* تكسي بغداد من ا - 10

تكسي بغداد  1
طارق فتحي
تكسي بغداد عنوان اخترته لمشاهداتي اثناء زيارتي لمدينتي الحبيبة التي ولدت وتربيت وترعرت فيها بغداد الحبيسة . بعد فراق دام سنين عدة. مع ان الحال في مدينتي لا يسر, الا ان هناك احساس غامض بمحبتها وعشقها والهيام بها الى حد الثمالة. بغداد مدينة كنا نشنف اسماعنا مفاخرة نباهي بها كل الدنيا.
الان اجول بنظري ها هنا وها هناك, لم اجد ما يكحل عيني, كثيرة هي المآسي التي تمرق من امامي في كل مكان ازوره في أي وقت من الاوقات ليلاً ونهاراً. استوقف جميع من اعرف ومن لا اعرف فلا اجابات وافية وشافيه لما يحصل من انحطاط على جميع المستويات مادياً ومعنوياً .
عبثاً حاولت ان اجد تفسيراً مقنعاً لما يحصل من ارتداد القيم والاخلاق نحو الهاوية فما افلحت . كل الاجوبة كانت مبتورة هناك حلقة مفقودة علي العثور عليها لتكتمل الصورة البوهيمية المحيرة التي سلبت لبي ردحاً من الزمن.
اين هذه الحلقة المفقودة يا ترى.؟
هل في السلوك المنحرف للدولة متمثلة بحكومتها البائسة ام في المجتمع الذي تعود الخنوع والكسل والطاعة العمياء لولاة الامر الجهلة السفلة من سياسي الصدفة, وغيرهم من المعممين الذي قادوا البلد نحو الخزي والعار . دولة لصوص وحرامية في وضح النهار طرق ملتوية لابتزاز المواطنين باسم القانون وشعارات فضفاضة براقة .. دولة القانون.. معاً نبني العراق.. من اجل عراق موحد.. المواطنة العابرة للطائفية .. يد بيد لنهضة العراق الابي .. بغداد ام الدنيا .. من اجل عيش رغيد .. النصر .. الفتح.. الوحدة.. الحكمة.. وغيرها الكثير الكثير من الشعارات الهزيلة التي لا تساوي الحبر الذي خطت به وثمن القماش والبارتشنات. التي توزعت على اغلب شوارع العاصمة بغداد وشوارع المحافظات العراقية الاخرى.
نعم انها مهزلة الانتخابات العراقية للعام 2018 ورفع الشعار الجديد (اذا كنت لا تستحي فافعل ما شئت ) بات هو المقياس الصحيح الذي اثبت وجودة بجدارة عند جميع شرائح المجتمع من راس الحكومة الفاسدة المفسدة للذوق العام نزولاً الى الشارع العراقي الفارغ اصلاً من مضمون المواطنة الصالحة. مع انقلاب القيم والمبادي والمثل العلياً رأساً على عقب. باتت البلطجة والاستهتار بارواح المجتمع غاية ما يدرك لفعل كل امر قبيح .
بروفسور في علم النفس والاجتماع شخصية مرموقة ومعروفة على مراكز التواصل الاجتماعي يحدثنا من على صفحته كل يوم باثمن واجمل تجاربه المجتمعية ضمن اختصاصه ولا حياة فيمن تنادي بينما تحصد صفحات التواصل المختصة بالنساء من اغاني وعرض ازياء ومسلسلات كالعشق الممنوع وغيرها الاف اللايكات وربما تتجاوز بعض الصفحات المليون لايك.
نعم عندما يفرغ المجتمع من مضمونه تكون التفاهات سيدة الموقف مع احترامي الشديد لسيدات المجتمع لما يبذلن من جهد جهيد في محاولة يائسة منهن لتقويم افكار واحاسيس النشيء الجديد بدأً باصغر فرد في العائلة صعوداً الى اكبر افرادها سناً. وكما ذكرت لكم لم يفلح الامر معهن ايضاً .
تيارات الجهالة والفسق والفجور والفساد الذي بات ينخر بالمجتمع العراقي وربما العربي ايضاً ماض لتنفيذ غايته لجعل هذا المجتمع مسلوب الارادة معوقاً لا يستطيع الاعتماد على نفسه في تطوير ذاته. وبالتالي تسهل عملية التحكم في توجيهه لما يسهل على شخوص الدولة الوهميين والحقيقيين من ادارة دفة الحكم والمكوث اكبر فترة ممكنة من الزمن على كرسي الرئاسة ولا هم لها ولا غم سوى سلب المال العام وحين بدأ بالنفاذ اخذت الدولة بسلب المال الخاص بقوانين وضعية ما انزل الله بها من سلطان .
السلام عليكم .. حجي ما بالك تكلم نفسك وتؤمي بيديك باشارات غامضة كمن مسه شيء من الجنون وسط الشارع بين سيارات الاجرة . هل هناك خطب ما .؟ هل تشكو من امر لاذهب بك الى اقرب مشفى .؟ وما شعرت الا بكف قوية تمسك بساعد يدي وتهزني بشدة فانتبهت لنفسي, رمقت محدثي بنظرات حائرة .    ماذا.؟ ماذا حصل.؟ من انت اخي .؟ لماذا تهزني بشدة.؟ ماذا تريد مني .؟
حجي انا سائق تكسي عابر سبيل رايتك تستوقفني باشارات يديك وعندما توقفت وجدتك على هذه الحال تكلم نفسك وتؤمي بيديك وتوقف الكثير من اصحاب سيارات الاجرة كلما مروا من امامك الا اني اثرت ان اتوقف لاتبين امرك ربما انت بحاجة الى مساعدة. شكرا لك اخي الكريم. ليس بي خطباً ما كما تعتقد انه الحال في مدينتي لا يسر وكاد ان يؤدي بي الى الجنون لولا تنبيهك اياي, من يدري ما كان سيحدث لي , اشكر لك جميل صنيعك معي واعتذر منك ان اخفتك عن غير قصد. بارك الله فيك وبمثلك من الطيبين .
تكسي بغداد  2
تكسي ..تكسي.. صباح الخير.. من فضلك الكرادة داخل .. وما ان استويت على مقعدي بجانب السائق حتى رمقته بنظرة فاحصة متجولاً في ملامح وجهه نزولاً الى اسماله التي يرتديها وكعادتي في التخمين انتابني فضول انه من سقط المتاع.(ها..حجي اشو تباوع علي) هل تعرفني . قطعا لا يا ولدي لفارق السن الذي بيننا( لعد ليش مركز علي حجي) !!! ( اكو شي).؟ لا سلامتك وليدي بس اظن انك عزيز قوم ذل . انا هكذا طبعي ..لي حدسي الخاص بالناس, كلامك صحيح اعتدل السائق في جلسته وهو ينفث دخان سيكارته خارج زجاج نافذته , حجي اخبرني كيف حزرت امري وانا سوف اقول لك الحقيقة, ابني انا درست علم نفس واجتماع كهواية الى جانب دراساتي الاخرى. اهااا ( هل اكولن اناااااا).
حجي بعد سقوط بغداد( هنا قاطعته) بغداد لم تسقط بل دخلها الساقطون والذي حصل احتلال باعتراف امريكا رسمياً راعية الارهاب الحقيقي في العالم). المهم حجي ما علينا بالسياسة انا قدمت الى العاصمة مع اخوتي الثلاثة ويسر الله لنا ان نسرق بعض البنوك في شارع الكفاح ( يم اهل الشخاط والجكاير) وكنا ثلاث عصابات واحدة تجلب النقود المعبأة بالشوالات الى باحة البنك من الداخل واخرى تعد النقود على عجل والثالثة تحرس البنك من الخارج لمنع العصابات الاخرى من الدخول ومشاركتنا في الغنيمة. وهل هذا عمل صائب ما قمتم به.؟ لا حجي صائب لم يكون موجود بيننا.!( في محاولة منه لممازحتي رغم ثقل دمه) .
المهم كانت النقود كثيرة ونحن توزعنا على ثلاثة مجاميع مختلطين بعضنا ببعض. اجبته كيف يعني مختلطين .؟ اهاااا.. سالت سؤال والي يسأل سؤال يجيب.؟ يعني كل عصابة شاركت بكل الاعمال من جلب النقود وعدها وحراسة المصرف. المهم كانت المبالغ كبيرة وبالدولارات. لفرط فرحتنا تركنا النقود العراقية وحملنا الدولارات فقط في سيارة بيك اب ونحن جميعاً مدججين بالسلاح فلم يجرؤ احداً من الاقتراب نحونا رغم كثرة العصابات الاخرى الموجودة في المكان وانطلقنا مسرعين (خلف السدة) وهناك تم عد وفرز النقود وشاهد الجميع ذلك . ثم تم الاتفاق على تخزين هذه الاموال في دار كبيرنا في شارع فلسطين وهو من اهالي بغداد بعيداً عن الشك والشبهات.
عبثا حاولنا اقتسام المبلغ في حينها الا انه نهرنا جميعا وكان اكثر عصبة بيننا شاب في الاربعين من عمره. اتهمنا بالغباء لاقتسام المبلغ وتوزيعه بالتساوي بيننا كي لا ينكشف امرنا بسرعة وتتم الوشاية بنا لدى العصابات الكبيرة الاخرى. وتم الاتفاق على توزيع المبلغ بعد ثلاثة شهور حتى يتم نسيان الامر. الا ان الذي حصل لم يمر شهر واحد حتى تم اكتشاف موقع النقود المخبأة في شارع فلسطين وتم رصده .
لا اعلم من أي جهة هم . لقد قتلوا الرجل الكبير صاحب الفكرة رميا بالرصاص امام عتبة باب داره. وتم تصفية اخي الكبير ايضا في اليوم الثالث من مجلس العزاء ذاته, وفي الاربعين تمت تصفية اخي الثاني الذي كان لا يفارق الدار في شارع فلسطين خوفا من نقل الاموال الى جهة غير معلومة. انسحب اغلب اعضاء العصابات الثلاث الاخرى ومنهم انا سلمت بجلدي دون ان احصل على دولار واحد. وانا اعمل الان كما ترى سائق تكسي بالاجرة . أي اعمل بالاجرة اليومية لدى اصحاب سيارات التكسي.
في الحقيقة لا اعلم كيف ابدأ معك وكيف انتهي . ارجوا ان يكون ما حصل لك ولاخوتك درسا بليغا في العضة والاستقامة على طريق الحق. حجي اقسم لك بالله ان الاموال تمت تزكيتها واعطينا الخمس للملا . أي خمس ما جمعنا من المال والباقي حلال زلال علينا كما ذكر لنا ذلك الملا. وليدي كما قلت لك لا اعلم كيف ابتدء معك وكيف انتهي . وها هي مديرية الجنسية العامة تلوح من قريب وشكرا لك . رميت له اجرته على المقعد حالما وطأت قدماي الارض وهو محدقاً بي كانني زائر غريب وعجيب قادماً من كوكب آخر .
تكسي بغداد  3
تكسي.. تكسي.. تكسي.. آه .! فاتني هذا المغفل .! مر بسرعة جنونية , كيف يستطيع التوقف أزاي وهو مسرعاً هكذا.؟ مرت عشر دقائق ثقيلة ولا تكسي يلوح في الافق. انه وقت الصباح الباكر والكل ذاهب الى عمله الموظف في وظيفته والعامل في محل عمله والطالب في مدرسته وهلم جرى. لا احب الانتظار في أي شيء انه يبعث على الملل والسأم. هاهي سيارة الاجرة تلوح لي من بعيد بلونها الاصفر الفاقع علها تكون خالية من الركاب. آه لو انهم مثل المصريين يحملون اكثر من راكب في طريقهم لايصالهم الى مبتغاهم.
تكسي.. تكسي.. الحمد لله توقف اخيراً, ترجلت شابه من المقعد الامامي وذهبت الى حال سبيلها, وانا الذي كنت اعتقدت انه توقف لي خصيصاً, السلام عليكم النفوس العامة قسم الوفيات في مدخل شارع الرشيد من فضلك. آسف لم الحظك أخي في المقعد الخلفي لاستعجال امري للوصول الى مبتغاي. لا عليك حجي اركب  طريقنا واحد, احتلت مقعدي الامامي .
انطلق بنا ببطئ شديد بسبب الزحام القاتل, هل يا ترى دائرة الوفيات في نفس المكان الذي اعلمه من سنوات مضت ام هي الاخرى ايضأً اصابها التغييرمثلها مثل ما حدث للبلد منذ عقد ونيف من السنين.؟ لا حجي بقيت في مكانها لغاية اليوم. اجابني الذي يجلس في المقعد الخلفي, وكيف لك ان تعلم ذلك اخي والاغراب تعج بهم بغداد, حجي ما غريب الا الشيطان انا موظف في هذه الدائرة, يظهر انك غادرت بغداد من سنين طويلة. نعم وهو كذلك , اكثر من عقد ونيف من السنين.
ما حاجتك الى هذه الدائرة؟ انها قصة طويلة لقد ارسلوني اليها من قبل ضريبة الدخل لمصادرة اموال والد زوجتي المنقولة وغير المنقولة بقرار حكومي رسمي صادر في العام 2007. هل ابتعت شيئاً لزوجتك حتى تعرضت للتحاسب الضريبي. ابداً انها دار لي ابتعنها للتو, طيب وما شأن والد زوجتك بالموضوع. اخي والله صدعوا لي دماغي في الضريبة منذ شهرين طالع نازل من ضريبة العقار الى ضريبة الدخل وانت كما تراني رجل كبير لا يحسن السير الا متعكزا على عكازه.
لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم,وما المطلوب الان من دائرة الوفياة, المطلوب استخراج شهادة وفاة تعود لوالد زوجتي المتوفي في العام 1961. ماذا....؟ نعم مثلما سمعت والد زوجتي توفي في العام 1961 والضريبة صادرت امواله المنقول وغير المنقولة بقرار رسمي في العام 2007 أي بعد مرور اكثر من اربعين عاما مضت. وهذا كتاب الضريبة اليكم موقع ومختوم حسب الاصول المرعية. تمام سنرى ما استطيع فعله لك يا حاج وباسرع وقت ممكن.
شارفت الساعة على التاسعة والنصف ونحن وسط زحمة المروربالقرب من ساحة النصر, حجي يظهر انك غادرت البلد من زمن ولا علم لك بتغير الاحوال في البلاد والعباد. نعم كانت الوجوه مألوفة لدي وانا ابن العاصمة العراقية بغداد كنت حينها لا بد ان اصادف احدهم لتبادل التحية بيننا, بالامس لا بد ان ارى احد الاصدقاء او الزملاء ها هنا وها هناك , لنتوقف قليلا ونتسامر في الحديث وينصرف كل منا الى حال سبيله . اليوم انا اسير في طرقات بغداد التي مخرت عبابها الاف المرات ولم اجد سوى الوجوه الغريبة تحدق بي كأنني امسيت انا الغريب في بلد الغرباء وهذا الامر يحزنني كثيراً ويقلقني الى حد الجنون.
والانكى من ذلك لقد تغيرت عادات وتقاليد القوم نحو الاسوء ولا بصيص أمل في النفق المظلم البهيم لا من قريب ولا من بعيد ولها المشتكى انه نعم المولى ونعم النصير. لا عليك حجي صبراً جميلاً ها نحن قد وصلنا اخيراً . هبطنا معاً واصدر صاحبي نسخة من قيد النفوس باسم والد زوجتي مثبتاً فيه انه توفي في العام 1961 مصدقة وموقعة حسب الاصول.
شكرته وانصرفت الى ضريبة العقار والدجل عفواً الدخل في منطقة السيدية وصلتها طبعاً بعد الساعة الثانية عشراً ظهرا وقد اغلقت اغلب ابواب القسم بسبب انقطاع التيار الكهرباء والمولدة بحاجة الى صيانة . تخيلوا معي دائرة تجني مئات الملائيين من الناس المساكين ومولدتها عاطلة بحاجة الى صيانه فقط .؟ يا للعجب.!! يا للعجب.!! في بلاد العجائب.؟ بغداد ام الغرائب والعجائب.!!
في صباح اليوم التالي كانت وجهتي اليهم بعد مضي ساعة تقريبا حضروا الموظفين يتوافدون فراداً وبدأالعمل الجاد بحدود الساعة العاشرة من ذلك الصباح. لم تقل لي العصفورة ذلك, بل كنت انا شاهدا على هذا العصر المزري. الذي لم تمر به البلاد بمثله ليس منذ مئات السنين بل قل بالاف السنين ولا حرج.
اتضح اخيراً انه تشابه في الاسماء وتبرأت ساحة والد زوجتي من مصادرة امواله المنقولة وغير المنقولة وهو الذي توفاه الله وبالكاد يسد رمق عيشه وعائلته . ان لله في خلقه شؤون , ولكن مدير الضريبة وموظفوه يلون الحق نحو الباطل ويبتزون المواطنين اموالهم بغير وجه حق والقانون عندهم يستخدمونه ليلا للطرب والرقص على اكتاف الفقراء والمساكين من عامة الشعب ويحكمون به نهارا عيانا جهارا . كالمومس التي تتدعي العذرية والشرف وهي في احضان خليلها على فراش العهر والفسق والفجور.
تكسي بغداد  4
تكسي.. تكسي.. يا اخي بح صوتي بالمنادات عليك وانت حتى لم تكلف نفسك الالتفات الي, طبعاً واضعاً سماعات هاتفك النقال في اذنيك . حجي والله انا كعادتي كل صباح اسمع شيئا من التلاوة المعطرة من القرآن الكريم. هيا انطلق بنا الى منطقة الوزيرية . حجي هاي وين صايرة انا اول مرة اسمع بهاي المنطقة لاني دائما اعمل بجانب الكرخ ونادراً ما اعبر الى جانب الرصافة بسبب الازدحام القاتل هناك. شكرا لك يا ولدي انا ايضاً لدي العنوان وحسب , ترجلت ثانيةً بانتظار سيارة اجرة اخرى.
رن جرس هاتفي النقال واذا بمضيفي في الطرف الاخر من الخط , يعاتبني على التاخير وهو يمقت المواعيد المتفاوته غير الملتزمة بالدقة . اجبته اهلاً بك على كوكبة الارض. اخي الحبيب لا احد يعرف عنوان محل سكناك من سواق التكسي. ما بيد الحيلة اما عليك الانتظار واما ان تلغي الموعد وتريحني من فضلك. سمعت قهقته بسماعة الهاتف وهو يرد القول اكنت تعتقد انك في اوربا ياخذك سائق التكسي الى عنوان مطلبك بواسطة جهاز تتبع الخرائط  بالاقمار الصناعية  ال جي بي اس.
صدق مضيفي القول . ها انا اخيراً عثرت على سيارة اجرة اخرى, السلام عليكم الوزيرية من فضلك قرب نادي الطليعة . آسف حجي مو على دربي . يا الهي .!!! ما هذا الهراء ايجب ان ارتجل سيارة الاجرة بحسب رغبة السائق ام بحسب رغبة الزبون . صدق مضيفي انه بلد العجائب.
تكسي .. تكسي.. مساء الخير , اهلا حجي تفضل , الوزيرية من فضلك . حجي اسف لا يمكنني الذهاب للوزيرية بسب الازدحام , طيب ساعطيك اجرتك بدون نقاش, حجي الامر لا يتعلق بالاجرة بل سيارتي عتيقة يسخن محركها بسرعة اثناء الانتظار. طيب طفي المحرك اثناء التوقف . حجي انت (اشكد تلح) وبالكاد افلتت يدي من نافذة سيارته لانطلاقه بسرعة دون اكمال حديثناً, يظهر والله اعلم قلة الادب اصبحت من سمات هذا العصر في بلدي.
تكسي.. تكسي.. تفضل يا حلو , نعم تفضل حجي . للوزيرية من فضلك . تهالكت اخيرا على مقعدي بجانب السائق. اني اراك رجل اربعيني لماذا تناديني (يا حلو) والله حجي انا لست كما تظن ولي عائلة كبيرة وافواه مفتوحة واني اعمل لدى الغير كاجير في سياراتهم الخاصة بهم. وضغط العمل والحر اللاهب والازدحام القاتل والزبائن المنغصين حياتي كل هذا الامر جعل مني امازح الزبون للتخلص من هذا العب الثقيل يعني بين قوسين ( علاج نفسي ) ثم ابتسم بكل الوان الطيف الشمسي.
صدقته من علامات كانت بادية على وجهه منها انه لم يحلق ذقنه جيداً وترك بعض الشعر الزائد هنا وهناك بشكل عشوائي بسبب عجالته للخروج من البيت او لملل اصيب به لتكرار مشواره بسيارة الاجرة كل يوم. رغم ان ملابسه جديدة وهندامه جيد الا انه يبدو كبائع رقي على قارعة الطريق ولم يهتم لمظهره وشخصيته . رغم الشيء القليل من الوسامة التي يتمتع بها.
حجي اكرر اسفي لك لمناداتك (يا حلو). ارجوك لا تغضب مني لا اريد ان افسد يومي هذا ولست كما تظن بي من خلال نظراتك لي على طول سيرنا في الطريق انا استاذ جامعي في كلية التربية الرياضية. فصلوني من الجامعة بعد الاحتلال كوني من ازلام النظام السابق. عندها ارتفع صوت قهقته بشكل ملفت للنظر. علمت حينها بهذا الكم الهائل من القهر والهم الذي يحياه هذا المخلوق البائس صباح كل يوم ومساءه.
وخيراً وجدت مضيفي ينتظرني على قارعة الطريق ولولا رؤياي له لفوًت المكان والموعد معاً. عندها اخذت اضرب على دشبول السيارة بشكل متكرر ضربات خفيفة علامة على جلب انتباه السائق الذي كان مسترسلا في حديثه معي وانا غير مهتم به سارح في عالم الخيال والوهم. انقدته فوق ما يستحق من الاجرة اتفقنا على سبعة الاف دينار اعطيته خمسة عشر الفاً . اصيب الرجل بالصدمة تداركت الموقف قلت له هذه للافواه المفتوحة التي تنتظرك في البيت. ابتسمت له اخيراً معبراً عن رضاي له كي ما يقضي بقية يومه حزينا وربما متفكرا بما جرى بينا .
تكسي بغداد  5
تكسي.. تكسي.. توقف امامي متسمرا في مكانه لم يلتفت الي بالمرة , استغربت الامر للوهلة الاولى, انتظرت ان يلتفت الي لاعلمه عن وجهة طريقي. ساد صمت ثقيل بيننا هو ناظرا امامه بنظارته السوداء الكبيرة الداكنة اللون وانا اقف بجانب سيارته متفحصاً اياه عله يتحرك قليلا او يؤمي براسه مثلاً, انتابني خوف شديد لعله اصيب بالسكتة القلبية المفاجئة التي كثيرا ما كنا نسمع عنها في الاخبار وغيرها, مرت الثواني ثقيلة وبطيئة جداً, انتابني هاجس اني تورطت في الامر وياليتني لم انادي عليه. انه حظي العاثر في صباح هذا اليوم .
طرقت زجاج نافذة السيارة لالفت نظره فما افلحت . صرخت به هلووو هاااااي, ولا حياة فيمن تنادي, اشحت بنظري نحو اليمين ونحو اليسار فلم اجد احداً يبالي بنا. قررت الهروب الى الزقاق الخلفي تاركا اياه على وضعيته, وانا متيقن لو خبرت احدا لجلب سيارة الاسعاف او احد افراد شرطة النجدة سيحدث ما لا يحمد عقباه وهو امر واقع حتمياً, وسادخل في متاهات (سين وجيم) وكيف ومتى واين وغيرها من الاسئلة التي لا يعلمها سوى عالم الغيب والشهادة.
ادرت ظهري له وهو مازال متوقفاً متسمرا في مكانه ينظر امامه دون ان تهتز له شعره. ومحرك سيارته في حالة التشغيل, فقفلت عائداً من حيث اتيت, دخلت دار شقيقي والكل ينظرون الي في دهشة . بسبب عودتي مباشرةً لهم وبينما كان اخي متهأباً للخروج الى عمله اخبرته بكل ما جرى في غرفته الخاصة بعيداً عن العائلة.
هبطنا سلم العمارة نحن الاثنين معاً مسرعين الخطى فلم نجد سيارة الاجرة وكان المكان خالي الا من بعض المارة وكان الحدث الجلل لم يلتفت اليه احداً, اين ذهب هل توفاه الله .؟ هل عثروا عليه اخيراً واصطحبوه الى مشفى الطواري,؟ هل افاق من غيبوبته دون ان يلتفت اليه احد ما واستمر في طريقة ملتقطا رزقه من ربائن ارصفة الشارع.؟ وهل .؟ وهل .؟ وهل .؟
ازدحمت الاسئلة في مخيلتي لا احسن نسيان الامر كما لم احسن التصرف في حينها كاد الامر يصيبني بالصداع من هول المفاجئة ولما حدث , ودعت اخي وبقيت متسمرا متفكرا في مكاني بانتظار سيارة اجرة اخرى. ربما يكون سائقها على قيد الحياة . يا لمهزلة القدر عندما تتشابك الاضداد وينفرط عقد الحروف والكلمات ايكون قد مات لا.. لا.. ما مات.
ناديت على سيارة اجرى اخرى واقفة على الجانب الاخر من الشارع فتحرك مسرعا للالتفاف نحوي وما ان وصل امامي حتى اوقف سيارته بحذائي مباشرةً وتسمر هو الآخر في مكانه . انحنيت له قليلاً من خلال نافذة سيارته التي بجانبي فاذا به نفس الشخص وبنفس الملامح . يا الهي ...! ما الذي اصابني.؟ لماذا انا المقصود من بين جميع الخلائق.؟ فتحت باب السيارة واحتللت مقعدي كالمعتاد وليكن ما يكن لم اعد اخشى دركاً , فقط بحاجة الى تفسير ما يحدث امامي الان في وضح النهار والشمس مشرقة على الانام.
قلت له انطلق بنا الى الباب الشرقي من فضلك. فلم يهتم بي وبقي متسمراً في مكانه, لا يلوي على شيء. اصابني الملل من هذه اللعبة السخيفة التي اوجعت كل كياناتي.كررت القول له , اخي الباب الشرقي من فضلك اما ان تتحرك او اترجل من سيارتك. طارق فتحي .. ايها الصعلوك الم تتعرف عليً بعد.؟ خلع نظارته السوداء فاذا به الاستاذ سعيد العاني كبير مفتشي الرقابة المالية في ديوان رئاسة الجمهورية العراقية , قد تغيرت ملامحه كثيراً  الا عيناه كانتا كما هي لم تتغير لذلك غطاهما بنظارته السوداء الكبيرة يا الهي سبعة وثلاثون عاما مضت على آخر لقاء عمل بيننا.
اصطحبني فورا الى داره في منطقة السفينة بالاعظمية وكان لقاءا ساخنا استرجعنا فيه ذكريات العمل بسلبياته وايجابياته وحزنت لوفاة والدته المؤمنة التقية المراءة الصالحة وكذلك زوجته ولم يتبقى له سوى ابنه احمد المعوق اثناء محاولة اختطافه ودفع فديه بمبلغ كبير كلفه بيع داره في منطقة الكفآت في بغداد, وهاهو الان يعيش في دار والدته المرحومة العتيق وقد هدمت بعض اركانه مع ولده احمد بعد ان تم طرده من وظيفته وحرمانه من التقاعد بسبب كونه من ازلام النظام السابق.؟؟؟
تكسي بغداد  6
كثيرة هي المفاجئات التي مررت بها خلال سفرتي الاخيرة الى بغداد في مقتبل العام الحالي 2018. باتاكيد ليست لهذه المفاجئات ما يسر اطلاقاً. ادون بعضها للتاريخ وللتاريخ فحسب بعيداً عن تشوهات العصر الذي نحياه في بغداد الحبيسة. لقد تعمدت هذه المرة ان اسأل كل من مر بي عن احوال اهل هذا الزمان من سواق التكسي الى اولاد المحلة .. الى كل من اصادفه بقصد الاطلاع على الاحوال عن كثب شاهدا على العصر.
اليوم تمت دعوتي الى احد البساتين الريفية بدواعي ترفيهية بصحبة ابن اخي . انطلقنا معاً منذ الصباح الباكر من يوم الجمعة الى بستان الحاج عبد في منطقة العيثات في جانب الكرخ من بغداد, محملين بزادنا وزوادنا وببنادق الصيد خاصتنا, بعد مضي زهاء الساعة ونيف وصلنا وجهتنا بسيارة التكسي الخاصة بابن اخي. حيث تركنا سيارته الحكومية في داره لسهولة التنقل بسيارة الاجرة دون مسائلة من قبل السيطرات الامنية المنتشرة على طول الطريق .
ما هذا المكان ياعمار يا ابن اخي .؟ انه بستان الحاج عبد يا عمي الغالي. ماذا..؟ بستان الحاج عبد . اين هو هذا البستان.؟ انا لا ارى سوى ارض جرداء قاحلة الا من شجرة او اثنتين رصفتا بجانب دارهم الفارهة العتيقة نسبياً. ما علينا نحن ضيوف اتينا لصيد الدراج والطيور الاخرى. ما هي الا دقائق معدودات واذا بنفر قليل يقطعون علينا الشارع الترابي اليتيم الذي يمر من بين البساتين طبعاً لفظة البساتين جاءت هنا ( مجازاً) ارض جرداء واسعة على مد البصر . ووادي عميق يمخر عباب الارض مقسما البساتين الى فئات واقسام عدة كل له مالكه الخاص ممن تملكوا هذه الارض الشاسعة وهم على ما يبدو من عشيرة واحدة او عشيرتين على اغلب الظن.
توقفنا امام ضيوفنا الذين قطعوا علينا الطريق حيث ترجلنا واستقبلنا بحفاوة وكرم اهل الريف العراقي الغني عن التعريف. وجوه مغبرة تعلوها صفرة وقترة باينة للعيان وعيون تتكلم اكثر من الافواه وحسرات محرقة تزفر بين الحين والاخر والكل واجم في صمت عميق كأنما الطير فوق رؤوسهم, ثيابهم اشبه بالاسمال الممزقة وحالهم لا تسر الصديق ولا العدو.
ارتشفنا اكواب الشاي فالتفت الى ابن اخي في خلسة من القوم . ما هذا الذي تريني اياه يا ابن اخي .؟ المفروض سفرتنا الريفية هذه ترفيهية وليست مجلس عزاء كما ارى القوم امامي . نعم يا عم سيحدثك كبيرهم الحاج عبد ويطلعك على مآساتهم بعد عودتنا من القنص باذن الله . بعدها انطلقنا بمعية اولاد الحاج عبد الى مكان آخر استغرقنا ما يقارب الساعة لصيد الحباري والدراج  وانواع الطيور الاخرى لاجل المتعة وحسب.
وجدت بساتين غناء عامرة باشجار الفاكهة والزينة ينساب من حولها المبزل كنهر كبير التف حولها كافعوانية عملاقة تسر الناظرين.كاننا دخلنا في عالم آخر موازيا لعالمنا هذا الذي اتينا منه. يشق بين العالمين وادي عميق على مد البصر كان سابقا مبزلا عظيما للاراضي الجرداء التي اتينا منها للتو. مرت الساعات مسرعة ولم نهتدي الى صيدنا باستثناء طائر صغير لا اعرف من أي الانواع هو, حظه العاثر جعله فريسة قنصنا .
تم شد الرحال للعودة لتناول طعام الغداء عند مضيفنا . التف الجميع من حولي اولاد الشيخ وعمومته في حلقة كبيرة يتوسطها سماط قد اعد للاكل عليه. علموا لاحقا اني لا استطيع الجلوس على الارض لعلة في ساقاي. غاب الابن الاكبر زهاء نصف ساعة ثم اتي لي بكرسي قديم مهشم قد ربطت بعض قوائمه بحبال القنب ثم اتوا بصفيحة كبيره كانت تستخدم للسمن البلدي يعلوها الصدأ . وضعوا صينية الطعام فوقها. ورائحة دجاج التنور المشوي تفوح منها مع رائحة التراب المرشوش بالماء كاننا انتقلنا الى قارة مجهولة في هذه الاصقاع المعمورة.
مع ان مقعدي يهتز لادني حركة اقوم بها استطعت ان التهم دجاجة كاملة مع الرز العنبر العراقي الشهير وخبز التنور الساخن وانا ارقص الفالس تارة والبوب تارة اخرى مما ساعد معدتي كثيرا في هضم الطعام بسرعة يعتد بها ويحسدني عليها غيري . تقدمت اقداح الشاي المعمول على الفحم الحجري ووضعت المنقلة وسط الجميع وتبنى الشيخ صب الشاي وتقديمه للضيوف وكان نصيبي القدح الاول قدمه لي بكل تواضع وهو يقول , تفضل استاذ من رأس القوري.
وبدأ البعض بتقديم السكائر الا اني اعتذرت منهم لاني لا اغير سكائري خوفا على صحتي . ههههههه ضحكة اطلقتها كون السكائر اصلا هي مضرة بالصحة كي اذهب الهلع والتوجس من قبل مضيفي لعلمهم اني اتيت من خارج الوطن. هنا توجهت بالسؤال الى شيخهم الكبير. مستفسراً اياه عن حال بساتينهم وزروعهم الجرداء . اطرق برأسة وخشي الرد, ولما اخبرته باني لا ناقة لي ولا جمل بالوضع القائم في عراق اليوم . انبرى بالحديث عن الظلم والحيف الذي اصابهم وان ما رايته من اراضي جرداء واسعة هي ملك طابو صرف لعشيرتهم . وحدثني عن الجنة الخضراء التي تقع قبالتهم لا يفصلها عنهم سوى هذا المبزل الكبير, ولما الححت عليه مستفسراً السبب قال لي بالحرف الواحد.
استاذ تلك البساتين التي رايتها ووصفتها بالجنة الخضراء تخص البو عامر, هنا استوقفت الشيخ ملياً , هل تقصد عشيرة (هادي العامري) ام من يكونوا البو عامر هولاء, فانا لا احسن التتبع بالعشائر والانساب. رد في معرض حديثه نعم استاذ انهم عشيرة هادي العامري . يضغطون علينا لنبيعهم ارضنا ارض الاباء والاجداد من زمن موغل في القدم.ولما علمت السبب بطل مني العجب في بلاد يعج بالعجب العجاب. ويعجب العجب من عجبه...
تكسي بغداد   7
الجمعة والسبت عطلة اسبوعية في بغداد الحبيسة , قضينا جمعتنا في احد البساتين الجرداء في اطراف بغداد, قرر ابن اخي ان نذهب جميعاً الى زيارة والدته في الاسكندرية وتحديداً في منطقة الاسكان لرؤيتهم من قبلي بعد انقطاع دام سنوات عديدة هي مدة تغربي عن بلدي. استخدمنا الباص الحكومي الصغير خاصة عمله ومع انه يحمل باج من الشركة تسمح له بالتجوال بها بعد اوقات الدوام الرسمي الا ان كثرة توقفنا وسؤالنا من قبل السيطرات الامنية على طول الطريق من بغداد الى الاسكندرية ازعج سفرتنا كثيراً ونغص على الجميع فرحتهم وعلى الاخص عائلة ابن اخي التي نادرا ما كانت تغادر دارها, بسب خراب المجتمع البشري في بغداد الحبيسة .
بعض السيطرات تبعد عن بعض البعض بحيث تستطيع المنادات فيما بينها بكل يسر وسهولة .مع ان بحوزتهم انواع من الاجهزة المستخدمة في كشف المعادن والاثار الا ان بعض الذين يستخدمونها محسوبون على الابقار. احد السيطرات اوقفت سيارتنا كون فيها عائلة واذا بالجندي يحدق بالجميع بلا حياء او خجل ولم يكتفي بذلك بل التف حول السيارة وامر سائقها ان يفتح الابواب واخذ يتفحص الجميع بجهاز الزاهي المثير للسخرية والجدل الغير موصول بحزامه وكان مقطوعا عن المصدر وهو لا يعلم بذلك , والذي لايزال مصنعة ومصدره الرجل الانكليزي الجنسية قابعاً في سجن بلده بدعوى الغش الصناعي.
ولما نفذ صبري قلت للجندي خير ماكو شي ان شاء الله. رمقني بنظرة حاقدة اضحكتني كثيرا الا اني استطعت التحكم بضحكتي وكتم انفعالي وعدت الى الصمت ثانيةً. وما ان مضينا في حال سبيلنا بعدة امتار حتى اوقفتنا سيطرة ثانية فيها من الجنود الاطفال , ما تدلت على سواعدهم اكتاف بزاتهم الرسمية ومع ان اطراف الاكمام قد لفت عدة مرات لاعلى الساعد الا ان اغلب اكفهم واصابع ايديهم مخفية تحت اكمام اياديهم . شيء مثير للشفقة لا توجد قيافة عسكرية بالمرة وهم يتبخترون كانهم شعب الله المختار حول السيارة في نوع من الاستهزاء على من فيها كاقزام جن مشوهين مسخوا بشراً للوقوف في السيطرات. والله العالم ان كانت هذه السيطرات حكومية ام لا فالبلد منساق وراء هذا الهراء الذي نشاهده في كل ركن من اركان الدولة المبجلة بالخزي والعار والشنار.
وهكذا دواليك في السيطرات الاخرى الا من رحم ربي. وصلنا اخيرا في موعد الغداء استقبلت بحفاوة منقطعة النظير بين تقبيل واحتضان وابتسامات ودموع وآهات وأنات ,اعتدلت الهيئة فيما بعد واستكانت وكان اغلب بكائي على مآسي بلادي. واقل من ذلك على طول الفراق بين الاهل والاحباب والخلان. تناولنا  الغداء في حديقة منزلهم بطلب مني وتمتعنا بارتشاف اكواب الشاي العراقي المعطر بالحنان والمغلف بالحب والاشتياق كأنني احد سلاطين ايام زمان. وكان يا ما كان من حرارة اللقاء والقاء الروع في الوجدان. علمت حينها كم انا انسان .
تسامرنا في احاديث متنوعة بداً من العائلة الكبيرة حتى الاقارب والاصدقاء والمعارف قاموس كبير شمل اسماء عدة الحي منهم والميت القريب والبعيد, وكيف تبدلت الاحوال من حال الى حال طبعاً نحو الاسوء, وكل همنا كيف نستطيع ان نراعي الاحفاد علينا بذل مجهود كبير في جعلهم يسيرون نحو الطريق المستقيم وان يتحلوا بالاخلاق الانسانية العظيمة , وسط هذا الجرم الهائل من قبل الدولة والشعب وظهور فئات وطبقات وشرائح لم نكن نعلم اسمائها او تداول مفرداتها لندرة حدوثها مغيبة تحت قمصان الحق وياقات الفضيلة رافعة شعار الانسان والانسانية . كلمات والفاظ واصطلاحات لم يفهم معناها الجيل الجديد من الشباب الذي تربى في زمن التردي والسقوط نحو الهاوية فما بالك بالاحفاد, اليوم وغداً يا هند سينبأك بالاخبار مالم تعلمي.والسلام على دارالسلام...
تكسي بغداد  8
تكسي .. تكسي.. السلام عليكم .. ممكن من فضلك تقلني الى الكاظمية, حجي ما اروح للكاظمية بعيدة وازدحامات.. ابني انت على باب الله وهذا رزق مقسوم لك. ليش ترفض النعمة .. حجي ارجوك احترم نفسك اني مو مكدي يقصد (شحاذ) لتقول لي اني على باب الله, العفوووو اغاتي تاج رأسي اني اعتذر منك الله وياك, يا الهي ..! ما هذه الاخلاق الوضيعة والجهل المطبق في مصطلحات القوم الغالب عليهم سوء الظن والاثم والعدوان.
تكسي.. من فضلك اخاطبك بكل احترام اريد الوصول الى منطقة الكاظمية ممكن. نعم استاذ ممكن تفضل ولكن الاجرة سبعة الاف دينار, اتفقنا, نعم اتفقنا اجبته وانا متوجس منه ربما لعدم فهم بعض كلماتي, اثرت الصمت فصمت طويلاً, استاذ مبين عليك تعبان, لم اجبه احترت بماذا ارد عليه, واخيرا نفذ صبري فكلمته , لا والله يا ابني لست تعبان بل مهضوم على تربية شبابنا الذين سيحملون راية النهوض بالبلد من جديد .
استاذ حضرتك محامي لو صحفي , لا هذا ولا ذاك حضرتي زفت وتورطت بالمجيء الى بغداد لارى بام عيني حال خراب البلد حكومةً وشعباً, استاذ آسف ان ازعجتك انا ولدك محمد علي ابو صالح خريج تربية وعلم نفس بدون تعين لمدة ست سنوات. اضطررت ان ابيع فيها مصاغ وحلي زوجتي من الذهب والفضة وبمساعدة والدي تمكنت من شراء سيارة الاجرة هذه كوسيلة للعيش الكريم وان لم يفلح الامر معي فبين كل سيارة اجرة وسيارة سيارة اجرة اخرى البلد معبأ بالسيارات الصفراء.
ضياع رهيب هذا الذي يعيشه الشباب في بلد تمخر عبابه نهران عظيمان بروافدهما العديدة وتختزن ارضه المعادن النفسية ويعوم على محيط من النفط والغاز, والله انه لامر عجيب لما يحدث في بلدنا ولدي الحبيب . . بداهة خشي الشاب التعقيب على كلامي خوفا ورهبةً لما يحاك في الخفاء من امور يصعب تصديقها من الاختطاف بسبب الفدية الى الاغتصاب القسري للنساء والرجال على حد سواء,
نعم استاذ حال البلد لا تسر وما تعلمه حضرتك عن طريق الاخبار والاعلام على ندرته هو كجبل الجليد العائم وسط المحيط ,الظاهر منه جزء صغير واضح للعيان واغلبه ان لم يكن جله مغمورا في المياه مخفيا عن الانظار..اخي ضابط في وزارة الداخلية قسم الادلة الجنائية يحكي لي امور يشيب لها الولدان من اغتصاب الاخ لاخته والاب لابنته او لزوجة ولده ونكاح المحارم من العمات والخالات وفي اغرب القضايا التي سمعتها منه تلك العلاقة المحرمة بين الام وولدها الشاب اليافع التي استمرت طوال خمس سنوات افتضح امرها اخيراً وتم اعدامها بتكتم شديد من قبل الدولة والاعلام وغيرها الكثير الكثير من التحرش الجنسي بين البشر والحيوانات وظاهرة الزنى المثلي بين الشباب وكذلك الحال في ظاهرة الزنى بالسحاق بين البنات وبين النساء المتزوجات ايضاً.
اغلب هذه القضايا استاذي الفاضل سببها المخدرات التي غزت البلد كالنار في الهشيم والطامة الكبرى بعض مهربي هذه المخدرات من رجال الدين الكبار المحميين بمليشيات مرهوبة الجانب حتى الدولة لا تستطيع التعرض لهم لشدة بأسهم وكثرة عددهم وعدتهم ,  كل هذا يحدث بسبب المال السحت الحرام . استاذي الفلوس تخرب النفوس.
والسبب الاخر للانحلال الخلقي والاخلاقي الحاصل في المجتمع الان الا من رحم ربي هو الانترنيت ومراكز التواصل الاجتماعي مع غياب ولي الامر بسبب الحروب او السفر لايجاد فرص عمل له ليحيا بصورة كريمة دون عوز او مد اليد للاخرين. ترى حشرة السوسة تنخر في ابنائة وبناته دون علم منه بذلك لعدم تواجده في البيت باستمرار. ناهيك ممن اعييتهم الحياة من ضعيفي النفوس وارتضوا الدياثة لعوائلهم وهذه الحالة في انتشار وازدهار عظيمين وان يكن في الخفاء.
المحسوبون على الدولة والحكومة لديهم حصانة ابدية  ضد المسألة القانونية أي كان نوعها هم وعشائرهم وترى غير ذلك في عموم ابناء الشعب الا من توارى في الحجاب فطفق مسحاً بالسوق والاعناق, وليس ينبأك مثل خبير درس علم النفس وعلم الاجتماع وبات خبيرا في الحالات الشاذة التي تسود المجتمع وتتسيده في اسبابها ونتائجها . ولا يفوتني ان اذكر لك استاذي الكريم لكل قاعدة استثناء ويستثنى من كلامي هذا قلة قليلة باقية من الشرفاء الذين لم يصبهم الاندثار اغلبهم خارج دائرة الضوء .
هذه عشرة الاف دينار سبعة منها اجرتك والباقي حلال زلال عليك وشكرا للمعلومات القيمة وان كنت اعلمها ولكني لست متأكد منها لكثرة زيف واكاذيب الاعلام العراقي والعربي وللاسف الشديد . حياك الله وانبت ابنائك المنبت الحسن . وفي آمان الله وحفظه ورعايته لقد ارعبتني اخي الحبيب.
تكسي بغداد 9
الوووو.. عادل مساء الخير.. ممكن تدبر لي تكسي في هذه الساعة المتاخرة من الليل .. لا اعرف احداً غيرك اتصل به. وشكرا لك سلفاً . طيب يا عم طارق ساتصل بك حين اتدبر الامر السلام عليكم .. مع السلامة. بعد دقائق معدودات عاود عادل الاتصال بي ثانيةً , نعم وجدت لك احدهم لم يعمل طوال النهار كانت سيارته مركونة عند مصلح السيارات ( الفيتر) . سارسله الى دارك. شكرا جزيلاً لك اخي الحبيب .
بعد دقائق معدودات حضر شاب حسن الهيئة والمنظر جميل الوجه اسمر البشرة الى جانب كبير من الوسامة تجاوز عمره للتو العشرون عاماً, طرق الباب بلطف استقبلته على عجل فاصبحت متهالكا على مقعد سيارته واشرت له بالذهاب الى الكرادة داخل , اخذ الشاب ينظر الي ويبتسم بين الفينة والاخرى ولولا علمي باخلاق عادل الشاب الذي ارسله الي لقلت في سري انه احد الشباب الشواذ.
اردفته قائلاً اراك كثير الابتسام معي في هذا الوقت المتأخر من الليل المفروض ان يكون التعب والنصب قد اصابك جراء تصليح سيارتك ورحلاتك المكوكية لجلب وتوفير الادوات الاحتياطية والمستلزمات الاخرى وغيرها. ومع هذا لا يبدوا عليك انك بذلت جهدا هذا اليوم. اتسعت ابتسامته كثيراً مما اغاضني بشدة .
يا عم طارق الم تتعرف علي , انا حيدر ابن صديق عمرك وجارك عبد الكريم كثيراً ما كان والدي يحدثنا عن صداقته معك ويتباهى بها امامنا حتى وودت وانا صغيراً ان اراك شخصياً والحمد لله حقق الله لي امنيتي بالتشرف بك والتعرف عليك عمي الغالي, وهذا ما كان سبباً في ابتساماتي المتكررة لك على طول الطريق . والله حسبتك من الاولاد الشواذ معاذ الله فاطلقنا نحن الاثنان ضحكة هسترية في جوف ليل بغداد الهاديء ظاهرياَ والصاخب كثيراً في لياليه الحمراء خلف الابواب الموصدة.
يا عم هذا المكان مشبوه في مثل هذه الساعة من الليل ما حاجتك للذهاب الآن .  لا استطيع ان اخبرك يا ولدي العزيز هي حاجة في نفس يعقوب علي قضائها والكتمان اولى من فضح النفوس والليل ستار مثل ما يقول المثل الشعبي الدارج. ففهم مني الاشارة فاغنته عن العبارة .
ممكن تنتظرني فانا لم اجد تكسي يوصلني حيث اقلتني والوقت متأخر. نعم ياعم اني انتظرك حتى لو تأخرت كثيراً. لا عليك نصف ساعة على اكثر تقدير. تدبرت امري وقضيت حاجتي ومنعت جريمة كانت ستحدث لولا وصولي ووجودي في الوقت المناسب . بسبب شهود شخوصي في هذه القصة وانهم في صفحتي في نادي القصة القصيرة لافصحت الامر كثيراً واوضحت أي السفالات مقدمة عليها بلادي التي رفعت من الظلم شعارا جديداً مؤطراً بالفساد الخلقي والاخلاقي في جميع مناحي الحياة . الا من رحم ربي .
عدت بعد غياب ما يقارب النصف ساعة او ما يزيد قليلاً وانا منتشي لعملي الخيري هذا تحسباً لوجه الله رغم المخاطرة بالخروج في ليل متأخر والله شاء ان تاتي بالامور والعواقب سليمة وعلى خير . فسلمت ومن ذهبت لاجلهم سلموا ايضاً وغامرت بسببهم والحمد لله من قبل ومن بعد وعلى الله فليتوكل المتوكلون.
تكسي بغداد  10
الوووو تكسي.. قفزت من امامه بشكل هستيري كاد ان يدهسني اثناء توقفه المفاجيء وهو المسرع كثيراً يتسابق مع سيارات الاجرة الاخرى في التقاط الاشخاص من على قارعة الرصيف . لم اعره انتباهاً واشحت بوجهي كأنني لا اريد الذهاب معه لاستهتاره في توقفه الارعن مع كبر سنه . الا انه فتح باب سيارته ملتفاً حولها منادياً على اسمي معرفاً نفسه . فاذا به احد زملاء الدائرة الحكومية التي كنت اعمل فيها منذ سنين طويلة خلت . وكان في حينه معروفاً عنه انه خفيف الحركة.
حاول تقبيلي كعادة العراقيين حين يلتقون بعد غياب طال ام قصر . الا اني اشحت بوجهي عنه مفتعلاً السعال الكاذب . عبد الحسين الم تنتهي من جنونك ايها الوغد. الم تتبدل اطباعك كل هذه السنين اما زلت كثير الحركة تقذف هذا وذاك بالبهتان الباطل وتفتعل المشاكل وتخرج منها سالم. حبيبي ابو زياد دعك من الماضي الى اين تروم الذهاب ساقلك كلمح بالبصر.
اخي وزميلي كما ترى الشارع يعج بسيارة الاجرة وانا لم افلح هذا اليوم وكل ما حصلت عليه انقدتني اياه محطة البانزين والباقي تم صرفه على السكاير والطعام خارج المنزل وفوق هذا كله تعرضت لغرامة مرورية قدرها خمسة وعشرون الف دينار وهذا هو وصل الغرامة. مع اني لم اصدق حرفاً واحداً مما قاله الا انني انقده المبلغ دون اكتراث. فتركني الى حال سبيله وما هي الا لحظات حتى غاب وسط سيارات الاجرة الاخرى الصفراء...