مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

السببية بين هيوم وكانط

اذهب الى الأسفل

السببية بين هيوم وكانط  Empty السببية بين هيوم وكانط

مُساهمة  طارق فتحي الجمعة أغسطس 21, 2015 7:58 am

( قلة فهم راحة بال )
ـ يعد موقف الفيلسوف الكبير الإنجليزي الملحد ديفيد هيوم من مسألة السببية من أشهر مقالاته الفلسفية، حيث ذكر هيوم في كتابه الأكبر (بحث في الطبيعة الإنسانية) أن فكرة العلِّية قائمة على أسس ثلاثة: هي الاتصال، والأسبقية، والارتباط الضروري (الضرورة).
ويقصد بالاتصال أن الأسباب والمسببات متصلة ببعضها، وأن الشيء لا يمكن أن يحصل في زمان أو مكان يبْعُد عن زمانه ومكانه بالفعل، بل إن الأشياء التي تعد أسبابًا لمسببات ولا تكون متصلة بها، بالبحث المتقصي نكتشف أن بينها اتصالًا من العلل المتسلسلة، بل إننا إن لم نفطن لهذا الاتصال فإننا نفرضه في الذهن.
أما الأسبقية: فإن هيوم ممَن لا يرون ضرورة أن تكون العلة - بحسب الظاهر كما سيأتي - سابقة على معلولها، بل يراها أمرًا يحتمل (الجدل)، ومع تسليمه أن التجربة في معظم الأحيان تنتصر لأسبقية العلة على المعلول، لكن مبدأ الأسبقية يبقى (عنده) دائمًا غير قابل للتدليل بنوع من الاستنتاج أو البرهان !
ويبقى الارتباط الضروري، وهو الذي صرح هيوم أنه لا يعني العلِّية ولا يقتضيها، يقول: (رؤية أي شيئين أو فعلين، مهما تكن العلاقة بينهما، لا يمكن أن تعطينا أي فكرة عن قوة، أو ارتباط بينهما، وأن هذه الفكرة تنشأ عن تكرار وجودهما معًا، وأن التكرار لا يكشف ولا يُحدث أي شيء في الموضوعات، وإنما يؤثر فقط في العقل بذلك الانتقال المعتاد الذي يُحدثه، وأن هذه الانتقال المعتاد من العلة إلى المعلول هو: القوة والضرورة)، ثم يقول: (وليست لدينا أية فكرة عن العلة والمعلول غير فكرة عن أشياء كانت مرتبطة دائمًا، وفي جميع الأحوال الماضية بدت غير منفصلة بعضها عن بعض، وليس في وسعنا النفوذ إلى سبب هذا الارتباط. وإنما نحن نلاحظ هذه الواقعة فقط، ونجد أنه تبعًا لهذا الارتباط المستمر فإن الأشياء تتحد بالضرورة في الخيال. فإذا حضر انطباع الواحد كوَّنا نحن في الحال فكرة زميله المرتبط به في العادة).
ويمكن القول إن هيوم لم ينكر قانون العلِّية صراحة، إلا أنه يرى أنه ليس إلا علاقة ذهنية يفرضها التكرار والارتباط، وهذا لأنه لا يخضع للتجربة والبرهان بزعمه، وعلى ذلك فـ (هيوم أول فيلسوف أوروبي نقل فكرة العلة من معانيها الأرسطية إلى معنى التتابع المجرد بين السبب والمسبب، أي التتابع الذي لا يعني شيئًا أكثر من أن السبب سابق لمسببه فيما دلت عليه العادة (التجربة). وقد كان يمكن عقلًا أن يجيء الترتيب على صورة أخرى، لكنه جاء هكذا) !! .

ـ وإذا انتقلنا إلى كانط (أعظم فلاسفة العصر الحديث) ، الذي كان يرى أن وجود الله لا يمكن التدليل عليه بالدليل العقلي ، وكذلك يستحيل التدليل على عدم وجوده، حيث انتهى إلى (رفض موقف المنكرين لوجود الله، وكذلك رفض موقف الدوجماتيقيين المثبتين لوجود الله بطريق العقل النظري المحض) ، بل اعتبر وجوده تعالى من (مُصادرات العقل العملي) - وكما سيأتي - ليكون بذلك إرهاصًا واضحًا للأدرية، والتوسط بين الاتجاه الهيومي، والاتجاه الديكارتي.
ـ ورغم أنه قرر العلِّية في أول كتبه (إيضاح جديد للمبادئ الأولى للمعرفة الميتافزيقية)، حيث جعل قسمه الأول: لمبدأ عدم التناقض، أو الهوية، وقسمه الثاني: لمبدأ العلة الكافية، والذي نص فيه صراحة على أنه (لابد للموجود الممكن من سبب سابق يحدده)، و (أننا إذا تصاعدنا في سلسلة العلل إلى العلة الأولى؛ فإنه لا مجال بعدُ لأي تصاعد) .
ـ إلا أن هذا لم يدم طويلًا، فبعد أن اطلع كانط على فلسفة هيوم بدا جليًا تأثره بهيوم ، فقد (كان تأثير هيوم أبعد مدى، وقد قال كنط فيما بعد: إن هيوم أيقظه من سباته الاعتقادي، وكان ذلك برأيه في مبدأ العلِّية بنوع خاص، إذ كان قد قال: إن مبدأ العلِّية ليس قضية تحليلية، أي: إن المعلول ليس متضمنًا في العلة أو مرتبطًا بها ارتباطًا ضروريًّا، وإن الضرورة التي تبين له ما هي إلا وليدة عادة تتكون بتكرار التجربة ) .
ـ وعقب هذا التأثر وبدخول كانط للمرحلة النقدية في تفكيره يمكن القول إنه وصل لنوع من اللا أدرية، والديالكتيكية -تناقض التفكير- ، كما سيأتي في معنى النقائض عنده، لكنه لم يصل إلى الديالكتيك صراحة كما عند هيجل مثلا بطبيعة الحال.
يظهر مثل ذلك جليًا في كثير من نصوصه، فنراه يقول: (عندما لا نقتصر، في استعمالنا
للمبادئ الفاهمية، على تطبيق عقلنا على موضوعات التجربة، بل نغامر بمد العقل
إلى ما وراء حدود هذه التجربة؛ ستتولد قضايا مماحكة لا أمل بمصادقة التجربة، ولا
خوف عليها من مناقضتها، وكل واحد منها سوف لن تخلو من التناقض وحسب، بل
ستجد أيضًا في طبيعة العقل الشروط التي تجعلها ضرورية !، لكن للأسف، سيستند
"الزعم النقيض" هو الآخر إلى حجج تتمتع بنفس المصداقية ونفس الضرورة)!.
أما برتراند راسل (36) فلا نجده يبتعد كثيرًا عن تقريرات هيوم، بل لا يعدو كلامه عن العلِّية إلا صدى لصوت هيوم المنادي بكونها علاقة ذهنية لا حقيقة لها في الموضوعات الخارجية، ففي سياق نقده للاستناد إلى الخبرات الحسية في التفسير، يقول: (أنقتصر على خبراتنا الحسية وما تأتي به؟، فإذا لم يكن بين هذه الخبرات خبرة مباشرة بما يسمى (قوة) فلا داعي لافتراضها عند تفسير الطبيعة وظواهرها، إنها أحداث تتلاحق وتترابط مجموعات بمجموعات، فإذا اطرد حدوث مجموعة منها كان ذلك واحدًا من قوانين الطبيعة، فالأمر كله حوادث وارتباطها بالتجاور، ولا شيء غير ذلك في علمنا؛ إلا ما نتبرع به ظنًا ووهمًا.
فإذا اعترض علينا معترض بأن (القوة) الرابطة بين السبب ونتيجته هي مما يرد في خبراتنا؛ أجبناه بأنه يخلط بين ما (يخبره) وبين ما (يستدله).
إنه قد يرى الريح تقتلع الشجرة، فيظن أنه قد رأى بعينه (القوة) التي فعلت بها الريح ما فعلت، لكنه أحس الريح، وأحس الشجرة تقتلع، ثم (استدل) من عنده (قوة)؛ لأنه يميل بفطرته أن يسأل (لماذا)، على حين أن النظرة العلمية تسأل (كيف)، ولا تزيد على ذلك؛ إننا لا نلاحظ إلا أحداثًا في تتابعها المطرد، ومن اطراد التتابع تتألف القوانين الطبيعية، أما (لماذا) كانت هذه القوانين على نحو ما كانت؛ فشيء لا يأتي بين ما يأتينا عن طريق الخبرة الحسية.
ولو حاولنا تعليل القوانين بقولنا (لماذا) لاحتاج التعليل إلى تعليل، وهذا إلى ثالث، وهلم جرا، ونكون عندئذ كالهندي الذي سأل (لماذا) لا تسقط الأرض في الفضاء؟، وأجاب نفسه بقوله :لأنها تستند إلى فيل، ثم سأل مرة أخرى: ولماذا لا يسقط الفيل في الفضاء؟، وأجاب نفسه بقوله: لأنه بدوره يستند إلى سلحفاة، لكنه سأل نفسه: ولماذا لا تسقط السلحفاة في الفضاء؟، فأخذته الربكة، وقال: إنه ملَّ البحث الميتافيزيقي، ولا يرى المضي فيه) .
ـ ولعله من الحسن أن أشير إلى أن قضية العلة رغم ما هي عليه من البداهة والأولية - كما تقدم - فقد وجد شواهد من البوادر للكلام في شأنها في صدر الإسلام، ولكن بدافع مغاير تمامًا، ألا وهو التأكيد على مسألة خالقية الله تعالى، وتوحيده، وتنزيهه عن الشرك، مما حد ببعض الغلاة في هذا المفهوم إلى إنكار السببية جملة، والقول بالجبر، وهم الجهمية الأوائل، ثم وجد صدى هذا القول عند الأشعرية - من متوسطي الجبرية - وقالوا إن الأسباب لا تؤثر في المسببات، وإن العلاقة بينهما اقتران كذلك ، لكن ينبغي أن يقال إن الأشعرية لم ينكروا السببية مطلقًا، وإنما أنكروا تأثير الأسباب في المسببات، واقتضاء حصول المسببات للأسباب.
ولا إشكال في كون هذا باطلًا بالعقل والحس، فإن (الناس يعلمون بحسّهم و عقلهم أنّ بعض الأشياء سبب لبعض، كما يعلمون أنّ الشبع يحصل بالأكل لا بالعدّ، ويحصل بأكل الطعام لا بأكل الحصى، وأنّ الماء سبب لحياة النبات والحيوان، كما قال الله: (وجعلنا من الماء كل شيء حيّ) (الأنبياء: ص 30) وأنّ الحيوان يروى بشرب الماء لا بالمشي، ومثل ذلك كثير) .
ولا شك أن الأشاعرة - وحتى الجهمية - ممَن نازعوا في تأثير الأسباب في المسببات، كانوا متفقين على القاعدة الكلية، وهي أن لكل معلول علة، ولكنهم حصروا تلك العلة في الخالق عز وجل، لشبهات عرضت لهم، هذا بخلاف من نازع في أصل مبدأ العلية ممن ذكرناه من الفلاسفة المتأخرين بأوروبا، والذين كانوا لا يؤمنون بالخالق، بصورة أو بأخرى.
* وقد أشار القرآن العظيم إلى مبدأ السببية، وأنها من أوضح الأدلة على وجود الله تعالى، في قوله عز شأنه {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } [الطور: 35]، فالاحتمال الأول: (خلقوا من غير شيء)، هو المقتضي عدم العلِّية، وقد عرفت أنه محال.

ـ وعلى مستوى تناوله لقضية العلِّية، وتأثره بتشكيك هيوم فيها، نلحظ أول آثار ذلك في مشروعه لنقد العقل المحض (النظري)، وما يعرف بنقائض العقل المحض ، فالنقيضة الثالثة المشهورة لكانط: (ليست السببية وفقا لقوانين الطبيعة؛ السببية الوحيدة التي يمكن أن تستمد منها ظاهرات العالم بأسرها، ومن الضروري كي نفسرها أن نسلم بوجود علِّية بحُرِّيَّة ونقيضها (ليس ثمة من حرية، وكل ما يحدث في العالم يحدث فقط وفقا لقوانين طبيعية) ، والمقصود من قوله (علة حرة) أي علة ليست مسبوقة بقانون علية، فيكون علة غير معلولة ، والنقيضة التي تخالفها عنده أن وجود تلك العلة الحرة - غير المعلولة - يُدْخِل عدم الإحكام في الطبيعة !، (ويحطم وحدة التجربة التي تقتضي أن تترابط الظواهر فيما بينها، دون أية ثغرة، بعلاقة المقدمات والتوالي. فيجب إذن الاقتصار على الضرورة الطبيعية واستبعاد الحرية، التي تدخل الاضطراب في العالم وفي المعرفة)! .
ـ والجدير بالذكر هاهنا أن نشير إلى أن كانط الذي توصل إلى موقف ديالكتيكي وسيط قريب من اللا أدرية - كما تقدم - قد اعتبر وجود الله (العلة الحرة) ضرورة أخلاقية ، لضمان حرية الإرادة، ومن ثمَّ صحة المسؤولية ، ولضمان تكامل الفضيلة والسعادة .
ـ والعجيب أن الحرية التي دفعت كانط إلى إثبات العلة الحرة، باعتبارها أمرًا ضروريًا - كما تقدم في نقد العقل المحض - يرجع كانط ويتناول الحرية نفسها باعتبارها مُصادرة هي الأخرى !!
ـ ومن هنا (يمكن التحدث عن نوع من الازدواج في عقلية كانط، جانب عقلي صارم ملتزم بالبرهان العقلي والتجريبي الدقيق، وجانب أخلاقي يخلي مجالًا للأماني الإنسانية في ميدان الأخلاق)، و (يشعر بنوع من الحنين إلى الإبقاء على بعض المعاني الأساسية في الميتافيزيقا، وسعى لذلك جهده، لكنه لم يستطع الإبقاء عليها إلا عن طريق الأخلاق).

عدم السببية والفكر الالحاد
ـ السببية (أو العلِّية) هي (إحدى بدائه الفكر الأساسية) ، فإنه (لا يحدث شيء بلا علة، أو على الأقل بلا سبب محدد، أي بلا شيءٍ ما يمكنه الإفادة في تعليل قبلي لسبب وجود هذا الشيء بدلًا من عدمه، ولماذا هو على هذا النحو وليس على نحو آخر مختلف تمامًا).
ـ وتتعدد تعاريف السبب عند الفلاسفة باختلاف مدارسهم وعصورهم - وليس الغرض استقصاءها - لكنها وفق ما يتفق عليه الغالب الأعم منهم: (ما يحتاج إليه الشيء في حقيقته، أو وجوده) (Cool، وعلى مستوى أيسر من التعبير هي: (العلاقة بين السبب والمسبب) .
ـ ومبدأ السببية من الضرورات العقلية، والبدهيات الفطرية التي لا يختلف فيها العقلاء، بل ولا غيرهم من حيث الجملة، فأنت ترى الطفل الصغير إن تعرض لتأثير مؤثر ما؛ تراه يطلب ذلك المؤثر ويبحث عنه، فيلتفت الطفل ليبحث عمن ضربه خلسة، لكونه مما ارتكز في فطرته، وفي مبادئ عملياته العقلية الأولى أن لكل فعل فاعلًا، ولكل مصنوع صانعًا، بل إن الطفل إن لم يجد ذلك المؤثر يرتبك، بل لعله يخاف ويهلع، وسبب ذلك الخوف ليس الجن أو الشياطين ! ؛ لأن الطفل لا يدرك وجود تلك القوى غير المنظورة أصلًا في تلك المرحلة المبكرة من حياته، ولكن الحقيقة أن هذا الذعر يكون سببه ذلك الاضطراب النفسي الذي يصيبه نتيجة اختلال المبادئ التي يفهم بها الوجود، فإن ذلك الاختلال يطَّرِد في نفس الطفل فيرفع الثقة عن كل ما يؤمن به حوله، إذ ربما يحصل له أي حادث فجأة دون مقدمة أو سبب أو فاعل !
ـ والبحث في العلل أمر قديم قدم الفكر نفسه، فمنذ العصور الفلسفية لليونان نجد أرسطو قد اهتم بدرس العلل، وقسمها إلى علل أربع: المادية، والصورية (الهيولى)، والفاعلية، والغائية ، والله عنده هو العلة الأولى، وليس معلولًا لشيءٍ آخر .
ـ العجيب أن ذلك المبدأ الضروري البدهي يضادُّ كل المذاهب الإلحادية جملة !، رغم أن المذاهب الإلحادية جميعها تدعي تعظيم العقل وتقديسه وأنه هو الذي حملها على إنكار الغيب، فإذا بها تدفع من العقل مبادئه وقوانينه الأولى التي بها يكون الحكم على ما دونها من أفكار.
ـ فالمذاهب الإلحادية، واللاأدرية، تناقض هذا المبدأ في اتجاهين الأول منهما: فيما يتعلق بنفس المبدأ، والثاني: فيما يتعلق بما يقتضيه، وهو ما سيأتي فيما بعد هذه النقطة..
طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى