلام».
وانتصر المسلمون في عين جالوت ولاحق قطز فلولهم وطَهَّر المسلمون بلاد الشام بكاملها في غضون بضعة أسابيع، وعادت من جديد أرض الشام إلى ملك الإسلام والمسلمين، وفُتحت دمشق، وأعلن قطز توحيد مصر والشام من جديد في دولة واحدة تحت زعامته، بعد عشر سنوات من الفُرقة؛ وذلك منذ وفاة الملك الصالح نجم الدين أيوب، وخُطب لقطز رحمه الله على المنابر في كل المدن المصرية والفلسطينية والشامية، حتى خُطب له في أعالي بلاد الشام والمدن حول نهر الفرات.
وبدأ قطز يُوَزِّع الولايات الإسلامية على الأمراء المسلمين، وكان من حكمته رحمه الله أنه أرجع بعضًا من الأمراء الأيوبيين إلى مناصبهم؛ وذلك ليضمن عدم حدوث الفتنة في بلاد الشام، ولم يخشَ قطز –رحمه الله- من خيانتهم، وخاصة بعد أن تبيَّن لهم أنه لا طاقة لهم بقطز وبجنوده الأبرار.
مقتل قطز
قَتَل ركن الدين بيبرس السلطان المظفر قطز في ذو القعدة 658هـ= 24 أكتوبر 1260م أثناء عودة الجيش إلى مصر[3]، والسبب أن السلطان قطز قد وعد بيبرس بمنحه حُكْم حلب بعد انتهاء الحرب، وبعد ذلك فَكَّر السلطان قطز بالتخلِّي عن السلطنة وإكمال حياته في طريق الزهد وطلب العلم وتَرْكِ قيادة البلاد لقائد جيوشه ركن الدين بيبرس، وبالتالي تراجع عن منح بيبرس ولاية حلب؛ بما أنه سيُصبح ملكًا للبلاد كلها، فاعتقد بيبرس أن السلطان قطز قد خدعه، وبدأ رفاقُه يُصَوِّرُون له ذلك ويُحَرِّضُونه على الخروج على السلطان وقتله، فلمَّا قفل قطز من استعادة دمشق من يد التتار أجمع المماليك البحرية ومنهم بيبرس أن يغتالوه في طريقهم‏ لمصر؛‏ فلما قارب مصر ذهب في بعض أيامه يتصيَّد، وسارت الرواحل على الطريق فاتَّبَعُوه، وتقدَّم إليه أنز الأصبهاني شفيعًا في بعض أصحابه، فشفَّعه فهَوَى يُقَبِّل يده فأمسكها،‏ وعلاه بيبرس بالسيف فخرَّ صريعًا لليدين والفم‏، ورشقه الآخرون بالسهام فقتلوه، ثم حُمل قطز بعد ذلك إلى القاهرة فدُفن بها.
ويبدو للناظر في كتب التاريخ التي حفظت لنا هذه القصة أن سيف الدين قطز قد جاء لأداء مهمَّة تاريخية محدَّدة، فما أن أنجزها حتى توارى عن مسرح التاريخ؛ بعد أن جذب الانتباه والإعجاب الذي جعل دوره التاريخي -على الرغم من قِصَر فترته الزمنية- كبيرًا وباقيًا.
قطز مجدد الأمة
هذه قصة التتار، وهذه قصة عين جالوت، وهي دورة طبيعية من دورات التاريخ .. فالتاريخ من طبيعته أن يصعد بأمة إلى أعلى الدرجات ثم يهوي بها إلى أسفل سافلين، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].
صعد التتار ثم هبطوا، وهبط المسلمون ثم صعدوا، وسيكون بعد الصعود هبوط، وسيكون بعد الهبوط صعود... وهكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..
وإنما نعرض التاريخ لا لمشاهدة الصعود والهبوط فقط، ولكن لدراسة الأسباب التي أدّت إلى رفعة قوم وإلى ذلّة آخرين.. والتاريخ يتكرر بصورة عجيبة.. ومن قرأ التاريخ أضاف إلى خبراته خبرات السنين، وخبرات الأمم، وخبرات الزمان والمكان..
بين قطز وجنكيز خان
في هذه القصّة رأينا كيف تحول مسار التاريخ تماماً بظهور رجل معين، هو قطز رحمه الله، كما تحول مسار التاريخ قبل ذلك تمامًا أيضًا بظهور جنكيزخان لعنه الله، وشتان بين الشخصيتين، ولكنهما يجتمعان في أن كليهما مؤثر!!
فكلاهما أثّر في الملايين .. كلاهما أثر في جغرافية الأرض .. كلاهما أثر في حركة التاريخ .. ولكن شتّان بين الأثرين..
أما الأثر الأول فقد استمد قوته من قوة الجسد والسلاح وشريعة الغاب، وأما الأثر الثاني فقد استمد قوته من قوة الإيمان والروح وشريعة الإسلام..
من السهل جداً يا إخواني أن تدمِّر، ولكن من الصعب جدًا أن تبني!
من السهل جداً أن تظلم، لكن من الصعب جداً أن تعدل!
من السهل جداً أن تغضب، لكن من الصعب جداً أن تعفو!
وهذه هي روعة الإسلام..
قطز إنسان، وجنكيزخان إنسان..
لكنَّ الأوّل جُمِّلَ بالإسلام، والثاني حُرِم الإسلام .. فتغيّرت حركة التاريخ تبعاً لذلك!
قطز بنى حضارة الإنسان واستحق أن يكون خليفةً في الأرض، قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]. وجنكيزخان هدم حضارة الإنسان واستحق بذلك أن يكون مسخًا ملعونًا، قال تعالى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} [الإسراء:63].
وأمثال جنكيزخان في الأرض كثير، وعلى عكس ذلك: فأمثال قطز في الأرض قليل؛ لأنه كما ذكرنا: ما أسهلَ التدمير، وما أصعبَ البناء!!
{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116].
{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].

عظماء غيَّروا التاريخ
من المؤرخين من يشكك في أن التاريخ لا يُصنع بإنسان بعينه.. وأن الإنسان الفرد لا يقوى على تغيير المجتمعات.. وتغيير حركة التاريخ..
ولكن التاريخ نفسه يثبت عكس ذلك..
تغيّرت حركة التاريخ تمامًا في أزمان كثيرة، وفي أماكن متعددة بظهور أشخاص بعينهم، ولا أقول لك تغيرت بحياة رسول أو نبي فهذا واضح ومفهوم، ووجود الوحي والتوجيه الرباني المباشر يجعل المقارنة مع بقية فترات التاريخ مستحيلة.
لكن أقول لك: تتغير حركة التاريخ بأشخاص معينة ليسوا أنبياء ولا رسلاً، فقد تغيرت حركة التاريخ بوجود رجل مثل أبى بكر الصديق، وراجعوا حروب الردة.
تغيرت حركة التاريخ بوجود رجل مثل عمر بن الخطاب وراجعوا فتوح الإسلام.
تغيرت حركة التاريخ بظهور عمر بن عبد العزيز، وبظهور موسى بن نصير، وبظهور عبد الرحمن الداخل، وبظهور عبد الرحمن الناصر، وبظهور عماد الدين زنكي، وبظهور نور الدين محمود، وبظهور صلاح الدين الأيوبي، وبظهور قطز وبظهور عبد الله بن ياسين، وبظهور يوسف بن تاشفين، وبظهور محمد الفاتح، وبظهور غيرهم، رحمهم الله جميعًا.
نعم يظهرون على فترات متباعدة، ولكن يمتد أثرهم إلى آماد بعيدة.

قطز مجدد الأمة
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: "إِنَّمَا النَّاسُ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً"[1].
ولكن هذه الراحلة إن وجدت، فيا سعادة أهل الأرض بوجودها!..
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"[2].
وقطز -ولا شك- كان من هؤلاء المجددين..
إن شئت فتحدث عن إيمانه وخشوعه، وإن شئت فتحدث عن زهده وعفافه، وإن شئت فتحدث عن كفاءته ومهارته، وإن شئت فتحدث عن صدقه وإخلاصه، وإن شئت فتحدث عن جهاده وتضحيته، وإن شئت فتحدث عن صبره ومصابرته، وإن شئت فتحدث عن حلمه وتواضعه..
لقد كان قطز رجلاً مجددًا بمعنى الكلمة..
كان كما وصفه الإمام الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء حيث قال: "كان فارسًا شجاعًا، سائسًا، ديِّنًا، محببًا إلى الرعية، هزم التتار، وطهّر الشام منهم يوم عين جالوت، ويَسْلَم له إن شاء الله جهادُه، وكان شابًا أشقر، وافر اللحية، تامّ الشكل".
وقال الذهبي أيضا في تاريخ الإسلام: وكان بطلاً شجاعًا، مقدامًا، حازمًا، حسن التدبير، يرجع إلى دين وإسلام وخير. وله اليد البيضاء في جهاد التتار، فعوض الله شبابه بالجنة، ورضي عنه.
وكان كما وصفه ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية: كان شجاعًا بطلاً، كثيرَ الخير، ناصحًا للإسلام وأهلِه، وكان الناس يحبونه، ويدعون له كثيرًا.
قطز وشعبه
ولَاحِظْ أن المؤرخين المسلمين يعلّقون دائماً على مسألة حب الناس للشخص، وحب الرعية للزعيم، وهو مقياس دقيق من مقاييس العظمة الحقيقية، فالصالحون من هذه الأمة لا يحبون إلا صالحًا، ولا يبغضون إلا فاسدًا، ومن أجمع الصالحون على حبه فهو محبوب عند الله، ومن أجمع الصالحون على بغضه، فهو بغيض عند الله.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : "إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ إني أُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ - قَالَ - فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِى في السَّمَاءِ فَيَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ. فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ - قَالَ - ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ في الأَرْضِ. وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ إني أُبْغِضُ فُلاَنًا فَأَبْغِضْهُ - قَالَ - فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِى في أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلاَنًا فَأَبْغِضُوهُ - قَالَ - فَيُبْغِضُونَهُ ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ في الأَرْضِ"[3].

لماذا لا يكون قطز أنت؟!
وهكذا يا إخواني نرى بوضوح في حركة التاريخ أن هناك رجالاً بأعينهم يغيرون فعلاً من مسار التاريخ، ولكن مع وضوح هذا الأمر فإنَّ العجيب أن الناس دائمًا يبحثون عن هذا الرجل في خارج بيوتهم وشوارعهم ومدنهم.. يعتقدون أنَّ هذا الرجل سيأتي من بعيد -من بعيد جدًا- من بعيد في المكان، ومن بعيد في الزمان، أو لعله يأتي من خارج الأرض!! لماذا لا يعدّ كل واحد منا نفسه وأهله وأبناءه وإخوانه ليكونوا هذا الرجل؟!
لماذا لا يكون قطز أنت؟!
لماذا لا يكون قطز ابنك؟!
لماذا لا يكون قطز أخاك؟!

لماذا ندرس التاريخ؟
ألسنا ندرسه لكي نسير على درب الصالحين ونتجنب دروب الفاسدين؟!
لماذا لا نسير على خطوات قطز رحمه الله الواضحة الثابتة لنصل إلى عين جالوت في زمان كثر فيه التتار وأشباه التتار؟
والله ما عاد لدينا عذر.. فقد أقيمت علينا الحجة!!!{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42].
تلك كانت قصة قطز رحمه الله .. ولكن بقيت في القصة مفاجأة!!

دروس من حياة قطزالمفاجأة العجيبة
المفاجأة العجيبة في قصة قطز -رحمه الله- أنه لم يبق في كرسي الحكم إلا أحد عشر شهراً وسبعة عشر يوماً فقط!! لم يُكمل السنة!!
كل هذا التاريخ المجيد، والإعداد المتقن، والتربية العالية، والانتصار المذهل، والنتائج الهائلة، والآثار العظيمة.. كل هذا في أقل من سنة!!
لقد استشهد قطز رحمه الله بعد انتصار عين جالوت بخمسين يوماً فقط..
ومع أنه حكم هذه الفترة البسيطة فقط.. إلا أنه كان من أعظم رجال الأرض..
قيمة الرجال
إن قيمة الرجال وعظمتهم لا تقاس بطول العمر، ولا بكثرة المال، ولا بأبهة السلطان.. إنما تقاس بالأعمال الخالدة التي تغيّر من وجه التاريخ، ومن جغرافية العالم، وهى في ذات الوقت تثقل في ميزان الله ..
مَن قطز إذا لم يتمسك بشرع الله، وينتصر في عين جالوت بفضل تمسكه بهذا الشرع، والتزامه في السير في طريق الله ؟
من قطز بغير هذا الطريق؟
لا شك أن التاريخ كان سيُغفل اسمه كما أغفل أسماء الكثيرين الذين كانوا كغثاء السيل، بل كانوا وبالاً على شعوبهم وأوطانهم مع حكمهم الفترات الطويلة والأعمار المديدة.. لا شك أن حفر الاسم في سجل التاريخ يحتاج إلى رجال عظماء، وليس بالضرورة أن يحتاج إلى وقت طويل.
الناس تعتقد أنَّ التغيير لابد أن يأخذ فترات طويلة جدًا، ولذلك يُحبطون، والحق غير ذلك، فالتغيير لا يعتمد على الزمن، وإنما يعتمد على نوعية الرجال المغَيِّرين، إن وُجد هؤلاء العظماء فالنصر القريب والتغيير ممكن، بل أكيد إن شاء الله.
وإن لم يُوجد أمثال هؤلاء.. فقد تمر على الأمة عشرات السنين وهى لا تتقدم خطوة بل تتأخر الخطوات..
لقد كان الشيخ العز بن عبد السلام يخشى على الأمة بعد أن فقدت قطز رحمه الله بهذه السرعة.. كان يخشى أن يضيع النصر الكبير، وتنهار الأمة من جديد.. لقد قال بعد موت قطز وهو يبكى بشدة: "رحم الله شبابه، لو عاش طويلاً لجدد للإسلام شبابه"
ولكن قطز رحمه الله جدد فعلاً للإسلام شبابه، مع أنه لم يعش طويلاً..
لقد ظلت دولة المماليك قرابة ثلاثة قرون تذود عن حمى المسلمين، وترفع راية الإسلام؛ لن قطز رحمه الله تعالى وضع الأساس المتين، وعليه سيبني الآخرون بناءً راسخًا، وبغير الأساس لا يرتفع البناء.
يقول الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله: "ما ولي أمر المسلمين بعد عمر بن عبد العزيز رحمه الله من يعادل قطز رحمه الله صلاحاً وعدلاً"
ونقول: كيف صنع قطز رحمه الله هذا المجد؟!
بل نقول: كيف صُنع قطز رحمه الله؟!
لقد صُنع قطز رحمه الله بكتاب الله القرآن، وبسنّة رسول الله ..
ولتعلم أن أعظم معجزات هذا الدين هي صناعة الرجال!!
مَنْ عمر بغير الإسلام؟
مَنْ خالد بغير الإسلام؟
مَنْ طارق بن زياد بغير الإسلام؟
مَنْ قطز بغير الإسلام؟

والكتاب بين أيدينا، وكذلك سنّة رسول الله .. حفظهما الله لنا.. وسيظلان كذلك إلى يوم القيامة.. ولن تضل الأمة أبداً ما دامت تتمسك بهما، روى الإمام مالك في الموطأ أن رسول الله قال: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتابَ الله وسنةَ نبيه"[4].
ومَعين الأمة لا ينضب أبداً.. والله الذي خلق للأمة خالداً والقعقاع وطارقاً وصلاحاً وقطز سيخلق لها دوماً رجالاً يغيّرون من واقعها، ويجددون لها دينها وشبابها، ويبعثون في نفوس أبنائها الأمل، ويقودونها إلى صدارة الأمم وقيادة العالم.. بل يقودونها إلى جنات النعيم..
ففي الإسلام والله عزّ الدنيا، وعزّ الآخرة..

وأخيرًا
لقد انتهت قصة التتار، وانتهت قصة عين جالوت، ومات الصالحون، ومات الطالحون، مات الجند الظالمون، ومات الجند المؤمنون، ومرت الأعوام والأعوام والقرون والقرون.
ذهبت الديار والرجال والقلاع والحصون، ذهبت الأفراح والأتراح، والضحكات والدموع، ذهب كل شيء، ولم تبق إلا العبرة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111].
الذي بقي هو كلام الرسول الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة : "تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لاَ يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلاَّ جِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ - بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ"[5]..
الذي بقي هي السنة الإلهية التي لا تتبدل ولا تتغير.. {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160].
ونسأل الله أن يجعل حياتنا كلَها في سبيله .. وأن يجعل كلامنا وواقعنا ككلام أصحاب رسول الله وواقعهم عندما أجابوا الرسول وقالوا:
نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً..
وأسأل الله أن يجعل لنا في التاريخ عبرة!!

قسطنطين بن قيصر زريق (1909 ـ 2000م)
مُ

قسطنطين بن قيصر زريق، مؤرخ ومفكر ومحقق وباحث معروف في قضايا الفكر والقومية العربية، ولد في دمشق، لأسرة مسيحية أرثوذكسية متوسطة الحال عرفت بعدم تعصبها الديني،.
حاز على شهادة الماجستير في التاريخ، ونال من جامعة برنستون شهادة الدكتواره في الفلسفة عام 1930.
حين عاد إلى وطنه عين أستاذاً مساعداً، ثم أستاذاً مشاركاً في التاريخ بجامعة بيروت الأمريكية من عام 1930 حتى عام 1945، وقد أتيح له في هذه المدة أن يدرس تاريخ الأمة العربية، ويحيط بعوامل نهوضها، ويطلع على بواعث انهيارها وركودها وجمود تفكيرها، بعد أن قّدّمت للإنسانية أعظم الإنجازات في العلم والأدب والفكر والفلسفة.

نشر زريق بحوثه ومقالاته باللغة العربية في عدد من المجلات العربية، كالمقتطف، والعربي، كما أصدر عدداً وافراً من الكتب منها: «أمراء غسان من آل جفنة» (ترجمة بالاشتراك مع بندلي جوزي)، «اليزيدية قديما ًوحديثاً»، «تاريخ ابن الفرات» (تحقيق)، «نحن والتاريخ»، «في معركة الحضارة»، «نحو عالم عربي أفضل»، « تهذيب الأخلاق لابن مسكويه» (تحقيق). «نظرات في الحياة القومية العربية المتفتحة في الشرق العربي».

امتاز زريق بسعة الاطلاع، ورجاحة العقل ونضج الفكر والروية، والتعقل والاتزان وطول الأناة، والتزام الأسلوب العلمي الحديث في الكتابة، وكان يتابع التطورات بنزعة المؤرخ، وحدس المفكر المؤمن الذي يريد لأمته أن تستكمل جميع عناصر حياتها لتجاري الأمم المتطورة في سيرها..
وكان يريد من الأمة أن تثور ثورة أخرى،
ويعتقد أن الثورة العقلية هي الضمان لأي ثورة،
وبها تقدم على محاسبة ذاتها، وتؤمن بالحقيقة والعقل، وتتطلع إلى المستقبل، وتتفتح للخير، وتحقق إمكاناتها البشرية وتضبط ثورتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإذا سلكت هذه السبيل، بلغت ذروة النصر في معركة الحضارة.

المصادر:
[1] البخاري: صحيح البخاري، باب رفع الأمانة (6133).
[2] أبو داوود: السنن، باب ما يذكر في قرن المائة (4291)، قال الألباني: صحيح.
[3] مسلم: صحيح مسلم، باب إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَبَّبَهُ إِلَى عِبَادِهِ. (2637).
[4] الإمام مالك: موطأ مالك - رواية يحيى الليثي ، كتاب القدر، باب النهى عن القول بالقدر (1594).
[5] البخاري: صحيح البخاري، باب قول النبي صلى الله عليه و سلم ( أحلت لكم الغنائم )، (2955)، مسلم: صحيح مسلم، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، (1876).

طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى