مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

* التوســـل : انواعه واحكامه - نواقض الاسلام

اذهب الى الأسفل

* التوســـل : انواعه واحكامه - نواقض الاسلام Empty * التوســـل : انواعه واحكامه - نواقض الاسلام

مُساهمة  طارق فتحي الأحد أغسطس 14, 2011 9:06 am

التوســـل
اعداد : طارق فتحي
التوسل: أنواعُه وَأحكَامه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجلاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً.
أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
اضطرب الناس في مسألة التوسل، وحكمها في الدين اضطراباً كبيراً، واختلفوا فيها اختلافاً عظيماً، بين محلل ومحرم، ومغال ومتساهل، وقد اعتاد جمهور المسلمين منذ قرون طويلة أن يقولوا في دعائهم مثلاً: "اللهم بحق نبيك أو بجاهه أو بقدره عندك عافني واعف عني" و"اللهم إني أسألك بحق البيت الحرام أن تغفر لي" و"اللهم بجاه الأولياء والصالحين، ومثل فلان وفلان" أو "اللهم بكرامة رجال الله عندك، وبجاه من نحن في حضرته، وتحت مدده فرج الهم عنا وعن المهمومين"و"اللهم إنا قد بسطنا إليك أكف الضراعة، متوسلين إليك بصاحب الوسيلة والشفاعة أن تنصر الإسلام والمسلمين.. " الخ.
ويسمون هذا توسلاً، ويدَّعون أنه سائغ ومشروع، وأنه قد ورد فيه بعض الآيات والأحاديث التي تقره وتشرعه، بل تأمر به وتحض عليه، وبعضهم غلا في إباحة هذا حتى أجاز التوسل إلى الله تعالى ببعض مخلوقاته التي لم تبلغ من المكانة ما يؤهلها لرفعة الشأن، كقبور الأولياء، والحديد المبني على أضرحتهم، والتراب والحجارة والشجر القريبة منها، زاعمين أن ما جاور العظيم فهو عظيم، وأن إكرام الله لساكن القبر يتعدى إلى القبر نفسه حتى، يصح أن يكون وسيلة إلى الله، بل قد أجاز بعض المتأخرين الاستغاثة بغير الله !
فما هو التوسل يا ترى ؟ وما هي أنواعه ؟ وما معنى الآيات والأحاديث الواردة فيه ؟ وما حكمه الصحيح في الإسلام ؟
التوسل في اللغة والقرآن
معنى التوسل في لغة العرب:
وقبل الخوض في هذا الموضوع بتفصيل، أحب أن ألفت النظر إلى سبب هام من أسباب سوء فهم كثير من الناس لمعنى التوسل، وتوسعهم فيه، وإدخالهم فيه ما ليس منه، وذلك هو عدم فهمهم لمعناه اللغوي، وعدم معرفتهم بدلالته الأصلية، ذلك أن لفظة (التوسل) لفظة عربية أصيلة، وردت في القرآن والسنة وكلام العرب من شعر ونثر، وقد عنى بها: التقرب إلى المطلوب، والتوصل إليه برغبة، قال ابن الأثير في "النهاية": (الواسل: الراغب، والوسيلة: القربة والواسطة، وما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به، وجمعها وسائل) وقال الفيروز أبادي في "القاموس": (وسل إلى الله تعالى توسيلاً: عمل عملاً تقرب به إليه كتوسل) وقال ابن فارس في "معجم المقاييس": (الوسيلة: الرغبة والطلب، يقال: وسل إذا رغب، والواسل: الراغب إلى الله عز وجل، وهو في قول لبيد:
أرى الناس لا يدرون ما قدْرُ أمرهم بلى، كل ذي دين إلى الله واسلُ).
وقال الراغب الأصفاني في "المفردات": (الوسيلة: التوصل إلى الشيء برغبة، وهي أخص من الوصيلة، لتضمنها لمعنى الرغبة، قال تعالى: وابتغوا إليه الوسيلة، وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى: مراعاة سبيله بالعمل والعبادة، وتحري مكارم الشريعة، وهي كالقربة، والواسل: الراغب إلى الله تعالى).
وقد نقل العلامة ابن جرير هذا المعنى أيضاً وأنشد عليه قول الشاعر:
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل
هذا وهناك معنى آخر للوسيلة هو المنزلة عند الملك، والدرجة والقربة، كما ورد في الحديث تسمية أعلى منزلة في الجنة بها، وذلك هو قوله :  إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل
ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة  (1).
وواضح ان هذين المعنيين الأخيرين للوسيلة وثيقا الصلة بمعناها الأصلي، ولكنهما غير مرادين في بحثنا هذا.
معنى الوسيلة في القرآن:
إن ما قدمته من بيان معنى التوسل هو المعروف في اللغة، ولم يخالف فيه أحد، وبه فسر السلف الصالح وأئمة التفسير الآيتين الكريمتين اللتين وردت فيهما لفظة (الوسيلة)، وهما قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدا في سبيله لعلكم تفلحون
]المائدة: 35[، وقوله سبحانه: أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً ]الإسراء: 57[.
فأما الآية الأولى، فقد قال إمام المفسرين الحافظ ابن جرير رحمه الله في تفسيرها: (يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله فيما أخبرهم، ووعد من الثواب، وأوعد من العقاب. اتقوا الله يقول: أجيبوا الله فيما أمركم، ونهاكم بالطاعة له في ذلك.وابتغوا إليه الوسيلة: يقول: واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه).
ونقل الحافظ ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن: معنى الوسيلة فيها القربة، ونقل مثل ذلك عن مجاهد وأبي وائل والحسن وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد، ونقل عن قتادة قوله فيها: (أي تقربوا إليه بطاعته، والعمل بما يرضيه) ثم قال ابن كثير: (وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه.. والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود)(1).
وأما الآية الثانية فقد بين الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مناسبة نزولها التي توضح معناها فقال: (نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن، فأسلم الجنيون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون)(2).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله(3) Sadأي استمر الإنس الذين كانوا يعبدون الجن على عبادة الجن، والجن لا يرضون بذلك، لكونهم أسلموا، وهم الذين صاروا يبتغون إلى ربهم الوسيلة، وهذا هو المعتمد في تفسير الآية).
قلت:وهي صريحة في أن المراد بالوسيلة ما يتقرب به إلى الله تعالى، ولذلك قال:
يبتغون أي يطلبون ما يتقربون به إلى الله تعالى من الأعمال الصالحة، وهي كذلك تشير
إلى هذه الظاهرة الغريبة المخالفة لكل تفكير سليم، ظاهره أن يتوجه بعض الناس بعبادتهم ودعائهم إلى بعض عباد الله، يخافونهم ويرجونهم، مع أن هؤلاء العباد المعبودين قد أعلنوا إسلامهم، وأقروا لله بعبوديتهم، وأخذوا يتسابقون في التقرب إليه سبحانه، بالأعمال الصالحة التي يحبها ويرضاها، ويطمعون في رحمته، ويخافون من عقابه، فهو سبحانه يُسَفه في هذه الآية أحلام أولئك الجاهلين الذين عبدوا الجن، واستمروا على عبادتهم مع أنهم مخلوقون عابدون له سبحانه، وضعفاء مثلهم، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، وينكر الله عليهم عدم توجيههم بالعبادة إليه وحده، تبارك وتعالى، وهو الذي يملك وحده الضر والنفع، وبيده وحده مقادير كل شيء وهو المهيمن على كل شيء.
الأعمال الصالحة وحدها هي الوسائل المقربة إلى الله:
ومن الغريب أن بعض مدعي العلم اعتادوا الاستدلال بالآيتين السابقتين على ما يلهج به كثير منهم من التوسل بذوات الأنبياء أو حقهم أو حرمتهم أو جاههم، وهو استدلال خاطى لا يصح حمل الآيتين عليه، لأنه لم يثبت شرعاً أن هذا التوسل مشروع مرغوب فيه، ولذلك
لم يذكروا هذا الاستدلال أحد من السلف الصالح، ولا استحبوا التوسل المذكور، بل الذي فهموه منهما أن الله تبارك وتعالى يأمرنا بالتقرب إليه بكل رغبة، والتقدم إليه بك قربة، والتوصل إلى رضاه بكل سبيل.
ولكن الله سبحانه قد علمنا في نصوص أخرى كثيرة أن علينا إذا أردنا التقرب إليه أن
نتقدم إليه بالإعمال الصالحة التي يحبها ويرضاها، وهو لم يكل تلك الأعمال إلينا، ولم يترك
تحديدها إلى عقولنا وأذواقنا، لأنها حينذاك ستختلف وتتباين، وستضطرب وتتخاصم،
بل أمرنا سبحانه أن نرجع إليه في ذلك، ونتبع إرشاده وتعليمه فيه، لأنه لا يعلم ما يرضي الله عز وجل إلا الله وحده، فلهذا كان من الواجب علينا حتى نعرف الوسائل المقربة إلى الله أن نرجع في كل مسألة إلى ما شرعه الله سبحانه، وبينه رسول الله ، ويعني ذلك أن نرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله  وهذا هو الذي وصانا به رسولنا محمد صلوات الله عليه وسلامه حيث قال:  تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله (1).
متى يكون العمل صالحاً:
وقد تبين من الكتاب والسنة أن العمل حتى يكون صالحاً مقبولاً يقرب إلى الله سبحانه، فلا بد من أن يتوفر فيه أمران هامان عظيمان، أولهما: أن يكون صاحبه قد قصد به وجه الله عز وجل، وثانيهما: أن يكون موافقاً لما شرعه الله تبارك وتعالى في كتابه، أو بينه رسوله في سنته، فإذا اختل واحد من هذين الشرطين لم يكن العمل صالحاً ولا مقبولاً.
ويدل على هذا قوله تبارك وتعالى: فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً، ولا
يشرك بعبادة ربه أحداً ]الكهف:110[ فقد أمر سبحانه أن يكون العمل صالحاً، أي موافقاً
للسنة، ثم أمر أن يخلص به صاحبه لله، لا يبتغي به سواه.
قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره": (وهذان ركنا العمل المتقبل، لا بد أن يكون خالصاً لله، صواباً على شريعة رسول الله r ) وروي مثل هذا عن القاضي عياض رحمه الله وغيره.
حكم الهازل والجاد والخائف والمكره
ثم إن المصنف -رحمه الله- لما ذكر هذه النواقض العشرة، قال بعدها: "ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف( )، إلا المكره".
ودليل العذر بالإكراه: قوله -تعالى- (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(106))( ).
والإكراه يكون بالقول والفعل؛ خلافاً لمن قال: إن الأفعال لا يكون فيها إكراه، فإن هذا خلاف ظاهر الآية.
ثم قال الشيخ -رحمه الله-: "وكلها من أعظم ما يكون خطراً وأكثر ما يكون وقوعاً".
إذا علم ما تقدم من النواقض التي تحبط الأعمال وتجعل صاحبها من الخالدين في النار، فليعلم أن المسلم قد يقول قولاً أو يفعل فعلاً قد دل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على أنه كفر ورده عن الإسلام، ولكن لا تلازم عند أهل العلم بين القول بأن هذا كفر وبين تكفير الرجل بعينه.
فليس كل من فعل مكفراً حكم بكفره؛ إذ القول أو الفعل قد يكون كفراً، لكن لا يطلق الكفر على القائل أو الفاعل إلا بشرطه؛ لأنه لا بد أن تثبت في حقه شروط التكفير، وتنتفى موانعه؛ فالمرء قد يكون حديث عهد بإسلام، وقد يفعل مكفراً ولا يعلم أنه مكفر، فإذا بُيِّنَ له؛ رجع وقد ينكر شيئاً متأولاً أخطأ بتأويله.. وغير ذلك من الموانع التي تمنع من التكفير .
وهذا أصل عظيم، يجب تفهمه والاعتناء به؛ لأن التكفير ليس حقًّا للمخلوق، يكفر من يشاء على وفق هواه، بل يجب الرجوع في ذلك إلى الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح، فمن كفّره الله ورسوله، وقامت عليه الحجة؛ فهو كافر، ومن لا فلا.
وفي "الصحيحين" وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي ؛ قال: "أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت؛ أوصى بنيه؛ فقال: إذا أنا مُتُّ؛ فأحرقوني، اسحقوني، ثم ذروني في الريح في البحر، فو الله، لئن قدر عليَّ ربي؛ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً". قال: " ففعلوا ذلك به، فقال للأرض أدى ما أخذت. فإذا هو قائم، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: خشيتك يا رب (أو قال مخافتك)! فغفر له بذلك".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى" (3/ 231): فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذُرِّي، بل اعتقد أنه لا يُعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك، والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول ، أولى بالمغفرة من مثل هذا".
وقال -رحمه الله- في "المسائل الماردينية": (ص 71): وحقيقة الأمر في ذلك: أن القول قد يكفر كفراً، فيطلق القول بتكفير صاحبه، فيقال: من قال كذا؛ فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها".
والحاصل أن مذهب أهل التحقيق التفريق بين تكفير الفعل وبين تكفير الفاعل، وكذلك الأمر في التبديع هناك فرق بين تبديع القول أو الفعل وبين تبديع القائل أول الفاعل فليس كل من فعل بدعة صار مبتدعاً.
ومن نظر في سيرة السلف؛ عرف حقيقة هذا القول، وعلم أن مذهبهم وهذه طريقتهم، ورأى ما هم عليه من العدل والإنصاف وقول الحق والحرص على هداية الخلق، لما خصهم الله به من العلم النافع والعمل الصالح، وهذا هو الواجب على جميع الخلق: أن يكون قصدهم بيان الحق وإزهاق الباطل مع العدل والإنصاف؛ ليكون الدين كله لله، والحمد لله رب العالمين.

لناقض العاشر من نواقض الإسلام
قال رحمه الله: ((الإعراض عن دين الله تعالى؛ لا يتعلمه، ولا يعمل به، والدليل قوله –تعالى-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ(22))( ).
والمراد بالإعراض الذي هو ناقض من نواقض الإسلام: هو الإعراض عن تعلم أصل الدين الذي به يكون المرء مسلماً، ولو كان جاهلاً بتفاصيل الدين؛لأن هذا قد لا يقوم به إلا العلماء وطلبة العلم.
وقد سُئل العلامة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن عن الإعراض الذي هو ناقض من نواقض الإسلام؟
فأجاب: "إن أحوال الناس تتفاوت تفاوتاً عظيماً، وتفاوتهم بحسب درجاتهم في الإيمان إذا كان أصل الإيمان موجوداً، والتفريط والشرك إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات والمستحبات، وأما إذا عدم الأصل الذي يدخل به في الإسلام، وأعرض عن هذا بالكلية؛ فهذا كفر إعراض، فيه قوله -تعالى-: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ) الآية( )، وقوله -تعالى-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) الآية( ).
قال الشيخ العلامة سليمان بن سحمان: "فتبين من كلام الشيخ أن الإنسان لا يكفر إلا بالإعراض عن تعلم الأصل الذي يدخل به الإنسان في الإسلام، لا بترك الواجبات والمستحبات"( ).
وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في "مدارج السالكين": "وأما الكفر الأكبر؛ فخمسة أنواع".
فذكرها، ثم قال: "وأما كفر الإعراض، فأنه يُعرض بسمعه وقلبه عن الرسول؛ لا يصدقه ولا يكذبه، ولا يواليه ولا يعاديه، ولا يصغى إلى ما جاء به البتة" اهـ كلامه.
ومن هذا البيان لمعنى الإعراض يتبين لك حكم كثير من عباد القبور في زماننا هذا وقبله؛ فإنهم معرضون عما جاء به الرسول  إعراضاً كليًّا بأسماعهم وقلوبهم، لا يصغون لنصح ناصح وإرشاد مرشد، فمثل هؤلاء كفار لإعراضهم.
قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3))( ).
ولا يقال: إنهم جهال فلا يكفرون لجهلهم؛ لأنه يقال: إن الجاهل إذا بُيِّن له خطؤه؛ انقاد للحق، ورجع عن الباطل، وهؤلاء مصرون على عبادتهم الأوثان، ولا يصغون لكلام الله ولا لكلام رسوله  ويصدون عن إرشاد الناصحين صدوداً، ولعلهم يتعرضون بالأذى لمن أنكر عليهم أباطيلهم وفجورهم، فقد قامت عليهم الحجة؛ فلا عذر لهم سوى العناد.
قال –تعالى-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ(22))( ).
ة
الناقض التاسع من نواقض الإسلام
قال رحمه الله: ((من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر)).
وذلك لتضمنه تكذيب قول الله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)( ).
وأخرج أحمد وأبو داود والطيالسي والدارمي وغيرهم عن ابن مسعود -رضي الله عنه-؛ قال "خط لنا رسول الله  خطًّا، ثم قال: "هذا سبيل الله" ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: "هذه سبل متفرقة، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)( ).
وأخرجه الحاكم وقال: "صحيح الإسناد".
فمن رغب الخروج عن شريعة محمد ، أو ظن الاستغناء عنها؛ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
وقد بوب الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في "فضل الإسلام" باباً عظيماً، فقال:
"(باب وجوب الاستغناء بمتابعة الكتاب عن كل ما سواه)":
ولا شك أن الكتاب يأمرنا بمتابعة الرسول ، وعدم الخروج عن طاعته، بل إن الخروج عن طاعته من الأسباب الموجبة للنار؛ كما في "مسند أحمد" و"صحيح البخاري" عن أبي هريرة -رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله : "كل أمتي يدخلون الجنة؛ إلا من أبى". قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى".
ثم ساق الشيخ -رحمه الله- قوله -تعالى-: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) الآية( ).
روى النسائي وغيره عن النبي : أنه رأى في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة، فقال: أمتهوكون يا ابن الخطاب؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حيًّا، واتبعتموه، وتركتموني، لضللتم".
وفي رواية: "ولو كان موسى حيًّا، ما وسعه إلا اتباعي". فقال عمر: رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيًّا.
وهذا الحديث نص على أنه لا يسع أحداً الخروج عن شريعة محمد والأدلة على هذا كثيرة.
ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الناس بالله، وأقوى الناس إيماناً؛ ما كانوا يعرفون غير اتباعه واحترامه وتوقيره واتباع النور الذي أنزل إليه، وما ذاك إلا لأن الله اصطفاهم لصحبة نبيه؛ فقد أخرج الإمام أحمد والبزار وغيرهما بسند حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد  خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه فما رأى المسلمون حسناً؛ فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً؛ فهو عند الله سيئ".
وافترض الله على جميع الناس طاعته، فمنهم من أطاع، ومنهم من عصى.
وانقسمت الأمة إلى قسمين:
أ- أمة إجابة، وهم الذين أطاعوه واتبعوا النور الذي معه.
ب- وأمة دعوة، وهم الذين استكبروا عن طاعته ومتابعته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بعد كلام سبق( ): "ومن هؤلاء من يظن أن الاستمساك بالشريعة أمراً ونهياً إنما يجب عليه ما لم يحصل له من المعرفة أو الحال، فإذا حصل له؛ لم يجب عليه حينئذ الاستمساك بالشريعة النبوية، بل له حينئذ أن يمشي مع الحقيقة الكونية القدرية، أو يفعل بمقتضى ذوقه ووجده وكشفه ورأيه؛ من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وهؤلاء منهم من يعاقب بسلب حاله حتى يصير منقوصاً عاجزاً محروماً، ومنهم من يعاقب بسلب الطاعة حتى يصير فاسقاً، ومنهم من يعاقب بسلب الإيمان حتى يصير مرتداً منافقاً أو كافراً معلناً، وهؤلاء كثيرون جدًّا، وكثير من هؤلاء يحتج بقصة موسى والخضر".
وقال -رحمه الله- بعد هذا الكلام بورقة: "وأما احتجاجهم بقصة موسى والخضر، فيحتجون بها على وجهين:
أحدهما: أن يقولوا: إن الخضر كان مشاهداً الإرادة الربانية الشاملة والمشيئة الإلهية العامة -وهي الحقيقة الكونية- فلذلك سقط عنه الملام فيما خالف فيه الأمر والنهي الشرعي، وهو من عظيم الجهل والضلال، بل من عظيم النفاق والكفر؛ فإن مضمون هذا الكلام: أن من آمن بالقدر، وشهد أن الله رب ك شيء؛ لم يكن عليه أمر ولا نهي وهذا كفر بجميع كتب الله ورسوله وما جاؤوا به من الأمر والنهي.. إلخ.
وأما الوجه الثاني: فإن من هؤلاء من يظن أن من الأولياء من يسوغ له الخروج عن الشريعة النبوية كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى، وأنه قد يكون للولي في المكاشفة والمخاطبة ما يستغني به عن متابعة الرسول في عموم أحواله أو بعضها، وكثير منهم يفضل الولي في زعمه -إما مطلقاً وإما من بعض الوجوه- على النبي؛ زاعمين أن في قصة الخضر حجة لهم.
وكل هذه المقالات من أعظم الجهالات والضلالات، بل من أعظم أنواع النفاق والإلحاد والكفر، فإنه قد عُلم بالاضطرار من دين الإسلام أن رسالة محمد بن عبد الله لجميع الناس؛ عربهم وعجمهم، وملوكهم وزهادهم؛ وعلمائهم وعامتهم، وأنها باقية دائمة إلى يوم القيامة، بل عامة الثقلين الجن والإنس، وأنه ليس لأحد من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمته ما يشرعه لأمته من الدين، وما سنه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات، بل لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياء؛ لوجب عليهم متابعته ومطاوعته".
إلى أن قال رحمه الله: "بل قد ثبت بالأحاديث الصحيحة: أن المسيح عيسى ابن مريم: إذا نزل من السماء؛ فإنه يكون متبعاً لشريعة محمد بن عبد الله.
فإذا كان يجب اتباعه ونصره على من يدركه من الأنبياء؛ فكيف بمن دونهم؟!
بل مما يُعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لمن بلغته دعوته أن يتبع شريعة رسول غيره؛ كموسى وعيسى؛ فإذا لم يجز الخروج عن شريعته إلى شريعة رسول فكيف بالخروج عنه والرسل..".
إلى أن قال: "ومما يبين الغلط الذي وقع لهم في الاحتجاج بقصة موسى والخضر على مخالفة الشريعة: أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثاً إلى الخضر، ولا أوجب الله على الخضر متابعته وطاعته، بل قد ثبت في "الصحيحين" أن الخضر قال له: يا موسى! إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه"، وذلك أن دعوة موسى كانت خاصة.
وقد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي: أنه قال فيما فضله الله به على الأنبياء؛ قال: "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة".
فدعوة محمد شاملة لجميع العباد، ليس لأحد الخروج عن متابعته وطاعته، ولا استغناء عن رسالته، كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى وطاعته؛ مستغنياً عنه بما علمه الله، وليس لأحد ممن أدركه الإسلام أن يقول لمحمد: إنني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، ومن سوغ هذا، أو اعتقد أن أحداً من الخلق الزهاد والعباد أو غيرهم له الخروج عن دعوة محمد ومتابعته؛ فهو كافر باتفاق المسلمين، ودلائل هذا في الكتاب والسنة أكثر من أن تذكر هنا.
وقصة الخضر ليس فيها خروج عن الشريعة، ولهذا؛ لما بين الخضر لموسى الأسباب التي فعل لأجلها ما فعل؛ وافقه موسى، ولم يختلفا حينئذ، ولو كان ما فعله الخضر مخالفاً لشريعة موسى، لما وافقه.." اهـ المقصود من كلامه رحمه الله، وفيه البيان الشافي في هذه المسألة العظيمة.
وبهذا يتبن أنه لا يجوز لأحد أن يدعي الخروج عن شريعة محمد، كما يدعيه غلاة الصوفية، ويفسرون قوله -تعالى-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99))( )؛ أي: العلم والمعرفة، ويجوزون لمن حصل عنده علم ومعرفة الخروج عن شريعة محمد ، ويسقطون عنه التكاليف، وهذا كفر وخروج عن الإسلام باتفاق العلماء.
وما أحسن ما قاله العلامة ابن القيم في "نونيته":
فالكفر ليس سوى العناد ورد ما
فانظر لعلك هكذا دون التي
جاء الرسول به لقول فلان
قد قالها فتبوء بالخسران
فإذا كان رد ما جاء به الرسول كفراً، فكيف بالخروج عن شريعته بالكلية؟ فالله المستعان.

لناقض الثامن من نواقض الإسلام
قال رحمه الله: ((مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51))( ).
قوله: "المظاهرة"، أي: المناصرة.
ومظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين فتنة عظيمة قد عمت فأعمت، ورزية رمت فأصمت، وفتنة دعت القلوب فأجابها كل قلب مفتون بحب المشركين، ولا سيما في هذا الزمن، الذي كثر فيه الجهل، وقل فيه العلم، وتوفرت فيه أسباب الفتن، وغلب الهوى واستحكم، وانطمست أعلام السنن والآثار.
وعندي أن هذا كله بسبب الإعراض عن تعلم العلوم الشرعية، والإقبال على تعلم العلوم اليونانية والفلسفية، فلا حول ولا قوة إلا بالله، عاد المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، فصاحب الحق اليوم غريب بين الناس، غريب بين أهله، إن طلب مساعداً، لم يجده، وإن طلب صاحب سنة، لم يحصله إلا بكلفة ومشقة، استحكمت غربة الإسلام، وعاد الإسلام غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس.
ومن ذلك( ) التحذير من مظاهرة المشركين على المسلمين ومعاونتهم؛ لأن مظاهرتهم ردة عن الإسلام.
وقد سُئل العلامة عبد الله بن عبد اللطيف عن الفرق بين الموالاة والتولي؟ فأجاب بأن التولي: "كفر يخرج عن الملة، وهو كالذَّبِّ عنهم وإعانتهم بالمال والبدن والرأي".
ولو أن المسلمين صاروا يداً واحده على هؤلاء الطغاة المجرمين، وتناصروا فيما بينهم وتعاونوا، لصار للإسلام والمسلمين شأن غير ما نحن فيه الآن، ولصار الكفار أذلاء، يدفعون الجزية كما كانوا يدفعونها للنبي ولأصحابه عن يد وهم صاغرون , ثم اعلم أنَّ إعانة الكفار تكون بكل شيء يستعينون به ويتقوون به على المسلمين من عَدَدٍ وعُدَد.
الناقض السابع من نواقض الإسلام

قال - رحمه الله -: ((السحر، ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به؛ كفر، والدليل قول الله: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُر)( ))).
السحر يُطلق في اللغة على ما خفي ولطف مأخذه ودق.
ومنه قول العرب في الشيء إذا كان شديداً خفاؤه: "أخفى من السحر".
ومنه قول مسلم بن الوليد الأنصاري:
جعلت علامات المودة بيننا
فأعرف منها الوصل في لين طرفها
مصائد لحظ هن أخفى من السحر وأعرف منها الهجر في النظر الشزر

وتعريفه في الشرع: عُقدٌ ورقى يتوصل بها الساحر إلى استخدام الشياطين لتضر المسحور.
وقيل في تعريفه غير ذلك.
ولكن قال الشنقيطي -رحمه الله-: "اعلم أن السحر لا يمكن حدُّه بحد جامع مانع؛ لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته، ولا يتحقق قدر مشترك بينها يكون جامعاً لها مانعاً لغيرها، ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حدة اختلافاً متبايناً"( ).
ومن السحر الصرف والعطف:
فالصرف: صرف الرجل عما يهواه؛ كصرفه مثلاً عن محبة زوجته إلى بغضها.
والعطف: عمل سحري كالصرف، ولكنه يعطف الرجل عما لا يهواه إلى محبته بطرق شيطانية.
والسحر محرم في جميع شرائع الرسل.
فصل

تتعلق بالسحر عدة مسائل، نذكرها مع إردافها بشيء من أقوال العلماء؛ لأهمية هذا الباب، ولانتشاره في غالب أقطار الأرض. فنقول:
المسألة الأولى: هل للسحر حقيقة؟
قد دل قوله -جل وعلا-: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(4))( ) على أن للسحر حقيقة، وإلا، لم يأمر الله بالاستعاذة منه.
وكذلك قوله -تعالى-: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)( )، فهذه الآية تدل عل أن للسحر حقيقة تكون سبباً للتفريق بين المرء وزوجه.
ومما يدل أيضاً على أن له حقيقة: حديث عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي  سُحرَ، حتى إنه ليُخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، وأنه قال لها ذات يوم: أتاني ملكان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب. قال: من طبَّه؟ قال: لبيد ابن الأعصم في مشط ومشاطة، وفي جف طلعة في بئر ذروان".
رواه: الإمام أحمد والبخاري، ومسلم، وغيرهم.
وهذا القول هو قول أهل السنة، وعليه جمهور علماء المسلمين.
وذهب بعضهم إلى أنه لا حقيقة له، وهو مذهب المعتزلة المنعزلة عن الكتاب والسنة، واستدلوا بقوله -تعالى-: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى(66))( )، ولم يقل: تسعى على الحقيقة, وقالوا: إن السحر إنما هو تمويه وتخيل وإيهام لكون الشيء لا حقيقة له، وأنه ضربٌ من الشعوذة!
قال العلامة ابن القيم رحمه الله( ): "وهذا خلاف ما تواترت به الآثار عن الصحابة والسلف، واتفق عليه الفقهاء وأهل التفسير والحديث وأرباب القلوب من أهل التصوف، وما يعرفه عامة العقلاء، والسحر الذي يؤثر مرضاً وثقلاً وحلاًّ وعقداً وحبًّا وبغضاً وتزييفاً وغير ذلك من الآثار موجود تعرفه عامة الناس.." إلخ كلامه.
وقال القرطبي بعدما ذكر قول المعتزلة واستدلالهم: "وهذا لا حجة فيه؛ لأنا لا ننكر أن يكون التخيل وغيره من جملة السحر، ولكن ثبت وراء ذلك أمور جوَّزها العقل، وورد بها السمع:
فمن ذلك ما جاء في هذه الآية من ذكر السحر وتعليمه (يعني: قوله -تعالى-: (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) الآية( ))، ولو لم يكن له حقيقة؛ لم يمكن تعليمه، ولا أخبر أنهم يعلمونه الناس، فدل على أن له حقيقة.
وقوله -تعالى- في قصة فرعون: (وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ(116))( ).
وسورة الفلق، مع اتفاق المفسرين على أن سبب نزولها ما كان من سحر لبيد بن الأعصم".
ثم ساق الحديث -وقدمناه- ثم قال: "وفيه أن النبي قال لما حل السحر: "إن الله شفاني" والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض، فدل على أن له حقًّا وحقيقة، فهو مقطوع به، بإخبار الله تعالى ورسوله عن وجوده ووقوعه، وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع، ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق.." إلخ.
المسألة الثانية: في حكم الساحر:
اختلف العلماء رحمهم الله في الساحر: هل يكفر أم لا؟
ظاهر كلام المصنف -رحمه الله- أنه يكفر؛ لقوله -تعالى-: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)( )، وهو مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- ومالك وأبي حنيفة، وعليه الجمهور.
وذهب الشافعي -رحمه الله- إلى أنه إذا تعلم السحر، يقال له: صف لنا سحرك. فإن وصف ما يستوجب الكفر -مثل سحر أهل بابل من التقرب للكواكب، وأنها تفعل ما يطلب منها-؛ فهو كافر، وإن كان لا يصل إلى حد الكفر واعتقد إباحته، فهو كافر لاستحلاله المحرم، وإلا؛ فلا.
وقال العلامة الشنقيطي رحمه الله: "التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل:
فإن كان السحر مما يُعظم فيه غير الله، كالكواكب والجن وغير ذلك مما يؤدَّى إلى الكفر؛ فهو كفر بلا نزاع، ومن هذا النوع سحر هاروت وماروت المذكور في سورة البقرة؛ فإنه كفر بلا نزاع؛ كما دل عليه قوله -تعالى-: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)( )، وقوله -تعالى-: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)( )، وقوله -تعالى-: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)( )، وقوله -تعالى-: (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى(69))( ).
وإن كان السحر لا يقتضي الكفر؛ كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها؛ فهو حرام حرمة شديدة، ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر.
وهذا هو التحقيق إن شاء الله( ) تعالى في هذه المسألة التي اختلف فيها العلماء" اهـ كلامه رحمه الله.
واعلم أن الساحر على كلا الحالتين يجب قتله على القول الصحيح، لأنه مفسد في الأرض، يفرق بين المرء وزوجه، وبقاؤه على وجه الأرض فيه خطر كبير وفساد عظيم على الأفراد والمجتمعات ففي قتله قطع لفساده وإراحة للعباد والبلاد من خبثه، وسيأتي إن شاء الله أنه ليس بين الصحابة اختلاف في قتل الساحر.
المسألة الثالثة: في قتل الساحر والساحرة:
قد اختلف العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: وهو قول الجمهور: إنه يقتل، وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله.
القول الثاني: إنه لا يقتل إلا إذا عمل عملاً يبلغ به الكفر، وهو قول الشافعي رحمه الله.
واحتج أصحاب القول الأول بأدلة:
- منها ما رواه الترمذي والحاكم وابن عدي والدار قطني وغيرهم من طريق إسماعيل بن مسلم المكي عن الحسن عن جندب؛ قال: قال رسول الله : "حد الساحر ضربه بالسيف".
قال الترمذي: "لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث، والصحيح عن جندب موقوف".
قلت: وإسماعيل بن مسلم: قال عنه أحمد منكر الحديث وقال ابن معين ليس بشيء. وقال الذهبي: (متفق على تضعيفه).
- واستدلوا أيضاً بما رواه أحمد وغيره بسند صحيح عن بجالة؛ قال: "أتانا كتاب عمر قبل موته بسنة: أن اقتلوا كل ساحر, (وربما قال سفيان: وساحرة)، وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس، وانهوهم عن الزمزة. فقتلنا ثلاث سواحر.." الحديث( ).
- واستدلوا أيضاً بما جاء عن حفصة -رضي الله عنها- أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها.
وهذا الأثر رواه مالك في "الموطأ" وسنده منقطع، ورواه عبد الله بن الإمام أحمد في "المسائل" والبيهقي عنها بسند صحيح، وصححه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في "كتاب التوحيد".
وهذا القول -وهو قتل الساحر مطلقاً- هو الصواب، ولا يُعلَم لعمر وجندب وحفصة -رضي الله عنهم- مخالف من الصحابة، وقد جاء عن النبي  أنه قال: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر( )، وقال: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه"( )، وهذا حديث صحيح.
وأما الذين قالوا: إن الساحر لا يقتل إذا لم يبلغ بسحره الكفر، فاستدلوا بقول النبي: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة".
رواه: البخاري، ومسلم. وفي الاستدلال به نظر من وجوه كثيرة.
وأما عدم قتل النبي للبيد بن الأعصم، فهو خشية إثارة الفتنة، والله أعلم، مع أن بعض العلماء قال: هذا خاص بالذمي، والصواب أن الذمي والمسلم سواء في قتلهم.
المسألة الرابعة: حل السحر عن المسحور:
وهي النشرة.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: "حل السحر عن المسحور نوعان:
أحدهما: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن (وهو: لا يحل السحر إلا ساحر)، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور.
والثاني: النشرة بالرقية والتعويذات والأدوية والدعوات المباحة؛ فهذا جائز".
أما ما رواه البخاري في "صحيحه" معلقاً: "عن قتادة: قلت لابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته؛ أيحل عنه أو ينشر؟ قال لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع، فلم ينه عنه".
فهو محمول على نوع من النشرة لا محذور فيه؛ لأن الحديث قد صح عن النبي  أنه قال لما سُئل عن النشرة: "هي من عمل الشيطان".
رواه أحمد في "مسنده"( ) وأبو داود من طريق أحمد عن عبد الرزاق حدثنا عقيل بن معقل سمعت وهب بن منبه يحدث عن جابر عن النبي  به، وسنده حسن.
وأما الذهاب إلى السحرة والكهان والمنجمين والعرافين لسؤالهم فهذا جرم عظيم وخطأ كبير، يترتب عليه عدم قبول صلاة أربعين ليلة، لما روى مسلم في صحيحه (2230) من حديث يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع عن صفية عن بعض أزواج النبي عن النبي قال: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة".
وأما إن سألهم وصدّقهم فهو كافر بما أنزل على نبينا محمد لما رواه الحاكم (1/ بسند صحيح من طريق عوف عن خلاس ومحمد عن أبي هريرة قال قال رسول الله:" من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد وروى البزار (2/443) بسند صحيح عن ابن مسعود موقوفاً " من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد.
المصدر : كتاب التبيان
طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى