مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

* دعوى أن أحاديث "النيل والفرات من الجنة " تخالف الواقع - الطعن في اللهم أحيني مسكينا

اذهب الى الأسفل

* دعوى أن أحاديث "النيل والفرات من الجنة " تخالف الواقع - الطعن في اللهم أحيني مسكينا Empty * دعوى أن أحاديث "النيل والفرات من الجنة " تخالف الواقع - الطعن في اللهم أحيني مسكينا

مُساهمة  طارق فتحي الثلاثاء ديسمبر 16, 2014 9:05 am

مضمون الشبهة:
يطعن بعض المشككين في الأحاديث التي ذكرت أن النيل والفرات من الجنة، والتي جاءت في الصحيحين وغيرهما من كتب السنن، فقد روى البخاري في صحيحه في حديث المعراج الطويل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثم رفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبقها[1] مثل قلال هجر[2]، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان ياجبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات».
وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أربعة أنهار من الجنة: النيل والفرات وسيحان وجيحان».
ويستدلون على بطلان هذه الأحاديث بأنها تخالف الواقع المشاهد، إذ ثبت أن نهر النيل يتدفق من الحبشة لا من الجنة كما تقول الأحاديث، ويتساءلون: هل الجنة في الحبشة حتى ينبع منها النيل؟ وكذلك الفرات فهو نابع من الأرض لا من الجنة.
ويزعمون أن هذه الأحاديث أخذها أبو هريرة عن كعب الأحبار، فهي من الإسرائيليات المدسوسة على الإسلام.
رامين من وراء ذلك إلى الطعن في الأحاديث الصحيحة.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن الأحاديث التي جاء فيها أن «النيل والفرات من الجنة» صحيحة في أعلى درجات الصحة، فقد اتفق عليها الشيخان، ولا تعارض الواقع في شيء؛ إذ إنها جاءت على سبيل التشبيه، بأنها تشبه الجنة في صفتها وعذوبتها وكثرة خيراتها، أو أن أصل النيل والفرات في الجنة، ولهما مادة من الجنة، وهذا الأخير لا يمنعه العقل، بل يشهد له ظاهر النصوص، وهو المعتمد.
2) إن الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النيل والفرات لا يشبه حديث كعب في شيء، والأقرب للصحة أن يكون حديث كعب تفسيرا لحديث أبي هريرة، عملا بقوله عز وجل: )مثل الجنة التي وعد المتقون...( (محمد: ١٥) فدل هذا على بطلان القول أنه من الإسرائيليات.
التفصيل:
أولا. صحة حديث "النيل والفرات من الجنة"، وعدم مخالفته الواقع:
إن حديث النيل والفرات من الجنة صحيح في أعلى درجات الصحة؛ فقد رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، فهو متفق على صحته عندهما، وكل ما في الصحيحين هو صحيح بإجماع الأمة على ذلك.
وقد روى البخاري هذا الحديث: عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة - رضي الله عنه - في باب المعراج في حديث طويل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثه عن ليلة أسري به قال: «... ثم رفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات...»[3] الحديث.
وروى مسلم أيضا في صحيحه عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة - رضي الله عنه - أنه قال: «... وحدث نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران، ونهران باطنان، فقلت: ياجبريل ما هذه الأنهار؟ فقال: أما النهران الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات...»[4] الحديث.
وروى أحمد في مسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيحان وجيحان[5] والنيل والفرات وكل من أنهار الجنة، قال عبد الله: قال أبي: قال أبو أسامة: كل من أنهار الجنة»[6].
فكان من هذه الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله حقيقة، وهو صحيح دون أدنى شك في ذلك من ناحية سنده، أما متنه فهو لا يعارض الواقع في شيء، وما كان لنبي الله أن ينطق بشيء يخالف الحقيقة أبدا، وهو الذي قال عنه الله عز وجل: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم).
أما ما ادعاه المشككون من تعارض ما جاء به الحديث مع الواقع، فهذا من الجهل الصارخ؛ إذ لو تواضع هؤلاء قليلا - كما يقول الدكتور القرضاوي - ورجعوا إلى شراح الأحاديث، أو سألوا العلماء المتضلعين لبان لهم الحق كالصبح لذي عينين، ولكن الكبر والغرور من أعظم الحجب عن رؤية الحقيقة[7].
وقد ذهب شراح الحديث في ذلك مذاهب عدة، فقال بعضهم: الحديث ليس على حقيقته، وإنما الكلام على سبيل التشبيه، وأن هذه الأنهار تشبه أنهار الجنة في صفتها وعذوبتها، وكثرة خيراتها ونفعها للناس، وهو تأويل مقبول ومستساغ لغة وشرعا، ومن تتبع كلام العرب في الجاهلية وصدر الإسلام يجد من أمثال ذلك الشيء الكثير، فتلك الأنهار لبركتها أضيفت إلى الجنة، كما تقول في اليوم الطيب: هذا يوم من أيام الجنة، وكما قال صلى الله عليه وسلم: «...واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف»[8] ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: «الحجر الأسود من الجنة»[9].
وقال بعضهم: "إن في الكلام حذفا، والتقدير من أنهار أهل الجنة، ففيه تبشير من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله سينجز له وعده، وسينصره، وسيظهر له دينه على الأديان حتى يبلغ مواطن هذه الأنهار الأربعة وغيرها - إذ ذكرها على سبيل التمثيل لا الحصر - وهذا ما كان، فلم يمض قرن من الزمان حتى امتد سلطان الإسلام من المحيط الأطلسي إلى بلاد الهند"[10].
قال ابن حزم عند تعليقه على حديث الروضة وهذا الحديث:
"وهذان الحديثان ليس على ما يظنه أهل الجهل من أن تلك الروضة قطعة منقطعة من الجنة، وأن هذه الأنهار مهبطة من الجنة، هذا باطل وكذب؛ لأن الله - عز وجل - يقول في الجنة: )إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى (118) وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى (119)( (طه)، فهذه صفة الجنة بلا شك، وليست هذه صفة الأنهار المذكورة ولا تلك الروضة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا الحق، فصح أن كون تلك الروضة من الجنة إنما هو لفضلها، وإن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة، وإن تلك الأنهار لبركتها أضيفت إلى الجنة، كما تقول في اليوم الطيب: هذا من أيام الجنة، وكما قيل في الضأن: إنها من دواب الجنة"[11].
وعليه فقد جاء هذا الحديث على سبيل التمثيل، "فقد مثل له - صلى الله عليه وسلم - النيل والفرات هنالك تمثيلا، كما مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط وهو قائم يصلي... وكما مثل له عيسى ابن مريم والمسيح الدجال، أحدهما يتبع الثاني، وكما مثل له موسى - عليه السلام - وهو راكب حاجا ينحدر من الوادي. وأمثاله كثير... وقد ذهبت طوائف من العلماء إلى أن ذلك كله على سبيل التمثيل والتصوير، فكذلك حديث النيل والفرات مثلا له - صلى الله عليه وسلم - في السماء قرب سدرة المنتهى فرآهما، فهذا الرأي يساير الحس والعقل والشرع واللغة، ولا يخالف منها واحدا، فلزم حمل الخبر عليه ولا مندوحة عنه.
ولله سر في تمثيل هذين النهرين له - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليلة العظيمة"[12].
فإن قيل: كيف طريق الجمع بين رواية: «إن النيل والفرات عند سدرة المنتهى أصلهما في السماء السابعة» ورواية: "أنهما في السماء الدنيا لذكره عنصرهما، وهو أصلهما؟"
ففي رواية مالك بن صعصعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأى في أصل سدرة المنتهى أربعة أنهار، نهران باطنان، ونهران ظاهران، فسأل عنهما جبريل فقال: «...أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات...»الحديث.
وجاء في رواية شريك بن عبد الله عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: "«... فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان، فقال: ما هذان النهران ياجبريل؟ قال: هذان النيل والفرات عنصرهما...»[13].
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: "وظاهر هاتين الروايتين متغاير، والجمع بينهما أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهري الجنة، ورآهما في السماء الدنيا دون نهري الجنة، وأراد أن أصل نبعهما - النيل والفرات - من تحت سدرة المنتهى، ومقرهما في السماء الدنيا، ومنها ينزلان إلى الأرض، والعنصر هو الأصل. أما الباطنان فهما السلسبيل والكوثر"[14].
"قال الحافظ ابن دحية: ولنا في التأويل وجهان سديدان:
أحدهما: أن يكون محمولا على ظاهره، ويكون معناه: أنه لما رأى عند سدرة المنتهى هذين النهرين مع نهري الجنة، وذلك في السماء السابعة، ورأى في السماء الدنيا هذين النهرين دون نهري الجنة كان لاختصاصهما بسماء الدنيا أصل من حيث الاختصاص، وهو الامتياز لهما دون نهري الجنة، سمى ذلك الامتياز والاختصاص عنصرا، أي عنصر امتيازهما، واختصاصهما، فهذا وجه سديد.
والوجه الثاني: أن يكون عنصرهما مبتدأ يتعلق به خبر سابق، لم يتقدم له ذكر من حيث اللفظ، لكن من حيث العهد، ويكون معناه: هذا النيل والفرات، فيتم الكلام، ثم يكون عنصرهما ما كنت رأيت عند سدرة المنتهى يا محمد، فاكتفى بالعهد السابق عن إعادة الكلام، وهذا وجه سديد أيضا. وقد صح الجمع بين الحديثين، فلم يتعارضا ولم يتنافيا ولم يتناقضا"[15].
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم: «سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل، كل من أنهار الجنة»[16].
فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فجرت أربع أنهار من الجنة: الفرات، والنيل، وسيحان وجيحان» [17].
قال الحافظ ابن حجر: فلا تغاير هاتين الروايتين ما قبلهما؛ لأن المراد بهما أن في الأرض أربعة أنهار أصلها في الجنة، وحينئذ لم يثبت لسيحون وجيحون أنهما ينبعان من أصل سدرة المنتهى، فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك، وأما الباطنان المذكوران في الحديث الطويل، فقد تبين - من قبل - أنهما السلسبيل والكوثر، فهما غير سيحون وجيحون[18].
ولا يلزم من هذا أن يكون أصل السدرة في الأرض، فإن المراد بكونهما - النيل والفرات - يخرجان من أصلها غير خروجهما بالنبع من الأرض.
والحاصل أن أصلها في الجنة، والنيل والفرات يخرجان أولا من أصلها، ثم يسيران إلى أن يستقرا في الأرض، ثم ينبعان، واستدل به على فضيلة ماء النيل والفرات لكون منبعهما من الجنة، وكذا سيحان وجيحان.
ثانيا. الحديث الوارد في أن النيل والفرات من أنهار الجنة ليس من الإسرائيليات في شيء:
إن الزعم بورود حديث "النيل والفرات من الجنة" في التوراة في "سفر التكوين" لا يعد دليلا على أنه مأخوذ من الإسرائيليات؛ إذ ليس في العقل ولا في الشرع ما يمنع من أن تتوافق الرسالات في بعض التشريعات، وما حرف من الكتب السماوية السابقة لا يعني تحريف جميعها، والقرآن الكريم بحكم أنه سالم من التحريف والتبديل، فهو المهيمن على الكتب السماوية السابقة، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه فهو باطل، وليس العكس كما يزعم أعداء السنة الشريفة.
يقول د.محمد أبو شهبة: "وبقليل من التأمل يتبين لنا أن ادعاء تأثر أبي هريرة فيما رواه كعب بعيد، ولا يعدو أن يكون تظننا وتخمينا، فالحديثان متغايران، والأقرب أن يكون كلام كعب تفسيرا لحديث أبي هريرة على ضوء ما فهمه من قوله عز وجل: )مثل الجنة التي وعد المتقون...( (محمد: ١٥)"[19].
وهذا ما أكده د.عماد الشربيني قائلا: "وحديث كعب يقول: «أربعة أنهار من الجنة، وصفها الله - عز وجل - في الدنيا، النيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة، وسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة»، وهو متغاير تماما عن حديث أبي هريرة الذي معنا، والأقرب أن يكون كلام كعب تفسيرا لحديث أبي هريرة على ضوء ما فهمه من قوله تعالى: )مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم( (محمد: ١٥)[20].
وبناء على ما سبق فإن الأحاديث التي دلت على أن النيل والفرات من أنهار الجنة أحاديث صحيحة في أعلى درجات الصحة، لا يشك أحد أنها خرجت من مشكاة النبوة، وهي لا تخالف العقل أو الواقع في شيء؛ إذ المقصود أنهما يشبهان أنهار الجنة في صفتها، وعذوبتها، وكثرة خيراتها، فقوله - صلى الله عليه وسلم - محمول على التشبيه لا على الحقيقة؛ ورأى بعض الأئمة أن النيل والفرات اللذين قصدهما النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث هما نهران في الجنة غير النهرين اللذين في الدنيا، وبهذا يزول الإشكال في الحديث.
ونختم حديثنا بكلمة طيبة للأستاذ الدكتور محمد أبو شهبة عن هذا الحديث إذ يقول: "وأيا كان التأويل، فالحديث مستساغ لغة وشرعا، وقد كان الصحابة - بذكائهم، وصفاء نفوسهم، وإحاطتهم بالظروف والملابسات التي قيل فيها هذا الحديث وأمثاله يدركون ما يريده النبي - صلى الله عليه وسلم - من مثل هذا الحديث الذي قد يشكل ظاهره على البعض، ولذلك لم يؤثر عن أحد منهم - على ما كانوا عليه من حرية الرأي والصراحة في القول - استشكال مثل هذا الحديث" [21].
الخلاصة:
·       إن الأحاديث القائلة بأن النيل والفرات من أنهار الجنة أحاديث صحيحة في أعلى درجات الصحة، فقد رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما في أكثر من موضع، فهي أحاديث متفق على صحتها إلى جانب رواية أصحاب السنن والمسانيد لها في كتبهم.
·       إن حديث «النيل والفرات الجنة» لا يخالف الواقع في شيء، فالمقصود بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «النيل والفرات من أنهار الجنة»، أي تشبه أنهار الجنة في صفتها وعذوبتها ونفعها، فأضيفت صفة الجنة إليهما، كما نقول مثلا: العجوة من الجنة لفضلها، وكذلك هذا يوم من أيام الجنة لفضله وغير ذلك.
·       رأى بعض العلماء أن المقصود بالحديث: أنهار أهل الجنة، ففيه تبشير للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله سيفتح عليه تلك البلاد، وتصبح هذه الأنهار للمسلمين الذين يسكنون الأرض التي فيها هذه الأنهار.
·   لقد أجمع المحققون من أهل العلم مثل الحافظ ابن دحية، والحافظ النووي، والحافظ ابن حجر على أن الأرض بها أربعة أنهار أصلها من الجنة، أي لها مادة من الجنة، وظاهر النصوص يدل على هذا، وهو المعتمد عند أهل السنة، ولا يعني هذا أن سدرة المنتهى في الأرض كما توهم بعض الناس، بل إن حاصل هذا أن أصل هذه الأنهار من الجنة، ومنبعها في الأرض.
·       إن الزعم بأن أبا هريرة أخذ هذا الحديث عن كعب الأحبار زعم باطل؛ إذ إن هناك اختلافا بينا بينهما، والصحيح أن قول كعب جاء تفسيرا لقوله تعالى: )مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم( (محمد: ١٥)، وليس في العقل ولا في الشرع ما يمنع أن تتوافق الشرائع في بعض التشريعات، وما حرف من الكتب السماوية السابقة لا يعني تحريف جميعها، والقرآن الكريم بحكم أنه سالم من التحريف والتبديل؛ فهو المهيمن على الكتب السماوية السابقة، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه فهو باطل.
الطعن في حديث "اللهم أحيني مسكينا
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المتوهمين الحديث الذي ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين»، واصفين سنده بالضعف ومتنه بالشذوذ، ويستدلون على ذلك بأن الحديث قد روي من طريقين مختلفين، وهما طريق ثابت بن محمد العابد الكوفي، والآخر يزيد بن سنان، وكلاهما مجروح عند العلماء. ثم إن في السنة النبوية أحاديث كثيرة تتعارض مع هذا الحديث، مثل قوله: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى»، وكذلك قوله: «أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع»، «وأعوذ بك من الكفر والفقر»، لا سيما وأن المسلمين لو ساروا على مثل هذا الحديث الذي يدعو إلى الفقر والمسكنة؛ لانهارت دولتهم، ولما وجد فيها من الأغنياء الأقوياء أمثال أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - الذين نصروا الإسلام بأنفسهم وأموالهم، وقصة عثمان في تجهيز جيش العسرة مشهورة، فهو بذلك يتناقض مع روح الشريعة وحكمتها في طلب الغنى.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن حديث «اللهم أحيني مسكينا...» يرتقي بمجموع طرقه إلى درجة الصحة، فقد رواه الترمذي عن ثابت بن محمد عن أنس - رضي الله عنه - ورواه ابن ماجه عن يزيد بن سنان عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وقد صحح الألباني - رحمه الله - روايتيهما بشيء من التفصيل.
2) هذا الحديث لا يتعارض مع أحاديث سؤال الرسول - صلى الله عليه وسلم - الله الغنى والاستعاذة من الفقر؛ لأن المسكنة لا تفسر بالفقر، بل تعني الإخبات لله والتواضع له، لا سيما وأن الله قد امتن على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالغنى؛ حيث قال: )ووجدك عائلا فأغنى (Cool( (الضحى) وطالما أن المسكنة لا تعني الفقر، فليس الحديث دعوة إلى الفقر أو التفاقر كما يزعمون.
التفصيل:
أولا. إن حديث: «اللهم أحيني مسكينا...» صحيح سندا، فقد رواه الترمذي وابن ماجه في سننيهما، وصححه الألباني بمجموع طرقه:
لقد ورد بشأن زهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا أحاديث كثيرة تؤكد أنه كان يرضى منها بالقليل الذي يقيم الصلب، ومن جملة هذه الأحاديث ما رواه الإمامان الترمذي وابن ماجه في سننيهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين».
والناظر إلى سند هذا الحديث عند كلا الإمامين يجد أن به ضعفا، فرواية الترمذي من حديث أنس - رضي الله عنه - رواها عنه ثابت بن محمد الكوفي عن الحارث بن النعمان عن الليثي عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره، وزاد: «... يوم القيامة، فقالت عائشة: لـم يا رسول الله؟! قال: إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا، يا عائشة، لا تردي المسكين ولو بشق تمرة، يا عائشة، أحبي المساكين وقربيهم؛ فإن الله يقربك يوم القيامة»[1].
وتعقبه الترمذي بقوله: "حديث غريب"[2].
وقال الألباني في "إرواء الغليل": "قلت: يعني ضعيف، وعلته الحارث هذا، قال البخاري: منكر الحديث، وكذا قال الأزدي، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي في الحديث، وتناقض فيه ابن حبان، فذكره في "الثقات"، وفي "الضعفاء" أيضا كما في "التهذيب". وقال الحافظ في "التقريب": ضعيف، وبه عله ابن الجوزي في "الموضوعات" وقال: منكر الحديث. وتعقبه السيوطي في "اللآلئ" بقوله: هذا لا يقتضي الوضع"[3].
وحديث أنس - رضي الله عنه - «اللهم أحيني مسكينا...» صحيح، أما تلك الزيادة التي أوردها الترمذي من أول قول عائشة: «لم يا رسول الله...» فضعيف جدا، كما بين ذلك الشيخ الألباني[4].
أما ادعاء هؤلاء ضعف ثابت بن محمد الكوفي فغير صحيح؛ فإن ضعفه بعض العلماء، فقد وثقه أكثرهم، فقد قال فيه أبو حاتم: صدوق... ووثقه مطين، واحتج به البخاري، وقال: ما أسرج في بيته منذ أربعين سنة، حدث عنه فطر، ومسعر، وعنه البخاري وأبو زرعة، وأبو حاتم[5].
وقال الحافظ ابن حجر: روى عن الحارث بن النعمان ابن أخت سعيد بن جبير، وعن الثوري، ومسعر، وإسرائيل، وفطر بن خليقة وغيرهم، وعنه البخاري، وروى له الترمذي، وقال محمد بن عبد الله الحضرمي: كان ثقة، قال ابن حجر: قال ابن عدي: كان خيرا فاضلا، وهو عندي لا يتعمد الكذب. وعندما ذكره البخاري في الضعفاء أورد له حديثا، وبين أن العلة فيه من غيره، وقد ذكره ابن حبان في الثقات[6].
أما رواية ابن ماجه فمن حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - رواها عنه يزيد بن سنان عن أبي المبارك عن عطاء عنه قال: «أحبوا المساكين؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه: اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين»[7].
قال الألباني في "الإرواء": "وهذا سند ضعيف، أبو المبارك مجهول كما قال الحافظ في "التقريب"، وقال الذهبي: لا يدرى من هو، وقال مرة أخرى: لا تقوم به حجة لجهالته. قلت - أي: الألباني: وسلفهما في ذلك إمامان:
الأول: الترمذي، فقال في سننه: وأبو المبارك رجل مجهول.
والآخر: أبو حاتم الرازي، فقال في كتاب ابنه: هو شبه مجهول.
أما يزيد بن سنان، فقد جاء عنه: "ليس بحديثه بأس، إلا رواية ابنه محمد عنه؛ فإنه يروي عنه المناكير"[8].
قال الألباني: وهذا ليس من رواية ابنه عنه. على أنه لم يتفرد به، فقد رواه خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك الدمشقي عن أبيه عن عطاء بن أبي رباح به.
وزاد: «وإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة»[9].
أخرجه ابن بشران في "الأمالي" والحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، ثم السيوطي[10].
وللحديث طريقان آخران:
أحدهما: عن عبادة بن الصامت، رواه عنه بقية بن الوليد عن هقل بن زياد عن عبيد بن زياد الأوزاعي عن جنادة بن أبي أمية عنه مرفوعا. وقد أخرجه تمام في فوائده، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" من طريق الطبراني.
قال الألباني: "وهذا سند رجاله ثقات معروفون غير عبيد بن زياد الأوزاعي، فلم أجد له ترجمة في شيء من كتب الرجال التي وقفت عليها...
والآخر: عن ابن عباس - رضي الله عنهما، رواه طلحة بن عمرو عن عطاء عنه مرفوعا. وقد أخرجه الشيرازي في "الألقاب"، ولكن طلحة بن عمرو متروك.
الخلاصة: أن جميع طرق هذا الحديث لا تخلو من قادح، إلا أن مجموعها يدل على أن للحديث أصلا، فإن بعضها ليس شديد الضعف، كحديث أبي سعيد، وحديث عبادة، وقدموا الضياء كما رأيت، والحديث بمجموعهن أحسن، وقد جزم العلائي بصحته"[11].
ومن خلال ما سبق يتبين لنا صحة حديث: «اللهم أحيني مسكينا...»، وأن ثابت بن محمد ويزيد بن سنان كلاهما صدوق، والرواية عنهما مقبولة، وقد صحح الألباني هاتين الروايتين بشيء من التفصيل، مما يطمئن إلى أن هذا الحديث بروايتيه عن أنس وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما - يرتقي إلى درجة الصحة.
ثانيا. المسكنة في هذا الحديث لا يقصد بها الفقر، بل تعني التواضع والإخبات لله تعالى:
لقد راق لهؤلاء القوم أن يطعنوا في سند الحديث وفي سلسلة رجاله؛ ليدخلوا علينا - نحن المسلمين - الشك فيمن نقل إلينا ديننا، وبعد ذلك وجهوا طعونهم نحو متنه، وذلك بفهمهم الخاطئ للحديث، فقالوا: كيف يطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث من الله أن يحييه فقيرا، ويميته فقيرا، ويحشره في زمرة هؤلاء الفقراء يوم القيامة، وقد جاء في أحاديث أخرى استعاذة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفقر، وطلبه الغنى من الله، وهي أحاديث صحيحة، موافقه لما جاء في القرآن في قوله: )ووجدك عائلا فأغنى (Cool( (الضحى)، ومن هذه الأحاديث: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى»[12]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر»[13]، وغيرها؟! إذن هذا الحديث معارض لأحاديث ظاهرة الصحة.
والحق أنه ليس هناك اختلاف بين هذا الحديث وبين غيره من الأحاديث، إذ قد غلطوا في التأويل، وظلموا في المعارضة؛ لأنهم عارضوا الفقر بالمسكنة، وهما مختلفان، ولو أنه قال: «اللهم أحيني فقيرا، وأمتني فقيرا، واحشرني في زمرة الفقراء» كان ذلك تناقضا، كما ذكروا.
ومعنى المسكنة في قوله «احشرني مسكينا» هو التواضع والإخبات، كأنه سأل الله تعالى أن لا يجعله من الجبارين والمتكبرين، ولا يحشره في زمرتهم، والمسكنة: حرف مأخوذ من السكون، يقال: تمسكن الرجل: إذا لان وتواضع، وخشع وخضع.
ومن الدليل على ما نقول أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو كان سأل الله - عز وجل - المسكنة، التي هي الفقر، لكان الله تعالى قد منعه ما سأله؛ لأنه قبضه غنيا موسرا، بما أفاء الله - عز وجل - عليه، وإن كان لم يضع درهما على درهم.
ولا يقال لمن ترك مثل بساتينه في المدينة، وأمواله، ومثل فدك: إنه مات فقيرا، والله - عز وجل - يقول: )ألم يجدك يتيما فآوى (6) ووجدك ضالا فهدى (7) ووجدك عائلا فأغنى (Cool( (الضحى).
والعائل: الفقير، كان له عيال أو لم يكن، والمعيل: ذو العيال، كان له مال أو لم يكن. فحال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند مبعثه وحاله عند مماته يدلان على ما قال الله - عز وجل -؛ لأنه بعث فقيرا، وقبض غنيا. ويدل على أن المسكنة التي كان يسألها ربه - عز وجل - ليست بالفقر[14].
قال ابن منظور: وأصل المسكين في اللغة: الخاضع، وأصل الفقير: المحتاج، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين» أراد به التواضع والإخبات، وأن لا يكون من الجبارين المتكبرين. أي: خاضعا لك يا رب ذليلا غير متكبر. وليس يراد بالمسكين هنا الفقير المحتاج.
وتمسكن لربه: تضرع، والمسكنة: الذلة، وفي التنزيل: )فما استكانوا لربهم( (المؤمنون: ٧٦) أي: فما خضعوا، وجاء في حديث توبة كعب: «أما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما»، أي: خضعا وذلا[15].
قال الترمذي: "قوله: «اللهم أحيني مسكينا» قيل: هو من المسكنة، وهي الذلة والافتقار، فأراد بذلك إظهار تواضعه، وافتقاره إلى ربه، إرشادا لأمته إلى استشعار التواضع، والاحتراز عن الكبر والنخوة، وأراد بذلك التنبيه على علو درجات المساكين وقربهم من الله تعالى.
قال الطيبي - رحمه الله:«واحشرني في زمرة المساكين» أي: اجمعني في جماعتهم، بمعنى اجعلني منهم، لكن لم يسأل مسكنة ترجع للقلة، بل للإخبات والتواضع والخشوع. قال السهروردي: لو سأل الله أن يحشر المساكين في زمرته لكان لهم الفخر العميم، والفضل العظيم، فكيف وقد سأل أن يحشر في زمرتهم؟!"[16].
وقال السيوطي: "قال المغيث: قوله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بك من الفقر» لا ينافي حديث: «أحيني مسكينا»؛ لأن المسكنة هي التواضع وعدم التكبر، ولو كانت المسكنة هي الفقر، يلزم عدم استجابة دعائه؛ إذ توفي - صلى الله عليه وسلم - غنيا موسرا بأنواع الفيء، وإن كان لم يضع درهما على درهم، ولا يقال لمن ترك بساتين بالمدينة وفدك، وأموالا: إنه مات فقيرا، وقد قال تعالى: )ووجدك عائلا فأغنى (Cool(، ولو كان: الفقر خيرا لما من الله عليه بالغنى"[17].
وقال المناوي: "لم يسأل مسكنة ترجع للقلة، بل إلى الإخبات والتواضع، ذكره البيهقي، وجرى على قضيته حجة الإسلام الغزالي؛ حيث قال: استعاذته من الفقر لا تنافي طلب المسكنة؛ لأن الفقر مشترك بين معنيين؛ الأول: الافتقار إلى الله والاعتراف بالذلة والمسكنة له، والثاني: فقر الاضطرار، وهو فقد المال المضطر إليه، كجائع فقد الخبز، فهذا هو الذي استعاذ منه، والأول هو الذي سأله. انتهى. وقال ابن عبد البر: الذي استعاذ منه هو الذي لا يدرك معه القوت والكفاف، ولا يستقر معه في النفس غنى؛ لأن الغني عنده - صلى الله عليه وسلم - غني النفس، وقد قال تعالى: )ووجدك عائلا فأغنى (Cool(، وكان يستعيذ من فقر منس وغنى مطغ، وفيه دليل على أن للفقر طرفين مذمومين"[18].
وقال د. يوسف القرضاوي: "والحق أن المسكنة هنا لا يراد بها الفقر، كيف وقد استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالله منه وقرنه بالكفر؟!«اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر»، وقد امتن ربه عليه بالغنى، فقال: )ووجدك عائلا فأغنى (Cool( "[19].
وهكذا يزول ما يشعر بالتعارض بين الأحاديث بالنظر فيها مجتمعة، فلا يعني بالمسكنة في هذا الحديث الفقر أو ما يشبهه، بل المقصود به التواضع والذل لله تعالى.
· طبيعة رزق النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا»[20]، وفي رواية: "كفافا".
جاء في "العواصم والقواصم": يقول الإمام النووي: إن القوت: سد الرمق، وليس كذلك، وإنما القوت كفاية الحاجة، كذا أو نحوه في صحاح الجوهري، ويدل عليه الرواية الأخرى: «اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا»[21]، ولا شك أن الكفاف، كفاية الحاجة هو المقصود بالمعنى، فكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كره الزيادة في الغنى على سبيل الزهد.
يقول الإمام ابن الوزير اليماني: وبالجملة، فما لم يعارض الأخبار المتفق على صحتها، فلا إشكال فيه، وما عارضها لم يحل ترجيحه عليها، وهي أقوى منه إجماعا، فأما ما ورد في الزهد في الدنيا - أو الفقر - فصحيح، ولكن لا يناقض هذا، فإنه من قبيل الأعواض على البلاوي، وليس يلزم المكلف البلوى، ويسألها لما فيها من العوض، ولهذا لم يرد في الحديث سؤال المرض والجذام والعمى ونحو ذلك، بل جاء في الحديث: «اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة»[22].
وبهذا فلا تعارض بين هذه الأحاديث؛ إذ إن المسكنة غير الفقر، كما أن مدح الفقر في بعض أحاديثه - صلى الله عليه وسلم -، أو ما يوهم ذلك، إنما هو للتزهيد في الدنيا؛ إذ إن عادة أهل العلم التزهيد فيها، كما أنهم زهدوا فيها؛ خوفا من الاشتغال عن طاعة الله تعالى بمباحها[23].
يتضح من ذلك أن ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الفقر في بعض أحاديثه - صلى الله عليه وسلم - ليس من قبيل المدح المطلق للفقر، وإنما يقترن بالفقر أحوال تجعل المبتلى به في موضع الفضل، والحال نفسه مع الغنى، فيمكن أن نقول: "فضل الغنى" ولكن ليس بإطلاق - أيضا - أي: إذا اقترن بالغنى ما يجعل المبتلى به في موضع الحمد[24].
وثبت في الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه: «اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى»، ولو كان الغنى نقصا في الدين، وحبه رذيلة لا يليق بالمؤمنين، لم يسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا امتن الله به عليه في قوله: )ووجدك عائلا فأغنى (Cool([25].
إن من الآفات التي تتعرض لها السنة أن يقرأ بعض الناس المتعجلين حديثا فيتوهم له معنى في نفسه هو، يفسره به، وهو معنى غير مقبول عنده، فيتسرع برد الحديث؛ لاشتماله على هذا المعنى المرفوض.
ولو أنصف وتأمل وبحث لعلم أن معنى الحديث ليس كما فهم، وأنه فرض عليه معنى من عنده، لم يجئ به قرآن ولا سنة، ولا ألزمت به لغة العرب، ولا قال به عالم معتبر من قبله[26].
وهذا ما حدث بالنسبة لهذا الحديث، إذ لم يكن مقصد الحديث هو الحيلولة بين الإنسان وبين الرزق الحلال، أو طلب الكفاف والغنى - كما يظن هؤلاء؛ فقد اشتهر في الحديث الصحيح الاستعاذة من الفقر من غير وجه.
ومتى كان طلب المحتاج إليه من الله تعالى، كان من العبادة مثل صلاة الاستسقاء وصلاة الحاجة، ومنه قول عيسى عليه السلام: )وارزقنا وأنت خير الرازقين (114)( (المائدة)، فيما حكى الله عنه.
أما حب المال الملهي عن ذكر الله، الشاغل لصاحبه عن طاعة الله، والداعي إلى التكاثر والتفاخر، وأمثال ذلك من أفعال الدنيويين ومقاصدهم، فليس بمحبوب في الشرع" [27].
وإنما مثل الفقر والغنى، مثل السقم والعافية. فمن ابتلاه الله تعالى بالسقم فصبر، كان كمن ابتلي بالفقر فصبر، وليس ما جعل الله تعالى في ذلك من الثواب، بمانعنا أن نسأل الله العافية، ونرغب إليه في السلامة، وقد ذهب قوم يفضلون الفقر على الغنى، إلى أنه كان يتعوذ بالله تعالى من فقر النفس. واحتجوا بقول الناس "فلان فقير النفس"، وإن كان حسن الحال، و"غني النفس" وإن كان سيء الحال، وهذا غلط.
ولا نعلم أن أحدا من الأنبياء، ولا من صحابتهم، ولا العباد ولا المجتهدين كان يقول: "اللهم أفقرني ولا أزمني"، ولا بذلك استعبدهم الله - عز وجل - بل استعبدهم بأن يقولوا: "اللهم ارزقني، اللهم عافني". وكانوا يقولون: "اللهم لا تبلنا إلا بالتي هي أحسن". يريدون: لا تختبرنا إلا بالخير، ولا تختبرنا بالشر؛ لأن الله تعالى يختبر عباده بهما؛ ليعلم كيف شكرهم وصبرهم، وقال تعالى: )ونبلوكم بالشر والخير فتنة( (الأنبياء: ٣٥) أي: اختبارا.
وكان مطرف يقول: لأن أعافى فأشكر، أحب إلي من أن أبتلى فأصبر[28].
وقد ذكر العلماء وجوب كسب الحلال، وقال بعضهم: إنما تركنا حث الناس عليه؛ لأن في طبع البشر ما يكفي، ومازال أهل الزهد والرقائق يقبحون حب الدنيا حتى غلط في ذلك من لا فقه له، وظن أن من تناول شيئا من الدنيا من أهل العلم، فقد حل عرضه، وبطلت عدالته [29]، وهذا خطأ؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس»[30].
فالسياق إذا ليس فيه دلالة على ترجيح الفقر، أو أن علة الفقر هي المعتبرة وحدها، وإلا فما قيمة الفقر بغير رضا، أو صبر، أو طاعة؟!
ثم إن فضل الله على عباده في الدنيا بالرزق الحلال والطيبات، ليس معناه قلة ذلك في الآخرة؛ فدعاء المؤمنين: )ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (201)( (البقرة)، وبقول الله تعالى: )قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون (32)( (الأعراف). وعلة دخول الجنة، وجعلها في الفقر مجردا لا دليل عليها، بل النصوص متضافرة بخلاف ذلك.
وأما اختيار النبي - صلى الله عليه وسلم - الكفاف في الرزق، فإن ذلك لأنه قدوة لجميع الأمة فقيرها وغنيها، فكيف حاله مع الغنى، وكيف يكون حاله مع الفقر، والاستعاذة في الحالتين، إنما هي استعاذة من المعنى المطغي، فالغنى مع الطغيان مذموم، كما أن الفقر غير مرغوب، وإذا كان الدافع طلب المزيد من الحسنات، فإن الغني الشاكر يستطيع أن يفعل بالمال الصالح ما لا يستطيعه الفقير، فالأفضلية في نهاية الأمر تكون بما يصحب الغنى أو الفقر من قرائن، وليس الأمر على إطلاق أفضلية الفقر.
والذي يدعم هذا التوجيه ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم، قال: كيف ذاك؟ قالوا: صلوا كما صلينا، وجاهدوا كما جاهدنا، وأنفقوا من فضول أموالهم، وليس لنا أموال، قال: أفلا أخبركم بأمر تدركون من كان قبلكم، وتسبقون من جاء بعدكم، ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم إلا من جاء بمثله؛ تسبحون في دبر كل صلاة عشرا، وتحمدون عشرا، وتكبرون عشرا»[31].
ففي هذا الحديث بيان لقيمة المال حينما يكون في أيد صالحة، فليس الغنى وحده سببا للسبق، كما أن الفقر ليس سببا للبعد؛ فالمرء يمكن بهذا التوجيه مع ابتلائه بالفقر أن يتدارك الأمر، وأن يدرك الأجر بالتسبيح والتحميد والتكبير دبر كل صلاة، كما جاء في الحديث.
وفي هذا جبر لقلوب الفقراء، وأنه لا يفوتهم الأجر بسبب الفقر، فالدثور هي الأموال الكثيرة. وذهاب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم، مقترن بالأعمال، وذكر منها: الصلاة، والجهاد، والزيادة التي تناسب حالهم، أنهم ينفقون من فضول أموالهم.
وعوض الفقراء - فضلا من الله - بإمكانية اللحاق بهم بشيء يستطيعونه، ألا وهو الذكر.
وفي حديث أنس - رضي الله عنه - قال: «قالت أمي: يارسول الله! خادمك أنس، ادع الله له، قال: اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته»[32].
فأم أنس تطلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لأنس، فيدعو له النبي - صلى الله عليه وسلم - بما هو محبوب للناس من تكثير المال، والولد، والبركة فيما يعطيه الله - سبحانه وتعالى - يقول الكرماني: وقد استجاب الله دعاءه فيه بحيث صار أكثر أصحابه - صلى الله عليه وسلم - مالا، فكان له بستان يثمر في كل سنة مرتين، وأكثر ولدا، فكان يطوف بالبيت، ومعه أكثر من سبعين نفسا من نسله.
ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على محبة هذا المدعو به عند الله وعند رسوله، عندما يكون لمثل أنس[33].
ثم إن الطاعن لما وجه تلك الطعون لهذا الحديث راح في النهاية يقول: لو صح هذا الحديث، وسار عليه المسلمون لسبب لهم ركودا اقتصاديا، ولانهارت دولتهم بسببه، ومع ذلك فقد استشهد بما هو دليل عليه، وهو الاستشهاد بثراء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - وهو يرد على نفسه؛ إذ كيف يدعو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الفقر في الحديث - على زعمكم - ثم يوجد من بين أصحابه من هو على غير سنته في دعوته إلى الفقر؟ وما قستم عليه حاجة المسلمين وعوزهم بهذا الحديث إن صح، فقد رددتم قولكم باستشهادكم على بطلان الحديث بموقف عثمان - رضي الله عنه - في تجهيزه جيش العسرة.
لقد فهمتم الحديث إذن على أنه دعوة للفقر والاستكانة، وضربتم له واقع الإسلام - إن صح الحديث - لكن أخطأتم، فالواقع قائم من يوم أن قيل هذا الحديث إلى يومنا هذا بخير قيام، لعلمهم أن الحديث فيه امتداد لدعوة القرآن نبيه أن يكون في زمرة أولئك الذين وهبوا الخضوع والإخبات للملك العلي، فقد قال تعالى: )واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا (28)( (الكهف).
وبهذا يتضح أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين» يتفق وروح الشريعة، وليس هناك تناقض بينهما إذا استعمل الإنسان ماله في الطاعات، ولم يكن من المستكبرين به المتجبرين في الأرض.
الخلاصة:
· إن حديث «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين» صحيح بمجموع طرقه، فقد جاء بطرق مختلفة عن كل من: أنس، وأبي سعيد الخدري، وعبادة بن الصامت، وابن عباس - رضي الله عنهم - وإن لم يخل طريق منها من ضعف، إلا أن في ذلك دلالة على أن لهذا الحديث أصلا؛ ولذا فقد صححه الألباني بمجموع طرقه في مواضع، وصححه في "السلسلة الصحيحة" و "إرواء الغليل" وغيرهما.
· ليس هناك اختلاف بين متن الحديث وبين غيره من الأحاديث، إذ إن المسكنة في قوله: "أحيني مسكينا" تعني: التواضع والإخبات، فقد سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الله تعالى أن لا يجعله من الجبارين والمتكبرين، ولا يحشره في زمرتهم.
· إن سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحييه مسكينا... إلخ، لو كان يعني الفقر لما استجاب الله له في طلبه الغنى؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قبض موسرا، مع أنه كان لا يضع درهما على درهم، فحال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند مبعثه تختلف عن حاله حين موته، قال تعالى: )ووجدك عائلا فأغنى (Cool(، إذن المسكنة لا تعني الفقر.
· لم يكن مقصد الحديث هو الحيلولة بين الإنسان وبين الرزق الحلال أو طلب الكفاف والغنى - كما يظن هؤلاء - إذ اشتهر في الحديث الصحيح الاستعاذة من الفقر من غير وجه.
· لم يعلم أن أحدا من الأنبياء، ولا من صحابتهم، ولا العباد، ولا المجتهدين، كان يقول: اللهم أفقرني ولا أزمني، ولا بذلك استعبدهم الله - عز وجل - وإنما استعبدهم بأن يقولوا: اللهم ارزقني، اللهم عافني، وكانوا يقولون اللهم لا تبلنا إلا بالتي هي أحسن.
· لقد ذكر العلماء وجوب كسب الحلال، وقال بعضهم: إنما تركنا حث الناس عليه لأن في طبع البشر ما يكفي، وما زال أهل الزهد والرقائق يقبحون حب الدنيا، حتى غلط في ذلك من لا فقه له، وظن أن من تناول شيئا من الدنيا من أهل العلم، فقد حل عرضه، وبطلت عدالته، وهذا خطأ؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس».
· إن اختيار النبي - صلى الله عليه وسلم - المسكنة أو الكفاف في الرزق؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قدوة لجميع الأمة فقيرها وغنيها، فكيف حاله مع الغنى، وكيف يكون حاله مع الفقر؟! والاستعاذة في الحالتين إنما هي استعاذة من الغنى المطغي، فالغنى مع الطغيان مذموم، كما أن الفقر المدقع غير مرغوب فيه.
· إن حديث «ذهب أهل الدثور بالأجور» يبين قيمة المال حين يكون في أيد صالحة، فليس الغنى وحده سببا للسبق، كما أن الفقر ليس سببا للبعد، فالمرء يمكن بهذا التوجيه الذي ذكره النبي في الحديث مع ابتلائه بالفقر يتدارك الأمر، وفي هذا جبر لقلوب الفقراء، وأنه لا يفوتهم الأجر بسبب الفقر، فالدثور هي الأموال الكثيرة، وذهاب أهل الدثور بالدرجات، والنعيم المقيم مقترن بالأعمال، والإنفاق من أموالهم، وبذلها في وجوه الخير.
· في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لخادمه أنس بن مالك بما هو محبوب للناس من تكثير المال، والولد، والبركة فيما يعطيه الله - سبحانه وتعالى - ما يدل دلالة قاطعة على فساد ما ذهب إليه أصحاب هذه الشبهة في تأويلهم لقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين»؛ بأن المقصود بالمسكنة هنا تعني الفقر.
طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى