مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

* يناء الدولة المسلمة - تذكرة الموت - الثرثرة و أمن المعلومات

اذهب الى الأسفل

*  يناء الدولة المسلمة - تذكرة الموت - الثرثرة و أمن المعلومات Empty * يناء الدولة المسلمة - تذكرة الموت - الثرثرة و أمن المعلومات

مُساهمة  طارق فتحي الأحد يناير 23, 2011 4:43 pm

الأخوة : القاعدة المعنوية في بناء الدولة المسلمة
الحمد لله (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم)1 ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم)2 ونشهد أن محمدا عبد الله ورسوله (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود)3.
عباد الله اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون أما بعد : فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن من هديه صلى الله عليه وآله وسلم قوله في الحديث الصحيح : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه)4 صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد ذكر بعض مؤرخي السيرة النبوية أن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار إنما تمت خلال بناء المسجد النبوي ؛ فاستجمعت دولة الإسلام أول مقوماتها المادية وهي المسجد ، وأول مقوماتها المعنوية وهي المؤاخاة في ظلال دوحة وارفة من الإيمان والصدق والإخلاص ، وقد أجمع المؤرخون على أن المؤاخاة وقعت في السنة الأولى للهجرة ، ويحدد ابن عبد البر وقوعها بخمسة أشهر بعد الهجرة ؛ أي في رمضان ؛ فأي شهر عظيم هو رمضان! شهر العبادة وشهر العقيدة ؛ شهر الانتصار وشهر الشهادة ؛ شهر البناء والتأسيس ؛ بناء المسجد وبناء النفوس وتأسيس الأمة وتأسيس الدولة.
والمؤاخاة يا اخوة الإيمان لها فقه عظيم وليست أمرا عفويا يصمد اليه الناس من دون معرفة فقهه ؛ فمن فِقهِها قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)5 وقوله : (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا ؛ المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله ؛ التقوى هاهنا ؛ التقوى هاهنا ؛ التقوى هاهنا ، ويشير إلى صدره الشريف ؛ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ؛ كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)6 وهذا الحديث الشريف وحده لو أنفقت الأمة المسلمة كلها شطرا من عمرها في فقهه لكان قليلا ؛ فإن آثار ضياعه سببت خرابا هائلا ، ولو فكر الناس فيه لعلموا أن كثيرا من مصائبهم سببها ضياع فقه هذا الحديث ؛ فكم مسلم يظلم مسلما ، وكم مسلم يحقر مسلما ، وكم مسلم يخذل مسلما وكم مسلم يحسد أو يبغض أو يمكر أو يؤذي مسلما ، وكم مسلم لقلة دينه سبب سفك دم أو سلب مال أو ثلم عرض لمسلم ، وكم بيوت عشعشت فيها كل آفات الذين لا يؤمنون من الغيبة والنميمة والكذب ، وكم من مصائب ضاع فيها فقه المتطلبات الإيمانية فأهلكت ودمرت ، ورحم الله الإمام عبد القادر الجيلاني وهو يقول: يا غلام وعظي على ظاهرك ووعظك على باطنك ، ورحم الله ابن عطاء الله وهو يقول : الثوب موضع نظر الخلق والقلب موضع نظر الخالق فإياك ثم إياك أن يكون ثوبك نظيفا وقلبك نجسا.
من يصلي في الصف الأول ويأكل أموال الناس فلم يأت بشيء فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له! من يصلي التراويح ركعة أو عشرين ألفا ثم هو لا يبالي من أين مطعمه ومشربه لا يخرج بشيء ؛ من يصوم ويقوم ثم هو رأس من رؤوس الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل وعمل الزور وقوله لا يخرج بشيء ؛ ومن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه ، ورب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والنصب ، ورب تال للقرآن والقرآن يلعنه ، ومن تغطي رأسها بحجاب من قماش وقد هتكت سترها مع ربها بأكل لحوم الناس والمشي بالغيبة والنميمة والكذب ، وربما بالإفساد بين الرجل وزوجه ، وربما بتسبيب العداوات وتأجيج الخصومات وإطاعة إبليس وحزبه ؛ من فعلت مثل هذا فلتتب إلى الله فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
وصدق الهادي صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) وشبك بين أصابعه 7 ، فيامن تهدمون في بناء المؤمنين : توبوا إلى الله ؛ يامن تفتحون الثغرات اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ؛ يامن ضاقت صدوركم عن أمة لا إله إلا الله واتبعتم شهواتكم وأمراض نفوسكم .. إن زلزلة الساعة شيء عظيم.
روى الترمذي والبيهقي والبزار باسناد جيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (دب إليكم داء الأمم قبلكم : الحسد والبغضاء هي الحالقة! لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ؛ والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ؛ أفلا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم ؛ أفشوا السلام بينكم)8 فيا مؤمن ويا مؤمنة : قسم يقسمه نبيكم وما كان إلا صادقا مصدقا صلى الله عليه وآله وسلم : (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا) فأين يذهب الإيمان والحب في الله فيكم .
أول الطريق لفتح القلوب إفشاء السلام ، وهذا الهجران بين الناس إنما هو من عمل الشيطان ، وفي الصحيح عن نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم قال : (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام)9 وأخرج أبو داود عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه)10.
والظلم يا أمة محمد حرام ، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول عن ربه في الحديث : (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا)11؛ فالظلم حرام ولو للكافر أو الفاسق والظلم حرام ولو للحيوان والبهائم .
واعلموا أيها الناس أن للأخوة حقوقا عظيمة أكثر الناس عنها غافلون وهذه الحقوق (واجبة للمؤمن على المؤمن بنفس الإيمان والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة والصيام والحج والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله ، وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن وإن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة)12 كما يقول ابن تيمية رحمه الله ويعقب العلامة المحدث عبد الله سراج الدين في تفسيره لسورة الحجرات على حقوق الأخوة بقوله : فمن جملة حقوق الأخوة الإيمانية محبة المؤمن لأخيه ما يحبه لنفسه من الخير ويعتبر ذلك من خصال الايمان الواجبة على كل مؤمن أن يتحقق بها وليست هي من باب المندوبات والمستحبات ويدلك على وجوبها [أي حقوق الأخوة] ولزومها وأنها من الحقوق المسؤول عنها الأحاديث التالية : [وساق نفع الله به أحاديث] عدم دخول الجنة حتى يتحاب المؤمنون 13 وحديث الترمذي (وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا)14 وحديث مسلم (من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس بالذي يحب أن يؤتى اليه)15.
فيا أبناء الإسلام وبناته .. أمر دخول الجنة موقوف عليه : لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا.. كيف يفوتكم وكيف تقصرون فيه؟ ويكفي تقريرا للأخوة وحقوقها بين المؤمنين قوله تعالى (إنما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون)16. وقد نقل القاسمي عن الشهاب قوله : وتسمية المشاركة في الإيمان أخوة تشبيه بليغ شبه المشاركة فيه بالمشاركة في أصل التوالد لأن كلا منهما أصل للبقاء ؛ إذ التوالد منشأ الحياة ، والإيمان منشأ البقاء الأبدي في الجنان.
ويقول العلامة سراج الدين في الآية : (بعد أن أعلم سبحانه المؤمنين بعقد الأخوة فيما بينهم وأمرهم بالإصلاح بينهم لئلا يتفرق جمعهم وتذهب ريحهم وتضعف قواهم فتتمكن منهم أعداؤهم ويغتنمون فرقتهم وشتات شملهم فأمرهم سبحانه بالإصلاح الفوري ثم حذرهم سبحانه وأنذر وهدد وأوعد فقال: (واتقوا الله) والمعنى: اتقوا الله في هذا العقد الذي عقده الله تعالى بينكم وهو أخوة الإيمان.. وقد عهد إليكم بذلك وأعلمكم به فارعوا هذه الأخوة حقوقها وأدوا واجباتها كاملة)17 ولقد كان للسلف رضي الله عنهم وقفات مع إخوانهم فيقول واحدهم لأخيه (هيا بنا نؤمن ساعة) .. (انطلق بنا نؤمن ساعة) .. (قد قسا قلبي فاستلن لي منه) .. (إني أحبك في الله).. فما لهذه المعاني جفت نداوتها عند كثيرين ، وكثيرون لم يعرفوها أصلا! إن هذه المعاني ليست بمعانٍ ترفرف في الكتب بل حياة صالحة وأخوة طيبة تيسر ما تعسر في دروب الحياة ، وتفتح مغاليق القلوب وتحيل الأرض جنة وحياة مباركة طيبة ، وهي ليست ذات اتجاه واحد .. بل حقوق متبادلة؟ فلا يكن واحدكم مثل من قال لصاحب له : أنا أخوك.. فقال له إن قلت أنني أخوك فصدقت ؛ أما أن تكون أنت أخا لي فما رأيت من أخوتك شيئا..
ومن أعجب ما ذكر لنا من أخلاق الأخوة أن إخواننا في جماعة الدعوة والتبليغ إذا قام خطيب فيهم ليتكلم انتحى بضعة منهم يسألون الله له التسديد والصواب! لا كما يفعل بعض الناس من أكل لحم خطيبهم كلما أتاهم بما لا يحبون أن يفهموه ولا يسألون عنه فيتعلمون ولا ينصحون به كما أمر الله فيؤجرون .
يا أيها الناس إن ربكم تعالى يقول لكم (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)18.
والأخوة في الله من أعظم النعم.. ومن فاتته فاته خير كثير.. والأخوة ليست كلاما يتلى ولا قصائد تدبج ولا أدبا يتسامر به .. الأخوة عقيدة ونظام .. شريعة وفقه .. روح والتزام .. بذل وإيثار .. الواحد من صحابة رسول الله كان يقتسم مع أخيه ماله وبيته .. فكم لنا من الأخوة نصيب؟ ولله در المسجد ما أعظمه يعلم الأخوة والتواضع ، ولئن سألت عن مصيبة من مصائب المسلمين الكبرى لقلت لك : قلة الإخاء بينهم .. إذا كان بعض الناس في كل يوم جمعة يتذمرون من ضيق المكان للسجود فما نصيبهم من الأخوة .. فوا الله إن فقههم بها لقليل.. ولو كان في المسجد فسحة لوجب عليهم أن يتراصوا حتى يسري الإيمان في قلوبهم جميعا كسراج يقتبس من سراج كما يقول الشعراني رحمه الله فان الدارة المنفردة عن التيار العام لا تسري فيها الكهرباء .. ولو لم يكن لتراص الصفوف إلا حرق حجاب الطبيعة الغافلة لكفى .. فهناك من يصادر متراً أمامه ثم يقول للناس صلوا ولا تزعجوني! وفاهم فقه الأخوة لا يضره الزحام بل يستشعر فيه أخوة الإيمان ويتعلم التواضع والإيثار بل تدمع عينه ويشكر ربه إذا مست قدم أخيه رأسه في السجود .. ليحقق بعضا من قوله تعالى (أذلة على المؤمنين).. ومن تتكبر نفسه عن مجالسة أخيه فكيف ببذل ماله ودمه من أجله..
ولقد حفظ لنا التاريخ مآثر أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإخاء والإيثار والفداء الذي يبلغ آفاقا مذهلة عندما يمتزج بالحب العظيم للقائد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم .. وللعقيدة الربانية فاسمعوا قصة حبيب بن زيد تجسد الإخاء والوفاء والصدق والالتزام والتضحية والثبات.
في عتمة الليل وبعيدا عن عيون المشركين تسلل أصحاب بيعة العقبة الثانية ليبايعوا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن يقولوا في الله لا يخافون لومة لائم وعلى نصره ومنعه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم ولهم الجنة ، وفي جنح الظلام امتدت يد حبيب وكان طفلا صغيرا جدا ، امتدت يده ليبايع رسول الله ، وغدا رسول الله أحب اليه من أمه وأبيه ؛ ما شهد حبيب بدرا لصغر سنه وما شهد أُحُداً لأنه كان مازال دون حمل السلاح .. ولكنه شهد المشاهد كلها بعد ذلك ، وفي السنة التاسعة قام بنو حنيفة وراء مسيلمة الكذاب مدعي النبوة الذي قال فيه أحد أصحابه : أشهد أن محمدا لصادق وأن مسيلمة لكذاب ، ولكن كذاب ربيعة أحب إلي من صادق مضر!
ولقد بعث مسيلمة مع رجلين بكتاب جاء فيه :
من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ؛ سلام عليك ؛ أما بعد : فإني قد أُشركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ولكن قريشا قوم يعتدون!
لم يؤذ رسول الله الرجلين ، لكنه كتب إلى مسيلمة رسالة جاء فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم ؛ السلام على من اتبع الهدى أما بعد : فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
وازداد شر مسيلمة فأرسل له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا من خيار شباب الصحابة ؛ أرسل إليه حبيب بن زيد ؛ فلما اطلع مسيلمة على الرسالة أمر بحبيب بن زيد أن يقيد وجعل طواغيته في مجلسه وأذن للناس بالدخول عليه ، ووقف حبيب مرفوع الهامة شامخ الأنف .. فالتفت إليه مسيلمة وقال : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم أشهد أن محمدا رسول ال له.. فتميز مسيلمة غيظا وقال: وتشهد أني رسول الله؟ فقال حبيب في سخرية لاذعة : إن في أذني صمما عن سماع ما تقول .. فامتقع وجه مسيلمة وارتجفت شفتاه حنقا وقال لجلاده : اقطع قطعة من جسده!! فأهوى الجلاد على حبيب بسيفه وبتر قطعة من جسده فتدحرجت على الأرض ، ثم أعاد مسيلمة السؤال : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم أشهد أن محمدا رسول الله ؛ قال : وتشهد أني رسول الله؟ قال حبيب : قلت لك إن في أذني صمما عن سماع ما تقول! فأمر أن تقطع من جسده قطعة أخرى فتدحرجت إلى جانب أختها والناس مذهولون من ثباته المخيف ، ومضى مسيلمة يسأل والجلاد يقطع وحبيب يقول : أشهد أن محمدا رسول الله ؛ حتى صار أشلاء دامية ونصفه مقطع على الأرض ودماؤه تنزف وما كذب إيمانه .. ثم فاضت روحه وعلى شفتيه الطاهرتين اسم النبي الذي بايعه ليلة العقبة ..
ولا عجب فقد نشأ حبيب في بيت تفوح طيوب الإيمان من كل جنباته وتتدفق التضحية في سبيل الله من كل سكانه .. فأبوه زيد بن عاصم من طلائع المسلمين في المدينة .. وأخوه هو عبد الله بن زيد الذي جعل نحره دون رسول الله يوم أحد .. أما من رباه على هذه التضحية والفداء ؛ فلو تعلمون أيها الناس من رباه .. أم عظيمة العقيدة عظيمة الإيمان .. صحابية جليلة اسمها أم عَمارة : نسيبة المازنية ، وما أدراك ما نسيبة .. إنها أول امرأة حملت السلاح دفاعا عن دين وحماية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. وعندما نعي إليها حبيب قالت : من أجل مثل هذا الموقف أعددته وعند الله احتسبته .. لقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة صغيراً ووفى له اليوم كبيراً19.

تـذكرة القبر والموت والآخـرة
الحمد لله (إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم)1، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزانَ وما يدريك لعل الساعة قريب)2
ونشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله (إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل)3، يا أيها الناس اتقوا الله (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لاتنصرون)4.
أما بعد فإن من هدي نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم قوله وهو يقرأ ألهاكم التكاثر قال : (يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت)5.
ومعرفة حال الدنيا وتذكر الآخرة لا بد منه في كل مراحل الطريق وإلا فإن القلب قد يعتريه جفاف ، وعالم الأفكار من دون روح شوك لا زهر فيه ، والعلم من دون خشية سائق تكبر ، وحب الجدال قاتل ، وإن النفوس لتنتفش ببحث أمور الدنيا فإذا للغرور حظ وللعجب حظوظ ولآفات النفوس استيطان ؛ فإذا ذكِرَت الآخرة وحصل الاتعاظ رجعت كل الأمور إلى أحجامها ، وهتكت حجب الغفلة ؛ فأضاءت شوارق الأنوار قلوب أهل البصائر ؛ فتكون الدنيا لهم فردوساً قبل الفردوس ، وتصبح زحمتها لا ميدان غفلة ؛ بل ساحة تنبه وكم غافلٍ يلهو في محطات السفر فيفوته الركب بعد الركب ثم توصد الأبواب فإذا هو قارعة الطريق ملقى ، وصاحب النباهة والتشمير يكون أول الراكبين وكلما شمر وتيقظ كانت رحلته أسعد حتى إذا وصل دار السلام بسلام نودي مع أهل الطاعات: (ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود)6، وكم غافلٍ أتاه ركبه فما انتبه لهم ثم ركب مع صحب غفلة سيرُ قافلتهم عكس سيره فيزداد فوق البعد بعداً ومن ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً ؛ قال ابن القيم رحمه الله: والجهل بالطريق وآفاتها والمقصود منها يوجب التعب الكثير مع الفائدة القليلة ، وقال شارح الحكم: من ظن أنه يصل إلى الله تعالى بغير الله قُطِعَ به ومن استعان على عبادة الله تعالى بنفسه وُكِلَ إلى نفسه ، وما رجع من رجع إلا من الطريق ولو وصلوا ما رجعوا!
يا ابن آدم أهل الحق أحبوك فجاءوك ..كرموك فنصحوك.. يا ابن آدم ما لأجرٍ منك طلبوك .. ذكَّروك ووعظوك .. أيقظوك ونبهوك .. بذلوا دماهم وأرواحهم لينقذوك .. ومن الشرك يحموك .. ما كان أهل الشرك من دون الله لينقذوك! رائد الحق قتلوه وهو شفيق حريص يدعوك! أهل الضلال عُبَّادُ دنيا .. وأصحاب نوم وجهل،.. لو تبصرت في آخرتهم لنفرت ... فانتبه فلا يُطغوك (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون * وماليَ لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون * ءأتخذ من دونه آلهة إن يُردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون * إني إذا لفي ضلال مبين * إني أمنت بربكم فاسمعون * قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين * وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون * يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون * ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون * وإن كل لمّا جميعٌ لدينا محضرون)7.
والطريق إلى الآخرة تعتريه آفات حذر منها النذير البشير صلى الله عليه وآله وسلم بقوله (بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً أو مرضاً مفسداً أو هَرَماً مُفَنِّداً (أي مسبباً لنقص العقل واختلاله) أو موتاً مجهزاً أو الدَّجالَ فشرُّ غائب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمرُّ)8.
فيا خائف الفقر: افتقر إلى الله ويا طالب الغنى استغن بالله ويا مريض الروح استشفِ بكلام الله .. ويا هرم العقل اعتصم بالكتاب والسنة وإلا خَرِفْتَ ويا مقبلاً على الموت استعد له فما لك منه مهرب ويا فاتح قلبك للفتن! أخرجها تُعصم منها ، ويا سادرا لاهياً ... العمر قصير والزاد قليل وأمامك موقف تلقاه بما عملت فاجعل قيامتكَ آخرةَ عبدٍ صالحٍ لا مصيرَ مجرم نائح! اختر المآل.
قال البشير النذير صلى الله عليه وآله وسلم (احتجت الجنة والنار فقالت النار فيًّ الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة : فيَّ ضعفاءُ الناس ومساكينهم ؛ فقضى الله بينهما أنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء ، وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء ولكليكما عليَّ مِلؤها)9، وللموت رجفة في القلب عند المؤمن لا هرباً من موعود الله بل خوفاً من ذنب ما قارفته توبة صحيحة ، أو حياءً من منةٍ ونعمةٍ أضاعها العبد ووضعها في غير موضعها أو صحة ضاع منها ما ضاع في غير سداد ، ووقت وجهد فيه شوائب تخرجه عن المطلوب ، أو موقف حقٍ أضاعه في لحظة جبن حين غفلته عن أن الأرواح والأرزاق بيد الله وأن الروح لا تسلب إلا بإذن باريها ، أو موقف بذلٍ انكمشت يده فيه عن البذل فإذا هي في حب الإتلاف أبذل ، أو حقوق ضاعت أو أوامر نسيت أو طاعات فُرِّط ببعضها أو ذنوب جنح إليها ، أو أنانية طاغية صبغت حياته فما كان فيه كثير نفع لأهله وإخوانه.
يرتجف القلب لكل ذلك وأشباهه وتعروه هِزة وراءها فكرة فيكون تذكر فتبصر فاعتبار فروعة فيقظة فتنبه فهمة فتشمير فعمل صالح يغسل عن العبد كل الشوائب والآفات ؛ أوله طهور ووضوء ، وصلاة مقبل ما من شيء يَفضُلها في إزالة الذنوب والعيوب وفي ذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يومٍ خمس مراتٍ هل يبقى من درنه شيء ؛ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهنَّ الخطايا)10.
فإن الصلاة ليست قياماً وركعواً بالجسم والقلب غافل ؛ بل هي عبودية وسجود في انتظامٍ كل الكون خاضع له (والنجم والشجر يسجدان)11 وما من ساجدٍ لله إلا وله في ساحات الحياة شموخ يعلو به فوق فتن المال والدور والقصور والجاه والمناصب والآفات والشهوات ، وله نسب مع صحابي كريم: خبيب بن عدي ، وقف وسط الشرك ؛ في قلبه إيمان وفي لسانه ثبات :
وقد عرضوا بالكفر والموت دونه وقد ذرفت عيناي من غير مدمع
وما بي حذار الموت وإني لميت ولكن حـذاري حر نــار تلفَع
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنبٍ كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبـارك على أشـلاء شلو ممزع
ينطق بذلك بعد ركعتين ما كان شيء أحسن منهما ؛ فتعلمها ابن جبير فقال للظالم لمَّا هدده : لو علمت أن الجنة والنار بيدك لاتخذتك إلهاً. وما كان الموت ليوهن بل هو بوابة الحياة ، ومن ظن أن التذكير بالآخرة ونشر فقه الاتعاظ بالموت يضعف الناس ويدعوهم إلى العزلة والانطواء فهو واهم ؛ فإن ذلك فهم المبتدعة الذين استقوا الزهد من غير منابع الإسلام الصافية ؛ أما أمة لا إله إلا الله ففتحت الأرض لما عرفت سر الموت ، وأوجز خالد في وصيته لجنده فقال: (اطلبوا الموت توهب لكم الحياة) فإن الدنيا دار غرور وشهوات زائلة وملذات فانية وهي سراب ؛ من صدَّق به عاش عمره عبداً له يخاف فواته فإن عرف حقيقتها وكان همه الآخرة امتطاها وجعلها في قبضته ، وكان سيره دائماً في توازن تعلمته الأمة من نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم إذ دعا فقال: (اللهم اصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي ، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر)12.
وإذا تطهر العبد بركعتيه وسجد مع الساجدين وخرجت الدنيا من قلبه إلى يده وعلم أن الدنيا ساعة وهي ليست بدار مُقام وأن القبر آخر منازلها ؛ هنالك تحصل العظة ، و(الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني)13.
وسراب الحياة يملؤها بالطمع أو الجبن أو التهالك أو الانطواء ؛ فيأتي ذكر الموت فيطيح بالسراب فتظهر الأمور على حقائقها ، ومن أجل أن القبور تذكر بالموت فقد قال الهادي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)14، والجاهل لا يعرف أن للمؤمن مع أهل القبور خطاب بليغ يتعظ به وكان صلى الله عليه وآله وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقولSadالسلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)15، يا أيها الناس، الدنيا تلهينا والعمر يطوينا وكم من وهم نعيشه.
وبسبب قسوة القلب والغفلة يمعن البعض بعدم سماع أي شيء يذكرهم بالموت ظانين أنهم سيفلتون! (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم)16، ورحم الله الرافعي إذ يقول : من يهرب من شيء يتركه وراءه إلا القبر فما يهرب منه إلا وجده أمامه! هو أبداً ينتظر غير متململ وأنت أبداً متقدم إليه غير متراجع ؛ ذلك الواعظ الصامت يذكر بالآخرة :
الناس في غفلة والموت يوقظهم وما يفيقون حتى ينفد العمـر
يشـيعون أهاليـهم بجمعـهم وينظرون إلى ما فيه قد قبروا
ويرجعـون إلى أحـلام غفلتهم كأنهم ما رأوا شيئاً ولا نظروا
فاعتبروا يا أيها الناس .. فمن قصص أهل الاعتبار نتعلم.
العابد الزاهد أحمد بن أبي الحواري قال فيه يحيى بن معين: أظن أن أهل الشام ليسقيهم الله الغيث به ؛ زوجة أحمد عابدة مشهورة اسمها رابعة الشامية قالت: ما سمعت الأذان إلا ذكرت منادي القيامة ، ولا رأيت الثلج إلا رأيت تطاير الصحف ، ولا رأيت جراداً إلا ذكرت الحشر ، ومن قبلها الحسن البصري ؛ أمسى صائماً يوماً فجاءوه بطعام عند إفطاره فلما قرب إليه عرض له قوله تعالى: (إن لدينا أنكالاً وجحيماً * وطعاماً ذا غصةٍ وعذاباً أليماً)17 فقلصت يده عن الطعام وقال: ارفعوه فرفعوه فأصبح صائماً ؛ فلما أراد الإفطار ذكر الآية فقلصت يده عن الطعام ؛ فلما كان اليوم الثالث انطلق ابنه إلى ثابت البناني ويحيى البكاء فقال: أدركوه قبل أن يتلف ؛ فما زالوا به حتى سقوه شربة سَويق.
أما الصحابي الجليل حممة فبات ليلة عند التابعي هَرِمِ بن حيان العبدي ؛ فرأى دموعه تجري طول الليل ؛ فقال: ما يبكيك ؛ قال: ذكرت ليلة صبيحتها تبعثر القبور ، ثم بات ليلة ثانية فبات يبكي ، فسأله فقال: ذكرت ليلة صبيحتها تتناثر النجوم ، وفي كتاب الزهد للإمام أحمد أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرَّ على الحدادين فبَصِرَ بحديدة قد أحميت فبكى ... ذكَّرَتهُ النار.
أما عبد الرحمن بن عوف فقد أتي بطعام وكان صائماً فذكر مصعب بن عمير وشبابه ورقته ، وكيف أكرمه الله بالشهادة وما كان له إلا ثوب واحد إن غطي رأسه بدت رجلاه وإن غطيت رجلاه بدا رأسه فبكى حتى عاف الطعام ... وصدق صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول: ( لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم)18.
فيا أيها الناس: المبادرة ... المبادرة ؛ يناديكم الحسن البصري ؛ فإنما هي الأنفاس لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم. إنكم أصبحتم في أجل منقوص والعمل محفوظ والموت والله في رقابكم ، والنار بين أيديكم فتوقعوا قضاء الله عز وجل في كل يوم وليلة.
لقد فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لبٍ فرحاً!
وإن أمراً هذا الموت آخره لحقيق أن يزهد في أوله!
وإن أمراً هذا الموت أوله لحقيق أن يخاف آخره!
فاجتهد يا بن آدم كي تكون نهايتك في مقام صالح ويقال لك (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنَّتي)19.

الثرثرة و أمن المعلومات
الحمد لله (ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون)1 ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله رحمة للعالمين أرسله.
إخوة الإيمان أخوات الإيمان : اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ؛ أما بعد :
فإن اصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وأن من هديه قوله في الحديث الصحيح : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو لِيَصْمُت)2.
اللسان مفتاح المعلومات وأمن المعلومات في غاية الخطورة والتفريط به يؤدي إلى عواقب وخيمة في كل صعيد وابتداءً من الأسرةِ الصغيرة نجد أن حفظ أمنها يقوم على صيانة أسرارها وهذا يحفظها ويصون المجتمع من الشقاق والفواحش واللغو والغيبة والوقوع في الأعراض ، وقد كان بين رجل وزوجه خلاف فجعل الفضوليون يحاولون معرفة سر بيته فكان يَصدهم بقوله : العاقل لا يفضح نفسه ثم وصلت الأمور بينه وزوجه إلى أن وقع الطلاق , فأتاه قليلو الخلق والدين ؛ يستطلعون سره فقال لهم : لا أتكلم عن امرأة لا تخصني.
وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر أحدهما سر صاحبه)3. وكم من مشاكل كان يمكن تلافيها أو بحثها مع أهل علم أو فتوى وفي أسوأ الظروف الوصول إلى حل فيه أقل ما يمكن من الأضرار ، ولكن تفريط الناس بأمن أسرهم وثرثرتهم بمعلومات ما ينبغي ذكرها قاد الموضوع كله إلى شبكة معقدة من محاور الشد والجذب والتحريض والتأجيج المدمر، وتفريط الناس وقلة عقلهم ورميهم بأسرار بيوتهم إلى كل من هب ودب كفيل بجلب كل أنواع المصائب ، وفي حديث معاذ رضي الله عنه يسأل رسول الله  : وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (ثكلتك أمك وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)4 وعلى المؤمن والمؤمنة أن لا يكونا ثرثارَين ولا نقالين للأخبار ولا مستطلعين لأسرار بيوت إخوانهم وليحفظوا ألسنتهم من كل كلمة يلقونها في أسرة قد تتصدع أركانها نتيجة جهل أو لغو يرتكبانه وفي حديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات ، و إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم)5 ؛ كثيرون لا ينتبهون لأنفسهم فيثرثرون ويفرطون بأمن المعلومات حول أسرهم وهذه الأمور لا يستشار بها إلا عاقل تقي فقيه وإلا انعكست في نفوسهم أصداء كلمات تخرج من جند الشيطان وحزبه ؛ تهدم البيت وتدمر الأسرة وتوسع الثغرات وتفرق بين المرء وزوجه ، وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلةً أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول : فعلت كذا وكذا فيقول: ما صنعت شيئاً ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته ويقول نِعمَ أنت فيلتزمه)6 وفي الحديث الصحيح: (من خبب على امرئ زوجته فليس منا)7 وخبب معناه خدع وأفسد , قال تعالى( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً )8 , أما ناقلي الأحاديث الفارغة والموغرة للصدر بين الناس فلهم عاقبة أليمة قال عليه الصلاة والسلام : (لا يدخل الجنة نمام)9.
لايكفي من الأخ المسلم والأخت المسلمة أن يحفظا ألسنتهما عن الكلام ؛ بل عليهما الامتناع عن الإصغاء إلى المفسدين وعدم إتاحة الفرصة لهم ؛ بل صدهم عن بهتانهم .
قال تعالى: (والذين هم عن اللغو معرضون)10 وفي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)11.
والقاعدة أيها الأخوة أن درهم وقاية خير من قنطار علاج , وعدم الانتباه إلى ما يخرج من اللسان قد تكون عواقبه العاجلة والآجلة أخطر مما نتصور بكثير وهناك علامات مترابطة متبادلة بين وعي الأسرة الصغيرة وحفاظها على أمنها وأسرارها المنزلية ، ووعي الأمة بالأخطار المحيطة بها وعدم التفريط بأمنها القومي وأسرارها المنزلية ؛ الذي يتعلم في بيته أن من صفات المؤمن الإعراض عن اللغو وأنه مؤاخذ بما يتكلم به ويتعلم أن يقول خيراً أو يصمت : يحفظ هذا له بيته ويبني فيه مقدمات تربوية لأمن حضاري ممتد ، وهناك أشياء يصعب الحديث عنها لشموليتها الهائلة أولاً ، ولكون الوعي بها ضامراً إلى حد بعيد ولحاجة المتفقه بها إلى صبر شديد حتى يدرك خطورتها الفعلية ، وأسأل الله العون على شرح الفكرة.
هل تعلمون أن بالثرثرة وحدها يمكن أن يقوض أمن أمة بكاملها.
عندما ألف أحد الباحثين كتاباً سماه (صدمة المستقبل)12 أشار إلى أن من سيحكم العالم في المستقبل هو من سيمتلك معلومات أكثر! وحرب المعلومات أشد خطراً وشراسة من الحرب النووية ؛ الذي يمتلك معلومات أقل يكون قابلاً للبرمجة من صاحب المعلومات الأكثر ؛ يصبح تابعاً له ... مجرد حد من حدود المعادلة يمكن تحييده واختصاره أو حذفه عند اللزوم , والشعوب المسلمة مازالت حتى اليوم لطيبة قلبها وغفلتها لا تتنبه إلى أمن المعلومات فيها ولا تدرك خطره ؛ في إحدى الدول الإسلامية شيد مطار حربي في مكانٍ ناءٍ وراء جبالٍ وهضابٍ وكان على الأفراد العاملين النزول من الباصات العامة عند منعطف طريق طويل لتأتي ناقلات خاصة لآخذهم , المخجل والمزعج أن سائقي الباصات كانوا يقولون بأعلى أصواتهم عند الوصول إلى المنعطف: موقف المطار السري ... موقف المطار السري ؛ بحيث أن كل ركاب الباص ومنهم أعداد كبيرة من السياح والغرباء يسمعون هذا ويقطفون معلومة ثمينة من دون أي جهد. لقد أصبح التجسس على الأهداف الاقتصادية والعسكرية لأية دولة في غاية السهولة ، وما هو أخطر من معرفة الأسرار العسكرية هو معرفة الأسرار النفسية : معرفة تركيب الأسرة ، وكيف يفكر المجتمع ، وما هي القوى الاجتماعية الموجودة وما علاقة الشعب بالدولة ، وما الثغرات الموجودة وما الذي يوتر الناس وما الذي يزعج الدولة والمفاصل الحساسة في العلاقات بين الأديان والطوائف والقوميات.
معرفة هذه الأمور للدول الأجنبية مما لا يقدر بثمن لأنه بناء عليها توضع الأسافين لنسف استقرار الدول والشعوب ، والشعوب المسكينة لا تدرك خطورة هذه الأمور وأثار العلم أو الجهل بها ، ونلاحظ في القرآن الكريم تركيزا واضحا على أهمية العلم : (وقل ربي زدني علماً)13؛ (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)14؛ (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون )15.
والذي لاحظته أن كماً هائلاً من المعلومات يذهب إلى من يجمعون المعلومات ويرتبونها ويحللونها من أجل لحظة صفر معينة ، وسأتكلم عن جانبين صغيرين : المراكز الثقافية ، والأشخاص الذين يدخلون في الإسلام.
أما المراكز الثقافية فكلها تابعة لسفارات لا يهمها خيرنا واستقرارنا في قليل ولا كثير ولا أستثني مركزا ولا سفارة ... بعضها لا يكل ولا يمل من توزيع كتب أو أشرطة أو منشورات أو صحف كلها تصب في النهاية ضمن خطة كلية ، والدور الأولي لها هو التمهيد لإيجاد تربة وأرضية متفاعلة مع ما يبثون وينشرون ، وفي نفس الوقت تؤدي دورات اللغات إلى جمع كم هائل من المعلومات خصوصاً عندما يكون الأساتذة لا مدرسين بل خبراء تجسس ، ويكون بعض الطلاب مغفلين أو من النوعية المبهورة التي ترمي بردائها على ظهرها وتمسكه بإصبع واحدة قائلة بميوعة وزهو: أنها ذاهبة لدورة لغة في المركز الفلاني أو السفارة الفلانية ؛ دروس اللغة تستثمر لطرح أفكار ظاهرها اللغة وتوسيع المفردات وشمول المواضيع وباطنها الدس المبطن في الأمة ودينها وأخلاقها واستقرارها السياسي والاجتماعي والاقتصادي ... الاستجابات وردود الأفعال تجمع وتحلل وتؤخذ منها معلومات في غاية الأهمية تكون رافداً للأجهزة المخابراتية المتخصصة ؛ تحليل نفسية الشعب أمر مهم جداً لكل المراكز والسفارات خاصة الدول الكبرى وفي لحظات الأزمات تستثمر تلك المعلومات وبشكل جيد. مرة عرضت صور في إحدى المراكز فيها عري مستهجن (محاولة لدسِّ النبض) فإن مرت قذف مابعدها! كانت الاستجابة عموماً سلبية ، وهم اعتذروا من الطلاب والطالبات الذين نفر أكثرهم من الموضوع ؛ العذر كان بأن هذا جزء من حياتهم لابد أن يتعرف عليه الطلاب , ولم يتكرر الأمر ولكنهم بالتأكيد وضعوا إشارات عندهم بأن فلانة أو فلاناً لم يستهجن الأمر بل استهجن استنكار الطلاب والطالبات ؛ إذاً فهو عينة مغسولةٌ ممسوخةٌ يمكن الاعتماد عليها مستقبلاً أوتوظيفها في بعض المهام ، وربما تدريبها لأدوار أكبر وأخطر.
الآية الكريمة التي تقول: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا..)16ذات امتدادات شاملة والقتال يتطور ولا يتوقف عند السلاح المادي ؛ الفتنة الاقتصادية للشعوب جزء من الحرب , وأحياناً تعرض أفلام يَظُنُ الإنسان نفسه معها على عتبة الفردوس الأرضي , وهم لا يظهرون له عيوب بلادهم بل يظهرون له أموراً لا تتواجد إلا في الأفلام والهدف للعموم: زعزعة استقرارهم وفتنتهم وتنفيرهم من بلادهم ؛ تصوير قومهم بطريقة لا شعورية كأنهم وحوش وهناك الرقي والإنسانية , بلادنا فقر وهناك رفاهية ؛ هنا استبداد وهناك حرية ؛ هنا فوضى وهناك نظام ؛ هنا الجحيم المطلق وهناك جنة الأبد ومهما كان نسب السلبيات والإيجابيات هنا وهناك فإن كثيرون يخدعون ، والسفارات لن تسمح لهم بالسفر فحسبها منهم الخلخلة ثم الإرجاف في المجتمع لأنهم يريدون ويأخذون فقط الطاقات والمواهب العالية (سرقة الأدمغة).
الحل ليس في الانسحاب بل بالوعي بالأهداف ؛ العزلة ليست من ديننا ولا الرهبانية ، ونحن من أنصار التدرب في أرض المعركة من دون إحباط ولا ذوبان ولا خوف ؛ المعركة معركة ذكاء وتفويت مآرب ؛ لا يحتاج الأمر لقتال ولا توتر أعصاب بل يحتاج إلى هدوء وفطنة.
في إحدى دورات اللغة طلب من الطلاب كتابة موضوع عن مشاكل الأسرة في سورية والصعوبات الاقتصادية التي تعانيها ، والظلم الاجتماعي من أجل مناقشة كل ذلك ؛ أحد الطلاب الأذكياء قال للمدرس الخبيث: أليس من الأفضل يا أستاذ أن تطلعونا على أحوال بلادكم فتكون المناقشة عن التفكك الاجتماعي عندكم ، وعن آثار حرب فيتنام وعن آلاف المشردين واللقطاء في شوارعكم.
إننا وبحمد الله أكثر الدول أماناً على وجه الأرض ويستطيع المواطن أو الغريب (رجلا كان أو امرأة) أن يمشي في بلادنا الساعة الثانية منتصف الليل دون أن يخشى على نفسه من لص أو سارق أو مجرم فهل حدثتمونا عن بعض مدنكم التي يخاف أهلها المشي فيها بعد غروب الشمس.
المعلومات هامة جداً والتفريط فيها له آثار خطيرة ، وقنوات الحديث مع الأغراب إنما تكون في الأمور العامة التي لا تضر في شيء , ولست أستطيع تغيير المجتمع وإلغاء سلبيات الثرثرة فيه ولكن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة ، وأن توقد شمعةً خيرٌ لك من أن تلعن الظلام ، ويتوج فقهنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل)17 ، ووعينا يجب أن يسبق ذكائهم.
في أواخر عهد العثمانيين قدم إلى منطقة دير الزور شاب مسكين سمعه قليل وأبكم ؛ كان الناس يعطفون عليه و ينام في البساتين أو الخرائب ومع الوقت لم يكن هناك باب يغلق في وجهه وكان يساعد مستضيفيه والناس يزدادون عطفاً عليه ، ومرت سنوات طويلة وعندما تحالفت القوات الإنكليزية مع قوات ديغول ضد حكومة فيشي (التي كانت محتلة لسورية) أفاق الناس على خبر مذهل: لقد تبين أن هذا الشاب الأبكم ضابط برتبة عقيد في المخابرات البريطانية ، وعين قائداً عاماً للاستخبارات في شمال غرب العراق ؛ لقد كان عندما قدم أول مرة ملازماً يتقن اللغة العربية مثل أهلها وها هو الآن يعرف كل الأسرار , وما قصة الجاسوس (الصهيوني) كوهين وخبثه بأقل غرابة وهي قصة مطبوعة موجودة في الأسواق والمكتبات عبرة للغافلين.
أما المحور الثاني فهو محور الداخلين الجدد في الإسلام : وهؤلاء لانَشُقُ على قلوبهم ولنا بالنسبة لهم ملاحظاتٍ أولها: الانحراف الشديد لبعضهم في فهم الإسلام كمثل لذي كان منظراً للماركسيين ثم دخل الإسلام وواجبنا عونُه ولكننا لا نصدره في مجالسنا بل نغربل أفكاره ونستفيد من صالحها ولا نستقي أصولنا من كتبه فهو يكاد يقول: لا إله إلا الله في المسجد ولا إله إلا ماركس في الاقتصاد18؛ وقد يكون بين الداخلين الجدد منكرون للسنة وأكثرهم جهلة بها (وإن كان منهم خبثاء) ولكن غالبهم ممن لا يجوز لنا أن نظلمهم بل يجب حوارهم من قبل العلماء أهل الاختصاص ولا نفتح لهم الأبواب ليلقوا بذبذباتهم الفكرية بين العوام.
الملاحظة الثانية : أن هناك من يجمع معلومات عن النشاطات الإسلامية في البلد ، وتوزع القوى الدينية ومن منها مع الدولة ومن ضد الدولة والمرجعيات النشيطة ، وهؤلاء يجب إفهامهم بأننا بخير والناس أخوة ومجالس العلم واسعة ، ويجب شرح الإسلام لهم وإعانتهم على الخير وإبداء حسن الضيافة والخلق ولكن المشاكل بين المسلمين أو الجماعات الإسلامية لا ينبغي أن تبلغ أسماعهم , وكم وكم من بلاد كان الإسلام فيها مزدهرا ً, جنى الإسلاميون فيها على أنفسهم لما صارت أسرارهم تنقل إلى خارج بلادهم عن حُسن نية فيتلقفها خبثاً متخصصون في إذكاء النار فيحللون أوضاع الدول والشعوب وسياسات الحكومات والجماعات ثم يدسون من يوغر كل طرف على الآخر ثم يوهمون كل طرف بأن الأخر لابد سيفتك به ثم يبدأون التحريش ويشجعون على البدء بالحرب ويوجدون جواً كاذباً يوحي بالنصر والتمكين فتقع الواقعة وتشتغل الأمة بنفسها ولا تكون العاقبة إلا خسائر مروعة للحكومات والجماعات وأهل القرآن وأهل السلطان والخبثاء يتفرجون وفي الأمر بسط لا يحتمله المقام ورحم الله من قال : رعي جمال ابن كاشفين ولا رعي خنازير الفرنجة ومن الأسرة الصغيرة وانتهاءً بالأسرة الكبيرة فإن أساس الوقاية حفظ اللسان ؛ اللهم قنا كيد الكائدين.
طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى