مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

* إنكار حديث "فضل عائشة على النساء - دعوى تعارض زيادة العمر ورد القضاء مع القرآن

اذهب الى الأسفل

* إنكار حديث "فضل عائشة على النساء -   دعوى تعارض زيادة العمر ورد القضاء مع القرآن Empty * إنكار حديث "فضل عائشة على النساء - دعوى تعارض زيادة العمر ورد القضاء مع القرآن

مُساهمة  طارق فتحي الثلاثاء ديسمبر 16, 2014 8:45 am

مضمون الشبهة:
يدعي بعض منكري السنة بطلان حديث فضل عائشة على النساء، والذي رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»، ويستدلون على ردهم لهذا الحديث بأن هذا التفضيل من النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتبر تعصبا وانحيازا لإحدى زوجاته دون غيرها، كما أن العبارات التي استخدمت في هذا الحديث لم تعبر عما يريده - صلى الله عليه وسلم - تعبيرا صحيحا، ولا تتناسب مع ما ذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنه أوتي جوامع الكلم، فكيف ينسب إليه هذا الحديث؟! رامين من وراء ذلك إلى رد هذا الحديث، وتشكيك المسلمين في جميع ما صح عنه صلى الله عليه وسلم.
وجها إبطال الشبهة:
1) ليس في الحديث - المتفق على صحته - ما يوهم بتعصبه - صلى الله عليه وسلم - وانحيازه لعائشة - رضي الله عنها؛ فهي - رضي الله عنها - قد نالت التفضيل على سائر النساء بوحي من الله - عز وجل - إلى نبيه؛ وذلك بسبب علمها وفقهها في الدين، وليس في ذلك تعصب منه صلى الله عليه وسلم؛ فهذا لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة لها؛ فقد وردت أحاديث أخرى تنص على تفضيل خديجة بنت خويلد وفاطمة - رضي الله عنهما - على سائر النساء دون ذكر عائشة - رضي الله عنها - وهذا يعني أن لكل منهن فضلها.
2) لقد أوتي النبي - صلى الله عليه وسلم - جوامع الكلم في الفصاحة والتعبير، وهذا الحديث ضرب من ذلك، فالتعبير بالثريد وفضله بين سائر الطعام لبيان فضل عائشة - رضي الله عنها - على سائر النساء تعبير بليغ؛ إذ قد عبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمثل لتقريب المعنى المعقول إلى معنى محسوس، وهو في هذا ليس بدعا، فقد استخدمه القرآن الكريم كثيرا، وهو مستعمل في لغة العرب بكثرة.
التفصيل:
أولا. حديث «فضل عائشة على النساء» حديث صحيح، ولا يعتبر تعصبا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها:
يواصل أعداء الإسلام محاولاتهم إضعاف الاحتجاج بالسنة النبوية، فيتلقفون بعض الأحاديث النبوية، ثم يثيرون حولها مطاعن يتوهمون أنها عقلية - وليست بعقلية - ومن تلك الأحاديث التي تعرضت لهذه الطعون الواهية حديث تفضيل النبي - صلى الله عليه وسلم - للسيدة عائشة - رضي الله عنها - على بقية النساء، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»[1]، وللحديث رواية أخرى عن عبد الله بن عبد الرحمن أنه سمع أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»[2]؛ ومن ثم فنحن نعجب من إنكار مثيري الشبه لهذا الحديث المتفق على صحته، والذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، ورواه كذلك الترمذي، والنسائي، وابن ماجه في سننهم، وكذا أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والدارمي، والبيهقي وغيرهم بأسانيد قوية صحيحة لا يطعن فيها.
أما عن متنه، فإنه لا يدل بحال على تعصبه صلى الله عليه وسلم، أو انحيازه لعائشة - رضي الله عنها - دون باقي نسائه، أو النساء بصفة عامة، والأدلة على ذلك كثيرة، تتضح أولا من بيان المعنى الصحيح لهذا الحديث، والمقصود بأفضلية عائشة - رضي الله عنها، وتوجيه العلماء لذلك.
يقول الملا علي القاري: "والأظهر أنها أفضل من جميع النساء، كما هو ظاهر الإطلاق، من حيث الجامعية للكمالات العلمية والعملية المعبر عنهما في التشبيه بالثريد؛ لأنه أفضل طعام العرب، وأنه مركب من الخبز واللحم والمرقة، ولا نظير له في الأغذية، ثم إنه جامع بين الغذاء، واللذة، والقوة، وسهولة التناول، وقلة المؤونة في المضغ، وسرعة المرور في الحلقوم والمريء؛ فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها المثل به ليعلم أنها أعطيت مع حسن الخلق، وحسن الخلق، وحسن الحديث، وحلاوة المنطق، وفصاحة اللهجة، وجودة القريحة، ورزانة الرأي، ورصانة العقل، والتحبب إلى البعل، فهي تصلح للتبعل، والتحدث، والاستئناس بها، والإصغاء إليها، وإلى غير ذلك من المعاني التي اجتمعت فيها، وحسبك من تلك المعاني أنها عقلت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم تعقل غيرها من النساء، وروت عنه ما لم يرو مثلها من الرجال، والله أعلم بالحال"[3].
وقد أكدت هذه الأفضلية أحاديث كثيرة منها: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل ذات مرة: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قيل: ومن الرجال؟ قال: أبوها»[4].
يقول الذهبي في ترجمته لها في السير: "وحبه - صلى الله عليه وسلم - لعائشة كان أمرا مستفيضا، ألا تراهم كيف كانوا يتحرون بهداياهم يومها تقربا إلى مرضاته، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وقد ذكر في آخره قوله - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة: «والله، ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها»[5].
وهذا الجواب منه - صلى الله عليه وسلم - دل على أن فضل عائشة - رضي الله عنها - على سائر أمهات المؤمنين بأمر إلهي وراء حبه لها، وأن ذلك الأمر من أسباب حبه لها[6].
وقد روى أبو سلمة أن عائشة حدثته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «إن جبريل يقرئك السلام، فقالت: وعليه السلام ورحمة الله»[7].
وأما عن علمها وفقهها، فحدث ولا حرج، قال عنها الزهري: "لو جمع علم عائشة إلى علم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل"[8].
وروى مغيرة بن زياد عن عطاء، قال: "كانت عائشة أفقه الناس وأعلمهم، وأحسن الناس رأيا في العامة"[9].
وقال عنها الذهبي: "أفقه نساء الأمة على الإطلاق"[10].
وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يعظمونها ويعترفون بمنزلتها العلمية، بل ويرجعون إليها فيما يشكل عليهم ويختلفون فيه، ويثقون بحديثها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غاية الثقة[11].
قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: «ما أشكل علينا - أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما»[12].
وعن الأعمش عن مسلم قال: «سألنا مسروقا: هل كانت عائشة تحسن الفرائض؟ قال: والذي لا إله غيره لقد رأيت الأكابر من أصحاب محمد يسألونها عن الفرائض»[13].
وهذا غيض من فيض فضائل عائشة - رضي الله عنها - الدينية.
ومن ثم، فإن مرجع العلم في ذلك التفضيل هو الله عز وجل، وليس للإنسان دخل فيه، فهو ـعز وجل - الذي يرفع الدرجات، ويمنح الإنسان مكانته بين أقرانه، قال تعالى في شأن سائر الخلق: )ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات( (الزخرف: ٣٢)، وقال جل شأنه في شأن الأنبياء: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض( (البقرة: ٢٥٣).
وإذا كان هذا التفضيل من فعل الله عز وجل، والعلم به لا يكون إلا من الله عز وجل، فإنه ليس أمامنا من طريق إلا طريق الوحي، وهو لا يكون إلا للأنبياء، وقد أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي قد بلغ أمته ما أوحي إليه[14].
وليست عائشة - رضي الله عنها - وحدها دون زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - هي التي فضلت على غيرها من النساء؛ وإنما فضلت مع عائشة - بل وقبل أن تكون عائشة زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم - خديجة أم المؤمنين؛ فقد روى الترمذي في سننه من حديث قتادة عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«حسبك من نساء العالمين: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون»[15].
وهذا الحديث وغيره يدل دلالة واضحة على أن تفضيل عائشة - رضي الله عنها - على النساء لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة[16]، إذ لو كان ذلك كذلك لذكرت في الحديث، فقد ذكر فيه خديجة بنت خويلد زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفاطمة ابنته، وهذا يدل على أن لكل من خديجة وعائشة وفاطمة فضلها الذي تمتاز به عن الأخرى.
يقول ابن القيم فيما حكاه عنه ابن حجر في "الفتح": "إن أريد كثرة العلم، فعائشة لا محالة، وإن أريد شرف الأصل، ففاطمة لا محالة، وهي فضيلة لا يشاركها فيها غير أخواتها، وإن أريد شرف السيادة، فقد ثبت النص (الحديث الوارد في ذلك) لفاطمة وحدها.
وقد عقب ابن حجر قائلا: امتازت فاطمة عن أخواتها بأنهن متن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما امتازت به عائشة من فضل العلم، فإن لخديجة ما يقابله، وهي أنها أول من أجاب إلى الإسلام، ودعا إليه وأعان على ثبوته بالنفس والمال والتوجه التام، فلها مثل أجر من جاء بعدها، ولا يقدر قدر ذلك إلا الله"[17].
وعليه، فلا يحق لمدع أن يتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالانحياز والتعصب لعائشة - رضي الله عنها - دون باقي نسائه، أو حتى لأحد من الناس دون الآخرين؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - متصف بالعدل والإنصاف في جميع أقواله وأفعاله، وهاك صور عظيمة من عدله - صلى الله عليه وسلم - وإنصافه ليتضح لهؤلاء بطلان ما ذهبوا إليه:
·   عن عائشة - رضي الله عنها: «أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتشفع في حد من حدود الله تعالى، ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما هلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»[18].
·   وعنها أيضا أنها قالت لعروة بن الزبير: «يا ابن أختي، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا هو يطوف علينا جميعا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها...»[19].
·   وعن أنس - رضي الله عنه - قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلق الصحفة، ثم جعل فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: غارت أمكم، ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت»[20].
وبهذه الأحاديث - ومثلها كثير - يتبين لنا عدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدم محاباته لأحد في بيته أو خارجه، فلا تعصب في أحكامه، ولا ظلم في تشريعاته.
ونخلص مما سبق إلى أن حديث فضل عائشة على النساء ليس فيه انحياز أو تعصب منه - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها - دون باقي نسائه؛ لأنها قد أوتيت من العلم والفقه في الدين ما يؤهلها لذلك، كما أن الفضل الوارد في الحديث لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة لها؛ وذلك لورود أحاديث أخرى تنص على فضل خديجة بنت خويلد وفاطمة - رضي الله عنهما - ولا تذكر عائشة معهما، فعلم بذلك أن فضل عائشة - رضي الله عنها - على النساء هو ما ذكرناه من علمها وفقهها في الدين.
ثانيا. ضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - المثل في الحديث بالثريد إنما هو لتقريب المعنى العقلي بمعنى محسوس، وذلك نوع من أساليب البلاغة العربية:
يزعم هؤلاء المنكرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينجح في اختيار العبارات التي يعبر بها عن مراده في تفضيل السيدة عائشة على سائر النساء، وهذه الأساليب لا تتناسب مع فصاحة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أوتي جوامع الكلم، وهذا كفيل بتضعيف الحديث ورده.
نقول: إن هذا الكلام لا أساس له من الصحة؛ لأن الحديث - كما قدمنا - صحيح، وقد رواه الشيخان، ومعناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل ضرب الأمثال في هذا الحديث؛ لتقريب المعاني إلى الأذهان، ورفع اللثام عنها حتى لا تبقى غامضة في مكانها، وضرب الأمثال معناه: أنه يقوم بوظيفة وسيلة إيضاح بالغة التأثير، فهو ينقل السامع من تصوره صورة معقولة قد تصعب عليه إلى رؤية أو سماع صورة محسة تستحدث له في الخيال أو الواقع. هذا الشيء المحس المتحدث عنه كأنه يراه رأي العين، وهذه الصورة لا يتأتي فيها جدل، ولا يتعلق بها نقاش، ولا يحتاج التصديق بها إلى دليل أو برهان.
والقرآن الكريم قد استعمل هذه الوسيلة في العديد من آياته، وقد اعترض عليها من لا صلة له بلغة أو بدين، فقالوا: كيف يضرب الله هذه الأمثال، وهي غير حضارية...؟
والحقيقة أن مادة المثل لا علاقة لها في ضرب الأمثال، فقد تكون مادة المثل بعوضة فما فوقها، ويضرب الله بها الأمثال، وقد تكون مادة المثل لحما أو ثريدا، أو ما دون ذلك أو فوقه، ويضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بها الأمثال.
الغاية من المثال إذا هو إيضاح المعنى المطلوب للقارئ فحسب؛ لأنه وسيلة وليس غاية في نفسه، وقد فهم العرب أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يريد أن يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، فما الذي كان يريده هؤلاء من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفعله؟! أكانوا يريدون أن يضرب المثل بصواريخ أسكود، أم بهذه الغواصات التي ترتفع فوقها ظلمات البحر بعضها فوق بعض؟[21].
إن الحقائق السامية في معانيها وأهدافها تأخذ صورتها الرائعة إذا صيغت في قالب حسي يقربها إلى الأفهام بقياسها على المعلوم اليقيني، والتمثيل هو القالب الذي يبني المعاني في صورة حية تستقر في الأذهان، بتشبيه الغائب بالحاضر، والمعقول بالمحسوس، وقياس النظير على النظير، وكم من معنى جميل أكسبه التمثيل روعة وجمالا، فكان ذلك أدعى لتقبل النفس له، واقتناع العقل به، وهو من أساليب القرآن الكريم في ضروب بيانه ونواحي إعجازه.
وكما عني العلماء بأمثال القرآن، فإنهم عنوا كذلك بالأمثال النبوية، وعقد لها أبو عيسى الترمذي بابا في جامعه، أورد فيه أربعين حديثا، قال القاضي أبو بكر ابن العربي: "لم أر من أهل الحديث من صنف فأفرد للأمثال بابا غير أبي عيسى"[22].
فما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مقتبس منهجا من كتاب الله عز وجل، فقد ضرب الله الأمثال الكثيرة في القرآن الكريم بأشياء عديدة؛ لينقل الإنسان من التصور الذهني المجرد إلى التصور المحسوس، فيكون التخيل أقرب، والتصديق أوقع.
ومن هذه الأمثال ما ضربه الله - عز وجل - مثلا على عجز المتخذين آلهة من دون الله عن خلق ذبابة، فقال عز وجل: )يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له( (الحج: ٧٣)، والذباب محسوس أيضا، وقال أيضا: )مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت( (العنكبوت: ٤١)، فالله - عز وجل - يضرب هذه الأمثال لتقريب المعاني غير المتخيلة، بأشياء محسوسة لتقريبها إلى الذهن.
وقد جاءت السنة النبوية بضرب الأمثال كذلك - من باب تقريب المعقولات بالمحسوسات - لتتأكد في نفس الإنسان الأشياء بأسلوب حسي معهود، فيصدق بها دون شك أو تكذيب، كما في الحديث الذي جاء معنا بضرب المثل في فضل السيدة عائشة - رضي الله عنها - على النساء بفضل الثريد على سائر الطعام.
ومن هذه الأمثال كذلك ما مثل به - صلى الله عليه وسلم - على مكانته بين الأنبياء، فقال صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة فيه، فجعل الناس يمرون حوله ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين»[23].
وقال - صلى الله عليه وسلم - في مثل آخر: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا»[24].
فالتعبير بالثريد ليس بمستنكر كما يدعون؛ فالثريد كان له مكانة عظيمة عند العرب آنذاك، يقول ابن القيم - رحمه الله: "الثريد: الخبز واللحم، قال الشاعر:
إذا ما الخبز تأدمه بلحم
فذاك أمانة الله الثريد" [25]
وقال - رحمه الله - أيضا: "والثريد وإن كان مركبا فإنه مركب من خبز ولحم، فالخبز أفضل الأقوات، واللحم سيد الإدام، فإذا اجتمعا لم يكن بعدها غاية"[26].
وقد تقدم كلام الملا علي القاري في بيان فضل الثريد عند العرب، وأنه مركب من الخبز واللحم والمرقة، ولا نظير له في الأغذية، وأنه قد اجتمعت له صفات عديدة تجعله أفضل طعام العرب آنذاك دون منازع.
وهذا الأسلوب - أسلوب التمثيل - كما رأينا في تلك الأحاديث يبين المعنى المراد بطريقة سهلة وموحية، وهو أسلوب فيه بلاغة ظاهرة، ومن تأمل لغة العرب وأشعارهم، فسيجد هذا الأسلوب متوفرا بكثرة في تعبيراتهم، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عربيا، ومن قريش، فلماذا يعاب تعبيره إذا استخدم هذا الأسلوب؟! ومن ثم فإن بلاغة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفصاحته جعلت أحاديثه حجة في البلاغة، وآية في الفصاحة.
وبهذا يتبين أن ضربه - صلى الله عليه وسلم - المثل على فضل السيدة عائشة على سائر النساء بفضل الثريد على سائر الطعام؛ إنما هو لزيادة البيان، وتقريب المعنى العقلي بمعنى محسوس، وليس هذا بدعا منه صلى الله عليه وسلم، بل هو في هذا جار على طريقة القرآن ولغة العرب.
الخلاصة:
·   إن حديث «فضل عائشة على سائر النساء» متفق على صحته؛ فقد رواه الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري، وأنس بن مالك - رضي الله عنهما، ورواه كذلك كثير من أصحاب السنن والمسانيد وغيرهم بأسانيد قوية صحيحة.
·   ليس في الحديث ما يوهم بتعصبه - صلى الله عليه وسلم - وانحيازه لعائشة - رضي الله عنها، فهي قد نالت الفضل على سائر النساء بعلمها وفقهها في الدين، وبما لها من مكانة علمية في تاريخ الإسلام.
·   التفضيل والتفاضل بين البشر في أمور الدين لا يكون إلا بوحي من عند الله تعالى، وليس للرسول دخل فيه إلا البلاغ.
·   إن الفضل الوارد في الحديث لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة لعائشة - رضي الله عنها، وذلك لورود أحاديث أخرى تنص على تفضيل خديجة بنت خويلد وفاطمة - رضي الله عنهما - على النساء، دون ذكر عائشة - رضي الله عنها.
·   لقد دلت أحاديث كثيرة صحيحة على عدله - صلى الله عليه وسلم - في كل شيء، وفي جميع الأحوال، مما ينفي عنه تهمة الانحياز والتعصب.
·   لقد ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المثل على فضل عائشة على سائر النساء بفضل الثريد عل سائر الطعام، وذلك من باب تقريب المعنى المعقول إلى معنى محسوس، كي يصل إلى الأفهام بسهولة، وتتصوره العقول دون اشتباه.
·       ضرب الأمثال أسلوب مستخدم في القرآن الكريم والسنة النبوية؛ لتقريب المعاني الغامضة بأمثلة واضحة، فقد أوضح القرآن الكريم مثلا للذين يدعون من دون الله أنهم لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، فقال تعالى: )يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له( (الحج: ٧٣) وللذين يتخذون من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت قال تعالى: )مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت( (العنكبوت:٤١).
·   لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدعا في استعماله ضرب الأمثال في سنته، بل هو عربي ينطق بلسان قريش، وهي أفصح قبائل العرب، ويقتدي بأساليب القرآن الكريم.

دعوى تعارض أحاديث زيادة العمر ورد القضاء مع القرآن
مضمون الشبهة:
يدعي بعض الواهمين أن السنة النبوية تتعارض مع القرآن الكريم، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «صلة الرحم تزيد العمر»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد العمر إلا البر»، فهذان الحديثان يتعارضان مع قوله تعالى: )فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (34)( (الأعراف)، فأخبر الله أن الأجل لا يتقدم ولا يتأخر، فكيف يجوز للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقول ذلك؟ ويتساءلون: كيف يرد الدعاء القضاء، وكل شيء مقدر ولا بد من وقوعه، سواء دعا به العبد أم لم يدع، وكذلك ما لم يقدر لا يقع، سواء سأله العبد أم لم يسأله؟! وقد قال الله تعالى: )إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون (40)( (النحل).
وجها إبطال الشبهة:
1) لقد توافرت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إثبات أن صلة الرحم تزيد في العمر، وقد وجه العلماء هذه الزيادة في العمر توجيهات عديدة، الراجح منها عند المحققين من أهل العلم أن الزيادة على حقيقتها؛ فإن للمسلم عمرين: عمرا محددا عند الله لا يعلمه غيره، فهو لا يتغير، وعمرا مرددا بين الزيادة والنقصان عند ملك الموت، فهو محتمل التغير.
2) صرحت الأحاديث الصحيحة بأن الأعمال جميعها من قدر الله تعالى، وأن من القدر رد البلاء بالدعاء؛ فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة؛ كما أن الترس سبب لرد السهم، والماء سبب لخروج النبات من الأرض؛ وبذلك تحصل النتيجة إذا أخذ بالسبب.
التفصيل:
أولا. وجه العلماء أحاديث الزيادة في العمر توجيهات عديدة، الراجح منها عند المحققين من أهل العلم أن الزيادة على حقيقتها:
من المعلوم بداهة أن القرآن الكريم، والحديث الشريف كلاهما وحي؛ فقد خرجا من مشكاة واحدة، ومن ثم فلا يعقل أن يتعارض الحديث النبوي - إذا ما ثبتت صحته - مع غيره، سواء كان قرآنا أو سنة.
وزيادة العمر بصلة الرحم جاءت في أحاديث صحيحة ثابتة، رواها غير واحد من الصحابة، منها ما اتفق عليه الشيخان من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه»[1].
وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من سره أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه»[2].
وعن عائشة - رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنه من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار»[3].
وعن ابن عمر قال: «من اتقى ربه، ووصل رحمه؛ نسئ في أجله (وفي لفظ: أنسئ له في عمره)، وثرى ماله، وأحبه أهله»[4].
وللعلماء توجيهات وأجوبة عن هذه الأحاديث في معرفة المقصود من زيادة العمر، وبالنظر في هذه الأجوبة يمكن أن تحمل أقوالهم على أمرين:
1. الزيادة الحقيقية؛ وهذا ما ذهب إليه عدد من العلماء:
قال الحافظ ابن حجر: إن الزيادة على حقيقتها، وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، وأما الذي دلت عليه الآية فهو بالنسبة إلى علم الله تعالى، كأن يقال للملك مثلا: إن عمر فلان مائة سنة مثلا إن وصل رحمه، وستون إن قطعها، وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص، وإليه الإشارة بقوله تعالى: )يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (39)( (الرعد)، فالمحو: الإثبات بلا نسبة لما في علم الملك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله - سبحانه وتعالى - فلا محو فيه ألبتة، ويقال له القضاء المبرم[5].
وقد اختاره الإمام النووي، فقال: وهذا مراد الحديث[6].
وقال الشيخ الألباني معلقا على حديث أنس بن مالك: والحديث على ظاهره؛ أي: إن الله جعل بحكمته صلة الرحم سببا شرعيا لطول العمر، وكذلك حسن الخلق، وحسن الجوار، كما في بعض الأحاديث الصحيحة، ولا ينافي ذلك ما هو معلوم من الدين بالضرورة من أن العمر مقطوع به؛ لأن هذا بالنظر إلى الخاتمة، تماما كالسعادة والشقاوة، فهما مقطوعتان بالنسبة إلى الأفراد (شقي أو سعيد)، فمن المقطوع به أن السعادة والشقاوة منوطتان بالأسباب شرعا، كما قال صلى الله عليه وسلم: «اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: )فأما من أعطى واتقى (5) وصدق بالحسنى (6)( (الليل)»[7].
فكما أن الإيمان يزيد وينقص، وزيادته الطاعة، ونقصانه المعصية، وأن ذلك لا ينافي ما كتب في اللوح المحفوظ؛ فكذلك العمر يزيد وينقص بالنظر إلى الأسباب، فهو لا ينافي ما كتب في اللوح المحفوظ أيضا، فتأمل هذا فإنه مهم جدا في حل مشكلات كثيرة، ولهذا جاء في الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة الدعاء بطول العمر[8].
وعلى هذا، فحمل الزيادة على الحقيقة أمر يقبله العقل، ويؤيده النقل، لما في القول من وجاهة، واحتمال للصواب، وذلك بالتفريق بين علم الله الأزلي، وما هو معروف عند الملك الموكل بالأجل والرزق، وما إلى ذلك.[9] وهذا هو الراجح من أقوالهم.
2. الزيادة المجازية؛ أي أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى الطاعة وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة، وصيانته عن تضييعه في غير ذلك[10].
يقول الحكيم الترمذي: "إن العبد إذا عمر بالإيمان وبحياة القلب فذلك كثير وإن قل مدته؛ لأن القصر من العمر إذا احتشى من الإيمان أربى على الكثير؛ لأن المتبقي من العمر العبودية لله - سبحانه وتعالى - كي يصير عند الله وجيها"[11].
والزيادة في الأحاديث كذلك هي السعة والزيادة في الرزق، وعافية البدن، وقد قيل: الفقر هو الموت الأكبر، كما في قول الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء
فلما جاز أن يسمى الفقر موتا، ويجعل نقما من الحياة، جاز أن يسمى الغنى حياة، ويجعل زيادة في العمر[12].
وانفرد ابن فورك بتفسير آخر للزيادة، فقال: إن معنى الزيادة في العمر نفي الآفات عنهم، والزيادة في أفهامهم وعقولهم وبصائرهم، وليس ذلك زيادة في أرزاقهم، ولا في آجالهم؛ لأن الآجال مؤجلة لا زيادة فيها، والأرزاق مقسومة لا يزاد لأحد في رزقه، ولا ينقص منه شيء[13].
وقد قال المناوي - نقلا عن الزمخشري: معناه أن الله يبقي أثر واصل الرحم في الدنيا طويلا، فلا يضمحل سريعا كما يضمحل أثر قاطع الرحم[14]. فحمل الأجل هنا على الأثر، وهو تأويل سائغ، وتفسير محتمل[15]، وكذلك التأويلات والتفسيرات السابقة محتملة كلها؛ وذلك لموافقتها وجها من أوجه دفع التعارض وهو التأويل.
ونخلص من هذا إلى أنه لا تعارض بين أحاديث الزيادة في العمر وقوله تعالى: )فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (61)( (النحل)، فقد اتجه العلماء إلى الجمع بينهما، فحملوا الزيادة على الحقيقة، وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، أما الذي هو في علم الله، فلا يتغير ولا يتبدل، وهذا ما دلت عليه الآية، كما يتبين أن الحكمة في الحديث أن فيه إبلاغ ذلك إلى المكلف؛ ليعلم فضل البر وشؤم القطيعة.
ثانيا. إن رد القدر بالدعاء من قدر الله، والدعاء ذاته من القدر، وهو من الأسباب الجالبة لرد القدر:
من المعلوم أن سؤال الله تعالى ودعاءه من الأمور المرغب فيها شرعا، فقد قال الإمام النووي:
اعلم أن المذهب المختار الذي عليه الفقهاء والمحدثون وجماهير العلماء من الطوائف كلها من السلف والخلف أن الدعاء مستحب، قال الله تعالى: )وقال ربكم ادعوني أستجب لكم( (غافر: ٦٠)، وقال تعالى: )ادعوا ربكم تضرعا وخفية( (الأعراف:٥٥)[16].
وجاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء»[17]، وعنه أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سره أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد والكرب؛ فليكثر الدعاء في الرخاء»[18]، وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: )وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (60)( (غافر)»[19].
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بمأثم أو قطيعة رحم. فقال رجل من القوم: إذا نكثر! قال صلى الله عليه وسلم: الله أكثر»[20].
إذا تقرر هذا، فنعود للحديث النبوي محل الإشكال، والذي رواه الحاكم من حديث ثوبان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر...»[21]، ورواه الترمذي بلفظ آخر من حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر»[22]، والذي يتوهم بعضهم أنه يتعارض مع قوله تعالى: )إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون (40)( (النحل)، لأن أمر الله لا راد له.
نقول: إن هذا مما لا اختلاف فيه، إذ كان قد يحتمل أن يكون الله - عز وجل - إذا أراد أن يخلق النسمة جعل أجلها إن برت كذا، وإن لم تبر كذا، لما هو دون ذلك، وإن كان منها الدعاء رد عنها كذا، وإن لم يكن منها الدعاء، نزل بها كذا، وإن عملت كذا حرمت كذا، وإن لم تعمله رزقت كذا، ويكون ذلك مما يثبت في الصحيفة التي لا يزاد على ما فيها ولا ينقص منه، وفي ذلك بحمد الله التئام هذه الآثار واتفاقها وانتفاء التضاد عنها[23].
وقد قرر العلماء أن الدعاء سبب في حصول الخير، وأن هناك أشياء مقدرة ومربوطة بأسباب، فإذا تحقق السبب وقع المقدر، وإذا لم يتحقق السبب لم يقع، فإذا دعا المسلم ربه حصل له الخير، وإذا لم يدع وقع به الشر، كما جعل الله صلة الرحم سببا لطول العمر، وقطيعة الرحم سببا لضده.
قال ابن القيم: "والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء؛ يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله ويرفعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، وله مع البلاء ثلاثة مقامات:
أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.
الثاني: أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء؛ فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه، وإن كان ضعيفا.
الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه. وقد روى الحاكم من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة»[24][25].
وقال ابن القيم أيضا: وها هنا سؤال مشهور، وهو أن المدعو به إن كان قد قدر لم يكن بد من وقوعه، دعا به العبد أو لم يدع، وإن لم يكن قد قدر لم يقع، سواء سأله العبد أو لم يسأله، فظنت طائفة صحة هذا السؤال فتركت الدعاء، وقالت: لا فائدة فيه، وهؤلاء مع فرط جهلهم وضلالهم متناقضون، فإن مذهبهم يوجب تعطيل جميع الأسباب، فيقال لأحدهم: إن كان الشبع والري قد قدرا لك فلا بد من وقوعهما، أكلت أو لم تأكل، وإن لم يقدرا لم يقعا، أكلت أو لم تأكل، وإن كان الولد قد قدر لك فلا بد منه، وطئت الزوجة والأمة أم لم تطأهما، وإن لم يقدر ذلك لم يكن، فلا حاجة إلى التزوج والتسري... وهلم جرا!
فهل يقول هذا عاقل أو آدمي؟! بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته، فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام، بل هم أضل سبيلا!
وتكايس[26] بعضهم وقال: الاشتغال بالدعاء من باب التعبد المحض يثيب الله عليه الداعي من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما، وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء: بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله - سبحانه وتعالى - أمارة على قضاء الحاجة، فمتى وفق العبد للدعاء كان ذلك علامة له، وأمارة على أن حاجته قد قضيت، وهذا كما إذا رأيت غيما أسود باردا في زمن الشتاء، فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر. قالوا: وهكذا حكم الطاعات مع الثواب، والكفر والمعاصي مع العقاب، هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب، لا أنها أسباب له، وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار، والحرق مع الإحراق، والإزهاق مع القتل ليس شيء من ذلك سببا ألبتة، ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا مجرد الاقتران العادي لا التأثير السببي. وخالفوا بذلك الحس والعقل والشرع والفطرة وسائر طوائف العقلاء، بل أضحكوا عليهم العقلاء.
والصواب: أن ها هنا قسما ثالثا غير ما ذكره السائل، وهو أن هذا المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجردا عن سببه، ولكن قدر سببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال ودخول النار بالأعمال، وهذا القسم هو الحق، وهذا هو الذي حرمه السائل ولم يوفق له.
وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء. كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء، ولا أبلغ في حصول المطلوب، ولما كان الصحابة - رضي الله عنهم - أعلم الأمة بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأفقههم في دينه؛ كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يستنصر به - أي بالدعاء - على عدوه، وكان الدعاء أعظم جنديه، وكان يقول للصحابة: لستم تنصرون بكثرة، وإنما تنصرون من السماء. وكان يقول: إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن هم الدعاء، فإذا ألهمتم الدعاء، فإن الإجابة معه[27].
وقال أبو حامد الغزالي: فإن قلت: فما فائدة الدعاء والقضاء لا مرد له؟! فاعلم أن من القضاء رد البلاء بالدعاء؛ فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة، كما أن الترس سبب لرد السهم، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان، وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله - عز وجل - ألا يحمل السلاح، وقد قال الله تعالى: )خذوا حذركم( (النساء:٧١)، وألا تسقى الأرض بعد بث البذر، فيقال: إن سبق القضاء بالنبات نبت البذر، وإن لم يسبق لم ينبت، بل ربط الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كلمح البصر أو هو أقرب، وترتيب تفصيل المسببات على تفاصيل الأسباب على التدريج والتقدير هو القدر الذي قدر الخير قدره بسبب، والذي قدر الشر قدر لدفعه سببا، فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته [28].
إذن لا وجه للتعارض بين رد القضاء بالدعاء وبين قضاء الله؛ لأنه إذا كان الأمر مقدرا من قبل الله بالوقوع إيجابا أو سلبا فإن الدعاء سبب لرد شره واستنزال خيره.
الخلاصة:
· إن أحاديث الزيادة في العمر لا تتعارض مع القرآن، فهي أحاديث صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
· وقد اتجه العلماء في دفع التعارض المتوهم بينهما وبين قوله تعالى: )فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (61)( (النحل) إلى الجمع بينهما، فإن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما.
· وانقسم العلماء في توجيه أحاديث الزيادة في العمر إلى فريقين، فريق يرى أن الزيادة على حقيقتها، وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، كأن يقال للملك، على سبيل المثال: إن عمر فلان مائة سنة إن وصل رحمه، وستون إن قطعها، وقد سبق في علم الله أن يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقصان، وهذا هو المراد من الأحاديث كما أشار القرآن إلى ذلك في قوله: )يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (39)( (الرعد)، وقد رجح المحققون من أهل العلم هذا القول.
أما الفريق الآخر، فيرى أن الزيادة مجازية، وهي إما كناية عن البركة في العمر أو السعة والزيادة في الرزق وعافية البدن، وإما كناية عن نفي الآفات عن النفس، والزيادة في الأفهام والعقول، وإما بقاء أثر الواصل لرحمه بعد موته.
· وفي الحديث حكمة عظيمة، ألا وهي تنبيه المكلف إلى أهمية صلة الرحم؛ لكي يعلم فضل البر وشؤم القطيعة، فيحرص على وصلها.
· إن دعاء الله تعالى وسؤاله من الأمور المرغوب فيها والمستحبة، وذلك عند جمهور الفقهاء والمحدثين، قال تعالى: )وقال ربكم ادعوني أستجب لكم( (غافر:٦٠).
· والأحاديث الصحيحة كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في استحباب الدعاء والترغيب فيه، وبيان فضله في قضاء الحوائج؛ فهو سبب في حصول الخير، وهو من أنفع الأدوية التي ترفع البلاء وتعالجه، أو قد تمنعه وترده.
· إن كل شيء مقدر قدر معه سببه، فلا يوجد قدر إلا وله سبب وقوع، وذلك مثل الشبع بالأكل، والري بالشرب؛ وعليه يكون الدعاء من القدر، وهو من الأسباب المقدرة، ومن ثم فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة.
طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى