مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

موقف العقل من الالحاد

اذهب الى الأسفل

موقف العقل من الالحاد Empty موقف العقل من الالحاد

مُساهمة  طارق فتحي الأربعاء ديسمبر 17, 2014 9:41 am

لقد برع المتكلمون القدماء في الدفاع عن العقيدة وفي تثبيت أوتاد الدين في نفوس الناس ، وخاطبوا فلسفات زمانهم ونقدوها بما يبطل كل ما يعارض الدين منها ، ولكن الانحطاط تمكن من هذا العلم وكاد أن يندثر وتنقرض جماعته حتى إنك لا تكاد اليوم تجد من يصح أن تطلق عليه وصف "متكلم" بحق إلا قلة قليلة مبعثرة في أرجاء المعمورة ، وتراجع الاهتمام بهذا العلم وممارسته إلى اجترار ما كتبه الأقدمون والدوران في حلقة صراعات القدماء مع أفكار طوت وذهب أهلها في أحيان كثيرة دون مخاطبة التحديات الحقيقية التي تواجه المسلم اليوم .
ولا يشذ عن هذا إلا نماذج قليلة مثل ما كتبه شيخ الإسلام مصطفى صبري في كتابه (موقف العقل) أو الشيخ سعيد فودة في كتب عدة ، ولكن يبقى هذا الجهد جهد قلة لا يمكنه وحده مواجهة طوفان الأفكار المنهمرة على المجتمع المسلم ويحتاج إلى من يعزّره بسيف الفكر واعانة التأليف .
تحقيق كتب الأقدمين ودراستها مهم بلا شك ، ولكن الوقوف عندها وعدم مخاطبة الواقع دليل ضعف وانهزام ، ومخطئ من يظن العالم يرجع إلى الوراء أو يتوقف عنده ، سيمضي العالم قدما إلى الأمام ومن يعجز عن مواكبته ومخاطبة العصر الذي يعيش فالدروس حتمه

سفسطات واوهام الملاحد
حين نطوف في المكتبات مزودين بهذه المبادئ ، ماذا علينا أن نتلف ؟
إذا أخذنا بيدنا أي مجلد في اللاهوت أو في الميتافيزيقيا المدرسية (السكولانية) مثلا ، وتساءلنا :
هل يتضمن أي تعليلات تجريدية حول الكم والعدد ؟ _ كلا .
هل يتضمن تعليلات تجريبية حول وقائع ووجود ؟ _ كلا .
إذن ارمه في النار لأنه لا يمكن أن يتضمن سوى سفسطات وأوهام. ] طـ دار الفارابي – ترجمة موسى وهبة .
وهذه الجملة التي ختم بها هيوم كتابه تحولت إلى نزعة فلسفية طاغية هيمنت على الوعي الغربي وحددت موقفه وموقف مجتمعاته من الدين والغيب بما أفرز العلمانية واللادينية التي نراها طاغية هناك إلى يومنا.
واليوم تتعالى وتتجدد الدعوات للعلمانية عند أنصار العولمة الساعين إلى إزالة التمايز بين الشعوب والأديان وإحلال المساواة الكاملة بين الجميع في ظل ديموقراطية السياسة وحرية الإقتصاد والرأي والفكر في عالم تحكمه النفعية والحس ويحدد فيه الإنسان لا الله وشرائعه ما هو صواب وما هو خطأ ولا مكان فيه لحقائق ثابثة فكل شيء نسبي قابل للتغيير وفق المنفعة والمصلحة ، ولا مكان فيه للوجود الغيبي والمعتقد الديني والشريعة الإلهية والعلم الديني إلا في زوايا دور العبادة والكتب المكنوزة في رفوف الجامعات وحلقات البحث الأكاديمي البحت عن المعتقدات البدائية للإنسانية .
في مثل هذه الأمواج المتلاطمة والصراع الشرس بين الأفكار والإغراءات يجد المسلم نفسه وقد حوصر من كل جانب يجتذبه إيمانه العاطفي التقليدي الموروث عن الآباء من جهة ، والدعاوى المادية المعاصرة البراقة من جهة أخرى ، فيلتفت إلى طوق نجاة ينجيه من ظلمات وأمواج هذا البحر اللجي فيجد نفسه مجردا من عقيدة قوية مبرهنة يتخذها مركب نجاة في أمواج الصراع بسبب تدهور علم الكلام لدى علماء الدين وصيرورته رسوما وجملا تعاد بلا كثير فهم في أحيان كثيرة ، بل وصيرورته رجسا من عمل الشيطان عند طائفة منهم في أحيان أكثر ، والمسلم وقد جُرد من السلاح الذي وقى أجداده شر الفلسفات القديمة لا يُتعجب منه الارتماء في أحضان الإلحاد المعاصر الجذاب أو في أقل الأحوال الانسلاخ من جلد التدين الحق والتبعية الكاملة للغرب في الفكر والمظهر والسلوك والاهتمامات مع المحافظة على رسوم وظواهر تدين تتلاشى عند اول اختبار حقيقي .

ومضت مسيرة الإلحاد
ومضت مسيرة الإلحاد في دورات من الهبوط والصعود حتى شهدت أكبر رواج لأفكارها في عصر التنوير الأوروبي (القرن الثامن عشر الميلادي) ، ولعل ما مهدّ لهذا الانتشار والفشو الاستبداد السياسي والمجتمعي المتدثر بدثار الدين والكنيسة ، وهكذا الاستبداد باسم الدين في كل عصر يمهد لفشو الإلحاد بين الناس بغض النظر عن ماهية الدين المستخدم من قبل المستبدين أو مدى نقاء طوياتهم وحسن نياتهم .
ظهرت النزعة المجتمعية الكلية في الفلسفة الإلحادية بين فلاسفة عصر التنوير بقوة، وبدأ الإلحاد ينبو عن أن يكون مجرد رفض للدين والإله ليتحول إلى منظومة كاملة من الأفكار - نظريات متكاملة - في الحكم والسياسة والاجتماع مبنية على الإلحاد . فطوّر الدهريون الماديون القدماء خطابهم وصاروا ينادون بحقوق متساوية لكل البشر استنادا إلى الماهية الإنسانية عوض التشريع أو المنحة الإلهية وهو ما أضفى مزيد ألق وتجميل لفكرة الإلحاد لدى العوام ، وطالبوا بفصل الدين عن الدولة والتشريع وعن العلوم وبأن يكون العلم الحسي متجردا عن المعتقد الديني غير خاضع لسلطان الدين ومعتقداته ، واتخذوا مسمى العلمانيين أو اللائكيين .
وقد تم لهم النصر في مواجهة الدين في أوروبا وصيغت العلوم والتشريعات بما يبعد الدين تماما عن التأثير على الحياة العامة بل وبما يرسخ للإلحاد – أو على الأقل الشك واللاأدرية - وسط العوام ، ثم استمرت المعركة شرسة بين المعسكرين وانتقلت إلى مرحلة حاول فيها الإلحاد الإجهاز تماما على ما تبقى من دين لدى المجتمع ، وانتقل في هذه المرحلة المؤمنون بالدين إلى الدفاع المستميت عن ذات وجودهم ووجود دينهم بعد أن كانت الدولة لهم في فترات سابقة على الملاحدة .
لقد تطورت الفلسفة الغربية من نقد الدين المنظم والمعرفة الدينية التقليدية والكنسية في القرن الثامن عشر إلى العداوة والقطيعة الكلية مع مفهوم الإله واستبداله بالعلم ومناهجه حين تفسير نشأة الكون ووجودنا كما تجلى في نظرية داروين وفيزياء لابلاس ثم في فلسفة ماركس ونيتشه الذي أعلن عن "موت الإله" !

وقد استمرت هذه المعركة بين المؤمنين والملحدين إلى عصرنا الحاضر وإن كان صوتها أقل حدة ولمعان السيوف فيها أخف بريقا إلا أنها ما زالت قائمة وبذات الحدة التي كانت عليها سابقا ، ولعل رأس رمح الإلحاد فيها هو الفلسفة الوضعية (positivism) وما تفرع عنها وأصحابها الذين يريدون الهيمنة على مناهج العلوم والمعرفة الإنسانية واعادة صياغتها بما يخدم الغرض منتهجين في ذلك سلب الوجود عن كل ما لا يمكن البرهنة عليه بالحس والتحقق من وجوده بطرائق الإختبار ، فكل ما لا يدركه الحس لا وجود له ، وهؤلاء الماديون الوضعيون هم نتاج فلسفة هيوم التجريبية Empiricism المناهضة للمدرسة العقلية Rationalism وهو المتعصب للإلحاد المغالي في تمجيد الحس وعداوة الغيب القائل في خاتمة كتابه "مبحث في الفاهمة البشرية"

أقدم توثيقات الملاحدة تتمثل بالدهريين
ولعل أقدم توثيقات الملاحدة تتمثل فيما وصلنا من أفكار وكتابات "الدهريين" الذين هم جماعة من القدماء ممن جحد وجود الصانع وحدوث العالم وقالوا بأن العالم قديم لذاته ولم يزل موجودا بنفسه بلا صانع كما لم تزل النطفة من الحيوان والحيوان من النطفة كذلك كان وكذلك يكون أبدا والمادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم ، وهي الأفكار التي نرى ترجيعها وصداها في الإلحاد المعاصر وكذلك مدسوسا بين السطور في بعض المعارف التجريبية الحديثة.
ومن أقدم من نعرفه من هؤلاء الدهريين ديمقريطس وأبيقور الفيلسوفان الإغريقيان ، وتجدر الإشارة إلى أن ديمقريطس هو من أول من قال بأن الأجسام تتألف من ذرات (المذهب الذري) غير قابلة للإنقسام وحاول بواسطته اثبات عدم وجود الصانع إذ تنشأ الأشياء من تلاقي الذرات بمحض الصدفة وتتشى بتفكك روابط تلك الذرات كذلك ولا وجود لمدبر يتحكم في هذا ، وعن ذرات ديمقريطس اقتبست المعتزلة القول بالجواهر والأعراض ثم عنهم أخذها بقية المتكلمين المسلمين ولكنهم استعملوها في اثبات حدوث العالم وإثبات الصانع عكس ما أراد ديمقريطس .
وقد ظهرت أفكار هؤلاء الدهريين في العرب الجاهليين كما يحدثنا الشهرستاني في الملل والنحل تحت فصل (معطلة العرب) فيقول :
[فصنف منهم أنكروا الخالق والبعث والإعادة وقالوا بالطبع المحي والدهر المفني والذين أخبر عنهم القرآن المجيد : { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا } إشارة إلى الطبائع المحسوسة في العالم السفلي وقصرا للحياة والموت على تركبها وتحللها ، فالجامع هو الطبع والمهلك هو الدهر { وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون } ] آ.هـ

الدورات الزمنية للالحاد
الإلحاد – نكران الصانع – قديم في البشرية ، وهو يتجدد في كل دورة من دورات تاريخها لابسا من الثياب والبهرج ما يغري البعض بالإرتماء في أحضانه والإنتماء إليه .
وقد تدثر الإلحاد منذ القدم بدثار العقل والفكر واصما مخالفيه من المؤمنين بأنهم أصحاب التفكير الأسطوري الخرافي واللامعقول أو في أحسن الأحوال بأنهم من أصحاب الفكر الغيبي (الميتافيزيقي) ، ولكن هذه الوصمة لا حقيقة لها بلا شك إذ لا يمكن لمنصف أن يصم باللامعقولية والخرافة أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وأفلوطين والكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وديكارت وكانت واسحاق نيوتن وكلهم من المؤمنين بالصانع وهم من عمالقة الفلسفة والنظر ، بل هم أس الفلسفة وعرشها ، ولم نذكر أحدا من أذكياء المتكلمين الإسلاميين أو الشخصيات الدينية لما أن لا اعتبار لهؤلاء عند الملاحدة .
بل إن الناظر بتجرد في تاريخ الفلسفة والعلوم العقلية يجد أن الملحد من عظمائها من حيث الأثر المعرفي والتأثير الإنساني قلة بالمقارنة مع المؤمنين ، فالملاحدة من الفلاسفة والمفكرين كديمقريطس وهيوم ومارك وفرويد وسارتر وبرتراند راسل وإن كان لهم أثر في التقدم المعرفي الإنساني إلا إنه لا يمكن أن يقارن بالأثر الذي أحدثه السابق ذكرهم ، فلا تلازم في الحقيقة بين العقل والمعقولية من جهة وبين الإلحاد من جهة أخرى ، وما ترويج مثل هذه الفكرة من قبل الملاحدة إلا من قبيل الدعاية الخطابية التي ينخدع بها العوام وبعض المثقفين السطحيين .
طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى