مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الأسس اللاعقلية للإلحاد

اذهب الى الأسفل

الأسس اللاعقلية للإلحاد Empty الأسس اللاعقلية للإلحاد

مُساهمة  طارق فتحي الثلاثاء ديسمبر 02, 2014 6:23 am

مــشـكـلـة مـبـدأ الـعـالـم نـمـوذجـا
تقوم كل الأديان والمذاهب والأفكار الألوهية على إثبات وجود الله عز وجل، وأنه الحقيقة الكبرى التي تفسر سر الوجود وما يتعلق به من غايات.

بل إن كثيرًا من الاتجاهات تعرف الدين على أنه (اعتراف بشري بوجود قوة فوق بشرية مسيطرة، هي الإله، أو الآلهة، التي تستحق الطاعة والعبادة) (1)، ورغم ما في هذا التعريف من قصور بيِّن وفق التصور الإسلامي بخاصة، وسائر الملل السماوية بعامة؛ إلا أن محل الشاهد فيه: أن وجود الله تعالى هو محور الدين، ولبُّه الفاعل.

وإذا انتقلنا للنقيض على الطرف الآخر، لننظر إلى الإلحاد، باعتباره في أبسط مفاهيمه (إنكار وجود الله عز وجل)، فإن أغلب الدارسين للإلحاد يميزون بين اتجاهين للإلحاد، وهما بالأحرى مستويان: الإلحاد السلبي: وهو عدم الإيمان بوجود الخالق، والإلحاد الإيجابي: وهو نفي وجود الخالق (2)، ويتمثل الأول في مجرد عدم الاقتناع بأدلة وجود الله، بينما يتطور الثاني للتدليل على عدم الخالق.

ولمَّا كان النوع الأول من الإلحاد - أي السلبي - لا ينضبط منهجه، لكونه يقوم في الغالب على تشكيكات مجردة، أو عدم اقتناع شخصي، أو عاطفي (3)، فإن النوع الثاني من الإلحاد – وهو الإيجابي - القائم على التدليل على نفي وجود الإله؛ يكون هو الأكثر حضورًا في مجال المعركة الفكرية بين الإيمان والإلحاد (4).

في ذلك السياق التحليلي للإلحاد بمفهومه الإيجابي، ينبغي أن نميز بين اتجاهين لذلك الإلحاد: اتجاه فلسفي، واتجاه علمي.

يقوم الاتجاه الفلسفي على تقديم أدلة نفي فلسفية فكرية، كإبطال مبدأ السببية، ونقض مبدأ الخلق، ومشكلة العدل والشر، واستحالة الوحي، ونقد الكتب المقدسة للأديان، واستحالة الحياة بعد الموت (مسألة الخلود)، أو إبطال مفهومه الديني بإثبات نظائر مغايرة له كالاستنساخ أو العودة للحياة، وغيرها من مشتقات البارسايكولوجيا.

بينما يقوم الاتجاه العلمي على تقديم أدلة تستند للعلم الحديث بشتى فروعه، كعلوم الفضاء، والأحياء، والفيزياء، والكيمياء.

ولا شك أن هذا الإلحاد الإيجابي قائم على أسس عقلية - ضعيفة أو فاسدة في نفس الأمر بالضرورة - والتداول العلمي لهذه الأسس هو ميدان المعركة بين جحافل الإيمان، وفلول الإلحاد.

لكنَّ الموضوع الذي وددت التعرض له في هذه الكلمة، هو الجانب الآخر من الإطار الإلحادي، وهو الأسس غير العقلية للإلحاد، والسبب في ذلك أن الغالب على سلوك الملحدين هو التدثر بالعقلانية، والتزيي بالمنطقية، والتترس بالتفلسف، فكان حسنًا أن ننظر لاطراد ذلك في أسسهم التي بنوا عليها مذهبهم في الإلحاد.

وهي بنظرنا: تلك الأسس التي لا يمكن بناؤها بناءً عقليًا سليمًا، إما لاشتمال تلك الأسس على مناقضات لأوليَّات العقل السليم، أو لكونها قائمة على دعوى عاطفية أو شعورية لا برهان عقليًا عليها (5).

ولأن مثل ذلك البحث يحتاج استقراءً واسعًا لأغلب مسائل الإلحاد وأدلته ونظرياته للوقوف على معالم الأسس غير العقلية له - ومثل ذلك يطول جدًا ولا تناسبه تلك العجالة - نظرت في مسائل الإلحاد ومباحثه العامة وأصوله الكبرى، فوجدت أن أهم تلك المباحث وأولها قضية ( مبدأ العالم )، وهي مسألة الخلق التي يخالف فيها الملاحدة كلَّ المؤمنين بالله من أتباع الملل، فرأيت فيها نموذجًا صالحًا للتناول وفق محدد البحث، وهو ما تشتمل عليه النظرة الإلحادية لتلك المسألة من منطلقات غير عقلية.

1 ـ عدم السببية :

ـ السببية (أو العلِّية) هي (إحدى بدائه الفكر الأساسية) (6) ، فإنه (لا يحدث شيء بلا علة، أو على الأقل بلا سبب محدد، أي بلا شيءٍ ما يمكنه الإفادة في تعليل قبلي لسبب وجود هذا الشيء بدلًا من عدمه، ولماذا هو على هذا النحو وليس على نحو آخر مختلف تمامًا) (7).

ـ وتتعدد تعاريف السبب عند الفلاسفة باختلاف مدارسهم وعصورهم - وليس الغرض استقصاءها - لكنها وفق ما يتفق عليه الغالب الأعم منهم: (ما يحتاج إليه الشيء في حقيقته، أو وجوده) (Cool، وعلى مستوى أيسر من التعبير هي: (العلاقة بين السبب والمسبب) (9).

ـ ومبدأ السببية من الضرورات العقلية، والبدهيات الفطرية التي لا يختلف فيها العقلاء، بل ولا غيرهم من حيث الجملة، فأنت ترى الطفل الصغير إن تعرض لتأثير مؤثر ما؛ تراه يطلب ذلك المؤثر ويبحث عنه، فيلتفت الطفل ليبحث عمن ضربه خلسة، لكونه مما ارتكز في فطرته، وفي مبادئ عملياته العقلية الأولى أن لكل فعل فاعلًا، ولكل مصنوع صانعًا، بل إن الطفل إن لم يجد ذلك المؤثر يرتبك، بل لعله يخاف ويهلع، وسبب ذلك الخوف ليس الجن أو الشياطين ! ؛ لأن الطفل لا يدرك وجود تلك القوى غير المنظورة أصلًا في تلك المرحلة المبكرة من حياته، ولكن الحقيقة أن هذا الذعر يكون سببه ذلك الاضطراب النفسي الذي يصيبه نتيجة اختلال المبادئ التي يفهم بها الوجود، فإن ذلك الاختلال يطَّرِد في نفس الطفل فيرفع الثقة عن كل ما يؤمن به حوله، إذ ربما يحصل له أي حادث فجأة دون مقدمة أو سبب أو فاعل !

ـ والبحث في العلل أمر قديم قدم الفكر نفسه، فمنذ العصور الفلسفية لليونان نجد أرسطو قد اهتم بدرس العلل، وقسمها إلى علل أربع: المادية، والصورية (الهيولى)، والفاعلية، والغائية (10)، والله عنده هو العلة الأولى، وليس معلولًا لشيءٍ آخر (11).

ـ العجيب أن ذلك المبدأ الضروري البدهي يضادُّ كل المذاهب الإلحادية جملة !، رغم أن المذاهب الإلحادية جميعها تدعي تعظيم العقل وتقديسه وأنه هو الذي حملها على إنكار الغيب، فإذا بها تدفع من العقل مبادئه وقوانينه الأولى التي بها يكون الحكم على ما دونها من أفكار.

ـ فالمذاهب الإلحادية، واللاأدرية، تناقض هذا المبدأ في اتجاهين الأول منهما: فيما يتعلق بنفس المبدأ، والثاني: فيما يتعلق بما يقتضيه، وهو ما سيأتي فيما بعد هذه النقطة..

* السببية بين هيوم وكانط :

ـ يعد موقف الفيلسوف الكبير الإنجليزي الملحد ديفيد هيوم (12) من مسألة السببية من أشهر مقالاته الفلسفية، حيث ذكر هيوم في كتابه الأكبر (بحث في الطبيعة الإنسانية) أن فكرة العلِّية قائمة على أسس ثلاثة: هي الاتصال، والأسبقية، والارتباط الضروري (الضرورة).

ويقصد بالاتصال أن الأسباب والمسببات متصلة ببعضها، وأن الشيء لا يمكن أن يحصل في زمان أو مكان يبْعُد عن زمانه ومكانه بالفعل، بل إن الأشياء التي تعد أسبابًا لمسببات ولا تكون متصلة بها، بالبحث المتقصي نكتشف أن بينها اتصالًا من العلل المتسلسلة، بل إننا إن لم نفطن لهذا الاتصال فإننا نفرضه في الذهن.

أما الأسبقية: فإن هيوم ممَن لا يرون ضرورة أن تكون العلة - بحسب الظاهر كما سيأتي - سابقة على معلولها، بل يراها أمرًا يحتمل (الجدل)، ومع تسليمه أن التجربة في معظم الأحيان تنتصر لأسبقية العلة على المعلول، لكن مبدأ الأسبقية يبقى (عنده) دائمًا غير قابل للتدليل بنوع من الاستنتاج أو البرهان !

ويبقى الارتباط الضروري، وهو الذي صرح هيوم أنه لا يعني العلِّية ولا يقتضيها، يقول: (رؤية أي شيئين أو فعلين، مهما تكن العلاقة بينهما، لا يمكن أن تعطينا أي فكرة عن قوة، أو ارتباط بينهما، وأن هذه الفكرة تنشأ عن تكرار وجودهما معًا، وأن التكرار لا يكشف ولا يُحدث أي شيء في الموضوعات، وإنما يؤثر فقط في العقل بذلك الانتقال المعتاد الذي يُحدثه، وأن هذه الانتقال المعتاد من العلة إلى المعلول هو: القوة والضرورة)، ثم يقول: (وليست لدينا أية فكرة عن العلة والمعلول غير فكرة عن أشياء كانت مرتبطة دائمًا، وفي جميع الأحوال الماضية بدت غير منفصلة بعضها عن بعض، وليس في وسعنا النفوذ إلى سبب هذا الارتباط. وإنما نحن نلاحظ هذه الواقعة فقط، ونجد أنه تبعًا لهذا الارتباط المستمر فإن الأشياء تتحد بالضرورة في الخيال. فإذا حضر انطباع الواحد كوَّنا نحن في الحال فكرة زميله المرتبط به في العادة) (13).

ويمكن القول إن هيوم لم ينكر قانون العلِّية صراحة، إلا أنه يرى أنه ليس إلا علاقة ذهنية يفرضها التكرار والارتباط، وهذا لأنه لا يخضع للتجربة والبرهان بزعمه، وعلى ذلك فـ (هيوم أول فيلسوف أوروبي نقل فكرة العلة من معانيها الأرسطية إلى معنى التتابع المجرد بين السبب والمسبب، أي التتابع الذي لا يعني شيئًا أكثر من أن السبب سابق لمسببه فيما دلت عليه العادة (التجربة). وقد كان يمكن عقلًا أن يجيء الترتيب على صورة أخرى، لكنه جاء هكذا) !! (14).

ـ وإذا انتقلنا إلى كانط (15) (أعظم فلاسفة العصر الحديث) (16)، الذي كان يرى أن وجود الله لا يمكن التدليل عليه بالدليل العقلي (17)، وكذلك يستحيل التدليل على عدم وجوده، حيث انتهى إلى (رفض موقف المنكرين لوجود الله، وكذلك رفض موقف الدوجماتيقيين المثبتين لوجود الله بطريق العقل النظري المحض) (18)، بل اعتبر وجوده تعالى من (مُصادرات العقل العملي) - وكما سيأتي - ليكون بذلك إرهاصًا واضحًا للأدرية، والتوسط بين الاتجاه الهيومي، والاتجاه الديكارتي.

ـ ورغم أنه قرر العلِّية في أول كتبه (19) (إيضاح جديد للمبادئ الأولى للمعرفة الميتافزيقية)، حيث جعل قسمه الأول: لمبدأ عدم التناقض، أو الهوية، وقسمه الثاني: لمبدأ العلة الكافية، والذي نص فيه صراحة على أنه (لابد للموجود الممكن من سبب سابق يحدده)، و (أننا إذا تصاعدنا في سلسلة العلل إلى العلة الأولى؛ فإنه لا مجال بعدُ لأي تصاعد) (20).

ـ إلا أن هذا لم يدم طويلًا، فبعد أن اطلع كانط على فلسفة هيوم بدا جليًا تأثره بهيوم (21)، فقد (كان تأثير هيوم أبعد مدى، وقد قال كنط فيما بعد: إن هيوم أيقظه من سباته الاعتقادي، وكان ذلك برأيه في مبدأ العلِّية بنوع خاص، إذ كان قد قال: إن مبدأ العلِّية ليس قضية تحليلية، أي: إن المعلول ليس متضمنًا في العلة أو مرتبطًا بها ارتباطًا ضروريًّا، وإن الضرورة التي تبين له ما هي إلا وليدة عادة تتكون بتكرار التجربة ) (22) .

ـ وعقب هذا التأثر وبدخول كانط للمرحلة النقدية في تفكيره يمكن القول إنه وصل لنوع من اللا أدرية، والديالكتيكية -تناقض التفكير- (23)، كما سيأتي في معنى النقائض عنده، لكنه لم يصل إلى الديالكتيك صراحة كما عند هيجل مثلا بطبيعة الحال.

يظهر مثل ذلك جليًا في كثير من نصوصه، فنراه يقول: (عندما لا نقتصر، في استعمالنا للمبادئ الفاهمية، على تطبيق عقلنا على موضوعات التجربة، بل نغامر بمد العقل إلى ما وراء حدود هذه التجربة؛ ستتولد قضايا مماحكة لا أمل بمصادقة التجربة، ولا خوف عليها من مناقضتها، وكل واحد منها سوف لن تخلو من التناقض وحسب، بل ستجد أيضًا في طبيعة العقل الشروط التي تجعلها ضرورية !، لكن للأسف، سيستند "الزعم النقيض" هو الآخر إلى حجج تتمتع بنفس المصداقية ونفس الضرورة) (24)!.

ـ وعلى مستوى تناوله لقضية العلِّية، وتأثره بتشكيك هيوم فيها، نلحظ أول آثار ذلك في مشروعه لنقد العقل المحض (النظري)، وما يعرف بنقائض العقل المحض (25)، فالنقيضة الثالثة المشهورة لكانط: (ليست السببية وفقا لقوانين الطبيعة؛ السببية الوحيدة التي يمكن أن تستمد منها ظاهرات العالم بأسرها، ومن الضروري كي نفسرها أن نسلم بوجود علِّية بحُرِّيَّة (26) ) / ونقيضها (ليس ثمة من حرية، وكل ما يحدث في العالم يحدث فقط وفقا لقوانين طبيعية) (27)، والمقصود من قوله (علة حرة) أي علة ليست مسبوقة بقانون علية، فيكون علة غير معلولة (28)، والنقيضة التي تخالفها عنده أن وجود تلك العلة الحرة - غير المعلولة - يُدْخِل عدم الإحكام في الطبيعة !، (ويحطم وحدة التجربة التي تقتضي أن تترابط الظواهر فيما بينها، دون أية ثغرة، بعلاقة المقدمات والتوالي. فيجب إذن الاقتصار على الضرورة الطبيعية واستبعاد الحرية، التي تدخل الاضطراب في العالم وفي المعرفة)! (29).

ـ والجدير بالذكر هاهنا أن نشير إلى أن كانط الذي توصل إلى موقف ديالكتيكي وسيط قريب من اللا أدرية - كما تقدم - قد اعتبر وجود الله (العلة الحرة) ضرورة (30) أخلاقية (31)، لضمان حرية الإرادة، ومن ثمَّ صحة المسؤولية (32)، ولضمان تكامل الفضيلة والسعادة (33).

ـ والعجيب أن الحرية التي دفعت كانط إلى إثبات العلة الحرة، باعتبارها أمرًا ضروريًا - كما تقدم في نقد العقل المحض - يرجع كانط ويتناول الحرية نفسها باعتبارها مُصادرة هي الأخرى (34) !!

ـ ومن هنا (يمكن التحدث عن نوع من الازدواج في عقلية كانط، جانب عقلي صارم ملتزم بالبرهان العقلي والتجريبي الدقيق، وجانب أخلاقي يخلي مجالًا للأماني الإنسانية في ميدان الأخلاق)، و (يشعر بنوع من الحنين إلى الإبقاء على بعض المعاني الأساسية في الميتافيزيقا، وسعى لذلك جهده، لكنه لم يستطع الإبقاء عليها إلا عن طريق الأخلاق) (35).

ـ أما برتراند راسل (36) فلا نجده يبتعد كثيرًا عن تقريرات هيوم، بل لا يعدو كلامه عن العلِّية إلا صدى لصوت هيوم المنادي بكونها علاقة ذهنية لا حقيقة لها في الموضوعات الخارجية، ففي سياق نقده للاستناد إلى الخبرات الحسية في التفسير، يقول: (أنقتصر على خبراتنا الحسية وما تأتي به؟، فإذا لم يكن بين هذه الخبرات خبرة مباشرة بما يسمى (قوة) فلا داعي لافتراضها عند تفسير الطبيعة وظواهرها، إنها أحداث تتلاحق وتترابط مجموعات بمجموعات، فإذا اطرد حدوث مجموعة منها كان ذلك واحدًا من قوانين الطبيعة، فالأمر كله حوادث وارتباطها بالتجاور، ولا شيء غير ذلك في علمنا؛ إلا ما نتبرع به ظنًا ووهمًا.

فإذا اعترض علينا معترض بأن (القوة) الرابطة بين السبب ونتيجته هي مما يرد في خبراتنا؛ أجبناه بأنه يخلط بين ما (يخبره) وبين ما (يستدله).

إنه قد يرى الريح تقتلع الشجرة، فيظن أنه قد رأى بعينه (القوة) التي فعلت بها الريح ما فعلت، لكنه أحس الريح، وأحس الشجرة تقتلع، ثم (استدل) من عنده (قوة)؛ لأنه يميل بفطرته أن يسأل (لماذا)، على حين أن النظرة العلمية تسأل (كيف)، ولا تزيد على ذلك؛ إننا لا نلاحظ إلا أحداثًا في تتابعها المطرد، ومن اطراد التتابع تتألف القوانين الطبيعية، أما (لماذا) كانت هذه القوانين على نحو ما كانت؛ فشيء لا يأتي بين ما يأتينا عن طريق الخبرة الحسية.

ولو حاولنا تعليل القوانين بقولنا (لماذا) لاحتاج التعليل إلى تعليل، وهذا إلى ثالث، وهلم جرا، ونكون عندئذ كالهندي الذي سأل (لماذا) لا تسقط الأرض في الفضاء؟، وأجاب نفسه بقوله :لأنها تستند إلى فيل، ثم سأل مرة أخرى: ولماذا لا يسقط الفيل في الفضاء؟، وأجاب نفسه بقوله: لأنه بدوره يستند إلى سلحفاة، لكنه سأل نفسه: ولماذا لا تسقط السلحفاة في الفضاء؟، فأخذته الربكة، وقال: إنه ملَّ البحث الميتافيزيقي، ولا يرى المضي فيه) (37).

ـ ولعله من الحسن أن أشير إلى أن قضية العلة رغم ما هي عليه من البداهة والأولية - كما تقدم - فقد وجد شواهد من البوادر للكلام في شأنها في صدر الإسلام، ولكن بدافع مغاير تمامًا، ألا وهو التأكيد على مسألة خالقية الله تعالى، وتوحيده، وتنزيهه عن الشرك، مما حد ببعض الغلاة في هذا المفهوم إلى إنكار السببية جملة، والقول بالجبر، وهم الجهمية الأوائل، ثم وجد صدى هذا القول عند الأشعرية - من متوسطي الجبرية (38) - وقالوا إن الأسباب لا تؤثر في المسببات، وإن العلاقة بينهما اقتران كذلك (39)، لكن ينبغي أن يقال إن الأشعرية لم ينكروا السببية مطلقًا، وإنما أنكروا تأثير الأسباب في المسببات، واقتضاء حصول المسببات للأسباب.

ولا إشكال في كون هذا باطلًا بالعقل والحس، فإن (الناس يعلمون بحسّهم و عقلهم أنّ بعض الأشياء سبب لبعض، كما يعلمون أنّ الشبع يحصل بالأكل لا بالعدّ، ويحصل بأكل الطعام لا بأكل الحصى، وأنّ الماء سبب لحياة النبات والحيوان، كما قال الله: (وجعلنا من الماء كل شيء حيّ) (الأنبياء: ص 30) وأنّ الحيوان يروى بشرب الماء لا بالمشي، ومثل ذلك كثير) (40).

ولا شك أن الأشاعرة - وحتى الجهمية - ممَن نازعوا في تأثير الأسباب في المسببات، كانوا متفقين على القاعدة الكلية، وهي أن لكل معلول علة، ولكنهم حصروا تلك العلة في الخالق عز وجل، لشبهات عرضت لهم، هذا بخلاف من نازع في أصل مبدأ العلية ممن ذكرناه من الفلاسفة المتأخرين بأوروبا، والذين كانوا لا يؤمنون بالخالق، بصورة أو بأخرى.

* وقد أشار القرآن العظيم إلى مبدأ السببية، وأنها من أوضح الأدلة على وجود الله تعالى، في قوله عز شأنه {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } [الطور: 35]، فالاحتمال الأول: (خلقوا من غير شيء)، هو المقتضي عدم العلِّية، وقد عرفت أنه محال.

2 ـ العلِّية العشوائية ( عدم النظام ( الصدفة ) / المادية الضرورية ) :

وهذا هو المستوى الثاني من مخالفات الملحدين في السببية، إذ لا يعرف أن أحدًا أنكر العلِّية إنكارًا تامًا إلا هيوم - وفي درجة أقل منه ما ذكرناه من نقد كانط للإجراء السببي - والمستوى الثاني الذي نذكره هو فيما يتعلق بما تقتضيه العلِّية.

فالمذاهب الإلحادية تدور على القول بنشوء العالم إما على سبيل الصدفة، وإما على سبيل القانون الضروري.

* الصدفة :

ـ ليس المراد بالصدفة أن العالم نشأ من لا شيء، أو دون علة، ولكن المراد منها أن العالم قد وُجد نتيحة سلسلة من التفاعلات الطويلة، دون تنظيم أو تخطيط سابق، ويمثل ذلك بجلاء ما يقوله هكسلي (41) عن نشأة الكون: (لو جلست ستة من القردة على آلات كاتبة، وظلت تضرب على حروفها لملايين السنين فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير! فكذلك كان الكون الموجود الآن نتيجة لعمليات عمياء، ظلت تدور في المادة لبلايين السنين) (42)!!!.

ـ ويستحق هذا الهراء تعليقًا ساخرًا كتعليق كونكلين: (إنّ القول إن الحياة وجدت نتيجة حادث اتفاقي شبيه في مغزاه بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة انفجار صدفي يقع في مطبعة) (43)، بل إنه في حقيقة الأمر لا يعدو كونه (من قبيل اللغو المثير، بكل ما تحويه هذه الكلمة من معان) (44) على حد تعبير وحيد الدين خان.

ـ ورغم ظهور بطلان هذا القول وسخفه، إلا أنه مما يبطل القول بالمصادفة بهذا المفهوم ما يعرف بـ (برهان العناية) (45)، أو (برهان النظم)، وحاصله: أن العالم مُصمم بحيث يتلاءم مع حاجات الإنسان، فإن الإنسان حين يجوع، فإن في الطبيعة من المواد ما يسمح بتجاوز الجوع وسده، وكذا العطش، وكذا الجنس، ومثل ذلك التصميم العمدي المعتنى فيه بتكامل الوجود يستحيل أن يكون خبط عشواء.

يقول الدكتور فرانك ألن (46) عالم الطبيعة البيولوجية: (إن ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صورًا عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية) (47).

وكذلك يقول العالم كريسي موريسون (48): (إنّ جميع مقومات الحياة الحقيقية ما كان يمكن أن يوجد على كوكب واحد في وقت واحد بمحض المصادفة) (49).

ويستفيض المتخصصون في مجالات الفيزياء والكيمياء والفضاء في بيان أوجه تلك العناية، التي تصل في بعض الأحيان أن تخلف جزء كيميائي معين، أو زيادة طفيفة لحركة الأرض، أو مسافة الشمس، ونحو ذلك؛ تؤدي إلى نهاية الحياة على ظهر الأرض فورًا !

وأكتفي هنا بنقل كلام لموريسون، يقول: (إنّ حجم الكرة الأرضية وبُعدها عن الشمس، ودرجة حرارة الشمس وأشعتها الباعثة للحياة، وسمك قشرة الأرض وكمية الماء، ومقدار ثاني أوكسيد الكربون وحجم النتروجين وظهور الإنسان وبقاؤه على قيد الحياة، كل أولاء تدلّ على خروج النظام من الفوضى، وعلى التصميم والقصد، كما تدلّ على أنّه طبقًا للقوانين الحسابية الصارمة ما كان يمكن حدوث كل ذلك مصادفة في وقت واحد على كوكب واحد مرة في بليون مرة، «كان يمكن أن يحدث هكذا» ولكن لم يحدث هكذا بالتأكيد !

وحين تكون الحقائق هكذا قاطعة وحين نعترف - كما ينبغي لنا - بخواص عقولنا التي ليست مادية فهل في الإمكان أن نغفل البرهان، ونؤمن بمصادفة واحدة في بليون ونزعم أنّنا وكل ما عدانا، نتائج المصادفة.

لقد رأينا أنّ هناك ٩٩٩/٩٩٩/٩٩٩ فرصة ضد واحد، ضد الاعتقاد بأنّ جميع الأُمور تحدث مصادفة» (50) .

ـ كذلك من الأوجه الدالة على بطلان المصادفة بهذا المعنى البرهان الرياضي، يقول العالم الأمريكي الشهير كريسي موريسون: («لو تناولت عشر قطع، وكتبت عليها الأعداد من واحد إلى عشرة ثم رميتها في جيبك وخلطتها خلطًا جيدًا ثم حاولت أن تخرج منها الواحد إلى العاشر بالترتيب العددي بحيث تلقي كل قطعة في جيبك بعد تناولها مرة أُخرى.

فإمكان أن تتناول القطعة رقم (1) في المحاولة الأُولى هو واحد على عشرة، وإمكان أن تتناول القطعة رقم (١) و (٢) متتابعين هو بنسبة واحد على مائة، وفرصة سحب القطع التي عليها أرقام (١ و ٢ و ٣) متتالية هي بنسبة واحد على ألف، وفرصة سحب (١ و ٢ و ٣ و ٤) متوالية هي بنسبة واحد على عشرة آلاف، وهكذا حتى تصبح فرصة سحب القطع بترتيبها الأوّل من ١ إلى ١٠ هي بنسبة واحد من عشرة بلايين محاولة) (51).

* وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك الدليل صراحة، في غير ما آية، مثل: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) } [النبأ: 6-7]-إلى قوله- {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) } [النبأ: 16]، ومثل قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا (61) } [الفرقان 61] إلى قوله تعالى: {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) } [الفرقان 62]، ومثل قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) } [عبس: 24]، وقوله {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، وقوله {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3].

ومن الآيات الواضحات في ذلك في سورة الواقعة، قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: 57 - 59].

وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الواقعة: 62 - 74].

فكل تلك الآيات العظيمة من الأدلة القرآنية - وهي أدلة عقلية بحسب المحتوى - تتناول مسألة العناية، والنظام في الكون، وأن هذا دليل حاسم على أن الكون مخلوق لخالق حكيم عظيم.

* المادية :

ويراد بالمادية ذلك الاتجاه العام القائل بقدم المادة، وعدم خلقها أو حدوثها، وأن نشأة العالم نتيجة قانونها.

وذلك اتجاه قديم، وجدت آثاره في الفلسفة اليونانية القديمة، في الاتجاهات القائمة على عناصر العالم الأربعة (الماء والهواء والتراب والنار)، وأنها أصل الوجود، وقال (أنبادوقليس) - فيما يعرف بمدرسة الطبيعيين المتأخرين - بقدمها، وإن كل شيء يتكون من اتحادها وافتراقها (52).

واستمرت تلك الاتجاهات -على خلافات بينها- موجودة فيمَن يعرف بالبراهمة، والسمنية، كما يشيع في التراث العربي تسميتهم، وهي ديانات ومذاهب أسيوية، ولعله أشير إلى هذا الصنف من الناس في مثل قوله تعالى: { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] .

ثم صارت تسميتهم الشائعة في الوسط الإسلامي الدُّهرية، نسبة إلى الدهر، والقصد أنهم يقولون بقدم العالم وأنه لا مبدأ له (53)، قال ابن حزم: (لَا يَخْلُو الْعَالم من أحد وَجْهَيْن: إِمَّا أَن يكون لم يزل، أَو أَن يكون مُحدثا لم يكن ثمَّ كَانَ، فَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَنه لم يزل وهم الدهرية وَذهب سَائِر النَّاس إِلَى أَنه مُحدث) (54).

ثم استمر ذلك الاتجاه حتى آلت إلى ما يعرف بمدرسة الفلسفة الطبيعية في القرن الثامن عشر (55)، التي انتهت إلى المادية الضرورية المحضة متمثلة في مدرسة ماركس وأتباعه.

تقوم تلك المادية على أن المادة قديمة، ولها قوانينها، وتلك القوانين هي التي أوجدت كل الموجودات، وقوانين المادة تلك هي البديل عن الاختراع الإلهي، فالمادة هي الله، وقوانينها هي الإرادة الإلهية، بحسب ماركس مثلًا: (إن العزة الإلهية والهدف الإلهي هي الكلمة الكبيرة المستعملة اليوم لتشرح حركة التاريخ، والواقع أن هذه الكلمة لا تشرح شيئًا) (56).

ويقول كيلي وكوفالزون: (إن العلم إذ يكشف عن الصلات الطبيعية بين ظواهر الطبيعة؛ يطْرُد في تصوره الإله من الطبيعة، ويدحض خطأ المثالية، ويؤيد صحة النظرة المادية للعالم، والعلم يتفق مع المادية في بحثه عن الحقيقة في الحياة ذاتها، وفي الطبيعة، وهذا ما يدل على أن العلم الحقيقي هو ذو طابع مادي. إن العلم مادي بطبيعته وبجوهره، والمثالية غريبة عنه وعدوة له) (57)، ويرى دولباك (58) (أن المادة متحركة بذاتها، وأن كل شيء يفسر بالمادة والحركة، وأنهما أزليتان أبديتان، خاضعتان لقوانين ضرورية هي خصائصهما. فليس العالم متروكًا للصدفة، ولا مدبرًا بإله، وكل الأدلة على وجود الله منقوضة، ولا غائية في الطبيعة. ليست العين مصنوعة للرؤية، ولا القدم للمشي، ولكن المشي والرؤية نتيجتان لاجتماع أجزاء المادة. ولا نفس في الإنسان، ولكن الفكر وظيفة الدماغ، والفرق بين العقول نتيجة الفرق بين الأدمغة) (59).

ويتضاعف ذلك الغلو المادي في تصور أن المادة الصماء سابقة على العقل نفسه وكل آلاته وإدراكاته، فقد (وجدت الطبيعة ليس فقط قبل الناس، وإنما عمومًا قبل الكائنات الحية، وبالتالي مستقلة عن الإدراك، وهي أولية. أما الإدراك فلم يستطع التواجد قبل الطبيعة، فهو ثانوي) (60)!!، (فواضح أنهم يعتبرون المادة هي الأصل الذي انشقت منه كل الكائنات الحية، وغير الحية، بما في ذلك الإنسان، وأنشأ كل ما يحتوي عليه عالم الإنسان من أفكار ومشاعر.

أما المادة ذاتها فلم تخلق، إنما كانت موجودة، وستظل دائمًا موجودة، أي أنها أزلية أبدية موجودة بذاتها ومنشئة لغيرها.

وأما الله الأزلي الأبدي الخالق البارئ المصور المريد الفعال لما يريد؛ فهو عندهم خرافة ابتدعها خيال الإنسان. والحقيقة الوحيدة هي المادة، والوحدة التي تجمع الكون هي ماديته) (61).

ـ وهذا القول ليس بأفضل من نظرية المصادفة (عدم النظام)، بل هو هو في الحقيقة، لأنه قائم على أن للمادة قوانين، تلك القوانين هي التي أبدعت النظام، لكنه لم يتعرض بالبحث لمنشأ تلك القوانين أصلًا!.

ففي الوقت الذي قد يعد فيه المذهب المادي غلوًا في باب العلِّية، لأنه يرجع كل الوجود لقوانين صارمة طبيعية قسرية، وأنه يمثل التناقض مع الفكر الهيومي في التشكك في العلية أو موقف كانط المرتاب منها؛ إلا أنه بالفحص في مقومات هذا المذهب يبدو أنه قائم على علِّية غير معقولة!، لأن العلة التي تنتج معلولات تفوقها في الطبع والقوة لا يمكن أن تكون علة ولا أن يكون المعلول معلولها!، وسنشير إلى هذا فيما يتعلق بسنخية العلة.

فـ (المادة لا يمكن أن تكون مطلقا مبدأ حياة ولا مصدر، لأن ما كان خاليًا من شيء قوة وفعلًا لا يمكنه مطلقًا أن يكون مصدرًا له، والمادة خالية من الحياة بالقوة والفعل، فإذًا لا يمكن أن تكون مصدرًا للحياة. أما خلوها من الحياة فعلًا فبالمشاهدة، لأن كلًا يرى أن المادة عرية منها، وإلا لاقتضى أن تحرك نفسها فعلًا بأن تنمو أو تحس أو تعقل، وذلك ظاهر البطلان ظهور الشمس في رابعة النهار. وأما خلوها منها بالقوة؛ فلأنها لو قدرت أن تبرز الحياة ذات يوم لقدرت أن تبرزها الآن؛ لأن طبائع الأشياء ثابتة لا تتغير، فكما كانت من قبل فهي الآن، ولا يمكن أن توجد في وقت وتضمحل في آخر، وذلك مقرر في مبادئ العلوم الطبيعية الثابتة، فما شوهد قط ولا يشاهد أدنى أثر للحياة في المادة؛ فإذا ثبت الافتقار إلى موجد هو مسبب الأسباب) (62).

و (الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية، قد باءت بخذلان وفشل ذريعين.

ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع بعض الذرات والجزيئات عن طرق المصادفة، يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية. وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة، فهذا شأنه وحده. ولكنه إذ يفعل ذلك فإنما يسلم بأمر أشد إعجاز وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله الذي خلق هذه الأشياء ودبرها) (63) ، بحسب رسل تشارلز آرنست (64).

3 ـ الدور :

فضلا عن سخف تصور (الصدفة) لكونه يخالف مبدأ (السببية) الضروري، وكذلك القول بالقانون الطبيعي، لمخالفته مبدأ السببية كذلك من وجه آخر كما تقدم؛ فإن هذه الأقوال تحتوى على تناقض آخر ذاتي!، إذ إنها تجعل نفس العالم خالقًا ومخلوقًا في وقت واحد، وهذا ما يسمى بالدور (65)، وهو باطل بالضرورة.

(ويقول عالم الطبيعة الأمريكي جورج إيرل ديفيس: (لو كان يمكن للكون أن يخلق نفسه فإن معنى ذلك أنه يتمتع بأوصاف الخالق، وفي هذه الحال سنضطر أن نؤمن بأن الكون هو الإله، وهكذا ننتهي إلى التسليم بوجود (الإله) ولكن إلهنا هذا سوف يكون عجيباً، إلهاً غيبياً ومادياً في آن واحد! إنني أفضل أن أؤمن بذلك الإله الذي خلق العالم المادي، وهو ليس بجزء من هذا الكون، بل هو حاكمه ومديره ومدبره، بدلاً من أن تبنى مثل هذه الخزعبلات) (66).

* وقد أشار القرآن العظيم لذلك الدليل في قوله تعالى {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]، فالاحتمال الثاني: (أم هم الخالقون) يقتضي الدور، وهو باطل.

4 ـ عدم التناسب ( السِّنْخِية ) :

تتضمن مذاهب الملاحدة فيما يتعلق بمبدأ العالم مغالطة عقلية صريحة أخرى، وهي مخالفة قاعدة تناسب العلة ( أو سنخية (67) العلِّية) (68).

فذلك الكون المخلوق على هذا الوجه من الحياة، والنظام، والعقل، والتدبير، لا يكون صادرًا عن قانون ضروري مجرد، أو مادة صماء، أو صدفة عشوائية، فهذا كمن يتصور أن جرثومة مجهرية، أو حيوانًا أعجمًا، أو طفلًا رضيعًا؛ يبرمج حاسوبًا ذكيًا، أو يصنع حفارًا جبارًا للتنقيب عن المعادن!، ولو ادُّعِيَ هذا في الواقع المشاهد لرُمِيَ بالجنون المطبق، فكيف بمَن يدعيه في الكون جملة أنه نشأ دفعة من العدم، فيجعل استمداد الوجود من العدم، أو يقول بقدم المادة، وأنها لم تسبق بعدم، لكنها تطورت وصممت كل ما في الكون من مخلوقات!

قال القاضي الباقلاني: (ويدل على أنه عالم: صدور الأفعال الحكيمة المتقنة الواقعة على أحسن ترتيب ونظام وإحكام وإتقان، وذلك لا يحصل إلا من عالم بها. ومن جوَّز صدور خط معلوم منظوم مرتب من غير عالم بالخطأ؛ كان عن المعقول خارجًا، وفي عمل الجهل والجًا!

ويدل على صحة ذلك أيضا: أنه حي، قادر، عالم؛ أنا لو جوزنا صدور أفعال محكمة متقنة من غير حي، عالم، قادر؛ لم نَدْرِ: لعل جميع ما يظهر لنا من أفعال الناس من الكتابة والصناعة وسائر الصنائع لعلها لنا منهم وهم أموات عجزة جهلة، ولعل لنا في هذه المسألة المناظر عليها ميت عاجز) (69)!

كما يجدر أن السنخية لا تقتضي أن تكون العلة من جنس المعلول مطلقًا (70)، أو أن تشابهه في كل صفاته، أو تماثله من كل وجه، لكن القدر المتحقق منها يجب أن يكون في إثبات التناسب، والإعطاء عن وجدان لا عن عدم، وهذا يظهر في حديث خلق آدم على صورة الله تعالى (71)، بل لو سلم أن السنخية تقتضي المشابهة في الجنس - وهو ليس بلازم - فتخصيص الباري تعالى بعدم مشابهة خلقه وتنزيهه عن كل نقص ثابت بأدلة العقل والنقل على سبيل القطع.كما أن السنخية لا تخالف استحقاق الصانع رتبة أعلى من المصنوع، بل ثبت بالعقل والنقل أن كل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه اتصف به المخلوق فوصف خالقه به أولى على ما هو معروف في مظانه (72).

قال شيخ الإسلام: (وهكذا كل ما في المخلوقات من قوة وشدة تدل على أن الله أقوى وأشد، وما فيها من علم يدل على أن الله أعلم، وما فيها من علم وحياة يدل على أن الله أولى بالعلم والحياة.

وهذه طريقة يقر بها عامة العقلاء، حتى الفلاسفة يقولون: كل كمال في المعلول فهو من العلة) (73) .

* ويستنبط بعضهم (74) السنخية من القرآن الكريم، من قوله تعالى: { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84]، وفيه بحث.

ومن قوله: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35]، لأنها دالة أن فاقد الشيء لا يعطيه، وفاقد الهداية لا يمكنه الهداية، وهذا أقرب مما قبله.
طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى