مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

* نبذة تاريخية حول التنويم.

اذهب الى الأسفل

* نبذة تاريخية حول التنويم. Empty * نبذة تاريخية حول التنويم.

مُساهمة  طارق فتحي الجمعة يناير 28, 2011 9:36 am

* نبذة تاريخية حول التنويم
طارق فتحي

عرف التنويم منذ القديم فقد مارسه المصريون والهنود والكلدانيون والبابليون وانتقل منهم إلى اليونان والرومان وغيرهم من الشعوب في المراحل التاريخية المختلفة . وامتزجت العقائد الدينية بالطقوس العلاجية البدائية فكان عندهم العلاج بالمسح بالأيدي والتفوه بكلمات غامضة مبهمة والإتيان ببعض الحركات الغريبة التي اشتهر بها بعض الكهنة والأطباء المصريين القدماء!!
كما يؤكد ذلك جميل جهشان في كتابة أضواء على خفايا التنويم حيث يقول :من أقدم العصور والتنويم يمارس حتى أنه دخل في كثير من الطقوس الدينية وهذا ما أكده علماء الآثار المصرية ، فقد عثر على نقش اثري يوناني يعود تاريخه إلى سنة 928 ق.م يظهر فيه شيرون الطبيب الذائع الصيت وقتئذ وهو ينوم تلميذه اسكيلابيوس وقد عثر على الكثير من المخطوطات الفرعونية وفيها مشاهد عن أناس في أوضاع لايمكن وصفها إلا بحالات الغشية التنويمية.

وقد أهمل التنويم فترة طويلة رغم ما يقدمه من فوائد عظيمة للمجتمع الذي يظهر فيه وبسبب هذا الإهمال لم يبدأ التنظير العلمي لتلك الحالة من الغشية إلا في بداية التاريخ الحديث .
والسؤال يطرح نفسه بإلحاح ، بما أن التنويم مساعد فعال في الطب ، فلماذا أهمل كل هذه المدة ؟ الجواب : هناك عامل هام ومضطرد يرافق تطور جميع العلوم : الخرافة تسبق المعرفة . وهكذا نجد أن التنويم هو سابق علم الفلك الحديث . وأن كيمياء السحرة سبقت الكيمياء الحديثة ، والتطور من الساحر المداوي إلى الطبيب تطلب قروناً . ومما سبق نستخلص التالي : أن أيه فكرة لابد وأن تمر بمراحل ثلاث قبل الاعتراف بها :
أولاً : الفكرة مستحيلة .
ثانياً : الفكرة خارجة عن المألوف .
ثالثاً : تصبح الفكرة بديهية لدرجة أن : كل إنسان كان يعرفها طوال الوقت .

وقبل الانتقال إلى المرحلة الحاسمة من تاريخ التنويم الحديث لابد من الإشارة إلى أن التنويم بمعناه الجديد المتطور استعمل في الشرق تحت أسماء ولبوس مختلفة .. ففي التيبت دلت الأبحاث على أنه استعمل في كثير من المجالات ، أهمها تلقين العلوم السرية للتلاميذ المختارين وذلك توفيراً للوقت والجهد وضماناً لعدم تسليم هذه العلوم لعامة الشعب من خلال الكتب فحافظة النائم تصبح كالعقل الالكتروني . أما لماذا لم يكشف الكثير عن التنويم فيعود ذلك لعدة أسباب منها جهل ممارسيه بماهيته وسيطرتهم على أسراره.

لقد توقف التنويم في المرحلة الثانية مدة طويلة وذلك لغرابة سلوك وتهريج من تعاقبوا على ممارسته ، فسواء كان التلهف طلباً للسلطة أم الحب الجامح للظهور الاستعراضي أو الطمع في المال هو الذي دفع هؤلاء إلى إتباع نهجهم هذا ، فإن الحقيقة تبقى ثابتة ، ممارستهم هي المسئولة عن تدني مستوى التنويم حتى وصل إلى درجة الطقوس العربيدة الممارسة من قبل السحرة الداخلين في ميثاق الشيطان . أما مصير الباحثين المثقفين الذين آمنوا بصحة وجدوى التنويم واختبروا ظواهره المتعددة فكان الشجب من قبل العلم والحرمان من الكنيسة نصيبهم لكن التنويم يتمتع الآن بولادته الثالثة .

نحن والتنويم :
أين موقع التنويم عندنا ؟ أنه يتأرجح بين المراحل الثلاث ويمشي متعثراً لعله يصل إلى عتبة المرحلة الثالثة . نحن لاننكر أن بعض أطبائنا قد استعملوه بتردد لأنهم قوبلوا إما بالاستهجان وإما بالرفض ، وفضل الناس المشعوذين الذين يستعملون ضروباً من التنويم.
أني أوجه الدعوة إلى علمائنا ومثقفينا ليطلعوا على التنويم من الناحية العلمية وليختبروه ثم ليصدروا حكمهم العادل ليتعرف الجميع على حقيقته وليأخذ موقعه الطبيعي بين باقي العلوم خدمة للإنسانية .

وقبل الاستطراد لابد من ملاحظة أن النشوة الروحية والغبطة الناتجة عن التعبد لله هي فوق إدراك الكثير من العلماء والناس فقد ضل بعض الباحثين والعلماء الغربيين ووصفوا حالة اليوغي المتأمل بالمنوم ذاتياً وذلك لتشابه الأعراض الفزيولوجية في الحالتين بينما أهملوا النواحي الروحية وتمادى بعضهم قائلاً أن حالات من الشفاء العجائبي في الدين المسيحي لم تحصل إلا بتأثير التنويم . وهكذا نجد أن ممارسة التنويم هي عملية عالمية تؤيدها جميع الأبحاث في جميع البلدان وهناك رأي يقول بأن التنويم عملية تلقائية .

ازدهر التنويم في أوروبا مع بداية القرن الثامن عشر وظهر كعلم جديد متمتعاً باحترام مؤقت حين فشل الطب في مقارعة تحدي أمراض العصر الصناعي الجديد حتى قيل بأن الطب يقتل أكثر مما يشفي وهكذا فقد تحول كثير من الناس إلى الدجالين والمشعوذين طلباً للشفاء وهذا مادفع بحفنة من الأطباء للسير خارج الطريق المستقيم بحثاً عن وسائل علاجية لكل الأمراض لعلهم بذلك يستردون مرضاهم .

النظريات :

لنستعرض تطور النظرة إلى التنويم مابين القرن السادس عشر والثامن عشر ولنر كيف بدأ العلماء ينظرون إليه كعلم جديد في النصف الأخير من القرن الثامن عشر شاع استعمال المغناطيس في مداواة الأمراض فقد أعلن القس الفرنسي لونوبل عن طريقة ابتكرها للمعالجة وذلك بتدليك الجزء المصاب بقطعة من المغناطيس وكانت النتائج الشفائية مشجعة ، كما وأن القس اليسوعي (هل) لجأ إلى نفس الطريقة وقد غاب عن بال القسين حقيقية الشفاء وسببه فلم يكن لحجر المغناطيس أي أثر فعال فهناك ثلاثة عوامل مهمة رافقت عملية الشفاء :

أولاً استعداد وتصميم المريض على الشفاء ، ثانياً وصوله ذاتياً إلى حالة الغشية نتيجة لدوافعه القوية ثالثاً الإيحاء .


ابن سينا :
لابد من الرجوع إلى الوراء لتأكيد وجهة النظر القائلة بعدم فعالية المغناطيس في إحداث الشفاء فهناك رأي للطبيب ابن سينا يقول بان قوة الفكر قادرة على إحداث المرض والشفاء منه وان للفكر قوة مؤثرة ليس على جسم الفرد نفسه بل على أجسام الآخرين وأحياناً يحصل هذا التأثير عن بعد ويعتقد ابن سينا أن هذه القوة تحدث المرض كما أنها تستطيع الشفا (( بإرادة الله )) .

بومباناثيوس وبراسلسوس :
وبعد بضع مئات من السنين جاء الفيلسوف بومباناثيوس مصدقاً لأفكار ابن سينا ومؤكداً على وجوب استعمال المخيلة للحصول على أفضل النتائج ولن ننسى أن نضيف ماقاله الطبيب براسلسوس من أن الفكر يمكن أن يسبب المرض والشفاء على حد سواء يحضرني في هذا المقام القول الشعبي لاتسم بدنك أي لاتعكر مزاجك لئلا ينعكس ذلك على صحتك .
هيبوقراط :
استناداً إلى نظرية قوة الفكر في إحداث المرض والشفاء منه يحق لنا الأخذ بعين الاعتبار والجدية ما دونه تاسيتوس عن هيبوقراط ( بينما كنت أربت على أجسام مرضاي ملاطفاً ، غالباً مابدا لي كأن هناك خاصية غريبة في يدي تشد وتخرج الأوجاع من الأجزاء المصابة وذلك يحصل بوضع يدي على المكان المصاب وبمد أصابعي نحوها ، وذلك ليعرف المتعلم أن الصحة يمكن أن تفرض على المريض بحركات معينة وبالاتصال تماماً كما ينتقل المرض من إنسان لآخر ) .
المرض والشفاء منه :
وهنا نقف أمام فكرتين :
الفكرة الأولى : تقول هذه الفكرة بأن قوة الفكر المخيلة تحدث المرض والشفاء .
الفكرة الثانية : تقول بان المغناطيس كمعدن يحدث الشفاء .
أما الحقيقة فهي أن الإيحاء والاستعداد لتقبله والرغبة القوية في الشفاء هي عوامل مؤثرة على عملية الشفاء إذاً أن للفكر قوة وسيطرة غريبة في إحداث المرض والشفاء وقد صدق ابن سينا .

البحث العلمي :

بالرغم من وجود هذه الأفكار والممارسات والتجارب فلم يقم الغرب بحث جاد في هذا المجال إلا في القرن السادس عشر عندما بدأ الفيلسوف الفنلندي فان هلموت بدراسة السائل المشع من الإنسان وقال بأن الفكر من خلال هذا السائل يؤثر على الجسد بفعل الإرادة وقد أيد نظرية المغناطيس قائلاً بأنها ليست جديدة وهو موجود أينما كان .
مسمر :
ويؤكد كثير من الكتاب بأن التنظير العلمي لم يبدأ إلا مع مسمر ومحاولاته لفك لغز التنويم .وقد كان ظهوره وسط هذا الخضم من الأفكار والممارسات والتجارب ظهر فريدريك انطون مسمر ففي سنة 1766 تقدم من كلية الطب في جامعة فيينا بأطروحته الشهيرة ( تأثير النجوم والكواكب كقوى شافيه ) وهكذا نال درجة الدكتوراة في الطب ففي مخطوطة الفريد صرح بان القمر والشمس والنجوم والكواكب تؤثر على الجهاز البشري من خلال سائل غير مرئي يشمل الكون وأطلق اسم (المغناطيس الحيواني ) عليه . واضاف بأن هذه المادة الدقيقة تستخرج من حجر المغناطيس ، وبأن جميع التركيبات الخلوية تتجاذب مع المغناطيس .
من هو مسمر :
ولد فريدريك انطون مسمر سنة 1734 من عائلة ثرية في ايزنانغ على ضفاف بحيرة كونستانس في ألمانية قرر والده الحاقة بالكنيسة ليصبح قساً وعلى هذا الأساس تعلم في دير وبعدها دخل كلية يسوعية لقد أظهر ميلاً شديداً للعلوم ، خصوصاً الرياضيات والكيمياء وعلم الفلك لذا قرر بأن يكون الطب هو هدفه وليست الكنيسة .
أثر نظريته :
دخل كلية الطب في جامعة فيينا وفي سنة 1766 حصل على الدكتوراة عام 1776 إثر تقديمه أطروحته الشهيرة التي كانت بعنوان ( تأثير الأجرام السماوية ) لقد خلقت نظريته عن المغناطيس الحيواني اهتماماً كبيراً ومن الذين اهتموا بها الأب اليسوعي هل الذي كان أستاذ علم الفلك في جامعة فيينا وفلكي بلاط الإمبراطورة ماريا تريزا وسبب هذا الاهتمام يعود إلى أن القس هل كان يستعمل المغناطيس في مداواة المرض والنتائج التي حصل عليها كانت إيجابية ولقد أعطى بعض قطع المغناطيس لمسمر ليستعملها .. هنا أدرك مسمر التشابه في الاجتهادات وحاول استعمال المغناطيس بنفسه وحصل على نتائج شفائية مرضية جداً بعد أن أضاف لمسته الشخصية . وسرعان مانشرت الصحف أخباراً مثيرة عن نجاحه في شفاء حالات ميئوس منها .

الهرب من فيينا :
أما لماذا هجر فيينا وهو الطبيب الناجح فهذا غير مؤكد ربما كان السبب تدخل الكنيسة أو أن إمبراطور النمسا اعترض على تصرفاته على كل فإن باريس حاضنة الفكر الحر قدمت له الملاذ حيث استطاع متابعة اختباراته متحرراً من تدخل الكنيسة والدولة والغيورين من الزملاء فكان نجاحه منقطع النظير .
فالآلاف من المرضى أرهقت الدرب المؤدي إلى منزله الذي أصبح مضرب الأمثال وهكذا أصبحت المسمرية حديث الصالونات ومع نمو شعبيته كان لابد من ابتكار وسيلة علاجية جماعية للتعامل مع الحشود المكتظة طالبة للشفاء .
وقد قدم نظريته الخارقة عن فعل المغناطيس والتي تتخلص في أن مجال الكون مليء بسائل مغناطيسي وبأنه كالكهرباء يمكن خزنه وتوزيعه .
الماء الممغنط :
لهذه الغاية صنع وعاء خشبياً ضخما ًتتدلى منه قضبان حديد كان هذا الوعاء يملأ بالماء الممغنط . ذلك بعدما اقتنع بوجود السائل المغناطيسي في حسم الإنسان وأنه من الممكن تحويل هذا السائل من جسمه إلى جسم مرضاه وانه بالإمكان خزنه في الجمادات وبمجرد ان يلمس المريض الماء أو المعدن الذي مغنطه مسمر يحصل على نفس النتيجة وكأنه لمس مسمر نفسه .
المعالجة العجيبة :
أما كيف تحصل المعالجة الجماعية فهذا ما يدعو إلى الاستغراب والدهشة ففي غرفة إضاءتها خفيفة وعلى أنغام موسيقى جهزها لهذه الغاية وبتأثير القضبان الحديدية المتدلية من المغطس كانت القضبان توضع على أجزاء مختلفة من جسم المريض كان المشهد غريباً وكان يتكرر كل يوم .
ضحكات ساخرة أنين يرثى له وشلالات من الدموع تنفجر من كل الجهات والمرضى يرتدون إلى الخلف بحركات تشنجية وأنفاسهم أشبه بحشرجات الموت والأعراض المرضية المرعبة تهز الناظر وفجأة يندفع فريق نحو فريق بجنون عاصف إما ليتعانقوا فرحا وإما ليدفعوا من حولهم والذعر مستبد بهم .

غرفة النساء :
أما الغرفة الثانية فتقدم عرضا آخر ، الجدران هنا مبطنة والنساء يضربن رؤوسهن بالحائط ويتدحرجن على الأرض المغطاة بالوسائد بنوبات اختناق ووسط هذه الزحمة وارتعاش اللهاث يدخل مسمر بردائه الليلكي متجولاً متفقداً الجميع وكان يتوقف أمام أكثرهن هياجاً ليمسك يديها بكلتا يديه متفرساً في وجهها بتركيز محدثاًً الاتصال بينه وبينها بواسطة أصابع اليد ومن ثم وبحركة مسرحية يرفع يديه في الهواء ويمررها فوق جسد المريضة علامة انتهاء المعالجة وكان لمسمر مساعدون يعاونونه في إيصال المرضى إلى النوبة التشنجية بالحركات التمريرية والنظرات المركزة .
أسلوبه:
نلاحظ هنا أمور ثلاثة:
1- التماسك بالأيدي لإحداث الاتصال المباشر .
2- الحركات اليدوية التمريرية .
3- النظرات المركزة.
من الملاحظة السابقة نكتشف أن المسمرية أخذت طابع مميزاً لها ، وهذه الطريقة انتقلت إلى ممارسي التنويم حتى ان الكثيرين لازالوا يستعملونها فهل أن لهذه الحركات أي تأثير في إحداث التنويم ؟
نجاحه وفشله :
خلق نجاح مسمر هياجاً في فيينا . فلقد شفي مدير أكاديمية ميونخ للعلوم من الشلل وأعاد لأستاذ آخر بصرة . وحز في نفسه عدم احترام الزملاء له . وهو الذي حضهم على فحص اختباراته لكنهم لم يفعلوا .
وبعد انتشار طلاب مسمر وتطبيقهم لطريقته ثارت عليه الحكومة الفرنسية وتم تشكيل لجنتين منفصلتين لتقصي المعالجة المسمرية وتألفت الأولى من خمسة أعضاء كلهم من الأكاديمية للعلوم والثانية من عضوين من الجمعية الطبية الفرنسية وقامت اللجنتان بتقديم تقريرها الذي فند طريقة مسمر وما أدعاه مسمر بالمغناطيسية الحيوانية وقالت اللجنة : (( وجدت للجنة بأن هذا السائل لا فعل له لا على المحققين من الأعضاء ولا على المرضى وأخيارً فان اللجنة قد أظهرت بواسطة تجارب حاسمة بأن الخيال وفي معزل عن المغناطيس يحدث شيئاً أي أن الخيال هو كل شيء والمغناطيس لا شيء ) . كما زاد الطين بله بالنسبة لمسمر وطريقته إقدام احد أعضاء اللجنة واسمه بيلي بتقديم تقرير للملك لويس جاء فيه :
إن النساء اللواتي يقوم الرجال بتنويمهم مغناطيسياً يملكن الإغراء الكافي للتأثير على الطبيب كما أنهن يتمتعن بالصحة الملائمة لتمكينهن من التأثر بالطبيب . وهكذا فان الخطر متبادل والقرب المستمر والتماس الجسدي الذي لابد منه وانتقال الحرارة من الواحد للآخر والنظرات المتبادلة هي طرق الطبيعة المألوفة وهي الوسائل التي هيأتها للتسهيل بشكل موثوق قيام الصلة بين الرغبة والإحساس ولا عجب لذلك أن تلتهب الأحاسيس .. وخلص التقرير بأن قال (( إن العلاج المغناطيسي لايمكن لذلك إلا أن يكون تهديداً للأخلاق .. )) وقد كان لهذه الإدانة الأخلاقية مع ما ورد في تقرير اللجنتين ما يكفي لإجبار مسمر على الهجرة من باريس .
وهنا خابت أماله فقرر العودة إلى بحيرة كونستانس حيث بقي لآخر أيام حياته مكرساً وقته وجهده لمعالجة الفقراء . وأثناء وجوده في كونستانس دُعي لزيارة برلين من قبل ملك البروسيين لكنه عزف عن الذهاب فأرسل الملك الدكتور كارل اولفارت ليدرس الوسائل العلاجية الجديدة على يد مسمر .
ولدى عودته عين الدكتور اولفارت أستاذاً للمسمرية في أكاديمية برلين ومسئولاً عن المستشفى المغناطيسي فيها . ولقد أصبح هذا المستشفى مقراً لتعليم المسمرية فأمه الكثير من الأطباء في أوروبا ليدرسوا هذه الطريقة .
توفي مسمر في 15 آذار سنة 1815 وخلف وراءه علماً جديداً وتلاميذ له متحمسون .

المركيز دي بويسيكور :
وهو من تلاميذ مسمر وقد أولى المسمرية اهتماماً بالغاً . وقد اكتشف ان النوبة التشنجية التي اعتبرها مسمر أساسا في إنجاح العلاج لم تكن ضرورية وماهي إلا حركات مقتبسة ويمكن الاستعاضة عنها بحالة النوم الهادئ المريح ( التخشبي ) وهكذا وبعد موت مسمر تقلص البحث في السائل المغناطيسي فطويت صفحاته وبرزت السرنمة لكن العلم الحديث أعاد فتح هذه الصفحات وعلى أسس جديدة .

فكتور يصف علاجه ويشفى :
كان المركيز دي بويسيكور يعيش أيام اعتزاله في قصره قرب سواسون وقد جعل المسمرية تسليته المفضلة فكان يطبقها على بعض الفلاحين بغية معالجتهم ولإجراء المزيد من التجارب . وذات يوم لفتت نظرة ظاهرة غريبة لم تكن معروفة منه أيام تعاونه مع مسمر .فقد أصيب أحد الفلاحين واسمه فكتور ( 27 عاماً ) بمرض خطير في الرئتين مصحوباً بآلام مبرحة في الصدر ومنطقة أسفل الظهر . وأثناء عملية المسمرة دهش المركيز مما رأى ، فقد راح الفتى في نوم هادئ ومريح خال من التشنجات المعتادة علماً بأن فكتور لم يسمع بهذه التشنجات إطلاقا . وازددات دهشته حين انطلقت شفتا الفتي بالكلام . فأدرك المركيز عظمة الظاهرة الجديدة وانتقل إلى اختبارها وأطلق عليها اسم السرنمة نسبة إلى حالة السائر أثناء النوم . واكتشف أيضاً إمكانية تحويل فكر المريض منن حالة القلق إلى حالة الهدوء والسكينة .
ولاحظ أيضاً حالة النسيان التي تخلفها الحالة الجديدة بعد الاستيقاظ أما فكتور فقد امتثل لأوامر الطبيب وتجاوب كلياً فتصور نفسه سابحاً فوق الغيوم وكأنه في حلم رائع ففارقته أوجاعه . أعجب دي بويسيكور بالحدث المميز . وبالرغم من كون فكتور فلاحاً بليداً لم يظهر أي علامة ذكاء في حياته فإنه وتحت تأثير الحالة الجديدة أظهر ذكاءً خارقاً حتى أنه بدأ يقرأ أفكار الآخرين . وأكثر من ذلك وهنا كانت المفاجأة فقد أعطى وصفاً دقيقاً لعلاج مرضه والمدهش حقاً كان نجاح العلاج مئة بالمائة .
السرنمة :
علم التنويم الحديث مدين بالكثير الكثير للمركيز دي بويسيكور لأنه أول من عرض وعرف بالنوم التخشيبي الذي هو عكس بدعة مسمر مفجرة الدموع والأحزان والصراخ والتشنج . وهكذا توصل المركيز إلى نقل مرضاه إلى حالة من النوم الهادئ المريح . لقد سعى مسمر وراء الشهرة والاستعراض أما المركيز فقد أعرض عنها وهنا يبرز سؤال هل صادق أو عرف مسمر هذه الحالة ؟ بالطبع لا . لأنه لو تعرف عليها لأطلع تلاميذه .
إذاً فالغشية التنويمية هي من اكتشاف دي بويسيكور فهو أول من توصل إلى النوم التخشيبي وهو الذي قال بان حالة الشبيهة بالنوم يمكن إحداثها عند إنسان واعٍ تماماً وبين أيضاً ان أفكار وتصرفات المرضى خاضعة لتوجيهات ممارس التنويم .
الأب فاريا :
لابد هنا من الحديث عن اثنين توصلا إلى حالة النوم : الأول هو الأب فاريا البرتغالي الذي تعلم التنويم خلال وجوده بالهند فسنة توفي مسمر تركز اهتمام بالغ على أنباء شفاءات شبة عجائبية حصلت على يد القس فاريا فكان يضع مرضاه في حالة نوم بالنظر إليهم بتركيز وقد أثارت كتبه عن التنويم ضجة في باريس فهو من أوائل الذين استعملوا التنويم الاستعراضي المعروف بالتنويم المسرحي فكان يعطي الوسيط ملفوفة موحياً له بأنها تفاحة وكان الوسيط يتصرف تماماً كمن يأكل تفاحة فعلاً . وعن الصحة والمرض كتب يقول بأن الوسيط صحيح الجسم يتحول إلى عليل بالكلمة وبالعكس نلاحظ أن الأب فاريا عرف قيمة الإيحاء لكنه لم يلق الاعتراف اللائق به .
الأب غاسنر :
بينما كان المديح يكال للمركيز دي بويسيكور على انجازاته كانت أعمال الأب غاسنر تدب الرعب في جنوب ألمانيا بسبب علاجاته الاستعراضية . فأخباره كانت أشبه بقصص ألف ليله وليلة . ومن أغربها حادثة شفاء فتاة شهد لها طبيب القرية ، فذات يوم دخل الأب غاسنر غرفته المغطاة بالستائر السوداء حيث كانت الفتاة المريضة وبعض الشهود من بينهم طبيب القرية وبصوت جهوري وبالغة اللاتينية أمر ذراع الفتاة بالكف عن الحركة فيبست ثم أمرها بالحركة فارتعشت فأمرها بالعودة إلى حالتها الطبيعية فعادت . وليؤثر على لا حضور أبلغ الفتاة بأنها ستجن وبالفعل أظهرت الفتاة كل أعراض المس الجنوني حتى أنها انبطحت أرضاً وأخذت تركض على أطرافها الأربعة كالحيوانات . وبصوت كالرعد أمرها بالهدوء فسكنت ولم يكتف القس بذلك بل عمد إلى توجيه أمره إلى نبضات قلبها بالإبطاء فانصاعت فأكد له ذلك الطبيب ثم أمر النبضات ثانية لكن هذه المرة بالإسراع فأسرعت وقال الطبيب بأنه كانت تضرب خمسين مرة في الدقيقة زيادة عن معدلها .
عندها وقف الأب غاسنر فارداً ذراعية وأبلغ الفتاة بأنها ستموت مؤقتاً وعليها ألا تخاف لأن قوته الخارقة ستعيد الحياة إلى جسدها العليل ظهرت حبات العرق على جبين الطبيب الجاثي قربها حين لفظ نتيجة فحصه لها قائلاً بأنها ماتت ( برأي الطبيب ) . قابل الأب غاسنر هذا الموقف بابتسامة الواثق من نفسه ولفظ الكلمات التي أعادت إلى جسدها الحركة تدريجياً . ولما عادت إلى وعيها الكامل قفزت فرحة بزوال الأعراض المرضية والأوجاع .
جايمس برايد :
لفت المركيز دي بويسيكور نظر العالم إلى النوم التخشبي وأيقظ في الكثيرين رغبة البحث العلمي أم الدكتور جايمس برايد فهو الذي أعطاه اسمه الحالي ويعود الفضل إليه في إدخال التنويم مجال الطب ويعود الفضل أيضاً إلى غيره ممن سنأتي على ذكرهم :
- في سنة 1841 كان لافونتين يجول بريطانيا مقدما ًعروضه في المسمرية وقد حضر أحدى هذه الحفلات الدكتور جيمس برايد وكله ثقة بأن المسمرية دجل وكان في نيته فضحها لكنه وجد نفسه أمام الظاهرة بحقيقتها غير مصدق لنظرية السائل السحري وان أهم ما لفت نظره جفون الوسيط المرتجفة وانقلاب بؤبؤ العين إلى فوق والارتخاء العضلي لدى الوسيط وكون برايد جراح عيون ساعده كثيراً على تكوين فكرته الأولى عن محدث النوم فمراقبته للوسطاء المنومين رسخت لدية فكرة المسبب الفيزيولوجي فالإرهاق المستمر لحاسة البصر يشد مراكز العصب البصري مفسحاً المجال لحالة شبيهة بالنوم ولا زالت هذه الفكرة شائعة بين الكثيرين من الأطباء .

- اقتناعه وتطبيقه للتنويم :
ولما عاد برايد إلى منزله بعد العرض الثاني طلب إلى أحد أصدقائه التحديق بعنق إناء لامع . تجاوب الصديق وراح في نوم عميق مريح .سر الدكتور برايد بالنتيجة وتشجع فكرر التجربة وهذه المرة مع زوجته التي تجاوبت أيضاً وحصل على نفس النتيجة حين راحت الزوجة في نوم هادئ عميق وهكذا تأكد لبرايد ان إرهاق البصر هو الباعث على النوم .
من هاتين التجربتين انطلق التنويم العلمي فدخل مجال الطب كان برايد عالماً ومختبراً ولم يكن ذلك الدجال فهو أول من اشترط الوسائل الفيزيولوجية في استحداث التنويم ، وهو الذي أعطى هذا العلم اسمه الحالي تجارب وبعد مرور بعض الوقت اكتشف برايد ان الحالة الجديدة ليست نوماً بالمعنى المتعارف عليه فحاول استبدال كلمة ( hypnotism ) بالاسم الجديد ( monoideaism ) وحدانية التفكير لكنه تأخر لان الكلمة الأولى كانت قد دخلت معاجم اللغة . أما لماذا لازلنا نستعمل كلمة تنويم مغناطيسي فذلك يعود إلى اقتناعنا بان للمغناطيس تأثيراً ولأننا لم نقم بأي جهد علمي فعال لاكتشاف ورفع الظلم عنه .
مبدأ الإيحاء :
لم تنقطع اختبارات برايد المبنية على أساس المسبب الفيزيولوجي إلى أن توصل إلى مسبب أكثر فعالية ألا وهو الإيحاء ، ذلك بعد أن تمكن من تنويم رجل أعمى وهكذا تأكد له ان الإيحاء هو العماد الأساسي لاستحداث التنويم . وبقوة الإيحاء لجأ برايد إلى تخدير مرضاه لإجراء العمليات الجراحية . وقد لاقى النجاح كغيره ممن عاصروه . وكغيره ممن أحرزوا تقدما سابقاً لزمانهم قوبل بالرفض والاعتراض من قبل الأطباء وبالذات من قبل الجمعية البريطانية لتقدم العلوم – قسم الطب – حين عرض ان يقرأ عليهم نتائج أبحاثه ، لكن بعض الأطباء ممن اقتنعوا بصحة نظرياته لبوا دعوته الخاصة واستمعوا إلى آرائه علماً بأن غالبية عظمى من الأطباء عارضته بشدة كذلك ارتفع بالمعارضة صوت المتحمسين للمغناطيس الحيواني والمسمرية .


لم يكن مصير الدكتور جون اليوتسن بأفضل .. كان هذا الطبيب يحضر مرضاه للعمليات الجراحية بواسطة المسمرة والمغناطيسية ليحصل على عدم الإحساس ( التخدير ) لم يكن المخدر الكيميائي قد اكتشف .


والأسوأ حصل للدكتور جايمس ازديل الصديق الشخصي للدكتور برايد فقد كفت يده عن ممارسة الطب من قبل الجمعية الطبية البريطانية .
كان جايمس ازديل طبيباً بريطانياً موظفاً من قبل شركة شرق الهند البريطانية في كلكتا وكان من المتحمسين للمسمرية فقد أجرى سنة 1840 العديد من العمليات الجراحية بواسطة المخدر الفكري ، وبعد ثلاث سنوات توصل إلى إقناع الحكومة البريطانية بإنشاء مستشفى في كلكتا للمعالجة بالمغناطيسية والمسمرية لأنه في البداية تحمس كثيراً للمسمرية لذا استعملها لكنه عاد واقتنع بأسلوب الدكتور برايد فاستعمله . فلقد أجرى ألاف العمليات الجراحية الناجحة بالمخدر التنويمي منها ثلاثمائة عملية كبرى ... تسع عشرة منها عمليات بتر ساق وبعضها عمليات إزالة أورام وكلها بدون ألم ..
طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى