مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

* القضاء والقدر عند المسلمين

اذهب الى الأسفل

* القضاء والقدر عند المسلمين Empty * القضاء والقدر عند المسلمين

مُساهمة  طارق فتحي الثلاثاء أبريل 10, 2012 7:08 pm

الإيمان بالقضاء والقدر ليس معناه نفى المسؤولية عن الإنسان، فالقرآن الكريم يزخر بالآيات التى تحمل الإنسان عاقبة عمله. وكل ما يحدث فى هذا الكون لا يجرى على غير إرادة الله تعالى، وإنما وفقاً للنواميس التى خلقها الله وبحسب إرادته تعالى. ذلك ببساطة شديدة هو مفهوم القضاء والقدر فى ضمير المسلم . أما المفهوم بمعنى "الجبر" فقد أخذ به رجال الدين اليهود فى الماضي. ذلك المفهوم الذى يعفى الإنسان من المسؤولية ويرجع كل شيء إلى إرادة الله وحدها وإغفال مسؤولية الإنسان. وهو مفهوم يفضى إلى التواكل والسلبية، إذ لا يرى المرء معه جدوى من الأخذ بالأسباب ومنافحة الظلم أو دفع القهر أو مقاتلة العدو. بل عليه فقط الانتظار والصبر حتى يتولى الله تعالى عن الإنسان هذه الواجبات.
ألم تر أن اليهود قالوا لنبيهم : (يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون) . وظل اليهود قرونا عديدة يعتقدون أن الرب "سيحرق كل أعداء اليهود، وسيغرقهم فى بحور الدم، وأنه سيفعل ذلك بمفرده . أما هم فيتفرغون لجمع المال. وأما إعادة الهيكل فتلك مهمة الرب . وظلت تلك هى رؤية اليهودى لفترات طويلة، غير أن ظروفاً تاريخية استجدت جعلت مجموعة من اليهود تتبنى فكرة الصهيونية العملية، أى عدم الاكتفاء بالاعتماد السلبى على الرب وإنما معاونته – إن صح التعبير – فى تحقيق هدفه الذى هو هدف إسرائيل فى اعتقادهم. وهكذا بدأ اليهود فى تخصيص جزء من أموالهم لشراء الأرض وتكوين الكتائب المسلحة وتوسيع العلاقات السياسية والاقتصادية بالقوى العظمى ... الخ وكان الانتقال إلى مرحلة الصهيونية العملية ما هو فى حقيقة الأمر إلا انتقالا من فكرة "الجبر" السلبية اليهودية إلى فكرة القضاء والقدر بأبعادها الخصبة فى الفكر الإسلامي، لذا فيمكننا القول بوضوح كامل إن التحول عن فكرة الجبرية السلبية والاعتماد السلبى على الرب – سبحانه-عند اليهود كان تأثيرا إسلاميا، وتمخض عن ذلك أيضا أخطر فكرة هددت السلام فى المنطقة العربية، وهى فكرة الصهيونية العملية،....، ولكن الشيء الغريب أنه فى الوقت الذى انتقلت فيه فكرة القضاء والقدرة بمعناها الإسلامى الخصب إلى اليهود ، بما فى الفكرة من مزايا،  انتقلت إلى العالم الإسلامى فكرة الجبر بمعناها اليهودى السلبى إلى حد ما، وحاول البعض تفريغ فكرة القضاء والقدر الإسلامية الخصبة من كل المزايا"(1).
واسمع إلى دعوات وعاظنا فى المساجد، تجد أنها جميعاً أو معظمها تتراوح بين اللهم اهزم أعداءنا، لا أن نقوم نحن بهزيمتهم وحربهم، واجعلهم غنيمة لنا، ويتِّم أبناءهم ورمِّل نساءهم ... فكلها مهام يدعون الله سبحانه أن يقوم بها نيابة عنهم. أو أن يصيح صائحهم بأن : يا يهود جيش محمد سوف يعود، أمانى بأن يعود جيش محمد صلى الله عليه وسلم، ليتولى عنهم الجهاد. أو يتحدثون عن قرب ظهور مثيل صلاح الدين ليتولى عنهم مهمة هزيمة العدو. يقول رفاعة رافع الطهطاوى "كان المصريون والمسلمون يوكلون أمر إحقاق الحق وقمع الظلم إما إلى القضاء والقدر أو إلى ذوق الحاكم وحيائه (!!) أو إلى نزوة من كبير تجعله يرى نور العدل للحظات"(2) .
ويرجع أنصار القدرية والجبرية أن الأقدار تجرى كما شاء مجريها ولا أحد فى هذه الدنيا يملك عنان اختياره، الأمر الذى ينفى المسؤولية عن الظلمة والطغاة، ويجرد المستضعفين من حقهم فى مدافعة القهر، فذلك قدرهم الذى أراده لهم الله تعالى، وكان المستبدون يلاحقون كل من يقول بغير هذه الأفكار. فى حين يقول ابن تيمية مصححا اعوجاج هذا الرأى : (وكل من احتج بالقدر فإنه متناقض، فلا يمكن أن يقر كل آدمى على ما يفعل به. فلا بد إذا ظلمه ظالم أن يدفع هذا القدر وأن يعاقب الظالم بما يكف عدوانه وعدوان أمثاله، فيقال له: إن كان القدر حجة فدع كل أحد يفعل بك ما يشاء، وإن لم يكن حجة بطل قولك إن القدر حجة"(3).كذلك يرى أفلاطون أن الإنسان يمسك بأعنة مصيره، ورأى رأيه أرسطو الذى اشترط أن يتمتع الإنسان بحظ وافر من المعرفة كى تتحقق له السيطرة الكاملة على مصيره.
وتعليل الأحداث بأنها قدر محتوم، وتفسير التاريخ بأنه قضاء لا راد له، دون التنبه إلى سننه وقوانينه، إنما يؤدى إلى الانصراف عن بحث بواعث الأحداث وكشف عللها، كما يسبب الإعراض عن الاستفادة من عبر التاريخ. لذا ينزلق الخلف إلى الوقوع فى نفس الأخطاء التى سبق ووقع فيها السلف مع أملهم الكاذب، فى أن تؤدى بهم المقدمات إلى غير النتائج التى تؤدى إليها حتما بحكم السنن، جهلاً منهم بالقانون الذى يحكم الأحداث، فينصرفون مثلا عن الأخذ بأسباب القوة، ولا يتوقعون أن يهزمهم الأعداء ظناً منهم أن القدر يحابيهم فهم أحباب الله. ويسلمهم وهمهم إلى افتراض أن لهم خصوصية ليست لغيرهم كما يظن اليهود بأنهم لا يزالون شعب الله المختار. وكيف لا يهزمون أعداءهم؟ صحيح إنهم – أى المسلمين – لا يملكون مثل بنادق الأعداء ومدافعهم، ولكنهم يحسنون الوضوء ويجيدون الدعاء ، كما إنهم يمضون الليالى الطوال يذكرون الله فى حلقات الذكر، فكيف لا ينصرهم الله؟ ألم يعدهم الله بنصره؟ ومع ذلك يحصدهم الأعداء حصداً، فلا يفسرون هزائمهم بعدم الأخذ بأسباب القوة بل يدفعهم غرورهم وجهلهم إلى التشكك فى أنهم قد قصًّروا فى الدعاء، أو أن حلقات الذكر لم تكن كما ينبغى إذ لم يزعقوا فيها ملء الحناجر، ولم يخلصوا فى طلب المدد من كل "أولياء الله الصالحين" من المتصوفة والهبل والدراويش . لقد تعطلت العقول .
عندما هزم السلطان العثمانى سليم المماليك فى موقعة مرج دابق وتمكن من أسر الأمير المملوكى كرتباي، دار حوار بينهما وسأله فيه السلطان سليم عن سبب هزيمة المماليك ، فلم يفسر الأمير المملوكى الهزيمة بالخيانة والفرقة، وافتقاد الجيش إلى الأسلحة النارية، وغباوة السلطان، ولكنه قال: "والله ما أخذتم أرضنا بقوتكم، ولابفروسيتكم، وإنما ذلك أمر قضاه الله تعالى وقدره فى الأزل، وقد جعل لكل شيء بداية، ولكل بداية نهاية"(4) ، وذلك جريا على الاعتقاد المغلوط الراسخ فى هذا الوقت بالقضاء والقدر أو تفسير كل الحوادث على أساس غيبى لا دخل للإنسان فيه.
ولقد شاعت بين الأمم كافة التفسيرات الغيبية للأحداث فى لحظات هزائمها، وغفل الكثيرون عن تفسير الأحداث بعللها الحقيقية. فقد شاع مثلا إبان الصراعات بين الوثنية والمسيحية مقولة أن المسيحية وراء تدهور الأحوال الاقتصادية فى الإمبراطورية الرومانية قبل سقوطها، وأن الآلهة الوثنية غضبت على روما وكانت وراء سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، وتراوحت تفسيرات أسباب هذا السقوط بين غضب الآلهة على الرومان المنحرفين أصحاب الخطايا وسبب مفاسدهم الأخلاقية ، كذلك فسر يوحنا أسقف نيقية هزيمة الروم أمام جيوش عمرو بن العاص بأنها عقاب من الله لأباطرة بيزنطة لما اقترفوه فى حق الأقباط من اضطهاد.
"واستولت النزعة السلبية على المجتمع الإسلامى بعد الفتن الكثيرة التى توالت على المسلمين بعد مقتل سيدنا على كرم الله وجهه، ومصارع أهل البيت على أيدى الخلفاء الأمويين والعباسيين على السواء، فكان الاستسلام للأحداث والتسليم بالخذلان، هو العزاء للكثير من النفوس، حتى لقد شاع فى الناس القول بأن هذا ما قضى الله وقدَّر، فكان هذا قولا يقال فى كل حال ، وعزاء يردد عند كل خذلان ، وهذا حق، ولكن الاستنامة فى ظل هذا القول، ورمى القدر بكل أخطائنا، هو الذى لا يرضاه عقل، ولا يقره دين(5)."
ويرى "كالفن" أحد دعاة الإصلاح الديني، أن أكبر آثام البشر هو إعمالهم الإرادة ، ويرى أن الإنسان محروم من الاختيار، وأفضل ما عليه عمله هو التسليم المطلق والطاعة العمياء، فالحوادث مسيًّرة بالقضاء والقدر.
إن من يغفل عن كشف سنة الله المؤدية إلى تردى أحوال المسلمين، أو من يجهل أصلا أن سنن الله تعالى وراء الأحداث فاعلة ماضية، وأن الأمور لا تسير خبط عشواء، على أولئك أن يعرفوا أنهم طالما جهلوا هذه السنن فلا سبيل إلى معرفة الحقائق أو تسخير هذه السنن. فالإنسان المهزوم يوعز الأحداث إلى القضاء والقدر، إذ يجهل البواعث الحقيقية لها، وينكر دوره من نشاط أو تقاعس فى الهزائم والانتصارات، وإذ خفيت علينا السنن والقوانين الفاعلة، اشتبهت الأمور، وظننا أنها الفوضى التى لاضابط لها.
تقول فرقة "المضطربة"، وهى من فرق الجبرية: لا فعل للآدمى بل الله عز وجل يفعل الكل، أى كل الأفعال خيرها وشرها، كما تقول فرقة الأفعالية ، وهى أيضا من فرق الجبرية: لنا أفعال ولكن لا استطاعة لنا فيها ، وإنما نحن كالبهائم تقاد بالحبل. وذلك معناه ببساطة – نفى المسؤولية عن الناس ، وتبرئه ساحة المجرمين والظلمة إذ ليس الأمر بيدهم فالله يفعل الكل – تعالى الله علوا كبيرا عما يقولون – وإنما الناس كالبهائم تقاد بالحبل! وتقول فرقة السابقية ، من الجبرية أيضاً : من شاء فليعمل ومن شاء لا يعمل ، فإن السعيد لا تضره ذنوبه، والشقى لا ينفعه بره. إذ يرون الأمر جبراًً وقضاءً مقضياً لا حيلة للإنسان فيه.
وفهمنا أن الرزق على الله ، فتواكلنا ولم نبذل قصارى الجهد- بل أقله- ظنا أن الرزق آت. وخذلنا أنفسنا بعدم بذل أفضل الجهد. ولم نأخذ بالأسباب التى أخذ بها غيرنا ، فانتصروا وانهزمنا ، ونجحوا وأخفقنا ، وسادونا وأصبحنا لهم عبيداً.
ويقول أصحاب فرقة الشريكية ، من فرق القدرية، إن السيئات كلها مقدرة إلا الكفر. وذلك يفتح الباب على مصراعيه لتبرئه ساحة كل الظلمة والأشرار والمستبدين واللصوص ، إذ السيئات مقدرة ، ولا حيلة للإنسان فى ما يفعله من شرور وآثام . لذا "أصبح المتغلب على الحكم يضيق بالفقيه الحنبلى الذى يقول هذا حرام وهذا مكروه ، وأضحى يميل إلى الشيخ الصوفى الذى يحرق له البخور، ويرى كل الأفعال (صالحة أو طالحة) مصدرها من الله ولا سبيل للاعتراض عليها. ومن هنا بدأ التحالف بين الصوفية والحكام . وازدهر تيار التصوف برعاية الحكام ودخول أفراد العوام ليصيروا شيوخاً بدون تعب فى طلب العلم الظاهر"(6).
ويروج المستبدون لأفكار القضاء والقدر والامتثال للواقع حتى يرى المستضعفون أن تسلط المستبدين إنما هو قدر لا يمكن رده، وإنكاره أو السعى لتغييره يعد من قبيل مصادمة إرادة الله وعدم الرضا بقضائه ، مما ينتهى بوصم من يفعل ذلك بالكفر والزندقة.
لما روًّج معبد بن عبد الله الجهنى لفكرة الإيمان بالقضاء والقدر وإثبات مسؤولية الإنسان عن أفعاله، وأن السعى لتغيير الواقع لا يعد مصادمة لإرادة الله، تخوًّف منه الأمويون، وأمر الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان بقتله، وتم القبض عليه وصلب فى دمشق سنة 80 هـ. ويرى البعض أن قول المعتزلة بمسؤولية الإنسان ونفى ارتهانه بالقضاء والقدر، كان سببا فى علو مكانتهم فى ظل العباسيين الذين كانوا يرون فى إثبات مسؤولية الإنسان عن فعله إدانة للأمويين وتحميلهم مسؤولية استبدادهم وظلمهم ، ونفى إعفائهم من المسؤولية عما اقترفوه.
"وعندما نحاول تحليل تلك القدرية التى يتميز بها المستضعفون فسنجد أن لها جذورا اجتماعية وتاريخية، فهى غالبا ما تقترن عندهم بالحظ أو المصير الذى هو من صنع الله ولا يد للإنسان فيه، فمن خلال ممارسة المستضعفين للسحر والأساطير يصلون إلى قناعة مؤداها أن كل ما يلحق بهم من عناء واستبداد هو من مشيئة الله . وكأن الله- حاشاه جل شأنه -هو سبب هذه الفوضى المنظمة، فالمستضعفون بانغماسهم فى حقائق الحياة وامتثالهم لحقيقة القهر المستبطنة داخلهم لا يتأتى لهم إدراك حقائق الوضع المزرى الذى يعيشون فيه .  وطالما ظل المستضعفون على غير وعى بأسباب قهرهم فسيظلون على قدريتهم فى قبول واقعهم، بل قد يقفون موقفاً سلبياً حين يواجهون بضرورة النضال من أجل تحقيق حريتهم أو تأكيد ذواتهم)(7).
"ويبالغ الصوفيون فى التوكل مما دفع بهم إلى أقصى درجات الطمأنينة النفسية القائمة على أنهم لا يبالون بشيء، ويهملون الدنيا إهمالاً مطلقاً ، بل يتركون أنفسهم تركاً لعناية الله وقضائه، ويجعلونها بين يديه لا إرادة لها ولا حركة كالميت فى يد الغاسل، فهم يبعدون عن محيط تفكيرهم  أن يعنى المرء بمستقبله، وأن يرعى شؤونه وحاجاته"(Cool ، وذلك فهم خاطيء لمعنى التسليم لله والإيمان بقضائه وقدره. وقد قعد المتصوفون عن الكسب استثقالاً له واستسهالا للتسول والاعتماد على الغير، وقالوا : لابد أن يصل إلينا رزقنا، ولو صح وصول الرزق إلى الناس مع قعودهم عن طلبه لفسدت الأرض . فالتوكل فى نظر المتصوفة وأتباعهم هو ترك الأسباب وانتظار الفرج من السماء أو من جهة ما، "ولو قال رجل للصوفية من أين أطعم عيالى لقالوا: قد أشركت . ولو سئلوا عمن يخرج إلى التجارة لقالوا ليس بمتوكل ولا موقن. وكل هذا لجهلهم بمعنى التوكل واليقين)(9).كما يرى الصوفية أن التوكل لا يصح لأحد عالج نفسه من علة بجسده إذ يرون أنه لا يجوز طلب المعافاة من غير الله ولو كان بدواء ، وكأن التوكل هو ترك الأسباب. وقد غالى المتصوفون فى نظرتهم إلى التوكل ، إذ رأوه التماس الغايات بلا وسائل، حتى إنهم يرون دخول الصحارى القفراء بغير زاد، أو الانقطاع فى المغارات الموحشة هو من التوكل وحسن الظن بالله، ولا يشكون فى أن هذه بلاهة إذ يزينه لهم فقهاؤهم ، "يقول لهم أبو حامد الغزالي: لا يجوز دخول المغارة بغير زاد إلا بشرطين: أحدهما أن يكون الإنسان قد راض نفسه حيث يمكنه الصبر على الطعام أسبوعا ونحوه، والثانى : أن يمكنه التقوت بالحشيش !! ولا تخلو البادية من أن يلقاه آدمى بعد أسبوع أو ينتهى إلى حشيش يزجى به وقته. وأقبح ما فى هذا القول أنه صدر من فقيه ، فإنه قد لا يلقى أحداً ، وقد يضل وقد يمرض فلا يصلح له الحشيش ، وقد يلقى من لا يطعمه، وقد يموت ولا يقابله أحد" (10). وهذا رأى ابن الجوزى فى الغزالى المسؤول عن أسلمة التصوف وإعطائه طابعاً إسلاميا، فانخدع به العامة وانطلت عليهم كفريات وخرافات التصوف التى تصادم الدين الإسلامى الحنيف صداماً واضحاً لا ينكره عاقل. " ولا يتخذ المؤمنون بالقضاء والقدر من الله ، (الجبرية)، المبادرة الثورية أى لا يجنحون إلى التغيير، ولا يتحركون إلا فى اللحظة الأخيرة عندما تظهر بوضوح شديد بوادر انهيار النظام القائم ، فالجبرى لا يأخذ المبادرة ، وإنما يتحسس التيار ويسير معه، والجبرى لا يثور ولا يغيِّر إلا إذ أحس أن التغيير قادم لا ريب فيه سواء اشترك فيه أم لا . وهذا يفسر سبب أن المجتمعات التى تعمقت فيها جذور الجبر لم تشهد ثورات ذات طابع دموى أو حتى شعبى واضح تأخذ زمام المبادرة ، وإنما يأتى التحرك الشعـبى متأخرا شيئا ما" (11).
وينتقد علماء الحملة الفرنسية تواكل المصريين وسوء فهمهم للقضاء والقدر فيقولون :" ويعتقد المصريون بأن ليس ثمة ما يحدث دون إرادة من الخالق، وأن ليس ثمة ما يمكنه رد قضائه ومشيئته التى لامحيص عنها. لذا ينظرون إلى الاحتياطات التى تم اللجوء إليها لمنع انتشار الطاعون بأمور لا جدوى منها، إذ إنهم لن يصابوا مطلقا بأذى إذا كان مقدراً لهم أن يعيشوا. كما أن شيئا لا يمكن أن يحميهم إذا ما كانت مشيئة الله قد أرادت لهم أن يموتوا،  ويقودهم الاعتقاد بالقضاء والقدر إلى استسلام لا حدود له يميزهم عن سائر الشعوب ، ويفسر استسلامهم الطبيعى على الدوام بأنه خضوع أعمى لمشيئة القدر"(12).  وقد يغالى فى الشطط فتُرى معالجة المرضى من قبيل عصيان الله ومعاندته إذ أنزل المرض والعلة بالناس فكيف يعالجون أنفسهم ويخالفون المشيئة الإلهية – ذلك كان موقف السلطات الكنسية فى أوروبا فى عصور ظلامها. ويفسر علماء الحملة الفرنسية – عندما درسوا الشخصية المصرية – ذلك الجمود المذهل فى ملامح المصرى بأنه يعود إلى "الاعتقاد فى القضاء والقدر المنتشر بين الناس كافة ، كما تعود فى النهاية إلى تعودهم أن يكونوا على الدوام عرضة لنزوات الطغاة الذين يعم ظلمهم البلاد، ففى كل يوم تنشأ أخطاء وبشاعات جديدة ، تصبح الغفلة معها بالنسبة للمصريين والشرقيين عموما – نوعا من الحيلة لمواجهة هذا العسف، فعندما يعاقب الإنسان على حركة أو بسب نظرة أو أحيانا لمجرد الاشتباه كما لو أنه قد ارتكب جريمة، فإنه يصبح وقد اكتسب مقدرة عميقة على الاستيعاب بحيث تصبح هذه الأمور الجائرة حالات اعتيادية ، لذا فلا ينبغى علينا أن نبحث عن مصدر أخر لأسباب هذا النوع من التسليم المستعذب للألم الذى يميز الشرقيين على وجه العموم، فالشكاوى والصيحات أمور لا فائدة منها أمام إرادة الطغاة. ويعرف المصرى كيف يمشى وقد أغضبه الألم، وكيف يموت تحت عصا القواس دون أن يقول كلمته ، فهذه إرادة الله، والله أكبر، والله غفور... وتلك فقط هى الكلمات التى تأتى على لسانه عندما يبلغه نبأ نجاح لم يكن يتوقعه، وهى نفسها التى تبدر عنه عندما يبلغه نبأ كارثة كبرى ألمت به"(13) ، إنها عقيدة القضاء والقدر التى ترسخت فى نفوسنا على نحو خاطيء ، فظننا أنها مجرد الامتثال والطاعة إذ كل شيء (مكتوب على الجبين) ، ولا جدوى من رد ظلم أو طلب مجد، أو التماس عدل. "ولسوف يظل المصرى عبدا بائسا سلبيا خاملاً تدور به دوامات الشك دون أن يفكر فى وضعه المحزن. وربما تكون بلادته تلك هبة من القدر ، إذ بفضلها لن يعذبه على الإطلاق ذلك الإحساس بالآلام والمخاطر التى تهدده بلا انقطاع"(14)
إن فكرة الجبر والحتمية وراء تدهور أحوال معتنقها، إذ تفضى إلى الخمول والتكاسل والتواكل وإلى الرضا العاجز بالأمر الواقع، وانعدام الهمة لمواجهة هذا الواقع، فهو لم يحاول تطويع الأمور الصعبة لأنه لا يؤمن بإمكان تطويع الأمور أو تغيير مسارها. كما أن إيمانه بالقدر سيدفعه لقبول الأمور التى لا يرى أنه لا مناص منها ولا مهرب. لذا عمد المعتزلة إلى تأكيد مسؤولية الإنسان عن أفعاله كافة، وذلك فى محاولة منهم للتصدى للتواكل، لا التوكل، الذى سيطر على العقل والضمير المسلم. "إن فكرة الجبر، أو قدر الله الحتمي، ليست مجرد فكرة أكاديمية نشأت بمعزل عن حركة المجتمع، وإنما هى فكرة فاعلة ومؤثرة ولها تطبيقاتها العملية، وهى فكرة قابلة للتوجيه... وبعد أن اتضح أثر الأفكار الحاكمة فى تسيير حياة الأمة وصياغة مستقبلها وتحديد علاقاتها الاجتماعية، فهل من الحكمة أن نترك هذه الأفكار الحاكمة ليبثها فينا من يشاء ويبلورها فى ضمائرنا من يشاء، هل من الحكمة أن نتركها لواعظ أو خطيب ، أم أن الحكمة أن نعتبر هذه الأفكار الحاكمة التى يمتزج فيها الشعور باللاشعور، وما هو غيبى بما هو واقعي، مشروعا قومياً أو مهمة عليا؟ لا بد إذن من لجنة أو هيئة فى جهة ما لتصوغ مشروع مصر القومى فى "الأفكار الحاكمة" التى تؤتى نتائج إيجابية، فهذه الجهات ليست مهمتها جمع المعلومات فقط، وإنما بثها أيضا"(15).

المصادر :
1- مونتجمرى وات – القضاء والقدر – مقدمة بقلم
       الدكتور عبد الرحمن عبد الله الشيخ.
2- رفاعة رافع الطهطاوى – تخليص الإبريز
3- ابن تيمية – العبودية
4- ابن زنبل الرمال – آخرة المماليك
5- عبد الكريم الخطيب – القضاء والقدر
6- د. أحمد صبحى منصور – العقائد الدينية فى مصر
       المملوكية بين الإسلام والتصوف.
7- باولو فرايرى – تعليم المقهورين.
8- جولد تسيهر – الشريعة والعقيدة فى الإسلام.
9- ابن الجوزى – تلبيس إبليس
10- المرجع السابق
11- مونتجمرى وات – القضاء والقدر – مقدمة بقلم
        الدكتور عبد الرحمن عبد الله الشيخ.
12- علماء الحملة الفرنسية – وصف مصر – الجزء
       الأول
13- المرجع السابق
14- المرجع السابق
15- مونتجمرى وات – القضاء والقدر – مقدمة بقلم
       الدكتور عبد الرحمن عبد الله الشيخ.
طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى