مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

* الطعن في صحة رواية حادثة الإفك

اذهب الى الأسفل

* الطعن في صحة رواية حادثة الإفك Empty * الطعن في صحة رواية حادثة الإفك

مُساهمة  طارق فتحي الثلاثاء ديسمبر 16, 2014 6:49 pm

مضمون الشبهة:
يطعن بعض المغرضين في صحة ثبوت ما جاء في رواية حادثة الإفك، متهمين رواتها الأربعة بالوهم والخطأ. ويستدلون على ذلك بما يلي:
·    قول الراوي أنه سمع من أربعة من الرواة، حدث كل واحد منهم بطائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض، وهذا يدل على احتمال وقوع الوهم لبعض الرواة مما ترتب عليه إدخال قصة في قصة أخرى، وفي رأيهم أن إمكانية الخطأ والوهم غير مستبعدة في الأحاديث الطوال لصعوبة حفظها غالبا.
·    أن حادثة الإفك لم تقع في غزوة بني المصطلق (المريسيع)، وإنما وقعت في غزوة أخرى لم تذكر في الحديث، ومما يدل على ذلك ما يلي:
o   أن عائشة - رضي الله عنها - قالت في هذه الرواية: «فخرج فيها سهمي» وهذا يعني أنها خرجت وحدها، في حين كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني المصطلق عائشة وأم سلمة.
o   أن في القصة «بعد ما نزل الحجاب» ومعلوم أن الحجاب إنما نزل في الأشهر الأولى من السنة الثامنة للهجرة، مما يؤكد أنها حدثت بعد السنة الثامنة للهجرة.
o   أن المراد بقوله تعالى: )والذي تولى كبره( (النور: ١١) ليس عبد الله بن أبي بن سلول؛ لأنه لم يكن حيا في زمن الإفك في السنة التاسعة للهجرة؛ ولأنه لم يجلد الحد في هذه الحادثة، في حين ثبت أن الذين جلدوا ثلاثة من المؤمنين هم: حسان بن ثابت، وهو الذي تولى كبره، ومسطح بن أثاثه، وحمنة بنت جحش، فلو كان ابن أبي هو الذي تولى كبره حقا، فهل يصح أن لا يجلد الحد؟ ويدل على أن عبد الله بن أبي لم يشارك في حادثة الإفك - أيضا - قوله تعالى: )إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم( (النور: ١١) فقوله تعالى: )منكم(؛ أي: من المؤمنين، ومعلوم عند الله تعالى أن عبد الله بن أبي من المنافقين، وقد ثبت أن الذين جلدوا حد القذف ثلاثة من المؤمنين، فلو كان ابن أبي معهم لجاء بصيغة أخرى؛ وذلك لأن الله تعالى يقول عن المنافقين: )ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون (56)( (التوبة).
o   أن قصة خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حادثة الإفك قد حشرت فيها حشرا، وهي من حشو الرواة، وإنما كانت الخطبة بعد رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المريسيع، وأدخلها الرواة في قصة حادثة الإفك، ومما يدل على أن هذه الخطبة ليست من أحداث الإفك أنه قد سبقها شهادة بريرة، ولحقها مباشرة قول عائشة: «وبكيت يومي هذا» وهذا يعني عدم الاتساق في سياق القصة بسبب الحشو، ثم إن في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استشار عليا وأسامة - رضي الله عنهما - وهذا يدل على أنه لم يخطب، وإنما اكتفى بالاستشارة حتى نزول الوحي.
·          أن في هذه القصة بعض الإشكالات هي:
o   ورود اسم سعد بن معاذ الأنصاري، مع أن سعدا قد استشهد في معركة الخندق إثر إصابته بسهم، فمات بعد أن حكم في بني قريظة، ولا يخرج من هذا الإشكال إلا أن غزوة بني المصطلق (المريسيع) قد وقعت قبل غزوة الخندق، وهذا يدل على أن قصة الإفك لم تحدث في غزوة بني المصطلق، وإنما حدثت بعد ذلك بزمان طويل، ويدل أيضا على إدخال بعض ما ليس من أحداث الإفك في الحديث.
o   ورود اسم بريرة، وهذا نتيجة القول بأن حادثة الإفك حصلت في غزوة بني المصطلق (المريسيع) ونتيجة طبيعية لحشر قصة عبد الله بن أبي والخطبة المتعلقة به في قصة الإفك، فبريرة كانت حاضرة، وثبت أنها أعتقت فتركت زوجها.
o   ورود اسم أسامة بن زيد، ويفهم من ذلك صراحة أن حادثة الإفك كانت بعد معركة مؤتة التي استشهد فيها والد أسامة (زيد بن حارثة) ومعركة مؤتة حدثت في السنة الثامنة؛ لأنه لو كان زيد حيا لاستشاره النبي بدلا من أن يستشير أسامة.
وجوه إبطال الشبهة:
1) جاء حديث الإفك عن أربعة من الرواة العدول الثقات، ورواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، واتهام رواة الحديث بالوهم والخطأ والتناقض اتهام باطل لا دليل عليه، ولا ترد به الأحاديث الصحيحة.
2) دعوى أن حادثة الإفك لم تقع في غزوة بني المصطلق (المريسيع) مغالطة تاريخية لا تستند إلى أدلة صحيحة، وما ذكره المشتبه من أدلة على ذلك لا تقف أمام النقد والتمحيص.
3) إن ما أورده المشتبه من إشكالات يستنبط منها دخول بعض ما ليس من القصة فيها مجاب عنه من قبل العلماء قديما، فلا حاجة إلى رد الحديث أو ادعاء دخول الوهم والخطأ فيه لهذا السبب.
التفصيل:
أولا. صحة حديث الإفك، وبطلان الزعم بدخول الوهم والخطأ والتناقض على رواته:
لقد روى الإمام البخاري حديث الإفك في صحيحه، قال: «حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا، وكل حدثني طائفة من الحديث، وبعض حديثهم يصدق بعضا، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض، والذي حدثني عروة عن عائشة - رضي الله عنها - أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي، فخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما نزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته تلك، وقفل، ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع، فالتمست عقدي، وحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما تأكل العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فأممت منزلي الذي كنت به، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي.
فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته، فوطئ على يديها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول، فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسلم، ثم يقول: كيف تيكم ثم ينصرف، فذاك الذي يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعدما نقهت، فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع، وهو متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط، فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة - فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي، وقد فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرا؟! قالت: أي هنتاه، أولم تسمعي ما قال؟ قالت: قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك؛ فازددت مرضا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم - تعني سلم - ثم قال: كيف تيكم، فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه، ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية، هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قالت: فقلت: سبحان الله أولقد تحدث الناس بهذا؟! قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد - رضي الله عنهما - حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود، فقال: يا رسول الله، أهلك ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك، قالت: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة، فقال: أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت عليها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي بن سلول، قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فوالله، ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي.
فقام سعد بن معاذ الأنصاري، فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، قالت: فقام سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله، لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان - الأوس والخزرج - حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكتوا وسكت.
قالت: فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، قالت: فأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم، ولا يرقأ لي دمع يظنان أن البكاء فالق كبدي، قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي، قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني، قالت: فتشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس، ثم قال: أما بعد، يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه.
قالت: فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال، قال: والله، ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فقلت - وأنا جارية حديثة السن، لا أقرأ كثيرا من القرآن: إني والله لقد علمت، لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني منه بريئة، لتصدقني، والله ما أجد لكم مثلا إلا قول أبي يوسف قال: )فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون (18)( (يوسف).
قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، قالت: وأنا حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله بها، قالت: فوالله، ما رام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت: فلما سري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سري عنه وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها: يا عائشة، أما الله - عز وجل - فقد برأك، فقالت أمي: قومي إليه، قالت: فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل، فأنزل الله عز وجل: )إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه( (النور: ١١) العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله، لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله: )ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم (22)( (النور)، قال أبو بكر: بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا، قالت عائشة: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل زينب ابنة جحش عن أمري، فقال: يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ما علمت إلا خيرا، قالت: وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك»[1].
هذا هو الحديث بنصه في صحيح البخاري، وقد رواه ابن شهاب عن عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وقد ثبت أن هؤلاء الأربعة عدول ثقات، لا مطعن على واحد منهم، بل هم فوق ذلك، فعروة بن الزبير هو ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، الإمام العالم الفقيه، أحد الفقهاء السبعة، حدث عن أبيه بشيء يسير لصغره، وحدث عن أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وعن خالته أم المؤمنين عائشة، ولازمها وتفقه بها، وروى عن جمع من الصحابة الكرام[2].
وأما سعيد بن المسيب فهو الإمام العلم سيد التابعين في زمانه، رأى عمر، وسمع عثمان وعليا، وزيد بن ثابت، وأبا موسى، وعائشة، وأبا هريرة، وابن عباس.
وروى عنه خلق كثير منهم: الزهري، وقتادة، وعمر بن دينار، ويحيى بن سعيد[3].
وأما علقمة بن وقاص فهو ثقة، قليل الحديث، حدث عن بلال بن الحارث المزني، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وعمرو بن العاص، وعائشة رضي الله عنهم[4].
وأما عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود فهو عالم، ثقة، فقيه، كثير الحديث والعلم، شاعر، روى عن أبي هريرة، وابن عباس، وعائشة، وأبي طلحة، وسهل بن حنيف، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم[5].
وبهذا يتبين أن الأربعة الذين رووا الحديث عن عائشة من الطبقة الأولى من التابعين، وكلهم ثقات لا يصح اتهامهم بالوهم والتناقض والخطأ وغير ذلك من الاتهامات الباطلة التي لا تقوم على دليل.
وأما اللفظ الذي استدل به المشتبه على احتمال وقوع الوهم والخطأ في الحديث، وهو قول ابن شهاب «وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض» فليس فيه دليل على ما زعم، وغاية ما فيه أن بعض هؤلاء الأربعة أميز في سياق الحديث من بعض من جهة حفظ أكثره، وليس المقصود أن بعضهم أضبط من بعض مطلقا، ولهذا قال «أوعى له» أي للحديث المذكور خاصة[6].
وأما ما ادعاه المشتبه من أن إمكان الخطأ والوهم في الأحاديث الطوال غير مستبعد لصعوبة حفظها غالبا، فهو جهل فاضح بطبيعة الرواية عند رواة الحديث الثقات، وحرصهم على الضبط والإتقان في تحمل الحديث وتأديته، وإذا صح أن يقال هذا الكلام في واحد من حفظة اليوم، فلا يصح أن يقال مثله في هؤلاء الرواة الذين ثبت أنهم ثقات لا مطعن على واحد منهم، لا في حفظه ولا في عدالته.
ثانيا. دعوى أن حادثة الإفك لم تقع في غزوة بني المصطلق مغالطة تاريخية لا دليل عليها:
لقد ثبت تاريخيا عند علماء السير أن حادثة الإفك وقعت أثناء العودة من عزوة بني المصطلق (المريسيع)، ولم نر أحدا من العلماء ذكر خلاف ذلك؛ وعليه فلا تصح دعوى المشتبه أن حادثة الإفك وقعت في غزوة أخرى غير غزوة بني المصطلق، وأما عدم ذكر اسم الغزوة في الحديث، فليس دليلا على أنها لم تكن غزوة بني المصطلق؛ لأنه صرح بها في روايات أخر، قال ابن حجر - رحمه الله: قوله: «في غزوة غزاها» هي غزوة بني المصطلق، وصرح بذلك محمد بن إسحاق في روايته، وكذا أفلح بن عبد الله عند الطبراني، وعنده في رواية أبي أويس: «فخرج سهم عائشة في غزوة بني المصطلق من خزاعة» وعند البزار من حديث أبي هريرة: «فأصابت عائشة القرعة في غزوة بني المصطلق»[7].
وقد استدل المشتبه بقول عائشة: «فخرج فيها سهمي» مستنبطا أن هذا يعني أنها خرجت وحدها، وفي زعمه أن عائشة لم تكن هي التي خرجت وحدها في غزوة بني المصطلق مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان معها أم سلمة، وهذا يدل على أن الحادثة لم تكن في غزوة بني المصطلق.
والحق أن هذا لا يدل على ما ذهب إليه المشتبه، إذ الصواب أن عائشة رضي الله عنها كانت وحدها من بين نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - التي خرجت في هذه الغزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أجاب ابن حجر رحمه الله على ما طرأ في ذهن المشتبه، فقال: "قوله: «فخرج سهمي» هذا يشعر بأنها كانت في تلك الغزوة وحدها، لكن عند الواقدي من طريق عباد بن عبد الله عنها أنها خرجت معه في تلك الغزوة أيضا أم سلمة، وكذا في حديث ابن عمر، وهو ضعيف، ولم يقع لأم سلمة في تلك الغزوة ذكر، ورواية ابن إسحاق من رواية عباد ظاهرة في تفرد عائشة بذلك، ولفظه: «فخرج سهمي عليهن، فخرج بي معه»[8].
واستدل المشتبه بما ورد في القصة من قوله: «بعد ما نزل الحجاب» على أن هذه الحادثة لم تكن في غزوة بني المصطلق، وإنما كانت بعد السنة الثامنة للهجرة؛ لأنه - في زعمه - معلوم أن الحجاب إنما نزل في الأشهر الأولى من السنة الثامنة للهجرة. كذا زعم مردود.
والصواب أن حادثة الإفك وقعت في غزوة بني المصطلق، وهذا ثابت تاريخيا كما قلنا، وقد سبق بيان أن هذا هو المصرح به في بعض الروايات الصحيحة للحديث، أما الزعم بأن حادثة الإفك حصلت بعد السنة الثامنة للهجرة فهو زعم مبني على أنها لم تكن في غزوة بني المصطلق، وقد أبطلناه، أما الاحتجاج بما جاء في القصة «بعد ما نزل الحجاب» فهذه مغالطة تاريخية من مغالطات كثيرة ارتكبها المشتبه، فليس معلوما - كما زعم - أن الحجاب نزل في الأشهر الأولى من السنة الثامنة للهجرة، وإنما الصواب أن العلماء اختلفوا في وقت نزوله على أقوال:
الأول: أنه كان في ذي القعدة سنة ثلاث، وهو قول أبي عبيدة وطائفة.
الثاني: أنه كان في ذي القعدة سنة أربع، وصححه الدمياطي.
الثالث: أنه كان في ذي القعدة سنة خمس.
وكما نرى فليس هناك قول صحيح لأهل العلم بأن الحجاب كان في أوائل السنة الثامنة للهجرة، وإنما هو زعم باطل، ومغالطة تاريخية تولى كبرها هذا المشتبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
· عبد الله بن أبي بن سلول هو الذي تولى كبر القول في حادثة الإفك:
نشير بداية إلى أن الحديث إذا صح سندا فلا يصح رد ما في متنه إلا بدليل قوي، أما أن يرد ما ورد في الأحاديث الصحاح بالدعاوى والظنون والمغالطات، فهذا ما لا يقول به منصف.
وبما أن الحديث صحيح، فالواجب التسليم بما ورد فيه، والوارد فيه أن الذي تولى كبر الإفك هو عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وهذا هو الثابت في كتب أهل العلم، ولم يختلف فيه إلا خلاف قليل ذكره ابن كثير - رحمه الله - في قوله: "ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أبي بن سلول، قبحه الله ولعنه، وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث، وقال ذلك مجاهد وغير واحد، وقيل: بل المراد به حسان بن ثابت، وهو قول غريب، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على إيراد ذلك لما كان لإيراده كبرى فائدة"[9].
وجاء في صحيح البخاري عن مسروق قال: «دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال:
حصان رزان ما تزن[10] بريبة
وتصبح غرثى[11] من لحوم الغوافل
قالت عائشة: لست كذاك، قلت: تدعين مثل هذا يدخل عليك، وقد أنزل الله: )والذي تولى كبره منهم( (النور: 11)؟ فقالت: وأي عذاب أشد من العمى، وقالت: وقد كان يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»[12].
قال ابن حجر: "وهذا مشكل؛ لأن ظاهره أن المراد بقوله )والذي تولى كبره منهم( هو حسان بن ثابت، وقد تقدم قبل هذا أنه عبد الله بن أبي، وهو المعتمد، وقد وقع في رواية أبي حذيفة عن سفيان الثوري عند أبي نعيم في المستخرج، وهو ممن تولى كبره، فهذه الرواية أخف إشكالا"[13].
ومن هذا يتبين أن القول المعتمد الذي عليه الأكثرون هو أن المراد بقوله تعالى: )والذي تولى كبره( هو: عبد الله بن أبي، أما حسان بن ثابت فقد كان ممن خاض في هذا الحديث مع غيره من المؤمنين، وقد تابوا إلى الله ورجعوا، وأصلحوا ما أفسدوا.
أما ما ادعاه المشتبه من أن عبد الله بن أبي لم يكن حيا في زمن الإفك، فهي دعوى مرفوضة؛ لأنها قائمة على المغالطة التاريخية التي رمى بها المشتبه، ولم يقم عليها دليلا واحدا؛ إذ حادثة الإفك في زعمه حدثت في السنة التاسعة للهجرة، وهذا غير صحيح فبطل زعمه.
أما ما استدل به المشتبه من أن عبد الله بن أبي ليس هو الذي تولى كبر الإفك؛ لأنه لم يجلد الحد في هذه الحادثة، في حين ثبت أن الذين جلدوا ثلاثة من المؤمنين هم: حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، فلو كان ابن أبي هو الذي تولى كبره حقا، فهل يصح ألا يجلد الحد؟[14].
والجواب عن ذلك في قول ابن القيم - رحمه الله: "ولم يحد الخبيث عبد الله بن أبي، مع أنه رأس أهل الإفك، فقيل: لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة، والخبيث ليس أهلا لذلك، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، فيكفيه ذلك عن الحد.
وقيل: بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه، ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه.
وقيل: الحد لا يثبت إلا بالإقرار، أو ببينة، وهو لم يقر بالقذف، ولا شهد به عليه أحد، فإنه إنما كان يذكره بين أصحابه ولم يشهدوا عليه، ولم يكن يذكره بين المؤمنين.
وقيل: حد القذف حق الآدمي، لا يستوفي إلا بمطالبته، وإن قيل: إنه حق لله فلا بد من مطالبة المقذوف، وعائشة لم تطالب به ابن أبي.
وقيل: بل ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته، كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مرارا، وهي تأليف قومه وعدم تنفيرهم عن الإسلام؛ فإنه كان مطاعا فيهم، رئيسا عليهم، فلم تؤمن إثارة الفتنة في حده، ولعله ترك لهذه الوجوه كلها.
فجلد مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وهؤلاء من المؤمنين الصادقين تطهيرا لهم وتكفيرا، وترك عبد الله بن أبي إذ ليس هو من أهل ذاك"[15].
واستدل المشتبه على أن عبد الله بن أبي لم يشارك في حادثة الإفك بقوله تعالى: )إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم( (النور: ١١)، فقوله: )منكم( أي: من المؤمنين ومعلوم عند الله تعالى أن عبد الله بن أبي من المنافقين، وقد ثبت أن الذين جلدوا حد القذف ثلاثة من المؤمنين، فلو كان ابن أبي معهم لجاء الخطاب بصيغة أخرى، وذلك لأن الله تعالى يقول: )ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم( (التوبة: ٥٦).
والجواب عن ذلك من وجهين:
الأول: أن عبد الله بن أبي ليس داخلا في قوله )منكم( إذ ليس من المؤمنين، وإنما هو من المنافقين، ولذلك ذكر في ختام الآية: )والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم (11)(، فالمراد في هذا الموضع هو عبد الله بن أبي على الراجح.
والثاني: أن عبد الله بن أبي معدود في المؤمنين ظاهرا، وإن كان من المنافقين باطنا.
·        أحداث قصة حادثة الإفك المذكورة في الحديث كلها ثابتة، وردها أو ادعاء أن فيها ما ليس منها أمر لا دليل عليه:
ذهب المشتبه إلى أن خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حادثة الإفك الواردة في الحديث المذكور في صحيح البخاري لم تحصل، وإنما هي من حشو الرواة، وقد كانت الخطبة بعد رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المريسيع، وأدخلها الرواة في حادثة الإفك، ويدل على ذلك أن موضعها في سياق القصة مضطرب يدل على أنها حشرت فيه، فقد سبقها شهادة بريرة، ولحقها مباشرة قول عائشة: «وبكيت يومي هذا».
والجواب أن ما ذهب إليه المشتبه غير صحيح لما يلي:
·   ادعاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخطب في قصة الإفك دعوى لا دليل عليها، مع ثبوتها في الحديث الصحيح.
·   اتهام الرواة بالوهم والخطأ في الرواية، وأنهم أدخلوا بعض الأحداث في القصة وهي ليست فيها، اتهام باطل لا يقوم عليه دليل، ولا يصح أن يتهم به الرواة العدول الحفاظ الذين لا يتصور عليهم مثل هذا بمجرد الدعاوى والأباطيل.
·   أن هذه الدعوى قائمة على المغالطة التاريخية التي ارتكبها المشتبه، وهي أن حادثة الإفك لم تكن في غزوة بني المصطلق (المريسيع)، وقد سبق تفنيدها.
·   أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب في الناس مرتين في غزوة بني المصطلق، المرة الأولى أثناء الغزوة حينما حدث شجار بين المهاجرين والأنصار عند ماء المريسيع، وهي التي قال فيها عبد الله بن أبي ما حكاه القرآن عنهم: )يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل( (المنافقون: ٨)[16].
وأما المرة الثانية ففي حديث الإفك الذي حدث أثناء عودة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو والجيش من الغزو، وقد جاءت خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال، وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل - يقصد عبد الله بن أبي - قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا - يعني صفوان بن المعطل السلمي - ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي...» الحديث، وحدثت المشاجرة بين الأوس والخزرج من الأنصار.
وأما دعوى أن سياق القصة مضطرب يدل على أن الخطبة قد جاءت حشوا فيه، فليس صحيحا، بل هو سياق متسق، وهو سياق حكي وقص لأحداث القصة، ويتكون هذا الموضع من ثلاثة أحداث:
الأول: استشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا وأسامة - رضي الله عنهما، حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله، ثم أشار عليه علي - رضي الله عنه - بأن يسأل الجارية (بريرة)، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيبا في الناس.
الثالث: استئناف عائشة رضي الله عنها سرد بقية أحداث القصة بقولها: «فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم».
وليس في سياق القصة حشو، بل هو متسق كما نرى.
ومما سبق يتضح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب في الناس في قصة الإفك، بعد أن استشار أصحابه رضي الله عنهم.
ثالثا. الإشكالات الواردة في الحديث لا يمكن أن تكون سندا لادعاء دخول الوهم والخطأ فيه:
أورد المشتبه بعض الإشكالات الواردة في الحديث، وتولى الإجابة عنها باعتبار أن حادثة الإفك حصلت في السنة التاسعة للهجرة، ولم تحدث في غزوة بني المصطلق، وهذا مسلك ليس صحيحا كما سنبينه.
وقبل أن نشرع في الإجابة عن الإشكالات التي أوردها المشتبه نشير إلى أمر له أهميته، وهو أن معظم الإشكالات الواردة قد أوردها العلماء قديما، وأجابوا عنها إجابات شافية، والظن أن هؤلاء المشتبهين يقعون على هذه الإشكالات الواردة في كتب أهل العلم فيثيرونها للطعن على السنة، ثم يغفلون - أو يتغافلون على الصحيح - عن جوابات أهل العلم على هذه الاستشكالات، ولو كانوا منصفين لأتوا بالإشكالات مع جواب العلماء عنها في موضع واحد، لكن هكذا يفعلون لحاجة في نفوسهم.
وأمر آخر نود أن يكون منهجا للمسلم في التعامل مع هذه الشبهات المثارة، وهو أن يتأنى في قبولها وتصديقها، فليس كل ما يقال يصدق، وإنما لا بد من التأني والبحث عن جواب أهل العلم عن الشبهة المثارة حتى تطمئن النفس.
ونبدأ في عرض الإشكالات والجواب عنها فيما يلي:
الإشكال الأول: ورود اسم سعد بن معاذ الأنصاري، مع أن سعدا قد استشهد بعد غزوة الخندق في إثر إصابته بسهم، فمات بعد أن حكم في بني قريظة.
والجواب عن ذلك ما ذكره ابن حجر - رحمه الله - فقال: "وقال لي بعض شيوخنا: يصح أن يكون سعد موجودا في المريسيع بناء على الاختلاف في تاريخ غزوة المريسيع، وقد حكى البخاري عن موسى بن عقبة أنها كانت سنة أربع، وكذلك الخندق كانت سنة أربع، فيصح أن تكون المريسيع قبلها؛ لأن ابن إسحاق جزم بأن المريسيع كانت في شعبان، وأن الخندق كانت في شوال، فإن كانا في سنة واحدة استقام أن تكون المريسيع قبل الخندق، فلا يمتنع أن يشهدها سعد بن معاذ.
وقد قدمنا في المغازي أن الصحيح في النقل عن موسى بن عقبة أن المريسيع كانت سنة خمس، وأن الذي نقله عنه البخاري من أنها سنة أربع سبق قلم، نعم والراجح أن الخندق أيضا كانت في سنة خمس خلافا لابن إسحاق، فيصح الجواب المذكور.
وقد سلك البيهقي في أصل الإشكال جوابا آخر بناء على أن الخندق قبل المريسيع، فقال: يجوز أن يكون جرح سعد بن معاذ لم ينفجر عقب الفراغ من بني قريظة، بل تأخر زمانا، ثم انفجر بعد ذلك، وتكون مراجعته في قصة الإفك في أثناء ذلك، ولعله لم يشهد غزوة المريسيع لمرضه، وليس ذلك مانعا له أن يجيب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة الإفك بما أجابه"[17].
والجواب كما نرى مبني على أن حادثة الإفك كانت في غزوة بني المصطلق (المريسيع) التي كانت قبيل غزوة الخندق وبني قريظة، أو بعدها بقليل.
أما ما ذكره المشتبه خروجا من هذا الإشكال وهو أن تكون غزوة بني المصطلق (المريسيع) قد وقعت قبل غزوة الخندق، فهو أحد قولي العلماء في الجواب الذي نقلناه عن ابن حجر وغيره من العلماء.
لكن أن يأخذ من ذلك أن قصة الإفك لم تحدث في غزوة بني المصطلق، وإنما حدثت بعد ذلك بزمان طويل، فهذا ما لا دليل عليه، وإنما هو زعم باطل، ومغالطة تاريخية لا يمكن قبولها بحال.
ودعوى أن بعض الأحداث التي ليست من حادثة الإفك تداخلت فيها دعوى مرفوضة، وقد سبق الرد عليها.
الإشكال الثاني: ورود اسم بريدة في الحديث، مع العلم بأنها كانت مملوكة للعباس رضي الله عنه، وإنما كاتبت وعتقت بعد غزوة بني المصطلق التي حدثت فيها حادثة الإفك بمدة طويلة، فقد قدمت مع العباس - رضي الله عنه - إلى المدينة بعد عام الفتح.
"ويمكن الجواب بأن تكون بريرة كانت تخدم عائشة وهي في رق مواليها، وأما قصتها معها في مكاتبتها وغير ذلك فكان بعد ذلك بمدة.
أو أن اسم هذه الجارية المذكورة في قصة الإفك وافق اسم بريرة التي وقع لها التخيير، وجزم البدر الزركشي فيما استدركته عائشة على الصحابة أن تسمية هذه الجارية ببريرة مدرجة من بعض الرواة، وأنها جارية أخرى، وأخذه من ابن القيم الحنبلي، فإنه قال: تسميتها ببريرة وهم من بعض الرواة؛ فإن عائشة إنما اشترت بريرة بعد الفتح، ولما كاتبتها عقب شرائها وعتقت خيرت فاختارت نفسها، فظن الراوي أن قول علي: «وسل الجارية تصدقك» أنها بريرة فغلط، قال: وهذا نوع غامض لا يتنبه له إلا الحذاق.
قلت - أي ابن حجر: وقد أجاب غيره بأنها كانت تخدم عائشة بالأجرة، وهي في رق مواليها قبل وقوع قصتها في المكاتبة، وهذا أولى من دعوى الإدراج وتغليط الحفاظ"[18].
الإشكال الثالث: ورود استشارة أسامة بن زيد بن حارثة.
والواقع أنه ليس في ورود استشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد إشكال، ولا يفهم من ذلك - لا صراحة ولا ضمنا - أن حادثة الإفك كانت بعد معركة مؤتة التي استشهد فيها والد أسامة - زيد بن حارثة - والتي حدثت في السنة الثامنة.
والفهم الذي ذكره المشتبه فهم قاصر، بل لا يعدو إلا أن يكون ظنا، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا.
وقد بنى المشتبه فهمه ذلك على أساس أن زيد بن حارثة لو كان حيا لاستشاره النبي - صلى الله عليه وسلم - بدلا من أن يستشير ابنه أسامة.
نقول: هذا كلام لا يزن شيئا عند العقلاء؛ إذ ما المانع أن يكون الأب حيا ولا يستشيره الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعدل عن استشارته باستشارة ابنه؟!
قال ابن حجر مبينا العلة في اختصاص أسامة مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - بالمشاورة: "وأما أسامة فهو كعلي في طول الملازمة ومزيد الاختصاص والمحبة، ولذلك كانوا يطلقون عليه أنه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وخصه دون أبيه وأمه لكونه كان شابا كعلي، وإن كان علي أسن منه؛ وذلك أن للشاب من صفاء الذهن ما ليس لغيره، ولأنه أكثر جرأة على الجواب بما يظهر له من المسن، لأن المسن غالبا يحسب العاقبة، فربما أخفى بعض ما يظهر له رعاية للقائل تارة والمسئول عنه أخرى، مع ما ورد في بعض الأخبار أنه استشار غيرهما" [19].
الخلاصة:
·   إن الحديث الوارد في قصة حادثة الإفك حديث صحيح متفق عليه، رواه أربعة من العدول الثقات الحفاظ، لا مطعن على واحد منهم، بل هم فوق ذلك، ومن ثم لا يصح اتهامهم بالوهم والتناقض والخطأ وغير ذلك من الاتهامات الباطلة التي لا تقوم على دليل.
·   إن قول الراوي: «وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض» ليس فيه دليل على ما ادعاه المشتبه من احتمال وقوع الوهم والخطأ في رواية الحديث؛ إذ المعنى أن بعض هؤلاء الرواة الأربعة الذين رووا الحديث كان أميز في سياق الحديث من بعض في جهة حفظ أكثره، وليس المقصود أن بعضهم أضبط من بعض مطلقا، ولهذا قال: «أوعى له» أي للحديث المذكور خاصة.
·   ادعاء أن الأحاديث الطوال، كحديث الإفك، تكون عرضة لوقوع الخطأ والوهم، ادعاء لا أصل له؛ إذ هو جهل فاضح لطبيعة الرواية عند رواة الحديث الثقات الذين كانوا أشد الناس حرصا على الضبط والإتقان في تحمل الحديث وأدائه.
·   دعوى أن حادثة الإفك لم تقع في غزوة بني المصطلق مغالطة تاريخية لا دليل عليها، إذ الثابت تاريخيا عند العلماء أن هذه الحادثة وقعت أثناء العودة من غزوة بني المصطلق (المريسيع).
·   عدم التصريح بذكر اسم الغزوة في بعض روايات الحديث ليس دليلا على أنها لم تكن غزوة بني المصطلق؛ لأنه مصرح بها في روايات أخرى للحديث وهي صحيحة.
·   الصواب أن عائشة - رضي الله عنها - كانت وحدها في غزوة بني المصطلق من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ذكر خروج أم سلمة في هذه الغزوة فهو ضعيف كما قال ابن حجر.
·   لم يقل أحد من العلماء: إن الحجاب نزل في السنة الثامنة للهجرة، واختلافهم في ذلك كان: هل نزل في ذي القعدة سنة ثلاث، أو ذي القعدة سنة أربع، أو كان في ذي القعدة سنة خمس؟!
·   الرأي الذي عليه الأكثرون أن المراد بقوله تعالى: )والذي تولى كبره( هو عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، والقول بأن المراد به حسان بن ثابت قول غريب، ولو صح لـحمل على بعض ما جاء في الروايات أنه كان ممن تولى كبره، وهذا يدل على أنه كان واحدا ممن تكلموا في حادثة الإفك، لكن هذا لا يمنع أن الذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي.
·   ادعاء أن عبد الله بن أبي كان قد مات قبل حادثة الإفك لا دليل عليه، بل هو رد للنصوص الصحيحة بالظن والدعاوى الباطلة، وهو قائم على المغالطة التاريخية التي ارتكبها المشتبه حين ذهب إلى أن حادثة الإفك كانت في سنة تسع للهجرة، ولم تكن في غزوة بني المصطلق.
·   كون عبد الله بن أبي لم يجلد الحد في قصة الإفك كما جلد غيره من المؤمنين - لا يدل على أنه لم يكن حيا في زمان الإفك؛ إذ عدم جلده الحد ليس دليلا على هذا الزعم، بل ترك حده لحكم كثيرة ذكرها أهل العلم.
·   القول بأن عبد الله بن أبي بن سلول لم يشارك في حادثة الإفك لقوله تعالى: )إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم(، وعبد الله بن أبي من المنافقين وليس من المؤمنين، وهذا يدل على أنه لم يشارك في حادثة الإفك فضلا عن أن يكون هو المراد بقوله تعالى: )والذي تولى كبره( قول غير صحيح لا يعارض الثابت في النصوص والثابت تاريخيا؛ لأن الله تعالى قال: )إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم(، ثم قال: )والذي تولى كبره( وهذا يعني أن هناك فريقان: فريق جاء بالإفك، وهو عصبة من المؤمنين، وفريق تولى كبره، وهذا هو عبد الله بن أبي، ولأن عبد الله بن أبي من المنافقين فقد توعده الله بالعذاب العظيم، ولو كان من المؤمنين لما توعده الله بهذا العذاب العظيم.
·   ادعاء دخول بعض الأحداث في قصة الإفك وهي ليست منها ادعاء باطل لا دليل عليه إلا الظن، ولا هكذا ترد روايات الثقات والأحاديث الصحاح، وعليه فالخطبة المذكورة في الحديث ثابتة صحيحة لا حشو فيها، والسياق الذي وردت فيه سياق سليم لا اضطراب فيه كما زعم المشتبه.
·   لا إشكال في ورود اسم سعد بن معاذ الأنصاري في حادثة الإفك بحجة أن سعدا قد استشهد بعد غزوة الخندق في إثر إصابته بسهم، فمات بعد أن حكم في بني قريظة؛ إذ قد يصح أن يكون سعد موجودا في غزوة المريسيع بناء على الاختلاف في تاريخ هذه الغزوة هل كانت قبل الخندق، وفي هذه الحالة لا إشكال، أو كانت بعد الخندق بقليل، ويجوز في هذه الحالة أن يكون جرح سعد بن معاذ لم ينفجر عقب الفراغ من بني قريظة، بل تأخر زمنا، ثم انفجر بعد ذلك، وتكون مراجعته في قصة الإفك في أثناء ذلك، ولعله لم يشهد غزوة بني المصطلق لمرضه، وليس ذلك مانعا له أن يجيب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة الإفك بما أجابه.
·   لا إشكال في ورود اسم بريرة في الحديث بحجة أن قصتها مع عائشة لم تقع إلا بعد الإفك بمدة طويلة، إذ يجاب عن هذا بأنها كانت تخدم عائشة رضي الله عنها وهي في رق مواليها، أو أن اسم هذه الجارية المذكورة في قصة الإفك وافق اسم بريرة التي وقع لها التمييز.
·   استشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسامة بن زيد لا يفهم منها - لا صراحة ولا ضمنا - أن حادثة الإفك كانت بعد معركة مؤتة، بحجة أن زيد بن حارثة لو كان حيا لما عدل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن استشارته إلى استشارة ابنه، فهذا فهم قاصر، لا يعدو إلا أن يكون ظنا، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا؛ إذ ما المانع أن يكون الأب - زيد بن حارثة - حيا ولا يستشيره الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر، ويستشير ابنه؟!
طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى