مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

* تفسير سورة مريم 2

اذهب الى الأسفل

* تفسير سورة مريم 2 Empty * تفسير سورة مريم 2

مُساهمة  طارق فتحي الأحد يناير 09, 2011 8:16 pm

تفسير سورة مرم
اعداد : طارق فتحي

( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً ) .
---------
( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً ) لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام ، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولداً زكياً طاهراً مباركاً ، عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى عليه السلام منها من غير أب ، فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة ، ولهذا ذكرهما في آل عمران وههنا .
( واذكر في الكتاب مريم ) أي ابنت عمران ، وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل ، وقد ذكر الله قصة ولادة أمها لها في سورة آل عمران ، وأنها نذرتها محررة ، أي تخدم مسجد بيت المقدس ، وكانوا يتقربون بذلك (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً ) ونشأت في بني إسرئيل نشأة عظيمة ، فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل الدءوب ، وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبي بني إسرئيل إذ ذاك ، وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم ، ورأى زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره ( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً ) ، فلما أراد الله تعالى وله الحكمة والحجة البالغة ، أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام أحد أولي العزم الخمسة العظام .
( إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً ) أي اعتزلتهم وتنحت عنهم وذهبت إلى شرقي المسجد الأقصى .
قيل : لحيض أصابها ، وقيل : لغير ذلك .
( فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً ) أي استترت منهم وتوارت .
( َفأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ) أي فأرسل الله تعالى لها جبريل عليه السلام .
والروح المراد به جبريل كما قال تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ) .
( فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ) أي على صورة إنسان تام كامل .
( قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيّاً ) أي لما تبدى لها الملك في صورة بشر وهي في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب ، خافته وظنت أنه يريدها على نفسها فقالت (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً) أي إن كنت تخاف الله ، تذكيراً له بالله .
• قال ابن كثير : هذا هو المشروع في الدفع ، أن يكون بالأسهل فالأسهل ، فخوفته أولاً بالله .
( قال ) أي الملك مجيباً لها .
(إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) أي رسول من الله بعثني إليك .
( لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً) أي غلاماً طاهراً من الذنوب .
(  قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً ) أي فتعجبت مريم من هذا وقالت : كيف يكون لي غلام ؟ أي على أي صفة يوجد هذا الغلام مني ، ولست بذات زوج ، ولا يتصور مني الفجور ، ولهذا قالت [ ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً ] والبغي الزانية .
( قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) أي فقال لها الملك مجيباً لها عما سألت : إن الله قد قال : إنه سيوجد منك غلاماً وإن لم يكن لك بعل ، ولا يوجد منك فاحشة ، فإنه على ما يشاء قدير .
( وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ) أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع في خلقهم .
• قال ابن القيم : خلق هذا النوع الإنساني على أربعة أضرب :
لا من ذكر ولا من أنثى ، كآدم .
من ذكر بلا أنثى ، كحواء .
من أنثى بلا ذكر ، كالمسيح .
من ذكر وأنثى ، كسائر النوع .
( وَرَحْمَةً مِنَّا ) أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله نبياً من الأنبياء ، يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده ، كما قال تعالى في الآية الأخرى (إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ ) أي يدعو إلى عبادة ربه في مهده وكهولته .
( َوكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً ) يحتمل أن هذا من تمام كلام جبريل لمريم ، يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته ، ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله  ، وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها ، كما قال تعالى (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ) .
• قال بعض العلماء : أن الملك وهو جبريل عليه السلام – لما استسلمت مريم لقضاء الله – نفخ في جيب درعها ، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج فحملت بالولد بإذن الله تعالى .
الفوائد :
1- فضل مريم حيث ذكرها الله بالقرآن وأثنى عليها .
كما قال تعالى (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ) .
2- فضل العزلة للعبادة والطاعة .
3- وجوب الاستعاذة بالله من كل شر .
4- طهارة مريم وحرصها على عرضها وشرفها .
5- أنه يجب على الإنسان أن يدافع عن نفسه بالأسهل فالأسهل .
6- أن جبريل ملك من الملائكة أرسله الله إلى مريم .
7- جواز السؤال عن الأمر المستغرب لمعرفة الحكمة .
8- أن الله قادر على كل شيء .
9- أن عيسى آية وعبرة للناس حيث كان من أم بلا أب .
10- أن عيسى رحمة الله .
11- أن الله إذا قضى أمراً فلا راد لقضائه .
( فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً (22) فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (31) وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) .
---------
(فَحَمَلَتْهُ) قال ابن كثير : ثم اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام ، والمشهور أنها حملت به تسعة أشهر .
وقال الشنقيطي : وأقوال العلماء في قدر المدة التي حملت فيها مريم بعيسى قبل الوضع لم نذكرها ، لعدم الدليل على شيء منها ، وأظهرها أنه حمل كعادة حمل النساء .
( فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً ) قال ابن كثير : ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة ، انتبذت منهم مكاناً قصياً : أي قاصياً منهم بعيداً عنهم لئلا تراهم ولا يروها .
( فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ) أي فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع النخلة في المكان الذي تنحت إليه .
( قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا ) أي قبل هذا الحال .
• تمنت مريم الموت لسببين :
الأول : خوفاً من أن يقع أناس ويفتنوا بسببها .
الثاني : حتى لا تتهم بدينها .
( وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً ) أي لم أخلق ولم أك شيئاً .
قال ابن كثير : فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة ، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد ، ولا يصدقونها في خبرها ، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية .
( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) قولان للعلماء في المراد به :
فقيل : هو جبريل ، وهو قول ابن عباس .
وقيل : عيسى ، ورجحه ابن جرير والشنقيطي .
قال الشنقيطي مرجحاً هذا القول : فأشارت إليه ، وإشارتها إليه ليكلموه قرينة على أنها عرفت قبل ذلك أنه يتكلم على سبيل خرق العادة لندائه لها عندما وضعته .
( أَلاَّ تَحْزَنِي ) أي ناداها قائلاً لها : لا تحزني .
( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً ) أي جعل جدولاً صغيراً يجري أمامك .
( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) أي حركي جذع النخلة اليابسة .
(  تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً ) أي طرياً لذيذاً نافعاً .
( فكلي ) من التمر .
( واشربي ) من النهر .
( وقري عيناً ) بهذا المولود عيسى ، ولا تحزني .
( فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً ) أي مهما رأيت من أحد .
( فَقُولِي ) المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك ، لا أن المراد به القول اللفظي لئلا ينافي [ فلن أكلم اليوم إنسياً ] .
(إ ِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً ) أي سكوتاً .
( فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً ) أي فلن أكلم أحداً من الناس .
• قال السعدي : فأمرها أنها إذا رأت أحداً من البشر أن تقول على وجه الإشارة إني نذرت للرحمن صوماً ، لتستريح من قولهم وكلامهم ، وإنما لم تؤمر بمخاطبتهم في نفْي ذلك عن نفسها ، لأن الناس لا يصدقونها ، ولا فائدة فيه ، وليكون تبرئتها بكلام عيسى في المهد ، أعظم شاهداً على براءتها .
( فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ) يقول تعالى مخبراً عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك وأن لا تكلم أحداً من البشر ، فإنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها ، فسلمت الأمر لله واستسلمت لقضائه ، فأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله ، فلما رأوها كذلك أعظموا أمرها واستنكروه جداً وقالوا :
( قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ) أي أمراً عظيماً .
( يَا أُخْتَ هَارُونَ ) اختلف العلماء ما المراد بهارون هنا ؟
فقيل : نسبة إلى رجل صالح في قومها اسمه هارون ، أي يا شبيهة هارون بالعبادة .
وقيل : كانت من نسل هارون ، كما يقال للتميمي : يا أخا تميم .
• وليس المراد به هارون أخا موسى بالاتفاق ، لأن الله ذكر في كتابه أنه قفى بعيسى بعد الرسل ، فدل على أنه آخر الأنبياء بعثاً ، وليس بعده إلا محمد  ولهذا ثبت في الحديث الصحيح قال  ( أنا أولى الناس بابن مريم ، لأنه ليس بيني وبينه نبي ) .
( مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً ) يا أخت الرجل الصالح هارون ما كان أبوك رجل سوء يأتي الفواحش, وما كانت أمك امرأة سوء تأتي البِغاء .
( فأشارت إليه ) أي أنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قضيتها وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرية ، وقد كانت يومها ذلك صائمة صامتة ، فأحالت الكلام عليه ، وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه .
• ومعنى إشارتها إليه : أي أنهم يكلمونه فيخبرهم بحقيقة الأمر ، بدليل أنهم قالوا ( كيف نكلم من كان في المهد صبياً ) .
فقالوا متهكمين بها ظانين أنها تزدري بهم وتلعب بهم :
(قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً) أي من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره ، كيف يتكلم ؟
(قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) أول شيء تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى وبرأه عن الولد ، وأثبت لنفسه العبودية لربه .
كما قال تعالى ( وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) .
وقال (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) .
وقال تعالى عنه (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) .
• قال العلماء : إنما قدم ذكر العبودية ليبطل قول من ادعى فيه الربوبية .
• عبد الله : أي ليس له شيء من صفات الربوبية .
وقد قال  ( من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله والجنة حق والنار حق أدخله الله من أبواب الجنة الثمانية ) متفق عليه
(آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً) أي قضى أن يؤتيني الكتاب ويجعلني نبياً في المستقبل .
• وعبر بالماضي عما سيقع في المستقبل تنزيلاً لتحقق الوقوع منزلة الوقوع ، ونظائره في القرآن كثير :
كقوله تعالى (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .
وقوله تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ) .
• قول من قال : إن معنى آتاني الكتاب : أي أعطاه وجعله نبياً في حال صباه ، قول ضعيف .
(وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ) أي : في أي مكان ، وأي زمان ، فالبركة جعلها فيّ من تعليم الخير والدعوة إليه ، والنهي عن الشر ، والدعوة إلى الله في أقواله وأفعاله ، فكل من جالسه أو اجتمع به نالته بركته وسعد به مصاحبه .
• البركة : أي كثير البركات .
( ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً ) أي وأوصاني بالمحافظة على الصلاة وإيتاء الزكاة ما بقيت حيًا ، كما قال تعالى لمحمد
( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) .
( وَبَرّاً بِوَالِدَتِي ) أي وأمرني ببر والدتي ، ذكره بعد طاعة ربه ، لأن الله تعالى كثيراً ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين .
كما قال تعالى ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً ) ، وقال تعالى ( أن اشكر لي والوالديك إليّ المصير ) .
( وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً ) أي متكبراً على الله ، مترفعاً على عباده .
( شَقِيّاً ) فأشقى في دنياي وأخراي ، فلم يجعلني كذلك بل جعلني مطيعاً له خاضعاً خاشعاً متذللاً ، متواضعاً لعباد الله .
( وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ) .أي والسلامة والأمان عليَّ من الله يوم وُلِدْتُ, ويوم أموت, ويوم أُبعث حيًا يوم القيامة .
• قال ابن كثير : إثبات منه لعبوديته لله عز وجل ، وأنه مخلوق من خلق الله يحيى ويموت ويبعث كسائر الخلائق ، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد .
• وقد جعل الله له السلامة يوم ولادته ، ففي الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ « مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخاً مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ إِلاَّ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ، ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ( وَإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) متفق عليه .
( ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) ذلك الذي قصصنا عليك - أيها الرسول - صفتَه وخبرَه هو عيسى ابن مريم, مِن غير شك ولا مرية, بل هو قولُ الحق الذي شك فيه اليهود والنصارى .
• يمترون يشكون .
• وهذا الشك الذي وقع فيه الكفار نهى الله عنه المسلمين على لسان نبيهم في قوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .
بل أمر الله نبيه أن يدعو من حاجه في شأن عيسى إلى المباهلة ، ثم أخبره أن ما قص عليه من خبر عيسى هو القصص الحق وذلك في قوله تعالى (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) ، ولما نزلت ودعا النبي  وفد نجران إلى المباهلة فخافوا الهلاك .
الفوائد :
1- آية ولادة عيسى حيث خلق من أم بلا أب .
2- جواز تمني الموت إذا خاف الإنسان الفتنة .
وفي الحديث ( وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ) رواه النسائي .
أما تمني الموت لضر  أصابه في الدنيا فهذا منهي عنه .
لحديث أَنَسٍ  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ  { لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ اَلْمَوْتَ لِضُرٍّ يَنْزِلُ بِهِ, فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ: اَللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ اَلْحَيَاةُ خَيْرًا لِي, وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ اَلْوَفَاةُ خَيْرًا لِي }  مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ  
• لا يتمنين أحدكم : الخطاب للصحابة ، والمراد هم ومن بعدهم من المسلمين عموماً .
• لضر نزل به : من فقر أو مرض أو غير ذلك من الأضرار الدنيوية .
والمراد بالضر الدنيوي لرواية ابن حبان : ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به في الدنيا ) .
• ففي هذا الحديث تحريم تمني الموت بسبب الضر إذا نزل بالإنسان من فقر أو مرض أو موت قريب أو غير ذلك ، ومما يدل على النهي :
عن خباب قال : ( لولا أن النبي  نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به ) . رواه البخاري
• حمل بعض العلماء الضر بالحديث الضر الدنيوي ، لرواية ابن حبان : ( ... لضر نزل به في الدنيا )
• الحكمة من تحريم تمني الإنسان الموت بسبب الضر الدنيوي ، لأمور :
أولاً : أنه يدل على عدم الصبر ، والمسلم مطالب بالصبر والاحتساب .
ثانياً : أن بقاء المسلم قد يكون خيراً له ، ففي الحديث : ( لا يتمنين أحدكم الموت ، إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً ، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب ) أي يتوب .
وعند أحمد : ( وأنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً ) .
قال الحافظ : ” فيه إشارة إلى أن المعنى في النهي عن تمني الموت والدعاء به هو انقطاع العمل بالموت ، فإن الحياة يتسبب منها العمل ، والعمل يحصل زيادة الثواب ، ولو لم يكن إلا استمرار التوحيد فهو أفضل الأعمال “ .
وقد قال  : ( إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله ) .
ثالثاً : أن الإنسان لا يدري ما الأفضل له ، البقاء أم الموت .
3- أن الإنسان إذا كان لا بد داعياً بالموت ، فليقل هذا الدعاء : ( اللهم أحيني ما كانت الحياة ... ) .
لأن في هذا الدعاء استسلام لقضاء الله ، والمسلم يقول هذا الدعاء ، لأنه لا يعلم هل الخير البقاء أم في الموت ، فشرع قول هذا الدعاء لأن فيه رد ذلك إلى الله الذي يعلم عاقبة الأمور .
4- يستثنى من تمني الموت إذا خاف الإنسان ضرراً وفتنة في دينه .
وقد قال  : ( وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ) . رواه أحمد
وقالت مريم : ( يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً) .
وقال عمر : ( اللهم كبرت سني ، وضعفت قوتي ، وانتشرت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط ) .
5- قول يوسف : ( توفني مسلماً ... ) .
قال القرطبي : ” قيل : قال قتادة : لم يتمنى الموت أحد ، نبي ولا غيره ، إلا يوسف حين تكالبت عليه النعم وجُمع له الشمل ، اشتاق إلى لقاء ربه . وقيل : إن يوسف لم يتمن الموت وإنما تمنى الموافاة على الإسلام ، أي إذا جاء أجلي توفني مسلماً ، وهذا هو القول في تأويل الآية عند أهل التأويل “ .
6- أن الله طمنها بألا تحزن ولا تقلق فسوف يدافع عنها .
7- أن الله يسر لها ما تأكله وتشربه في أيام ولادتها .
8- شدة فتنة مريم حيث اتهمت بعرضها .
9- طهارة عائلة مريم ( وإذا كانوا كذلك فلا بد أن تكون ابنتهم كذلك ) .
10- إثبات كلام عيسى وهو في المهد .
11- وجوب عبادة الله .
12- أن عيسى عبد الله ورسوله فليس إلهاً ولا ابن زانية .
13- أن اشرف ما يتشرف به الأنبياء أنهم عبيد لله .
14- إثبات نبوة عيسى .
15- أهمية الصلاة والزكاة .
16- فضل بر الوالدين وسبق ذلك .
17- وجوب معرفة العقيدة الصحيحة في عيسى ، لأن ذلك من أسباب دخول الجنة من أبوابها الثمانية .
كما قال  (مَنْ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَىِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ ) .

( مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ  . وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) .
--------------------
(مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ ) لما ذكر تعالى أنه خلقه عبداً نبياً نزّه نفسه المقدسة فقال ( ما كان لله أن يتخذ من ولد ) أي ما ينبغي ولا يليق ، لأن ذلك من الأمور المستحيلة ، لأنه الغني الحميد ، المالك لجميع المماليك ، فكيف يتخذ من عباده ومماليكه ولداً ؟
(سُبْحَانَهُ ) أي تنزيه الله عما يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون علواً كبيراً .
كما قال تعالى (وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) .
(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً . لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً . تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً . أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً).
وقال  ( قال تعالى : كذبني آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك : أما شتمه إياي قوله إن لي ولداً ، وأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني وأنا الأحد الصمد ) . متفق عليه
(إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) أي إذا أراد شيئاً فإنما يأمر به فيصير كما يشاء ، كما قال (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .
(وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) أي ومما أمر به عيسى قومه وهو في مهده أن أخبرهم إذ ذاك أن الله ربه وربهم وأمرهم بعبادته .
( هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) أي هذا الذي جئتكم به عن الله صراط مستقيم ، أي قويم من اتبعه رشد وهدي ، ومن خالفه ضل وغوى.
( فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ )  أي اختلف أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله ،
فقالت طائفة منهم إنه عبد الله ورسوله . وقالت اليهود وهو أكثرهم : إنه ولد زنية ، وقالت النصارى : هو ابن الله ، وقالت
طائفة : هو الله ، وقالت طائفة : هو إله مع الله .
( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) تهديد ووعيد لمن كذب على الله وافترى وزعم أن له ولداً ، ولكن أنظرهم تعالى إلى يوم القيامة .
• من مشهد : أي فويل لهم من شهود ذلك اليوم أي حضوره لما سيلاقونه من العذاب .
• فيه أن الله يمهل ولا يهمل .
الفوائد :
1- تحريم ادعاء أن لله ولداً .
2- أن ادعاء أن لله ولداً منكر عظيم وذنب كبير .
3- كمال الله عز وجل حيث أنه مستغن عن الولد .
4- وجوب تنزيه الله عن كل نقص وعيب ومشابهة المخلوقين .
5- أن الله لا يعجزه شيء ، فهو على كل شيء قدير .
6- وجوب تعظيم الله .
7- الحذر من معصيته ومخالفة أمره .
8- وجوب عبادة الله .
وهو أول أمر بالقرآن كما قال تعالى ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم ... ) .
9- أن عبادة الله وحده هو الصراط المستقيم .
10- التهديد والوعيد الشديد للكفار المدعين لله الولد من عذاب يوم القيامة .
11- شدة يوم القيامة وخاصة على الكافرين .
كما قال تعالى ( على الكافرين غير يسير ) .
12- وجوب الحذر من هول يوم القيامة .

( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنْ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39)  إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَـنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ) .
---------
( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ) يقول تعالى مخبراً عن الكفار يوم القيامة : إنهم يكونون أسمع شيء وأبصره .
كما قال تعالى (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) أي يقولون ذلك حين لا ينفعهم ولا يجدي عنهم شيئاً ، ولو كان هذا قبل معاينة العذاب لكان نافعاً لهم ومنقذاً من عذاب الله ، ولهذا قال ( أسمع بهم وأبصر ) أي ما أسمعهم وأبصرهم ( يوم يأتوننا ) يعني يوم القيامة .
( لَكِنْ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ ) أي في الدنيا .
( فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) أي لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون ، فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون .
( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ) أي وأنذر الخلائق وخوّفهم يوم الحسرة .
• الإنذار : الإعلام المقرون بالتخويف .
• الحسرة : الندم على الشيء الذي لا يمكن تداركة .
وسمي بذلك لشدة ندم الكفار فيه على التفريط كما قال تعالى ( أن تقول نفس يا حسرتى ) .
(إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ ) أي ذبح الموت على صورة كبش بين الجنة ، وصار كل إلى ما صار إليه .
( وهم ) اليوم .
( في غفلة ) عما أنذروا به يوم الحسرة والندامة .
( وهم لا يؤمنون ) أي لا يصدقون .
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ - زَادَ أَبُو كُرَيْبٍ - فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ - وَاتَّفَقَا فِى بَاقِى الْحَدِيثِ - فَيُقَالُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ - قَالَ - وَيُقَالُ يَا أَهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا قَالَ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ - قَالَ - فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ - قَالَ - ثُمَّ يُقَالُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ » . قَالَ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ  ( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الأَمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) متفق عليه .
• قال السعدي : وأي حسرة أعظم من فوات رضا الله وجنته واستحقاق سخطه والنار .
( إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَـنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ) يخبر تعالى أنه الخالق المالك المتصرف ، وأن الخلق كلهم يهلكون ويبقى هو تعالى وتقدس ، ولا أحد يدعي ملكاً ولا تصرفاً ، بل هو الوارث لجميع خلقه الباقي بعدهم الحاكم فيهم ، ومرجعهم ومصيرهم إليه سبحانه وتعالى للحساب والجزاء .
الفوائد :
1- أن الكافر يوقن يوم القيامة أنه كان في الدنيا على باطل لكن لا ينفعه .
2- تهديد الكفار بيوم القيامة وبلقاء الله تعالى .
3- إنذار الكفار والمكذبين بيوم القيامة حين يتحسرون ويندمون لكن لا ينفع الندم ، حين يقضى الأمر ويذبح الموت ويصيرون من أهل النار .
4- من صفات يوم القيامة أنه يوم الحسرة وله صفات كثيرة :
• أن يوم القيامة يوم شديد رهيب ، أهواله كبيرة .
ولذلك وصفه الله بأوصاف كثيرة :
يوم الفرار .
قال تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) .
يوم التغابن .
قال تعالى (ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ) .
سمي بذلك : لأنه يظهر فيه غبن الكافر بتركه الإيمان .
يوم الجمع .
قال تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ) .
سمي بذلك : لأن الله يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد .
يوم تكشف فيه صحائف الأعمال .
قال تعالى (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ) .
يوم الدين .
قال تعالى (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) .
أي يوم الجزاء والحساب .
يوم الفصل .
قال تعالى (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً) .
سمي بذلك : لأن الله يفصل فيه بين الخلائق .
يوم الوعيد .
قال تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) .
يوم عقيم .
قال تعالى ( حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) .
سمي بذلك : لأنه لا يوم بعده .
5- إثبات المعاد والبعث والحساب .
6- إثبات ملك الله في الدنيا والآخرة .

( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً (49) وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ) .
-----------
( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً ) يقول تعالى لنبيه محمد  : واذكر في الكتاب إبراهيم ، واتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام ، واذكر لهم ما كان من خبر إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن ، وقد كان صديقاً نبياً ، مع أبيه .
صديقاً : مبالغاً من الصدق ، لشدة صدق إبراهيم في معاملته مع ربه ، وصدق لهجته ، كما شهد الله له بصدق معاملته في قوله
( وإبراهيم الذي وفى ) وقوله ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) .
ومن صدقه مع ربه :
أولاً : رضاه بأن يذبح ابنه .
قال تعالى (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) .
ثانياً : صبره على إلقائه في النار .
قال تعالى (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) .
قال السعدي : الصديق : كثير الصدق ، فهو الصادق في قوله وأفعاله وأحواله ، المصدق بكل ما أمر بالتصديق به .
( إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ ) آزر .
( يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً ) أي لا ينفعك ولا يدفع عنك ضرراً .
قال بعض العلماء : لقد سلك عليه السلام في دعوته أحسن منهاج ، وأقوم سبيل ، واحتج عليه أبدع احتجاج ، بحسن أدب وخلق جميل ، لئلا يركب متن المكابرة والعناد .
فإذا كان المعبود لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عن عابده شيئاً فما الفائدة من عبادته ؟؟ وهو أنقص وأعجز ممن عبده ! وهذا من أقوى الأدلة على بطلان هذه العبادة .
( يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ ) يقول : وإن كنت من صلبك وتراني أصغر منك لأني ولدك ، فاعلم أني قد اطلعت من العلم من الله ما لم تعلمه أنت ، ولا اطلعت عليه ولا جاءك  
( فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً) أي طريقاً مستقيماً موصلاً إلى نيل المطلوب ، والنجاة من المرهوب .
قال الزمخشري : ثنّى عليه السلام بدعوته إلى الحق مترفقاً به متلطفاً  ، فلم يُسم أباه بالجهل المفرط ، ولا نفسه بالعلم الفائق ، ولكنه قال : إن معي طائفة من العلم ، وشيئاً منه ليس معك .

المصدر: الشيخ سليمان اللهيميد
طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى