مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

* الصحابة جيل فريد

اذهب الى الأسفل

* الصحابة جيل فريد Empty * الصحابة جيل فريد

مُساهمة  طارق فتحي الأحد ديسمبر 18, 2011 9:08 am

اعداد : طارق فتحي
هذا البحث في الحقيقة هو محاولة للاقتراب كثيرًا من جيل الصحابة، هذا الجيل الراقي الرفيع المستوى الذي لم يتكرر مثله في التاريخ، سواء في السابق لجيل الصحابة، أو في اللاحق له، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لن يأتي جيل مثله إلى يوم القيامة.
وعظمة هذا الجيل، وقيمته تأتي من كونه بأكمله يتصف بصفات معينة، من سلامة العقيدة، وكمال الأخلاق، وأمانة النقل، وصفاء القلب، وقوة العزيمة، وحب الجهاد، جيل بأكمله على هذه الدرجة الراقية من الأخلاق والصفات.
قد يظهر إنسان نابغة في زمان من الأزمان، أو تظهر مجموعة من الأمناء الصادقين الأبرار في جيل من الأجيال، أما أن يكون الجيل بكامله على هذه الصورة من النقاء والبهاء، فهذا هو الغريب حقًّا، وهذا هو اللافت للنظر فعلاً في أمر هذا الجيل الفريد.
فلو ظهر في زمن من الأزمان رجل مثل عمر بن الخطاب مثلا، فهذا من سعادة هذا الجيل، ومن سعادة هذا الزمن، وكذا لو ظهر رجل مثل أبي بكر الصديق، أو رجل مثل طلحة بن عبيد الله، أو مثل خالد بن الوليد، أو مثل أبي هريرة، وهكذا لو ظهر رجل واحد فقط من هذا الصنف من الرجال، لأصبح من سعادة هذا الجيل أن ظهر فيهم مثل هذا الإنسان.
لكن أن يظهر كل هؤلاء في زمن واحد هذا هو الأمر العجيب حقًّا والفريد حقًّا.
وليس الغرض في هذا البحث أن نسرد الأقوال، والأفعال التي قام بها الصحابة، فهو ليس مجرد سِيَرٍ ذاتية لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس المقصود منه التعرض لكل الأحداث التي مرّ بها الصحابة رضي الله عنهم، ولكن المقصود هو أن نتعلم كيف نقلِّد جيل الصحابة؟
كيف نكون كجيل الصحابة؟
كيف نسير في طريق الصحابة؟
كيف نصل إلى ما وصل إليه الصحابة سواء في الدنيا أو في الآخرة؟
قيمة جيل الصحابة
ولكن قبل أن نتعلم كيف وصل الصحابة إلى هذا المستوى الراقي، وكيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه، قبل أن نتعلم كيف يمكن أن نسير في طريقهم، أريد في البداية أن أتحدث عن قيمة هذا الجيل.
قيمة هذا الجيل في ميزان الإسلام.
قيمة هذا الجيل في ميزان التاريخ.
بل قيمة هذا الجيل في ميزان الله عز وجل.
وسبحان الله، هذا هو الجيل الوحيد الذي تستطيع أن تعرف قيمته في ميزان الله عز وجل؛ لأن هذا لا يتأتى، ولا يمكن معرفته أبدًا على وجه اليقين إلا بإخبار من الله عز وجل في القرآن الكريم، أو عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما عموم البشر بعد هذا الجيل فلا يمكن الجزم أبدا بأن هذا الجيل جيل ثقيل في ميزان الله عز وجل، فمن أين نعرف هذا؟!
من الممكن أن نرجح أن هذا إنسانٌ فاضل، أو أنه يسير على طريق الهدى، لكن لا يمكن الجزم بأنه فعلا على طريق الله عز وجل؛ لأن التقييم الإلهي للفرد لا يعتمد فقط على ظاهر الأعمال التي نراها نحن بأعيننا، وإنما يعتمد أيضا على القول، وعلى النيات، وهذا لا يمكن للبشر أن يتيقنوا منه أبدا.
نعم هناك شواهد تشير إلى فضائل الرجال والنساء، ولكن هذا كما ذكرنا لا يمكن أن يكون على وجه اليقين، ومن الممكن أن نرى إنسانًا ما، ظاهر الصلاح بينما هو في حقيقته يختلف تمامًا، ولا يعلم ذلك إلا الله عز وجل.
تعالوا بنا نقرأ ونتدبر ما قاله الله عز وجل عن أصحاب بيعة الرضوان:
[لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبً] {الفتح:18} .
هذه الآية لم تُذكر في حق صحابي واحد، أو اثنين، بل ذُكرت في حق ألف وأربعمائة من الصحابة، وقد رضي الله عنهم جميعًا.
أيضا اسمع وتدبر قول الله تعالى:
[لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] {التوبة:117} .
فهذه الآية نزلت في حق ثلاثين ألفًا من الصحابة رضي الله عنهم، وهم من شارك في غزوة تبوك.
أما الأجيال التي جاءت بعد جيل الصحابة رضي الله عنهم، فمن المستحيل أن نصل إلى يقين أن الله عز وجل تاب على فلان بعينه، لأن الإنسان مهما بلغ من العمل في الدنيا، لا يستطيع أحد أن يجزم بخيريته، أو مكانته عند الله أو درجته في الجنة، أو يتيقن من نجاته من النار.
وقد غرس الرسول صلى الله عليه وسلم في صحابته رضي الله عنهم هذا المعنى اللطيف، والذي نستطيع أن نستوعبه مما رواه البخاري عن خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ- امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ بَايَعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً، فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ.
أي أنه لما ذهب المهاجرون إلى المدينة، قام النبي صلى الله عليه وسلم بتقسيم المهاجرين على دور الأنصار، وذلك عن طريق القرعة، تقول السيدة أم العلاء رضي الله عنها:
فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ، وَغُسِّلَ، وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ، دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ:
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ.
وسبحان الله من يستطيع منا أن يصل إلى ما وصل إليه عثمان بن مظعون رضي الله عنه، من سَبْقٍ إلى الإسلام، وهجرةٍ إلى الحبشة، وهجرةٍ إلى المدينة، وقد فقد رضي الله عنه عَيْنَهُ في سبيل الله، من يستطيع منا أن يصل إلى ما وصل إليه عثمان بن مظعون رضي الله عنه من ثبات وعزيمة وجهاد وصحبة للرسول صلى الله عليه وسلم، إنسان متكامل حقًا، ومع هذا كله يقول النبي صلى الله عليه وسلم للسيدة أم العلاء عندما سمعها تقول هذا الكلام:
وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ.
تقول السيدة أم العلاء:
فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟
فَقَالَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ.
فعثمان بن مظعون من أهل الجنة فعلا، ويرجو له الرسول صلى الله عليه وسلم الخير كله، لكنه يريد أن يزرع في قلب أم العلاء، وفي قلوب كل المسلمين أننا لا يمكن أبدًا أن نجزم يقينًا أن إنسانًا معينا قد أكرمه الله عز وجل إلا عن طريق الوحي، وعن طريق إخبار الله عز وجل في القرآن، أو إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الشريفة المطهرة، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم قولة عجيبة جدًا، بل في منتهى الغرابة، وهذا من تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
وَاللَّهِ مَا أَدْرِي، وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي.
يتحدث عن نفسه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ما زال على قيد الحياة:
وَاللَّهِ مَا أَدْرِي، وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي.
فقالت السيدة أم العلاء:
فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا.
فقد فهمت رضي الله عنها الدرس، واستوعبت الحكمة التي أرادها رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك نفهم ما قاله الصحابي الكريم أبو بكرة رضي الله عنه وأرضاه كما جاء في البخاري ومسلم قَالَ:
أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
وَيْلَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ.
مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ:
مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلَانًا، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ.
والشاهد من كل هذه الروايات أن الأجيال التي جاءت بعد جيل الصحابة لا يمكن أبدا الجزم بخيريتها، ولا يمكن الجزم بخيرية رجل بعينة ما دام القرآن، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجزم بذلك، ولم يذكر ذلك بوحي، أو بدليل من عند الله عز وجل، وبالطبع هذا ليس مع جيل الصحابة، لأنه قد عُلم على وجه اليقين أنهم سبقوا، وقد عُلم على وجه اليقين أن الله عز وجل قد زكّاهم، فلا يصح أن يقال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحدًا.
لأن عمر بن الخطاب قد زكاه الله عز وجل، وزكاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه خاصية فريدة جدًا جدًا لجيل الصحابة، فجيل الصحابة هذا جيل فريد، فريد حقًا، ولن يتكرر، ولأسباب هامة لن يتكرر في التاريخ.
فلماذا وصل هذا الجيل إلى هذا المستوى الراقي جدًا؟
أنا أعتبر وصول هذا الجيل إلى هذا المستوى الراقي راجع إلى أسباب ثلاثة:
السبب الأول: أن هذا الجيل جيل مختار من الله عز وجل، وهذا يعني أن هؤلاء الصحابة بأعيانهم خُلقوا ليكونوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان لا بد من وجود أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ لأن له دورًا لا بدّ له من أن يؤديه، لا بد من وجود عمر بن الحطاب رضي الله عنه؛ لأن عليه دورًا يجب أن يقوم به، ولن يقوم به غيره، لا بد من وجود عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وبلال، وخالد، والسيدة خديجة، والسيدة عائشة، كل الصحابة لا بد من وجودهم بأعيانهم، فالله عز وجل كما يصطفى رسله من الملائكة، ويصطفى رسله من البشر، فكذلك هو يصطفي أصحاب رسوله
[اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ]{الحج:75} .
لنتدبر كيف يتحدث الله عز وجل عن أصحاب عيسى عليه السلام:
[وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ]{المائدة:111} .
أي أن الله عز وجل خاطب أصحاب عيسى عليه السلام عن طريق الإلهام، أو الوحي غير المباشر، لا بد أن يعينه على تبليغ رسالته، فيختارهم الله عز وجل بطريقة معينة، بل ما هو أصعب، أصحاب موسى عليه السلام وكلنا يعرف ما اشتهروا به من الشر، والأذى، وسوء الأدب، ومع ذلك يقول الله عز وجل عنهم في كتابه:
[وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ(32)وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ] {الدُخان:32،33} .
هذا في حق أصحاب موسى عليه السلام مع ما اشتهروا به من الأذى والشر.
أما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى الإمام أحمد بسنده عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ:
فَقَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً أَصْحَابُهُ، وَكَانُوا إِذَا نَزَلُوا أَنْزَلُوهُ أَوْسَطَهُمْ.
فهم يجعلون رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسطهم حمايةً له صلى الله عليه وسلم، فلما استيقظوا من نومهم في جوف الليل، ولم يجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عبادة بن الصامت:
فَفَزِعُوا وَظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اخْتَارَ لَهُ أَصْحَابًا غَيْرَهُمْ، فَإِذَا هُمْ بِخَيَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَبَّرُوا حِينَ رَأَوْهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَشْفَقْنَا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اخْتَارَ لَكَ أَصْحَابًا غَيْرَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَا، بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
الصحابة مختارون؛ لأن على أكتافهم تبعة حمل هذا الدين كاملًا من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الأرض أجمعين، ليس هناك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول فماذا لو كان أصحابة يتصفون بكذب، أو بخيانة، أو بكسل، أو بفتور، أو بحبٍ للدنيا، أو انغماس فيها، ماذا سيكون حال الأرض إلى يوم القيامة لو نقل إلينا الدين مشوهًا؟ أو نقل إلينا الدين مغيرًا أو مبدلًا، لذلك اختار الله عز وجل من البشر من يستمعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإنصات، ويستمعون إليه بإمعان وتقدير ثم ينقلون هذا الذي ،استمعوا إليه جميعا فيقيمون بذلك الحجة على أهل الأرض أجمعين، وإلا كيف يحاسب الله أهل الأرض؟
كيف يحاسب من يأتي من البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وقد قال الله عز وجل:
[وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولً] {الإسراء:15} .
إذن لا بد أن يوجد جيل يحمل الأمانة، ويُحمّل الأجيال التي تأتي من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمانة تمامًا كأن في وسطهم رسول، وليس هناك رسول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الأمر الأول الذي من أجله كان هذا الجيل فريدًا، وغير متكرر، إنه جيل اختاره الله عز وجل بعناية لصحبة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
السبب الثاني: هو أن هذا الجيل مرّ بتجربة فريدة تمامًا ، تراكم خبرات لم يرها أحد من المسلمين بعدهم، هذا الجيل مرّ بتجربة في غاية الندرة، تعالوا بنا نرى هذه التجربة، وهذا الجيل الفريد:
أولا: رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوه رأي العين، واجتمعوا به، وتعاملوا معه، وصلوا خلفه، واستمعوا إلى حديثه، وهذا الأمر هائل في حد ذاته، إن المؤمن بعد جيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى جيلنا الآن، وإلى يوم القيامة إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام يعتبر هذا حدثًا ضخمًا، وهو بالفعل حدث ضخم، والرسول صلى الله عليه وسلم يهتم جدًا بهذا الحدث، تخيل مجرد رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، هذا أمر يهتم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي.
وأعظم من ذلك ما رواه البخاري أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فَي الْيَقَظَةِ، وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي.
وفي رواية: فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ.
فمجرد الرؤية أمر جليل، وعظيم جدًا فما بالكم بمن كان يراه بعينه في كل يوم، وفي كل لحظة ليس في المنام فحسب، بل في الحقيقة، وليس ساعة أو ساعتين لا، بل عمرًا كاملًا.
وأريد منك أن تتخيل معي هذا الموقف:
عندما أصف لك إنسانًا ما أنه أسدى إلى أحد الناس معروفًا، فإنك تحبه لهذه الصفة الحسنة، فماذا يكون منك إذا كان هذا الإنسان قد أسدى هذا المعروف إليك أنت، هذا بلا شك يزرع محبته في قلبك.
إذا سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، غُرسَت محبته في قلبك، فما بالك إذا كان هذا العطاء لك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يعطيك بنفسه، وأنت الذي تأخذ منه بنفسك.
عندما تسمع ما قاله عبد الله بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه كما جاء في الترمذي يقول:
مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عندما تعرف هذا الأمر تزداد محبتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فما بالك إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبتسم لك، وأنت بنفسك ترى وجه الحبيب صلى الله عليه وسلم يبتسم في وجهك.
عندما أقول لك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعود المرضى، ويشهد الجنائز، لا شك أنك تحبه فما بالك إذا كنت أنت المريض الذي زاره النبي صلى الله عليه وسلم، وما بالك إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهد جنازة قريبٍ لك، كيف ستكون علاقتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم تكون درجة إيمانك به.
والنظر في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم له تأثير خاص، لنسمع عبد الله بن سلام يصف لنا شعوره عندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف كما في الترمذي قَالَ:
لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ. قَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، فمجرد الرؤية لوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تترك في القلب أثرًا لا ينسى، عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ.
كما أن رؤية خاتم النبوة تترك في نفس من يراه أثرًا لا ينسى، وكثير من صحابة النبي صلى الله عليه رأوا بأعينهم خاتم النبوة بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء الصحابة الذين رأوا هذا الخاتم سلمان الفارسي رضي الله عنه، وعبد الله بن سرجس رضي الله عنه، وعمرو بن أخطب رضي الله عنه، وغيرهم كثير رأوا هذا الخاتم، ولا شك أن رؤية هذا الخاتم تترك أثرًا في نفس من يراه، وليس من رأى كمن سمع.
فهذا هو الأمر الأول في التجربة الفريدة التي مرّ بها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعايشون القرآن، فإذا كنا نحن نقرأ القرآن، ونسمع عن أسباب النزول، فإن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم عاشوا هذه الأسباب، وتعايشوا مع القرآن، وهو ينزل في الأوقات المختلفة، رأوه حال حدوثه، ولا شك أن هذه الرؤية وهذه المعايشة كانت ترفع درجة إيمانهم إلى أكبر درجة يمكن أن نتخيلها.
لنتخيل معًا أمر هذه المرأة التي جاءت تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر زوجها، ومدى تفاعلها مع الآيات التي نزلت في حقها، وتخيّل حالها وهي تصلى بسورة المجادلة أو تقرأها أو تسمعها "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها" هي بنفسها السيدة خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها وأرضاها تقرأ قد سمع الله:
[قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] {المجادلة:1} .
من المؤكد أن تفاعلها مع كل كلمة مختلفٌ تمامًا عن تفاعل بقية المسلمين مع نفس الآيات، وتخيل أيضًا تفاعل زوجها أوس بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه مع الآيات، تخيل وهو يسمع هذا التحذير الإلهي:
[الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ القَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ] {المجادلة:2} .
لا شك أنه وهو يسمع هذه الآيات ليس كأحد منا، لأنه عاش هذه الآيات حال حدوثها وحال نزولها.
تخيل أيضًا تفاعل جيران السيدة خولة بنت ثعلبه رضي الله عنها وأرضاها، وهم يقرءون صدر سورة المجادلة، يعلمون أنها نزلت في جارتهم هذه بعينها خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها، تخيل تفاعل المجتمع المسلم بكامله مع هذه الآيات.
خرج عمر بن الخطاب، ومعه الناس فمرّ بعجوز فاستوقفته، فوقف فجعل يحدثها وتحدثه فقال له رجل:
يَا أَمِيرُ الْمَؤُمِنِيَن، حبست الناس على هذه العجوز. كان لا يعرفها، فقال: ويلك، تدري من هي؟
سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات هذه خولة بنت ثعلبة التي أنزل الله فيها :
[قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] {المجادلة:1} .
والله لو أنها وقفت إلى الليل ما فارقتها إلا للصلاة، ثم أرجع إليها.
أرأيت مدى تعظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لأمر هذه السيدة؛ لأن هذه الآيات نزلت في حقها.
ضع هذا المفهوم على كل آيات القرآن الكريم، لأن كل آيات القرآن نزلت في حوادث معينة، أو في ظروف معينة، أو في وقت معين كان الصحابة رضي الله عنهم يعيشون مع كل كلمة، لا أقول مع كل آية، بل مع كل كلمة في كل آية تنزل من عند الله عز وجل.
تخيل نفسك أنك تشارك في غزوة بدر، ثم تسمع سورة الأنفال بعد هذه المشاركة، من المؤكد أن إحساسك بالآيات سيكون مختلفا تمامًا عن إحساس عامة المسلمين الذين يقرءون سورة الأنفال، ويتخيلون- مجرد تخيل- ما حدث للمسلمين في بدر.
الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يتخيلون هذا الأمر، بل إنهم عاشوا هذه التجربة كاملة، عاشوا غزوة بدر من أولها إلى آخرها
[يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] {الأنفال:1} .
فالصحابي عندما يقرأ هذه الآيات، أو يسمعها يتذكر ما حدث عند تقسيم الأنفال، وما حدث من مشادة عندها.
[وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ] {الأنفال:7} .
فالصحابي عندما يقرأ هذه الآيات يتذكر أنهم إنما كانوا يريدون القافلة، ومع ذلك أراد الله أمرًا آخر، فهم يعيشون مع كل كلمة من كلمات الله عز وجل.
[إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ] {الأنفال:11} .
النعاس نزل على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، وتكرر ذلك في غزوة أحد، كما قال الله عز وجل:
[ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً] {آل عمران:154} .
قال أبو طلحة الأنصاري:
كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد، ولقد سقط السيف من يدي مرارًا يسقط، وآخذه، يسقط وآخذه، ولقد نظرت إليهم يميدون، وهم تحت الحجب، فسيدنا أبو طلحة الأنصاري عندما يقرأ هذه الآيات
[ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً] {آل عمران:154} .
ويكون هو ممن غشيه النعاس في هذه الغزوة ويقصّ لمن حوله من الناس انظر كيف يكون تفاعلهم مع الآيات.
[وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ] {الأنفال:44}
هذه الآيات نزلت في غزوة بدر، وهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: لقد قُلّلوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تُراهم سبعين؟ ألف من المشركين يراهم المسلمون سبعين فقط، فقال له الرجل:
أراهم مائة. قال : فأسرنا رجلًا منهم فقلنا: كم هم؟
قال: ألفًا.
طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى