مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

* الرشوة والضرورة - الرأي العام وأهميته - الأسرة والانتصارات

اذهب الى الأسفل

* الرشوة والضرورة - الرأي العام وأهميته - الأسرة والانتصارات  Empty * الرشوة والضرورة - الرأي العام وأهميته - الأسرة والانتصارات

مُساهمة  طارق فتحي الأحد يناير 23, 2011 4:26 pm

الرشوة والضرورة
اعداد : طارق فتحي
الحمد لله له ما في السماوات والأرض (وله الدين واصبا أفغير الله تتقون)1 ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبد الله ورسوله جاء بالهدى ودين الحق ليكون للعالمين نذيرا.. عباد الله اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون أما بعد :
فان أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن من كلام ربنا عز وجل قولَه (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا)2.
تنتشر بين الناس مقولة غريبة باطلة ، وهي أنهم لم يعودوا يعرفون الحق من الباطل والخير من الشر والحلال من الحرام ، وهذه طامة كبرى تحتاج إلى معالجة جذرية.
إن هذا المنطق مرفوض ابتداء فالله تعالى يقول : (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين)3 أي أن التكذيب للحق والإعراض عن القرآن إنما حصل بسبب جهلهم وفوات الفهم الصحيح ؛ لأنهم لو علموا الحقائق لما وقع التناقض فيهم ، وهذه حال الذين من قبلهم كذبوا بآيات الرسل قبل التدبر في معانيها فكان ذلك سببا لهلاكهم ، وهي عاقبة مستمرة لكل معرض جهول ، والحق أبلج لا يخفى على أحد ، ولكن المشكلة تكمن في نقطتين هامتين : الأولى ضرورة معرفة الفكرة الصحيحة ولو لم يقدر الإنسان على فعلها ، والأصل أن لا يفترق الفكر عن العمل ولا العقيدة عن السلوك ولكن الجاهلية المنحرفة توقع الناس في خبلها وتعمِّي الأمور ؛ حتى يضيع الحق كله ويصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا. لنأخذ مثلا موضوع الرشوة ؛ هل الرشوة حلال أم حرام؟ لا يختلف اثنان من أمة لا إله إلا الله على حرمتها وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : (لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم)4 ؛ فإذا فسد مجتمع من المجتمعات فأصبحت الأمور لا تقضى إلا بالرشاوى فهل تصبح الرشوة حلالا؟ اللهم لا ؛ فالرشوة كما قال الإمام الذهبي :كبيرة ، والعلامة المناوي في فيض القدير يقول عن الرشوة ما مؤداه : إنما هي خصلة نشأت من اليهود المستحقين للعنة ؛ فإذا سرت إلى أهل الإسلام استحقوا من اللعن ما استحقه اليهود.
فالرشوة في ضمير المسلم حرام حرام دائما أبدا ؛ لا تختلط عليه الأمور ولا يلتبس معه الحق بالباطل ولا يستسهلها ولا يبررها ولا يقبلها ؛ فتبقى لها في قلبه رهبة وفي نفسه نفور ، ولكن ما الحال إن وجد في ظرف اضطر فيه إليها اضطرارا كأن وقع بين يدي ظالم لا يعطيه حقه إلا بالرشوة مثلا؟ هل يفقد إحساسه بلعنتها و يفقد حساسيته الإيمانية بخطرها على المجتمع كله؟ اللهم لا.
إن الضابط الشرعي يقوده فيعلم أولا : أنه لا يجوز له أن يبادر إلى فتح باب الرشوة في أي ميدان كيلا يسن سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
ثانيا: أن يفعلها اضطرارا لا اختيارا ؛ فتبقى في حسه إثما وحراما يقارفه مضطرا ولا يكون لها تخريب في نفسه كمن فعلها استباحة ورضا مع تنبهه إلى أن الضرورة تقدر بقدرها.
ثالثا: أن يحاول ما استطاع الخروج من شبهة الرشوة ؛ كمثل من علقت له قضية في مكان وطال العهد بها فسأل وفتش فقيل له هناك معلوم يجب أن تدفعه فذهب إلى الذي يأخذ المعلوم فقال له : ما الذي يحملك على أخذ المال من دون حقه ومن دون رضا أصحابه ؛ فشكا الرجل وبكى وتعلل بأولاد سبعة يعولهم والمرتب لا يكفي والغلاء شديد ؛ فقال صاحب القضية : اسمع يا أخي الرشوة حرام ، والمال الحرام لا بركة فيه وكم رأينا من جمع الملايين من دون حق فرأينا عقوبته في الدنيا قبل الآخرة : من ولد يصيبه السرطان أو زوجة تشل أو حياة كلها نكد وشقاء ؛ فضلا عن احتقار الناس له ولعنهم له سرا وعلنا ؛ فطأطأ الرجل رأسه وتذكر قروشا حلالا قليلة كان يدسها في جيبه يوما تغنيه عن الآلاف من الحرام ، ثم قال : ولكن ما الحل؟ ووضعي كذا وكذا؟ فقال صاحب القضية : إن كنت مضطرا فاسأل الناس العون من دون إكراه ، والمساعدة من دون تحكم في أمورهم ، وبقدر حاجتك الفعلية فإن ابن آدم لا يملأ عينه إلا التراب ، ومد يده فواساه ببعض المال قائلا : هذا المبلغ أدفعه إليك مساعدة أخ لأخيه لا رشوة حراما لا أرضاها لك أهوي بها في النار معك ؛ فكادت الدمعة تخرج من عين الرجل. إن هذا الأمر أقل ما يجب في حال الاضطرار ، وهو ينفع مع المستويات الدنيا ممن تنخر في صفوفهم الرشى وفيهم بقايا فطرة ؛ أما المستويات الأعلى فننتقل معها إلى :
رابعا: وهو أنه لا يجوز بحال من الأحوال دفع رشوة لأخذ حق الآخرين ، فما توصل به إلى إذهاب حق أو تمشية باطل فحرمته شديدة ، كمن يأتي على سبيل المثال إلى جمعية سكنية يريد التسجيل فيها فلا يجد شاغرا ؛ فيستغل سفر عضو مكتتب منها استحق دفع قسط له ، فيرشي أحدهم كي لا يرسل له إعلاما إلا بوقت متأخر لا يلحق معه التسديد فيذهب حقه في الاكتتاب فيأتي الراشي الملعون فيأخذ بيته وهذا من الحرام المخيف ؛ أما من اضطر إلى دفع الرشوة لأخذ حقه ، وهو لا يُعطاه إلا بالدفع ؛ فهنا يقع الإثم على الآخذ لا على الدافع لأنه لا يستطيع أخذ حقه أو دفع الظلم عنه إلا بما فرضه الظلمة المرتشون الملعونون ؛ فهو عند الله مضطر لم يقصد الحرام ولا له إليه رغبة وهم آثمون ملعونون (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)5
خامسا: لقد جاءت السنة بلعن الراشي والمرتشي فلم لا تطبق هذه السنة كلما اضطرك أحد إلى رشوته ليبقى قلبك على تمييز ووضوح فإن فعلت كل هذا أتقول لي : إن الحق لم يعد يعرف من الباطل والتبست الأمور والحلال لا يعرف من الحرام. إن وضع الإنسان المسلم في أي وسط فيه انحرافات وضع حرج فعلا ولكنه لا ينسيه الحرام ولا يرديه في المعصية ولا يزجه في الكبائر ، وهذا الأمر في غاية الأهمية فان من يضطر إلى أمر يفعله اضطرارا فسينفك عنه أول ما ترتفع عنه الضرورة ولو كان تحت وطأتها سنين طوالا ، أما من استسهلها ثم رضي بها ثم مات إنكاره لها فلو ذهب كل سبب يغذي الحرام لبقي يفعل الحرام لأنه أضحى جرثومة خبيثة ما دواؤها إلا الاستئصال والإحراق ، وأشبه لك أمور المعاصي والحرام بقصة طبيب فطن حاذق ضاع مرة في مجاهل بلاد ما امتدت إليها يد العلم والحضارة يوما وفيها قبائل متوحشة بدائية ليس له مع علمه وطبه موضع بينها ؛ يعقمون الجروح بمياه الجداول الآسنة ويذهبون الألم بالضرب الشديد ، ويدفعون وساوس المريض النفسي بجمر يطفئونه في جسده ، فلو مكث هذا الطبيب بينهم عقودا من الزمان هل تتغير قناعته بالعلم الذي أكرمه الله به ، وهل يحتقر طبه واختصاصه وهل يقل حرصه عليه ؛ أم يكون كل يوم له بينهم شاهد جديد على أهمية تخليص الحياة من مشعوذ القبيلة وكاهنها وساحرها الذين يستعبدون الناس ، ويجهلونهم ويلقون بهم في المهالك ادعاء للشفاء وهم أسباب التلف والبلاء.
وكذلك المؤمن.. إن أحاط به المنكر يزداد تعرفا عليه ويدرك ضرورة إزالته من الحياة ، ويسافر إلى ديار الغرب ويرى الإباحية الجنسية فيوقن برحمة الإسلام وسموه وعظمته ويأخذونه مع عمار بن ياسر فيعذب حتى ينطق بكلمة الكفر فتخرج من لسانه اضطرارا وكل ذرة في كيانه تقول مع بلال : أحد أحد ، ويبتلى بالظلم أو الرشوة أو أكل الأموال من حوله فلا يجعله ذلك أحد دعائمها ولا يألفها قلبه ولا يرتضيها سلوكه وينظر في الشرق والغرب فيرى الشعوب تئن من الظلم وأكثر كبارها يبتلعون ويبتلعون ، وأممهم تحترق ؛ فيعلم أن أوخم العواقب إنما بدأت من أصغر حرام.. فتنفر نفسه من الحرام كله ومن الظلم كله ومن الفساد كله وان أجبر عليه ألف مرة ومرة.
فإن أدرك ذلك نظر إلى قرآنه تفكرا وتدبرا فعلم النقطة الثانية وهي أن من وجوه إعجازه فضحه الشمولي لأسباب الفساد والكفر والنفاق فمن علمها لم يخدعه أحد يوما ؛ فإن الغافل أو الجاهل إنما يؤتى لعدم معرفته بأن الفساد يتخذ شكلا نفاقيا في الحياة يدجل فيه على الناس فتختلط الأمور عليهم وصدق تعالى (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين)6 ولقد صرف الله تعالى في هذا القرآن للناس من كل مثل ؛كيلا يضيعوا ، وكما تركب الصورة المدهشة من آلاف القطع الصغيرة التي يسمونها الـ (puzzle) فكذلك فساد الأرض كله ينظر الناس إليه من خلال القطع الصغيرة فلا يحسون بخطره فإذا اجتمعت في فكرهم و أمام أنظارهم القطع بان الفساد صورة واحدة بشعة ؛ لو عرفها المؤمن لهان عليه دمه وماله وأهله وولده في سبيل دفع أذاها عن الحياة كلها ، والتفصيل في الموضوع لا تحتمله الخطبة وإنما نشير إليه إشارة ؛ فمن وجوه الإعجاز القرآني فضح النفسية النفاقية على كافة المستويات بدءا من فرعون موسى (حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين)7 ، وهي نفسية الطغاة فانهم يظنون أن الإيمان شيء يظهرونه يوافقون به ما يهوى الناس ، والسياق القرآني يظهر لنا كيف أن فرعون لم يقل : لا إله إلا الله بل قال : (لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) أي أنه حتى في لحظات الغرق ظن أن النفاق لقومه سينجيه ؛ فماداموا مسلمين لله قال: وأنا من المسلمين ، ولو كانوا شعبا آخر لقال لا إله إلا الذين تؤمنون به ، وأنا على دينكم (لا اعتقادا قلبيا بل نفاقا لسانيا للنجاة) فلو كانوا مجوسا لقال انه مجوسي ولو كانوا عباد أبقار أو أوثان أو أصنام أو نيران لألقى إليهم بما يوهمهم معه أنه على دينهم. ولعل دولة النفاق الكبرى الولايات المتحدة تتبع خطى فرعون فهي ساعية في خطة خبيثة لاستئصال كل مد إسلامي في بلاد المسلمين بأمكر الطرق ، ولكنها عندما اصطدمت بالسياسة الفرنسية في الجزائر والتي تعتمد على المواجهة المباشرة ، ورأت أن جبهة الإنقاذ مازالت تتحرك ؛ ألقت حبالها وعصيها في الساحة فقالت: أن جبهة الإنقاذ الإسلامية ليست إرهابية ، وليس السبب حبا بالإسلام ولا بالجبهة ، ومن يتابعون الأمور يعلمون أن الجزائر في خريطة السياسة الدولية تحت الهيمنة الفرنسية ، والولايات المتحدة تريد أن تمتد إليها وتحتويها بطرقها ، والسياسة الأوربية عموما سياسة صدام مباشر أما سياسة أميركا فهي سياسة تطويق واستيعاب طويل ابتداء ثم التحطيم القاسي انتهاء ، وما استطاعت أن تتسلل مباشرة إلى الجزائر ثم رأت أن جبهة الإنقاذ قد صمدت وأن السياسة الفرنسية لم تفلح فأتت تحاول أن تدخل بمنطق فرعون توهم الإسلاميين أنها تتفهم قضيتهم وتشهد بعدالتهم ، والأمور كلها حرب نفوذ واقتصاد وسياسة وبترول وغاز وكلا الدولتين لا تهتمان بإسلام ولا إيمان ولا عدل ولا ظلم ، وبالبارحة كانوا يقيمون الدنيا ويقعدونها من أجل حقوق الإنسان في الصين ثم أعلن فرعونهم الأكبر لما رأى أن الميزان التجاري لن يكون لصالح أميركا لو تمسكت بحقوق الإنسان فلحسها كلها دفعة واحدة ؛ وفي المواجهة لأهل النفاق وأحابيلهم يشير القرآن الكريم إلى أمر في غاية الأهمية وهو قوة الرأي العام : (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه)8 فهو لا يخشى الله فيهزأ من دعاء موسى لربه ولكنه يخشى الرأي العام : (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)9 فهل كان فرعون منتظرا رأي القوم حتى يقتل نبي الله! إنه ككل صاحب باطل يعلم نفسه تماما وما هو عليه فلا يريد أن يتصدى للأمر مباشرة بل أراد أن يظهر أن قتل موسى مطلب شعبي حرصا على الناس من أن يبدل موسى دينهم أو أن يفسدهم وفي هذه الآية عبرة وأي عبرة ؛ فإن لصاحب الحق مقالا ومادام الناس يتكاتفون على الحق ولو بأعينهم إن لم تستطع ألسنتهم وأيديهم فإن الظالم يبقى أبدا يحسب لهم ألف حساب وحساب لأن التاريخ يعلمنا أن الطغاة والظالمين ما قتلوا نبيا ولا آذوا مصلحا إلا كان ذلك سبب انتشار دعوته وإسفينا يدق في نعوشهم فهم يتحرزون أبدا من مواجهة الناس ، وكلمة حق واحدة ترهب ألف ظالم ومتسلط ، ويكفي من الأمثلة المعاصرة أن حرب فيتنام قد أجبرت الولايات المتحدة على الانسحاب منها مهزومة ذليلة لما أصبح الرأي العام الأميركي ضدها ولو بقي نائما لبقي طغاتهم يحاربون ويدفعون بالجنود إلى ما لا يعلمه إلا الله ، أما في بلاد المسلمين المساكين فكانوا قد قتلوا الرأي العام قبل حرب الخليج فلم تبق إلا أصوات منفردة خسرت الجولة تكتيكيا ، ولكنها استراتيجيا كسبت كسبا ربانيا بفضح كل من تآمر على بلاد المسلمين ؛ كل من أطفأ الصحوة الإسلامية في بلاده ؛كل من أذل العلماء بالضغط لينتزع الفتاوى الباطلة ؛ كل من ينهب الأمم باسم التسلح والدفاع فلما أتت ساعة المعركة رأينا أكثر من ثلاثين دولة فاجرة تنقض علينا لا دفاعا عن بلد مجتاح ولا كرامة ضائعة بل صيانة لنفوذ واقتصاد ونفط. إن العالم الإسلامي في ضعف شديد ولكن الساحة فضحت الكل فلم تبق إلا كلمة الإسلام تحن إليها شعوب المسلمين ولا ترى الخلاص إلا بها بعد أن أصبح من التزامات السلام مع اليهود الكفرة أن لا تذكر كلمة الجهاد أبدا ؛ أما (إسرائيل) فلم يفرض عليها تدمير سلاحها النووي الرهيب ولم يسألها أحد عن صفقة الطائرات المتطورة جدا البالغة ألفي مليون دولار التي عقدتها قبل أسبوع ، وإذا فشت الرشوة في أية أمة على وجه الأرض فأي شيء لا يمكن شراؤه فيها.

الرأي العام وأهميته
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين)1، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)2، (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين * بل الله مولاكم وهو خير الناصرين)3.
أما بعد فإن كتاب الله تعالى حبل الله والنور المبين والشفاء النافع ؛ عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه لا يزيغ فَيُسْـتـَعتَبُ ولا يَعوَجُ فَـيُقوَّم ولا تنقضي عجائبه ولا يَخْلُقُ من كثرة الرد، وقد أشار تعالى إلى حقيقة بالغة الأهمية ضمنها في الآية السادسة والعشرين من سورة غافر (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدِّل دينكم أو أن يُظهر في الأرض الفساد)4؛ فرعون وصل إلى درجة أن قال للناس: (أنا ربكم الأعلى)5، بل قال لهم ( يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري)6، فلماذا يقول للناس الذين استعبدهم (ذروني أقتل موسى) لماذا يأخذ إذنهم؟ وقد كفر كفراً ما سبقه به أحد من العالمين ؛ الطغاة دائماً لا يؤمنون بالله ولا يخافونه! فلماذا يخافون الأمة ويطلبون إذنها فيما يريدون فعله ؛ هذه القضية عقدة يتقنها غير المسلمين كثيراً ، وأكثر المسلمين ما خطرت لهم على بال ، وهي سلاح ماض ؛ حتى فرعون الذي قال لهامان: (فاجعل لي صرحاً لعلي أطَّلِعُ إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين)7؛ حتى فرعون يخشاها ويَحسِبُ لها ألف حساب الأمر ببساطة هو قوة الرأي العام ؛ ما قرأت في كل التفاسير التي وصلت إلي من يتحدث عنها على أهميتها البالغة 8.
لماذا أذكرها اليوم: لأن الأسرة المسلمة في معناها الواسع الكبير الممتد من المحيط إلى المحيط ... الأسرة المسلمة الواحدة التي تشتبك دموعها في ماليزيا مع دمائها في البوسنة والتي تتلاقى أرواحها في الصومال والسودان مع أجسادها في الطاجيك وكشمير والشاشان ... الأسرة المسلمة تحتاج إلى فهم آليات الحركة في جهاد الحياة في وجه التآمر العالمي والنظام الجديد والصليبية الحاقدة والصهيونية المتكالبة (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يَرُدُّوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون * إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم)9.
الدول الإسلامية غالبها مثل تلميذ مؤدب وديع يجلس في الصف بأمر أستاذه حتى إذا خرج الأستاذ من الصف وانطلق الرفاق بقي هذا التلميذ في مقعده غباءً أو عمالةً ؛ كسلاً أو خوفاً ، وعندما يبدأ التلميذ (المجتهد في طاعة أستاذه) بالحركة والبحث والتعلم لينطلق بعدها من أسر الأستاذ تُسقط فوقه آليات مدروسة تزيده خبالاً ويقال له : أنت عاقل لا ينبغي لك ولا تستطيع الفهم وحدك ، ولو برع كل أندادك ؛ إلى أن يُصَدِّقَ ذلك وتصبح عنده قناعات داخلية بالموضوع لاستمرار التركيز حوله ؛ بل يصل الأمر إلى أن يبرر له تعوده المخجل بغطاء شرعي (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين)10.
فيا دول المسلمين : أوفي بما طُلبَ منك ؛ ابقِ ملتزمة بقرارات مجلس الإرهاب العالمي للشعوب المسلمة ؛ لا تتجاوزي أوامر هيئة الأمم المتحدة على الظلم ؛ أطيعي كبار مجرميها بدءاً من الصليبي الحقود ، ومروراً بكل المتواطئين معه من قادة الدول الغربية ، وإياك يا دول المسلمين أن تدعمي حركة المقاومة الإسلامية حماسَ فأنت إذاً إرهابية ؛ إياك واحتضان منظمة الجهاد الإسلامي وإلا فأنت مجرمة ؛ إياك وتأييد صمود المقاومة الإسلامية في الجنوب وعلى رأسها حزب الله وإلا فأنت متطرفة خطيرة ، وإياك يا دول المسلمين أن تشعري بالجراح الغائرة ؛ بالمذابح المستمرة ؛ بالإبادة الوحشية في (ياتسي وسربرنيتشا)11 وتطلبي ثأرك ؛ كي لا تكوني أصولية متعصبة ، وإياك أن تجيشي مشاعر الولاء للإسلام ؛ إياك أن تنفضي عن المسلمين غبار الضعف والإحساس بالإذلال ... إياك أن تدعيهم يفيقون من سبات الرعب والخوف والهلع والجبن والطاعة العمياء للنظام العالمي المخرب الجديد. إياك أن ينتبه المسلمون فيلبسوا أكفانهم ويعودَ شعارهم :اطلبوا الموت توهب لكم الحياة ، وإياك ثم إياك أن يصل إلى أنوفهم شميم رائحة الدم القاني والنار والبارود. إياك أن تهزهم سيول الدماء النازفة من الأطفال الرضع ... من الشيوخ ... من المسلمات المغتصبات ومن الأبرياء والمدنيين والعزل.
إياك أن يصل إلى سمعهم أنين السجناء وصوت السياط المنقضة على أجساد المسلمين والقصف والنسف والهدم والتدمير، إياك أن تزداد قناعتهم بالإسلام والنظام الإسلامي والدولة الإسلامية والأمة المسلمة ويتبينوا عورات كل المبادئ المهلهلة التي أُشغلوا بها من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ... وإلا فإن هذا سيغضب كثيراً كثيراً المتربعين فوق رقاب شعوب الأرض المسكينة في واشنطن وموسكو ولندن وباريس.
(وقال فرعون ذروني أقتل موسى) : الرأي العام سلاح خطير جداً وليس للطغاة فيه خيار فهو نصل حادٌ في خواصرهم ؛ إن سمحوا به طاروا وإن قمعوه نُسِفوا (إن كانت الشعوب تعرف قيمة الرأي العام وتتقن استخدامه) الطغاة يحاولون إمساك العصا في المنتصف ولكن هيهات (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمَغُهُ فإذا هو زاهق)12.
لقد بكى الناس وهم يرون على الشاشات شهامة شعب مسلم يتبرع لأخوة العقيدة والدين (في البوسنة) فحيا الله أهل الوفاء والبذل والإخلاص ؛ بكى الناس وهم يروون عاجزاً مسناً أتى يمشي على يديه ليتبرع بدراهم هي كل ما يملكه ، وبكوا عندما رأوا طفلاً صغيراً ما وُهِبَ مالاً بل قلباً حياً وفطرة صادقة وبراءة مرفرفة ؛ فأتى يتبرع برضاعة حليب واحدة هي كل ما يطيقه علها تنقذ أخاً له رضيعاً من حصار وحوش الصرب ، وبكى الناس وأكبروا أختاً وأخاً ألغوا حفلة زفافهم وتبرعوا بها للمشردين والمضطهدين والمخرجين من ديارهم وجزى الله خيراً كل من أنفق قليلاً أو كثيراً ، وصدق الهادي صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثَلُ الجسد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)13، لكن الأمر الخطير في تلك العملية التي استجاب الناس لها بصدق وإيمان أن المخطِطُ لها كان يبتغي غايات أخرى: كان يريد تحويل الرأي العام عن رؤية الدرك الذي نزل إليه تملقاً لليهود ... وإرضاءً للصهاينة ؛ كان الأمر عملية إلهاء للرأي العام بخبث من فتح ذراعيه لليهود وأوسعهم ترحيباً وتقبيلاً ؛ بطريقة لا الأعراف الدبلوماسية ولا المشاعر الوطنية ولا الأخلاق الإيمانية تسمح بها ، والمفاوضات بين الدول في كل الأوقات أمور قد لا يكون هناك مفر منها ولكن فرق بين مفاوض برجولةٍ ومستسلمٍ بخيانة!! بين أمل أمة ورافع راية وحريصٍ على كرامة وبين بائع أمة ومنكس راية ومتهالكٍ بصَغارٍ مذهل على سادة له أنذال زَلِق لسانه عندما قال إن هذا هو حُلُم جده منذ خمسين عاما!! وتبت يدا أبي رغال14 ما يُغني عنه حسب ولا نسب ، وصدق صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول: (إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي الناس كلهم بنو آدم وآدم خلق من تراب)15.
المسألة تجري كما يلي: خيانةٌ فاضحة تؤجج المشاعر وتحيي الشعور بضرورة حمل راية الإسلام من جديد ؛ فرعون يخاف وشعبه لن يدعه يقتل موسى ؛ يحاول فرعون قتل كل محب لموسى ؛ يمْكُرُ الله به ويَدَعُه يربي في قصره وحِجره من يحب موسى ويفدي موسى ويموت من أجل موسى ، وتجييش مشاعر التعاطف مع الأخوة في البوسنة والهرسك قُصد لها أن تغطي القبائح وربما غطت قليلاً في شعوب طيبة القلب سريعة المشاركة والانفعال ؛ لكنها على المدى البعيد قصر فرعون الذي يحمي موسى من فرعون نفسه (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)16.
في رياض الصالحين وفي باب الصبر قصة الغلام المؤمن مع الملك المُؤلهِ نفسه ؛ حيث كل أساليبه في الإيذاء والقهر لم تفد ، وفي النهاية انقلب السحر على صاحبه بموقف للغلام المؤمن استنفر فيه الرأي العام فسقط الطاغية. دم شهيد واحد قلب الكفة وآمن الناس ، وليس المهم من يحكم ؛ المهم اعتقاد الناس فيه ومن تعتقد الأمة عدم شرعيته فسيسقط ولو حكم ألف عام وعام ، ويشير الحديث الشريف إلى أن الطاغية (أمر بالأخاديد وأُضرمت فيها النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها من أجله فقال لها الغلام:يا أمَّهْ اصبري فإنك على الحق)17.
فقد الطاغية شرعيته مثلما حصل للشاه إيران البائد ؛ ما نفعه (سافاكه)18 ولا مخابراته ؛ تقوض عرشه تحت أقدام من دأب على إذلالهم في دينهم وعقيدتهم وهو يظن أنه يبني ، وفعلاً هو كان يبني أسباب دمار ملكه بيديه.
الشعب أعظم بطشاً يوم صحوته من قاتليه وأدهى من دواهيه
يغفو لكي تخدع الطغيـان غفوته وكي يُجَنَّ جنوناً من مخازيه
واليوم قد شب عن طوقٍ وأنضجه دمٌ وهزتـه في عنف معانيه
رأى الطغـاة بأن الخوف يقتـله وفاتهم أن عنف الحقد يحييه 19
كل الطغاة يتظاهرون بالحرص على مصالح الشعوب ودينها ولو كان الطغاة من دون عقيدة ولا دين (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)20، دينكم يا مسلمون دين سلم وسلام ؛ دين سكينة وصمت وهدوء. إن طلبتم رفع حصار الأسلحة عن البوسنة فأنتم توقدون نيران حربٍ طاحنة وإن استنفرتم إخوانكم للمساعدة فأنتم لا إنسانيون ستؤذون حملان الصرب الوديعة ، وإن طلبتم انسحاب القوات الدولية الجبانة فأنتم لا تحترمون الشرعية الدولية وإن صرختم زيادة عن اللزوم فأنتم فعلاً مزعجون مشاكسون ... لا تدعون المجرمين ينامون بعد أن اتفقوا على إسلامكم ليد الجزار ، وإياكم ثم إياكم ثم إياكم أن تتحدثوا عن الجهاد وإلا فإن التطرف والإرهاب والأصولية والتشدد سيصيبكم بشرره ؛ لقد فصلنا لكم يا مسلمون جهاداً محصوراً في الكتب مُقَّلمُ الأظافر ؛ محاصر الأركان ؛ جهادٌ تستحيون من ذكره إذا ذكر وتجبنون عن حمله إذا وقع النفير.
ودينكم يا مسلمون دين سماحة ورحمة فإياكم ثم إياكم ثم إياكم أن تفكروا باستقلال بلادكم وتميز رايتكم وحرام عليكم هذا التهجم على الآخرين. مالكم وللصهاينة وجدكم واحد ؛ مالكم للصليبية الحاقدة وهم أهل كتاب ؛ مالكم وأفكار الماسونيين المخربة إذ يقولون لكم أن عقائدكم مثل عقائد المشركين (تمر بثالوث اسمه الله والنبي والشيخ)21 مالكم وأفكار وكتابٌ ومفكرون يدعوكم إلى كف اليد ولا يبينون لكم متى يكون الجهاد!! حتى تبقوا دائمات في ضياع وضبابية ؛ تظنون بأنفسكم شراً إن فكرتم بدين مضطهد وبلاد مستباحة وأوطان مدمرة وشعوب سالت دماؤها حتى غطت وجه كل الأرض بالنجيع الأحمر القاني.
ولا تغضبوا يا مسلمون إن فاوضوا عليكم وباعوكم ؛ انسوا شهدائكم وتجاهلوا أسراكم وأسلموا دياركم لقمة سائغة لكل معتد وغاصب ودخيل ، ولتجمعوا الأموال من شعوبكم الطيبة المسكينة وأرسلوها وعليها الأحرف العبرية. فقد دس رابين الخبيث أنفه ودفع ثلاثة آلاف دولار ما تزال بركتها تكبر وتكبر حتى غطت كل الملايين التي دفعها شعب مسلم شهم عظيم ؛ خذوها من رابين وإن كانت دولته وستبقى دولة حرب وعدوان وفي سجونها المجاهدون والمجاهدات وكل يوم يسقط الشهداء في الجنوب وغير الجنوب22.
خذوها من رابين وإن كانت عصاباته الموسادية هي أول من هيئ الصرب عسكرياً ودعمهم بالخبراء والسلاح ويا أمة محمد (ود الذين كفروا لو تغفُلُون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة)23، أما فلاسفة كف اليد والسلم المزعوم والإنسانية البريئة فلا نشق قلباً لواحدهم بل نقول لهم : حبذا لو بذلتم جهداً ولو يسيراً في رد الوحوش إلى الإنسانية قبل أن تطلبوا من المسلمين أن يكونوا أرانب وديعة ، وحبذا لو أنكم لا تدافعون عن الخائنين والخبثاء (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً)24، إن المسلم يرفض الإرهاب ويدينه في أي موقع ابتداءً من بلاده ونهاية بالعالم كله ؛ يرفض أن يؤذى مواطن أمريكي في مركز التجارة الدولية ويرفض أن يؤذى مواطن فرنسي في محطة الأنفاق ويدين كل عمل جبان يقتل الأبرياء ويهدد الاستقرار ، ولكنه لا يستحيي أبداً ولا يشعر بنقص أو حرج بل يعلن على رؤوس الخلائق بأنه لا يبالي أن يقتحم الموت دفاعاً عن عقيدته ودينه وبلاده وقومه ؛ سواء أكان اسم الغزاة مارينزاً أو فرق قبعات صاعقة أم كتائب مظلات أو شعباً محارباً مثل الصهاينة في الأرض المحتلة أو عصابات وحوش صربية ؛ قال تعالى (أُذِنَ للذين يُقاتَلُون بأنهم ظلموا وإنَّ الله على نصرهم لقدير)25، لقد صرنا نستحيي من ديننا أيها الناس ونظن بأنفسنا السوء لكثرة ما ألقوا فوق رؤوسنا مواعظ الجبن والاستسلام وكل بلد تعتز بأبطالها ولكن النظام العالمي المخرب يريدنا أن نعتبر أبطالنا خونة والخونة صالحين.
أما النفاق الدولي فلا حد لوقاحته إذ يتاجر بالرأي العام لتكسب الوحوش الحرب. رئيس الإدارة الأميركية كان يطالب سلفه برفع حظر السلاح عن البوسنة لغايات انتخابية وكسباً للرأي العام حتى في بلاده فلما أصبح هو الرئيس ضيع الأمور ، وعندما وصلَت إلى موقف حاسم ناشد مجلس الشيوخ مناشدة شديدة إبقاء حظر السلاح!! متى تفيق أمة لا إله إلا الله فتعلم أن أعدائها كما قال تعالى: (لا يرقبون في مؤمن إلاَّ ولا ذمَّة وأولئك هم المعتدون)26، وختاماً نقول : أن منطلق المسلمين في صد أعدائهم متخلف إلى حد بعيد فهم يقولون لا يفل الحديد إلا الحديد. هذه المقولة غير صحيحة اليوم وشعاع ليزري بسيط يصهر أمتن أنواع الحديد ، والدفاع عن الأمة المسلمة قد لا يلزمه إلقاء الحديد على الحديد ، والكواكبي27 لما قال أن الاستبداد لا يحارب بالقوة بل بالذكاء! كان ذكياً ؛ فكم من سلاح يبور في منطق القوة ، وسلاح هائل في منطق الذكاء ، والرأي العام من أسلحة الذكاء ؛ فصونوه وأتقنوه واعرفوا خفاياه (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)28.

(إتقان الهندسة البشرية)
الحمد لله القائل (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدَّبَّروا آياته وليتذكر أولو الألباب)1.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامَ إن الله كان عليكم رقيبا)2.
أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن من كلامه تعالى قوله: (ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم)3 ، وأهله : هم الذين آمنوا به كما يقول الامام ابن كثير ... ابن نوح ماكان من أهله (قال يا نوح إنه ليس من أهلك انه عملٌ غير صالح فلا تسألنِ ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين)4.
امرأة فرعون ماكانت من أهله ؛ قال تعالى: (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين)5.
وذكر الإمام القرطبي قولا بأن خيانتهما إنما كانت النميمة ، والكفر أعظم من أي ذنب.
لماذا يذكر لنا القرآن أن ابن نوح كان من المغرقين ، وزوجته على ضلال! الأمر فيه استنفار نفسي لكل مؤمن. بناء الأسرة ليس أمرا كيفيا بل يحتاج إلى جهد خاص ؛ يغلب على أكثر الناس عدم بناء شيء في أسرهم وما فيها من خير إنما هو بقايا تراكمات للفطرة ، والبناء الإيماني قد لا يبذل لأجله الجهد المطلوب ، وكثيرون يكون اهتمامهم بأسرهم إنفاقا ماديا ورعاية سطحية ، أما الاصطبار من أجل خاتمة حسنة فلا يفعله إلا قلة من الناس.
المجتمعات المسلمة في أحيان عديدة قد تعاني من اختلالات مروعة ، وربما انطلقت فيها صيحات مخلصة ، ولكن نادرا ما تضع يدها على موضع الألم.
أحد الباحثين الإسلاميين وضع يده على موضع الألم بعد أربعين عاما من البحث من خلال طرق شتى ، والرجل مفكر إسلامي وعالم ضليع ومتخصص بالعلوم السياسية وأسس معهدا خاصا لذلك ، ولكن بعد أربعين عاما من الطواف والبحث هنا وهناك أعلن في ندوة ألقاها في أحد المؤتمرات الاسلامية أنه قد عرف أخيرا ماهي المشكلة؟ وماهو الحل؟ جوابه كان مثل جواب الإمام الجنيد رضي الله عنه لما رآه في الرؤيا أحد تلاميذه بعد وفاته وسأله: مافعل الله بك؟ فقال الجنيد: طاحت تلك العبادات وفنيت تلك الإشارات وما نفعتنا إلا ركعات قمناها في جوف الليل ، ومن هذه الروح أجاب الباحث عندما قال أن كل ما ينفق المسلمون أوقاتهم فيه وكل جهودهم لن تكون لها ثمرة مادام الخلل موجودا في الأسرة المسلمة. الأسرة المسلمة هي مفتاح الهزائم والانتصارات ؛ الضعف أو القوة ... الثبات أو التراجع ... الحضارة أو السقوط ... للأمة المسلمة كلها. قوانين التربية عند أغلبنا غائبة ، وإنشاء أسرة شيء آخر غير تربيتها ، فإطعام الأبناء أمر تفعله كل الكائنات أما تربية الأبناء فأمر راق سام له أبعاد إيجابية عظيمة إن أحسن القيام به ، وله أبعاد سلبية خطيرة إن فُرط به ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الحديث الصحيح : (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ؛ الإمام راع ومسؤول عن رعيته ، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته ؛ فكلكم راع ومسؤول عن رعيته)6.
الرعاية والعناية والتربية لم تعد أمورا تلقائية بل هي علوم واسعة تحتاج إلى إخلاص وأخلاق ... ذكاء ومعلومات ولنقل بلغة العصر أن هناك اختصاصا هندسيا يكاد يفقد في مجتمعاتنا‍‍‍‍‍! إنه الهندسة لا المعمارية ولا المدنية ؛ لا الصناعية ولا النووية ؛ لا الزراعية ولا الإلكترونية! الهندسة شبه المفقودة هي الهندسة البشرية.
يستطيع كثيرون من الأشخاص بناء غرفة لها أربعة جدران وفوقها سقف من الخشب والصفائح المعدنية ولكن إنشاء عمارة ضخمة مؤلفة من عشرات الطوابق أمر هندسي معقد يحتاج إلى خبرات هائلة وخطط محكمة وحسابات دقيقة وكذلك كل المشاريع الكبيرة.
وإبقاء الكائن البشري على قيد الحياة ليس بالأمر الصعب ولكن بناءه بحيث يكون قمة تربوية أو قدوة فكرية أو ذروة إيمانية ومصحفا بشريا فإنما يحتاج إلى معرفة عميقة بالهندسة البشرية وأبعادها.
الإمام الغزالي مهندس بشري رائع ؛ الإمام ابن القيم مهندس بشري عظيم. الجيلاني وابن عطاء الله وابن الجوزي والجنيد كانوا مهندسين بشريين على مستوى عال من الكفاءة. الهندسة البشرية تكاد تندثر وآلاتها تكاد تنقرض وتدفن ، ويجب إحياؤها من جديد.
الهندسات الدنيوية يتقنها أصحاب القلوب المتحرقة على الانسانية المسكينة ، وشعارهم قوله تعالى : (ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين)7 ميدان الهندسة البشرية ليس المخابر بل ماأشار اليه الحديث الصحيح : (جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا)8 تطبيقات الهندسة البشرية شاملة تبدأ من الفطرة التي يخلق الناس عليها وتنتهي بكل الآفاق الايمانية وتظلل كل جوانب الحياة المادية والمعنوية معا ، وكمقدمات لفهم منطق الهندسة البشرية نقول أن القائم بها هو المربي ، والمربي يجب أن تكون له مواصفات خاصة نستعرض بإيجاز بعضها :
1- المربي الحقيقي لا ينطلق من مفاهيمه الخاصة الشخصية أو ينظر من خلال أفق ضيق بل واجبه أن ينمي روح الانفتاح ويبني النفوس المنعتقة من الذاتية الطاغية أو الفردية المدمرة. يبني النفوس التي تسترسل مع الله على مايريد لا على ماتريد ؛ قال تعالى : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) 9.
2- لا يمكن للمربي أن يحجر على عقليات من يربيهم أو أن يحصرهم ضمن تصورات وأفكار ومشاعر خاصة ليس لها بعد تربوي واضح ، وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قَبَّل الحسن وفي رواية الحسين ابني علي رضي الله عنهم جميعا ، وعنده الأقرع بن حابس فقال الأقرع : إن لي عشرة ماقبلت منهم أحدا قط ؛ فنظر إليه الهادي صلى الله عليه وسلم ثم قال : (من لا يَرحم لا يُرحم)10 فها هنا تبدو الدلالة واضحة في عدم إقرار النبي لسلوك هذا الإنسان الذي يعيش في تصورات وأفكار ومشاعر خاصة مغلوطة ، ودور المربي إخراج الناس منها فضلا عن عدم اقترافه هو لها.
3- المربي المنفتح الواعي يستطيع التعامل مع أي أمر ولو كان خلاف ما اعتاد عليه ، ويستطيع بمرونة هائلة التخلي عن أية نظرة أو تصور أو وسيلة غير مجدية أو كانت ذات فائدة مرحلية انته وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بقوم يلقحون النخل فقال: (لو لم تفعلوا لصلح ؛ قال: فخرج شيصاً وهو التمر الذي لا يشتد نواه ؛ فمر بهم فقال: ما لنخلكم قالوا : قلت كذا وكذا ؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : أنتم أعلم بأمور دنياكم)11 وإن في الحديث دلالات تربوية عظيمة أخرى ذكرها المحدث الشيخ عبد الله سراج الدين في كتابه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
4- المربي ذو النفسية الصافية يبذل للمتلقي على يديه كل رعاية ومودة ونصح ؛ فالتربية السائرة على منهج النبوة هي عطاء دون حدود وإخلاص ورعاية ومودة ، ومحبة لا تتناهى دون مَنٍّ ولا افتخار ولا عجب ولا رياء ولا طلب أجر من أحد ، وهو عمل المرسلين ؛ قال تعالى (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون)12.
5- التربية نماء دائم والمربي الحقيقي يستفيد ويتعلم ممن حوله كما يستفيدون ويتعلمون منه اقتداء وامتثالا بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول: (لن يشبع مؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة)13ورحم الله ابن القيم إذ يقول : إذا حال غيم الهوى بين القلوب وبين شمس الهدى تحير السالك. وصلى الله على الهادي المصطفى إذ ما منعه مقام النبوة أن يأخذ بمثل رأي سلمان في حفر الخندق14.
6- المربي نور دائم الإشعاع وهو مرآة لاخوته و(المؤمن مرآة المؤمن)15 والمربي ينعكس صفاؤه على اخوته ويفيض عليهم مما آتاه الله فتكون مرآته التربوية ممتصة لكل العوالق والشوائب ؛ مبدلة لها بكل جميل من الخلق والسلوك والفكر والعمل ؛ قال ابن القيم : مياه المعاني مخزونة في قلب العالم يفتح منها للسقي سيحا بعد سيح ويدخر أصفاها لأهل الصفا فإذا تكاثرت عليه نادى للسبيل ، وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: (ما سُئل صلى الله عليه وآله وسلم شيئا إلا أعطاه فجاء رجل وهو صفوان بن أمية فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فان محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر)16 ؛ فأبدل كفر الرجل بالإيمان وأعطاه عطاء من لا يخشى الفقر ، وربما طوى جائعا ، وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع صلى الله عليه وآله وسلم17.
والتربية علم لا يشرح بلحظات وكل موقف تربوي يجب أن لا يضيع ، وراعي الأسرة عليه أن يدرك كيف يستثمر المواقف ونذكر باختصار على أن نعود إلى الشرح المفصل في خطب قادمة ؛ نذكر أن من نعلمه أو نربيه ترتبط نتيجة ما نلقيه إليه بعدة عوامل منها:
1- الاستعدادات العقلية ودرجة النضج وكما يقول ابن مسعود رضي الله عنه : (ماأنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)18، والخبرة المنقولة يجب أن تترافق مع النضج عند المتلقي وإلا سبَّبَ ذلك الإحباط أحيانا.
2- يجب مراعاة الاستعدادات النفسية وما يثيره الموقف التعليمي من دوافع وحاجات وميول فإلقاء أمور مناسبة للراشدين قد لا تنفع للمراهقين وما يناسب المراهقين لا يصلح للأطفال ، وعلى المربي أن يدرك خصائص كل مرحلة من مراحل العمر.
3- لا يمكن للمتربي التلقي إلا في حال الشعور بالثقة بمن يربيه ، والإحساس بالأمن الداخلي معه وإلا سبب الأمر قلقا نفسيا يمنع من الاستفادة والتلقي والالتزام.
4- يجب تفهم البيئة المحيطة بالأفراد الذين نربيهم فمن عائق تربيته هو الترف والدلال يختلف وضعه عمن عائق تربيته هو القلة والحرمان ؛ عمن عائق تربيته هو التنطع والقسوة ؛ عمن عائق تربيته هو الانحراف المحيط والفساد
5- يتأثر الفرد تأثرا شديدا بإخلاص المربي وحماسته لمبدئه وموضوعيته في طرحه ، وعلى المربي أن يكون مثالا صالحا في كل ما يطرحه.
6- التربية هي بلوغ الأمر كماله بالتدريج وبالتالي فان الثمار التربوية لا تؤتي أكلها مباشرة وقطفها قبل نضجها يدعها فجة والثمرة المقطوفة قبل نضجها لا يمكن إرجاعها ولا الاستفادة منها ؛ فرحم الله من صبر ؛ قال تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)19.
طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى