مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الهيومانية كبديل عن الـــــــدين

اذهب الى الأسفل

 الهيومانية  كبديل عن الـــــــدين    Empty الهيومانية كبديل عن الـــــــدين

مُساهمة  طارق فتحي الثلاثاء ديسمبر 02, 2014 6:39 am

هل يمكن أن تحل الهيومانية Humanism (الإنسانية) بديلا عن الدين؟
هل يمكن أن يحيا الجنس البشري بلا دين؟
هل يمكن التأسيس للقيمة و المعرفة و الغاية و الأخلاق في غياب الإله؟
لقد عاش الجنس البشري آلاف السنين تحت تأثير الدين،و استطاع الدين أن يوفر جميع أوجه الحياة الأخلاقية و القانونية و العقائديةو حتى اللغة، و من ثَم فمن حقنا أن نتساءل عما إذا كان من الممكن إنتاج جيل ملحد إلحادًا كاملا؟
لكي تنجح هذه المحاولة لابد من التنشئة في عزلة تامةعن كل دين و عن كل فن و عن كل دراما للوجود الإنساني، و إلغاء كل ما يمكن أنيَستحضر النشء أمامه من رؤيا لعالم آخر، و بالتالي إلغاء جميع الأعمال الفنيةالتي تُصور صراع الإنسان في العالم و تطلعه لعالم أفضل، لأن كل هذه الأمورستؤدي إلى شعور الإنسان بالإغتراب في هذا العالم، و هو شعور ميتافيزيقي روحاني بحت.
في الواقع هذا أمر صعب في الوقت الراهن، لأن الملحدين يعيشون في ظلال الدين، و يمكنناأن نزعم أن كل أخلاق الملحد هي مجرد تأثر بالدين و مبادئه الأخلاقية الأساسية،بطريقة صامتة غير محسوسة، و لكنها ثابتة، فقد تربى الملحد في ظلال الدينعشرات السنين، و هو في نقده للدين يتأثر بأخلاق من ينتقدهم، إن جوهر الإنسانفي أخلاقياته وليس في طبيعته المادية هذه حقيقة ثابتة.
إن أخلاق الملحدهي عطية الدين، هكذا علينا أن نزعم إلى أن ينشأ مجتمع إلحادي كامل.
لكن بعيدًا عن زعمنا، سنحاول أن نتصور تصورًا إبستمولوجيًا -معرفيًا- مجرد صورة مبسطة للقيمة و الأخلاق، من منظور مادي إلحادي مُجرد، بناءًا على رؤية الملحدين أنفسهم.
أثبت فلاديميير لينين -مؤسس الدولة البلشفية الملحدة- أن الأخلاق خدعة ميتافيزيقية، و قرَّر فريدريك إنجلز–أبو النظرية الماركسية– في كتابه "أصل العائلة و الدولة و الملكية الخاصة" أن النظام الأُسري نظام برجوازي، و أن شيوع النساء و إلغاء منظومة الزواج هو الحل الأقرب لروح الإلحاد المادي.

لكن لماذا لا نكون أكثر تفاؤلا و أكثر تنزلا، و نفترض أنه تم التأسيس للمجتمعالإلحادي الكامل بناءًا على أخلاق مثالية!، أخلاق كاملة كالتي نادى بها الدين، أخلاق أصلية واضحة و راسخة في الذهن البشري!

لكن في هذه اللحظة على دعاة الإلحاد أن يطلبوا من الناسمزيدًا من المثالية و التضحية، ربما أكثر مما طلب أي نبي من قومه بإسم الدين،فليس ثَمة إغراءات ماورائية، و ليس ثمة تطلع أُخروي يبرر التضحية و الالتزام بالمُثُل العليا، التي هي جوهر القضية الأخلاقية! و كما يقول المفكر الإنجليزي جون لوك: إذا كان كُل أمل الإنسانقاصرًا على هذا العالم، و إذا كنا نستمتع بالحيـاة هنا في هذه الدنيـا فحسب،فليس غريبًا ولا مجافيًا للمنطق أن نبحث عن السعادة، و لو على حساب الآباءو الأبنـاء."

إنها معضلة و أي معضلة، لكن سنتنزل مرةً أُخرى و نتصور أنه تم التاسيس للمجتمعالإلحادي الكامل، و نتصور أن هؤلاء الملحدين قرروا التضحية و تبني نموذجأخلاقي، إمعانًا في تحدي مجتمع المؤمنين، و قرروا أن يتركوا الشر و الظلم، و قرروا أن يلتزموا بالأخلاق المثالية، هناستظهر المعضلة التي بلا حل، فداخل العالم الإلحادي لا يوجد معنى مادي للشرأو الظلم، فالشر أو الظلم هو وضع الشيء في غير محله، و محل الأحداث في عالمالإلحاد المادي، هو نفس المحل الذي تحدده القوانين الفيزيائية، و بما أنه لا توجد ذرةتخالف تلك القوانين، إذن كل حدث في الكون المادي قد وُضع في محله المادي، و لذلك المفترض ألا يوجد في المجتمع الإلحادي ولا في الكون المادي ظلم أوشر.

فالإنسان مُستوعب تماما في الطبيعة، قوانين الطبيعةهي قوانينه، تسري عليه الحتمية المادية الفيزيائية بمنتهى الأداتية المعرفية، فلا يمكن الاستقلال برؤية متجاوزة أو مغايرة لما تفرضه المادة، وإلا لاعتبرنا أن للإنسان أصل آخر و مقدمة أُخرى و لانهار الإلحاد.

أيضًا العقل مادة مُتلقية طبيعية لا تتجاوز هذا الإطار، و الحالة النفسية الحاكمة في النموذج الإلحادي هي حالةً نفسيةً للمادة و ليس للروح، و بالتالي لايمكنُها أن تُخَطِّئ حالةً ماديةً أخرى, فحتى تناطحُ الذراتِ هو تصرفٌ لاخطأ فيه ما دام موافقًا للقوانين الفيزيائيةِ الصحيحة.

و طبقًا لهذه الرؤية الإلحادية المادية الحتمية فإنه في المرحلة التاليةسيتنازل الإنسان عن مركزيته، فالإنسان من منظور مادي إلحادي ليس هو المركز،بل المركز هو الطبيعة المادية و قوانينها و حتمياتها، و بالتالي سيحل محلمركزية الإنسان مركزية الطبيعة باعتبارها المُطلق الأول، و هذا يعني انهيارالمشروع الهيوماني (مشروع الإيمان بالإنسان)، و بذا يُصفَّى الإنسان على حدتعبير الدكتور عبد الوهاب المسيري لحساب الطبيعة، و سيتم استيعابه تمامًا و يسقط في هيمنة الماديةالحتمية، و يصبح أي حديث عن الإنسان أو قيمه أو مركزيته هو حديث ملوث ميتافيزيقيًا، و يتحول الإنسان إلى حيوان مادي مجرد، و يعود للصراع الدارويني الذي دخل به التاريخ، و في هذا الإطار المادي التجريدي يصبح الحديث عن الهيومانية لغوًا فارغًا، و تتحول الشعارات إلى سخافة لا معنى لها، فما معنى حماية المعاقين أو المرضى الوراثيين أو تقديم يد العون لهم؟

إن محاولة من هذا القبيل تأتي ضد الانتخاب الطبيعي و البقاء للأصلح، و إذا كانت الرؤية الداروينية هي الرؤية الصحيحة، و كانت حتمياتها هي الأصل الثابت، فلن يستوعب الإنسان أصلاً فكرة حماية المعاق أو تقديم يد العون للضعفاء، بل إن تعقيم المعاقين –أي منعهم من الإنجاب- هو الحل الدارويني الأمثل و الأوحد.

أيضًا في الإطار المادي الحتمي الإلحادي كيف تتم المناداة بمفهوم الإنسانية الهيومانية، في عالم يحكمه البقاء للأصلح؟ بل إن أية محاولة لمعاندة هذا الإطار المادي هي محاولة فاشلة، لأنها تأتي ضد التطور، و ضد قوانين الحتمية المادية التي تسري على الوجود.

يقول الدارويني جيمس هِلْ James J. Hill: "إن الثروات تُحدَد تبعاً لقانون البقاء للأقوى." (1)

و يقول تايل Tille: "من الخطأ الشديد مجرد محاولة منع الفقر أو الإفلاس أو مساعدة الضعفاء أو محدودي الإنتاج..، مجرد مساعدة هؤلاء خطأ جوهري في النظرية الدروينية، لأنه يتعارض أساسا مع الانتخاب الطبيعي natural selection، و هو جوهر الداروينية." (2)

و طبقا لهربرت سبنسرHerbert Spencerفإن: "فكرة وسائل الوقاية الصحية و تدخل الدولة في الحماية الصحية لمواطنيها و تلقيحهم تعارض أبسط بديهيات الانتخاب الطبيعي، و كذلك مساندة الضعفاء أو محاولة حماية المرضى و الحرص على بقائهم."! (3)

هذه هي الصورة التي يتيحها الإلحاد المادي، إنها المعادلة المستحيلة.. يستحيل أن يتم التأسيس للأخلاق داخل المنظومة المادية، لا يوجد داخل العالم المادي الهيوماني مايُفرح الإنسان أو يسليه، أو يؤسس لقيَّمه، أو يؤسس لمبادئه، أو يؤسس لأخلاقياته،يستحيل أن يوجد داخل المنظومة المادية ما يجعل الإنسان إنسانًا.

فالأخلاق و القيمة تمثلان ثغرة في النظام الطبيعي، فالأخلاق ثغرةمعرفية كبرى في النسق الكوني،و لذا لا يمكن إخضاعها لقوانين الطبيعةو حتميات ماركس التاريخية، أو حتميات داروين العضوية أو حتميات دوركايم الاجتماعية، هذا الاختلاف بين الأخلاق و الطبيعة يُعبِّر عن نفسه فيالاختلاف بين المؤشِّر في العلوم الطبيعية و المؤشِّر في العلوم الإنسانية.
الأخلاق تسير عكس الطبيعة أو بمعنى أدق لا علاقة لها بالطبيعة، فالأخلاقثغرة في الزمان، فهي نتاج خلق و ليس تطور! و الله خلقها كاملة لأن الله لا ينتج ولا يشيد،و إنما يخلق، و هذا يؤكد أصالة ظهور الإنسان.
الأخلاق عقليا غير مربحة، بل ضارة، بل هي أكبرعبئ على صاحبها، و قد تساءل ماندفيل Bernard Mandeville،أستاذ علم الأخلاقالإنجليزي: ما أهمية الأخلاق لتقدم المجتمع و التطور الحضاري؟
و أجاب ببساطة:لا شيء بل لعلها تكون ضارة.
و لذا فالأخلاق لم تتم البرهنة عليها عقليًا إلى الآن، و الأخلاق و الدين هماأقدم الأفكار الإنسانية تُرًا، و قد ظهرا سويًا مع الإنسان كل هذا يؤكد أصالةالظهور الإنساني و غائية الأخلاق التي يحملها، إنها اللحظة التي صنعت عصرًا جديدًا.
إن الإنسان يتحرك في الحياة و هو يعلم يقينًا أنه ليس مُفصل على طراز داروين، و لذا يرفض باستمرار إلحاح العلم المتزايد على أن الجنس الأبيض أفضل من الأسود، أو أن إبادة المعاقين و الضعفاء خيرٌ للجنس البشري، أو أن الإنسان حيوان مادي، و هذا يؤكد أن الإنسان لا يستطيع أن يرفض التكليف الإلهي بداخله، و أن الإلحاد لا يصلح لتحليل ظاهرة الوجود الإنساني!
و تأتي النزعة الهيومانية الإنسانية الجديدة كتوكيد عجيب على هذا الأمر، فهي تستقي مباديء غير مادية و غير علمية، تؤسس بها لمفاهيم مستقلة عن الوجود المادي، و تؤكد بها أن الإلحاد يرفض أن يكون إلحادًا، و أن الملحد في قمة إلحاده يترفع عن المادية الحتمية، و لذا لنا أن نتساءل: إذا كان الله غير موجود كما تزعمون، فلماذا التمحك في ظلاله؟
لماذا محاولة التأسيس لفلسفة هيومانية ملوثة ميتافيزيقيًا؟
إذا كان الإنسان ابن المادة و من المادة و إلى المادة، فلماذا الحديث عن سموه أو قيمته أو مركزيته؟

إن الهيومانية هي توكيد متزايد على أن الإلحاد لا يصلح لتحليل ظاهرة الوجود الإنساني، و أن الإلحاد شيء و الإنسان الروح و الجسد شيء آخر تمامًا.
لقد حاول كهنة المادية الإلحادية الغربية -بعيدًا عن هذه الرؤى الميتافيزيقية- تحليل ظاهرة الوجود الإنساني، فوجدوا أن الإنسان لا يعدوا كونه كائن طفيلي لا يوجد ما يُميزه، و لذا فقد ظهرت دعوات تعميمية تُنادي بإلغاء التفرقة بين البشرو الحيوانات و الحشرات، بل و النبات، و محاكمة كل من يتعرض للفيروسات أو دودة الأرض، لأنهبيولوجيًا لا فرق بين الإنسان و دودة الأرض، فكلاهما على نفس الدرجة من التطور النوعي.

يقول كريستوفر مانيز Christopher manes: "لا يوجد مستند لرؤية البشر ككائن أرقي من غيره." (4)
و في سويسرا ظهرت قوانين عدم إذلال النباتات. (5)
و يقول بيتر سنجر،الأُستاذ بجامعة برينستون:Princeton university "حياة رضيع ليست أغلى داروينيًا من حياة شبمانزي أو خنزير." (6)
و يقول الدارويني الأمريكي James lee: "يجب تقليل عدد البشر قدر الإمكان، يجب إيقاف الزواج و قتل الرُضع"، و قد اتخذ هذا الدارويني وسائل حقيقية لقتل البشر باعتبارهم طاعون و حيوان طفيلي فاسد، و في سبتمبر 2010 قُتل جيمس لي حين اتجه إلى موقع قناة ديسكفوري و أخذ ثلاث رهائن، و كان معه بعض القنابل، إلا أن الشرطة لم تمهله و أردته قتيلاً، قبل أن يُنفذ مخططه الدارويني. (7)
يقول فرانسيس فوكوياما في كتابه الأشهر نهـاية التاريخ: "حقوق الانسان لها مشكلة فلسفية عميقة إذ لابد أولاً أن نفهم الإنسانقبل أن نبحث في حقوقه، نفهم طبيعة الإنسان، فالعلوم الطبيعية الحديثة تشيرإلى أنه ليس ثمة فارق بين الانسان و الطبيعة، و عندما نوسع في المساواة التيتنكر وجود أي اختلافات بين البشر، فيمكن أن يشمل ذلك إنكار وجود اختلافاتهامة بين الانسان و القردة العليا، و تنشأ عن ذلك أسئلة لا حصر لها، إذ كيف يكونقتل البشر غير مشروع، في حين قتل هذه الحيوانات ليس كذلك، و سنصل حتمًا فيمرحلة ما إلى السؤال التالي:و لماذا لا تتمتع الطفيليات المعوية و الفيروسات بحقوق مساوية لحقوق الإنسان؟
إن عدم اهتمام الناس بهذه المساواة يوضح أنهم لا يزالون يؤمنون بمفهوم ماعن تفوق قدر الانسان، و حتى حماة الطبيعةو حماة الحيوانات، هم فقط يدافعون عن الحيوانات لأنهم يحبون بقائها معنا، و مجرد إفنائها لا سبيل لتعويضه مع ضياع فوائد ربما تُكتشف منها مستقبلاً،فحتى حماة الحيوانات هم للإفادة منها و ليس من أجلها، و هذا عكس حقوق الحيوان، إن مفهوم التوسع في المساواة أدى إلى حيرتنا الراهنة، إننا لو كنا نؤمنحقًا أن الانسان مجرد كائن في سلسلة حيوانية يخضع لقوانين الطبيعة، ليست لهقيم متجاوزة، هنا كان لابد أن تتساوى الكائنات جميعًا في الحقوق، و سيتعرض ساعتهاالمفهوم المساواتي للبشر للهجوم من أعلى و من أسفل، ولا يسمح لنا هذا المأزقالفكري الذي أوقعتنا فيه النسبية الحديثة بأن نرد على هذا الهجوم أو ذاك،و بالتالي لا يسمح لنا بالدفاع عن الحقوق المساواتية –فإما طبقية متوحشة، أومساواتية مستحيلة." (Cool

إنه تحليل مدهش و حقيقي للمأزق الهيوماني، فإن فرانسيس فوكوياما يرى أن المساواة مستحيلة داخل المجتمع المادي، حيث يتحول الإنسان داخل هذا النموذج إلى كائن قانع بسعادته، غير قادر على الإحساس بالخجل، عاجز عن الارتقاء فوق مستوى احتياجاته، و بالتالي فإن الإنسان لم يعد إنسانًا. (9)
أليس الإنسان الكامل في هذه الصيغة هو كائن فج جدير بالإحتقار-و الكلام لفرانسيس فوكوياما-، كائن عاطل عن الإجتهاد و الطموح، و هنا تضيع ملحمة الوجود الانساني و دراماالحياة الانسانية.. لقد مات الانسان في النموذج المادي. (10)
بل إن فرانسيس فوكوياما يصف الملحد في هذه المرحلة بالكلب، يقول فوكوياما إنه: داخل ذلك العالم سيصبح الناس حيوانات من جديد،كما كانوا قبل المعركة الدامية التي بدأ بها التاريخ، إن الكلب يقنع بالنومفي ضوء الشمس طوال اليوم شرط أن يُطعموه، و ذلك لأنه راضٍ بما هو عليه، و لنيقلقه أن غيره من الكلاب حالها أفضل من حاله، أو أن مستقبله ككلب قد جُمد أوأن كلابًا في بقعة نائية من العالم تصادف المذلة و الهوان. (11)

و يتنبأ فوكوياما في صفحة274 من كتابه أن حياة مجتمع مادي إلحادي هيوماني كامل هيحياة بلا فنون ولا أدب ولا دراما ولا كفاءة، و قليلون سيتصدرون للخدمة العامةو ستكون الحِرف مبتذلة و غير متطورة، و في مرحلة ما سيكون هذا المجتمع عاجزًا عنالدفاع عن نفسه في وجه الحضارات الأُخرى حيث الحضارات الأخرى أصحابها علىاستعداد لهجر الراحة و الأمن، و يخاطرون بحياتهم من أجل القيمة.
و إذا كانت الهيومانية تسعى للتأسيس لفلسفتها في إطار العلم بعيدًا عن الدين، فماذا لو أثبت العلم أن العِرق الأبيض أفضل بيولوجيًامن الأسود؟ و أنهم في مرتبة أعلى في سلم التطور، هل سيتم الفصل العنصري بينالبيض و السود داخل المجتمع الإلحادي الهيوماني؟ أم ستتم معاندة العلم و البيولوجيا،و معاندة الانتخاب الطبيعي، و إقرار المساواة بين البيض و السود، و ساعتها ستكونأكبر خيانة للتطور و أكبر ضربة للماديين؟

بالمناسبة: هناك آلاف الأبحاث التي أثبتت تفوق الجنس الأبيض على الجنس الأسود ماديًاو بيولوجيًا، منها قديمًا أبحاث عالِم الإنسـانيـات الشهير صموئيل مورتن Samuel Morton، و أبحاث لويس أجاسيLouis Agassiz الذي كان يقول بأن البيض ليسواسفاحين حين أبادوا الهنود الحمر، و لكنهم يتبعون قضية حتمية فيتشكل الأعراق،فهذه هي حتمية العلم، و حديثا ظهر كتاب قوس الجرس bell curve،أكثر الكتب مبيعًافي السبعينـات، و هو الكتاب الذي يتحدث عن أنه لا فائدة من تعليم السود أوتحصينهم من الأمراض، لأنهم أضعف عقلاً و أفقر ذهنـًا من البيض، و لابد من إنفاقالمـال في أُمـور أكثر فائدة.

ماذا لو أثبت العلم تفوق الرجل على المرأة ماديًا، و أن الرجل في مرتبة أعلىبيولوجيًا من المرأة؟ هل ستتم المساواة بين الجنسين داخل المجتمع الإلحادي، أمسيكون هذا مطلب غير علمي غير عقلاني عبثي ميتافيزيقي، يقف في وجه التطورو حتميات الطبيعة؟

بالمناسبة: المرأة طبقًا لأدبيات التطور لها تصنيف في السلسلة الحيوانية مستقل تمامًا عنتصنيف الرجل، فالمرأة تندرج تحت تصنيفHomo parietalis ،بينما الرجل تحتتصنيف Homo frontalis، فدراسة حجم الجمجمة في القرن التاسع عشر أثبتت وجودفرق جوهري في حجم المخ لصالح الرجل بمقدار 12- 19 %، و كتب كارل بروكاbruccaيقول أن مخ المرأة أضعف بكثير من مخ الرجل.
فحجم المخ الخاص بالمرأة يكاد يطابق ذلك الخاص بالغوريلا، و المرأة تأتي في المرحلة السفلى من مراحل تطور الإنسان.(12)
و يرى داروين أن المرأة لا تصلح إلا لمهام المنزل، و إضفاء البهجة على البيت،فالمرأة في البيت أفضل من الكلب.(13)

هذه هي الرؤية الإلحادية الهيومانية للإنسان بصورتها الحقيقية، فالإلحاد حرَّر أتباعه من أية أعباء أخلاقية، و إذا لم يتم تبني هذه الرؤية في المنظومة الهيومانية، فهذا يعني انهيار الأساس الذي بُنيت عليه الهيومانية، و بالتالي استقاء عناصر غير مادية من خارج المنظومة الهيومانية، سيكون اعترافًا بعدم صلاحيتها كمنظومة فكرية مستقلة لتفسير المغزى الوجودي!
إن الأمر الذي لا يجب أن نغفله هنا؛ هو أن الحروب العالمية كانت دائما نتاج المجتمعات الأرستقراطية الملحدة، و الإلحاد هو الذي زوّد الإمبريالية الغربية بإطار نظري لإبادة الملايين باسم العرقية المادية و البيولوجية الداروينية، و لن تتجاوز الهيومانية هذه الرؤية مهما تظاهرت بخلاف ذلك، و على الهيومانية أن تتبنى بمنتهى الهدوء اليد الخفية عن آدم سميث، و المنفعة عن بنتام، و وسائل الإنتاج عند ماركس، و الجنس عند فرويد، و إرادة القوة عند نيتشه، وقانون البقاء عند داروين، و الطفرة الحيوية عند برجسون، و الروح المطلقة عند هيجل، و إلا فالهيومانية ستُعتبر تمرد على المادية الحتمية.(14)
هذا هو الإلحاد الهيوماني عند التطبيق، و هذا هو أصل معركته و شعارها و دثارها، و في هذا السبيل قامت حربان عالميتان أُبيد فيهما قرابة 120 مليون نسمة، و كانت حروبًا من الدموية بحيث أرجعت كلاً من المنتصر و المهزوم ثلث قرن إلى الوراء، فالحربان العالميتان اللتان أبادتا حوالي 5% من سكان العالم كانتا نزاع إلحادي- إلحادي، و قام الفلاسفة بوضع مبولة في وسط باريس بدلا من تمثال الجندي المجهول كنايةً عن نهاية الحضارة.

و قد اعتبر الليبرالي الشهير -رئيس الولايات المتحدة السابق- جون كوينسي آدمز John Quincy Adams أن حرب البيض ضد الهنود الحمر هو قانون الطبيعة، و لهذا القانون تطبيقاته الواسعة جدا."(15)

فاستئصال طبقة كاملة من الناس، و تفريغ قارتين كاملتين من البشر-تفريغ الأمريكتين من الهنود الحمر- ما كان ليحدث لولا الرؤية المادية للوجود الإنساني، و قد اعتبر الليبراليون الأوائل أن إبادة الهنود الحمر نوع من الدفاع الشرعي، و نتيجةً لذلك: تقلّص عدد الهنود الحمر من 10 مليون إلى 200 ألف نسمة خلال سنوات قليلة، و لذا يقول سيمون بوليفار Simón Bolívar محرر أمريكا اللاتينية: "يبدو أن الولايات المتحدة تسعى لتعذيب و تقييد القارة باسم الحرية".(16)

و ليست إبادة الملايين في أرخبيل الكولاج The Gulag Archipelago، على يد الملحد لينين و الملحد ستالين، إلا من خلال مبرّر إلحادي شيوعي، و ليست إبادة 22% من سكان كمبوديا إلا بمبرر إلحادي على يد بول بوت pol pot، و ليست إقامة الحرب العالمية الثانية كلها إلا بمبرر قومي مادي عِرقي ألماني على يد أدولف هتلر، و ليست الثورة الثقافية في الصين التي راح ضحيتها 22 مليون نسمة إلا بمبرر إلحاد ماوي Mao Zedong، فالحرب في الإلحاد غاية في ذاتها، و المكاسب المادية و تفريغ القارات من البشر، و تطهير الأعراق ليست كلها إلا إفرازات داروينية مادية، و رؤى عِرقية طبيعية، و هذه الرؤى هي التصور المستقبلي للهيومانية حال التطبيق.

يقول ريتشارد فيكارت Richard Weikart: "لقد نجحت الداروينية أو تأويلاتها الطبيعية، في قلب ميزان الأخلاق رأسا على عقب، و وفرت الأساس العلمي لهتلر و أتباعه لإقناع أنفسهم و من تعاون معهم، بأن أبشع الجرائم العالمية كانت بالحقيقة فضيلة أخلاقية مشكورة."(17)

لكن الإنسان له روح خاصة مستقلة عن جميع المخلوقات؛ فهو ليس مُفصّلاً على طراز داروين، و لم يوجد من أجل الصراع، إنما وُجد لعبادة الله من إقامة الحق أيـا كان مَن اتبع الحق سواء كان أبيض أو أسود، أما العقل الإلحادي المادي الهيوماني فقد قام بتفكيك البـشر بصـرامة بالغة ليس فيها موطنٌ للمشاعر الإنسانيّة، و القِيَم الروحيّة.

إن البحث عن السعادة على الأرض من منظور إلحادي هو شكل من أشكال الغرورالإنساني، و هو يعني القول بمركزية الإنسان، و أن له مكانًا خاصًا في الكون،و بداهة لا يمكن القول بوجود غائية إنسانية مستقلة عن الغائية الطبيعية أوالمادية.
ولا يأتي الإيمان بمركزية الإنسان و قيمته و سموه إلا بالإيمان بمُطلق أعلىيتجاوز المادة، فالمساواة بين البشر هي مسألة دينيةبحتة، فإذا لم يكن اللهموجودًا، فالناس بجلاء و بلا أمل غير متساوين، و تأسيسًا على الدين فقط يستطيعالضعفاء المطالبة بالمساواة.

و لذا يقول الدكتور المسيري رحمه الله: إن الإله هوالتركيب اللانهائي المفارق لحدود المُعطى النهائي، هو النقطة التي يتطلعإليها الانسان و يحقق التجاوز من خلالها، و من ثًم بغيابه يتحول العالم إلىمادة طبيعية صماء، خاضعة لقوانين الحركة و الصيرورة التي يمكن حصرهاو إحاطتها و التحكم فيها، و ينضوي الإنسان تحت نفس النمط، إذ بغياب الإله يتحولالإنسان إلى كم مادي يمكن أدلجته و قولبته في إطار مجموعة من المعادلاتالرياضية الميتة، و في هذه اللحظة تموت الروح و يتبعها موت الإنسان، فالإيمـان بالإنسان و قيمته و مركزيته و سموه هو إيمـان يتجـاوز حركة المادةو ديناميكيتهـا، فعندما يُقرر الإنسان أن ينسى الإله في هذه اللحظةبالذات يكون قد نسي نفسه {نسوا الله فأنساهم أنفسهم} 19سورة الحشر.

فالإنسان كائن أقدامه مغروسة في الوحل و عيونه شاخصة للنجوم.
كائن ميتافيزيقي يسأل أسئلة نهائية عن معنى الكون.
أقصى مُتعة لن تكفي إنسانا يعلم أنه وُلد ليموت.
بدون وجود إله تفقد كل الكائنات حدودها و حيزها، و تنشأ إشكالياتفي النظام المعرفي و الأخلاقي، و تفقد الأشياء حدودها و هويتها و يَصعُب التمييزبينهما، كما تَختفي التفرقة بين الخير و الشر، و تختفي الإرادة و المقدرة علىالتجاوز و تسود الواحدية و الحتمية، و قد اختصر رئيس التشيك فاكيلاف هافل هذه الإشكالية الكبرى فقال عبارتهالرائعة: "حينما أعلنت الإنسانية أنها حاكم العالم الأعلى، فيهذه اللحظة نفسها، بدأ العالم يفقد بُعده الإنساني"، فالفلسفة الهيومانيةضحت أول ما ضحت بالإنسان.

و منذاللحظة التي هبط فيها الإنسان من السماء منذ المقدمة السماوية لايستطيعالإنسان أن يختار أن يكون حيوان بريء أو يكون إنسان مُخير، لم يكن بإمكانه أن يختار بين أنيكون حيوانأو إنسان، إنما اختياره الوحيد أن يكون إنسان أو لا إنسان {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} ٧٢ سورة الأحزاب

فالإنسان هوالمركز و الطبيعة هي الهامش.

هذا هو الإنسان، و هذه هي طبيعته الحقيقية، و على الهيومانية أن تتقبله في هذا الإطار، و أن تستمد قيم معرفية متجاوزة، و أن تتجاهل الرؤية المادية الإلحادية الداروينية كتحليل لظاهرة وجوده، و هذا يعني أنها لن تصبح هيومانية و إنما دينًا جديدًا، و في هذه اللحظة تفقد أهم سماتها و خصائصها، و ينهار المشروع الهيوماني ككل.
طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى